الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يرتاب عاقل أن مدلول اللفظ لا يمكن أن يكون غير القرآن وسائر الكتب السماوية، فيلزم أن يكون كل واحد مشتملاً على ما اشتمل عليه الآخر، وليس كذلك، وكيف يكون معنى واحداً خبراً وإنشاء محتملاً للتصديق والتكذيب، وغير محتمل، وهو جمع بين النفي والإثبات"
(1)
.
و
قول الأشاعرة هذا يشبه السفسطة، ومجرّد تصوّره يوجب العلم الضروري بفساده
، قال موفق الدين ابن قدامة: "وإن قالوا: هي [أي: كُتُب الله تعالى] شيء واحد غير متعددة، فقد كابروا، ويجب على هذا أن تكون التوراة هي القرآن والإنجيل والزبور، وأن موسى لما أُنزلت عليه التوراة فقد أُنزل عليه كل كتاب الله تعالى، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم لما أُنزل عليه القرآن فقد أُنزلت عليه التوراة والإنجيل والزبور، وأن من قرأ آية من القرآن فقد قرأ كل كتاب الله تعالى، ومن حفظ شيئًا منه فقد حفظه كله، ويجب على هذا أن لا يتعب أحد في حفظ القرآن؛ لأنه يحصل له حفظ كل كتاب لله تعالى بحفظ آية منه، ويجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه آية من القرآن أُنزل عليه جميعه، وجميع التوراة والإنجيل والزبور، وهذا خزي على قائله ومكابرة لنفسه.
ويجب على هذا أن يكون الأمر هو النهي، والإثبات هو النفي، وقصة نوح هي قصة هود ولوط، وأحد الضدين هو الآخر، وهذا قول من لا يستحيي ويشبه قول السوفسطائية، وقد بلغني عن واحد منهم أنه قيل له: سورة البقرة هي سورة آل عمران؟ قال: نعم"
(2)
.
(1)
جلاء العينين في محاكمة الأحمدين (ص: 315).
(2)
المناظرة في القرآن (ص: 20).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "إنّ هذا المعنى القائم بالذات الذي زعموا أنه كلام الله، وخالفوا في إثباته جميع فرق الإسلام كما يقرون هم على أنفسهم بذلك كما ذكره الرازي وغيرهم من أن إثباتهم لهذا يخالفهم فيه سائر فرق الأمة قد قال أكثرهم: هو معنى واحد،
…
ومن المعلوم أنّ مجرّد تصور هذا القول يوجب العلم الضروري بفساده كما اتفق على ذلك سائر العقلاء؛ فإن أظهر المعارف للمخلوق أن الأمر ليس هو الخبر، وأن الأمر بالسبت ليس هو الأمر بالحج، وأن الخبر عن الله ليس هو الخبر عن الشيطان الرجيم،
…
"
(1)
.
وقال أيضًا: "وعامة العقلاء يقولون: إنّ فساد هذا القول معلوم بالاضطرار؛ فإنا نعلم أن التوراة إذا عُرِّبت لم تكن هي القرآن، ونعلم أن آية الكرسي ليست هي معنى آية الدين.
والله تعالى قد فرق في كتابه بين تكليمه لموسى وإيحائه إلى غيره بقوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:163] إلى قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] "
(2)
.
(1)
الفتاوى الكبرى (6/ 528 - 529).
(2)
مجموع الفتاوى (12/ 558).
وقال أيضًا: "قال لهم [أي: للكلابية والأشعرية] جمهورُ الناس: هذا القول مخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول؛ فإنا نعلم بالاضطرار أن معنى آية الكرسي ليس هو معنى آية الدين، ولا معنى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] هو معنى {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1]، وقد عرّب الناس التوراة فوجدوا فيها معاني ليست هي المعاني التي في القرآن، ونحن نعلم قطعًا أن المعاني التي أخبر الله بها في القرآن في قصة بدر وأحد والخندق ونحو ذلك لم ينزلها الله على موسى ابن عمران، كما لم ينزل على محمد تحريم السبت ولا الأمر بقتال عباد العجل، فكيف يكون كل كلام الله معنى واحدا؟!.
ونحن نعلم بالاضطرار أن الكلام معانيه وحروفه تنقسم إلى خبر وإنشاء، والإنشاء منه الطلب، والطلب ينقسم إلى أمر ونهي، وحقيقة الطلب غير حقيقة الخبر، فكيف لا تكون هذه أقسام الكلام وأنواعه، بل هو موصوف بها كلها "
(1)
.
(1)
منهاج السنة النبوية (5/ 417 - 418).
وقال الحافظ ابن القيم: "مذهب الأشعري ومن وافقه أنه [أي: الكلام] معنى واحد قائم بذات الرب، وهو صفة قديمة أزلية ليس بحرف ولا صوت، ولا ينقسم، ولا له أبعاض ولا له أجزاء،
…
إذا عبر عن ذلك المعنى بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان اسمه إنجيلا، والمعنى واحد، وهذه الألفاظ عبارة عنه ولا يسميها حكاية، وهي خلق من المخلوقات، والبلية العظمى نسبة ذلك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء بهذا ودعا إليه الأمة، وأنهم أهل الحق، ومن عداهم أهل الباطل، وجمهور العقلاء يقولون: إنّ تصور هذا المذهب كاف في الجزم في بطلانه، وهو لا يتصور إلا كما تتصور المستحيلات الممتنعات"
(1)
.
وقول الأشاعرة هذا من أعجب ما في مذهبهم وأشده غرابة، والفضلاء منهم يعترفون بضعف لوازمه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"والفضلاء من أصحاب الأشعري يعترفون بضعف لوازم هذا القول مع نصرهم لكثير من أقواله الضعيفة"
(2)
.
(1)
مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (ص: 498).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (4/ 115).
وقد اعترف العزُّ بن عبد السلام أنّ الاعتقاد بأن كلام الله معنى واحد قائم بالذات صعْبٌ جدًا على المعتقدين لذلك، فضلاً عن غيرهم، قال رحمه الله:"وكيف نُكِّفر العامة الذين لا يعرفون أن كلام الله معنى قديم قائم بنفسه متجه مع القضاء بكونه أمرًا ونهيًا ووعدًا ووعيدًا وخبرًا واستخبارًا ونداء ومسموعًا مع أنه ليس بصوت، وأنّ اعتقاد مثل هذا لصعب جدًا على المعتقدين الذاهبين إلى أنه من القواطع، المكفِّرين لجاحديه"
(1)
.
- ويقال أيضًا للأشاعرة القائلين بأن كلام الله معنى واحد: لمّا كلَّم اللهُ موسى عليه السلام هل أفهمه كلامه كلّه أو بعضه؟ فإن قالوا: كله، فقد صار موسى يعلم علم الله، وهذا من أعظم الباطل، وإن قالوا: بعضه، فقد تبعّض كلام الله وهم يقولون: إنه لا يتبعض. وفي هذا إبطال لقولهم.
قال الحافظ أبو نصر السجزي: "وقول الأشعري: إنّ كلام الله شيء واحد، لا يدخله التبعيض"، فإذا قال: إنّ الله أفهم موسى كلامه، لم يخل أمر من أن يكون قد أفهمه كلامه مطلقاً، فصار موسى عليه السلام عالماً بكلام الله حتى لم يبق له كلام من الأزل إلى الأبد إلا وقد فهمه. وفي ذلك اشتراك مع الله في علم الغيب، وذلك كفر بالاتفاق
…
(1)
قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 202) راجعه وعلق عليه: طه عبد الرؤوف سعد، مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة.
وإن قالوا: أفهمه ما شاء من كلامه، رجعوا إلى التبعيض الذي يكفِّرون به أهل الحق، ويخالفون فيه نص الكتاب حيث قال الله سبحانه:{ومن الأحزاب من ينكر بعضه} {وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد:36] وقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] والكتاب عند السلف هو القرآن باتفاق المسلمين كلام الله "
(1)
.
وقال الإمام يحيى ابن أبي الخير العمراني: "ويقال للأشعرية: هل أسمع الله موسى وأفهمه جميع كلامه أو بعض كلامه؟
فإن قالوا: أفهمه وأسمعه جميع كلامه، فقد جعلوا موسى عالمًا بما في نفس الله وعالمًا بالغيب، وقد أخبر سبحانه أنه لا يعلم ما في نفسه أحد، ولا يعلم الغيب إلا هو، وأخبر سبحانه أنه لو كان البحر مدادًا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله، ويؤدي قولهم هذا أن موسى عليه السلام قد فهم التوراة والإنجيل والفرقان، وأنّ المشروع بالقرآن والإنجيل كان مشروعا على بني إسرائيل وهذا باطل بالإجماع. وإن قالوا: أسمع موسى عليه السلام وأفهمه ما شاء من كلامه، رجعوا إلى ما عليه أهل الحق، وأن كلام الله ليس بشيء واحد.
(1)
رسالة السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت (ص: 165 - 167).
وإن قالوا: لم يسمع الله موسى كلامه القائم بذاته وإنما أسمعه العبارة عن كلامه وهي التوراة، أدى قولهم هذا إلى معان فاسدة،
…
ومنها: أن موسى يخرج عن أن يسمى كليم الله، وهذا ترك لما ورد به نص القرآن وأجمع عليه المسلمون، ورجعوا بذلك إلى قول المعتزلة الذين هم حوله يدورون، وعليه يعولون، وهو أن الله ما كلّم موسى وإنما خلق كلامًا في الشجرة أسمعه موسى عليه السلام"
(1)
.
- ويلزم الأشاعرة أيضًا أن يقولوا في بقية صفات الله تعالى ما قالوه في صفة الكلام، وذلك أنه إذا جاز أن يجعلوا الحقائق المتنوعة - كآية الدين، وآية الكرسي، والنهي عن الزنا وعن الربا، والقرآن والتوراة والإنجيل - شيئاً واحدًا، فيلزمهم أن يجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر والحياة والإرادة، صفة واحدة. أو أنهم يقولون بالتعدد في الكلام كما يقولونه في الصفات، من أن العلم غير القدرة، والإرادة غير الحياة، وإن كانت صفات قائمة بالله تعالى.
(1)
الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 591).
وهذا الإلزام لا محيد لهم عنه، وقد اعترف بذلك بعض أئمتهم منهم الآمدي حيث ذكر هذا الاعتراض، وذكر جواب أصحابه الأشاعرة عنه - ثم قال معلقا على جواب هذا الاعتراض:"وفيه نظر"، ثم قال:"والحق أنّ ما أوردوه من الإشكال على القول باتحاد الكلام وعود الاختلاف إلى التعلقات والمتعلقات مشكل، وعسى أن يكون عند غيري حلّه، ولعسر جوابه فرّ بعض أصحابنا إلى القول بأن كلام الله القائم بذاته خمس صفات مختلفة، وهي الأمر والنهي والخبر والاستخبار والنداء"
(1)
.
وعلق شيخ الإسلام على كلام الآمدي فقال: "قول القائل: إن الكلام خمس صفات أو سبع أو تسع أو غير ذلك من العدد لا يزيل ما تقدم من الأمور الموجبة تعدد الكلام.
وقد رأيت أنه يلزم من قال باتحاد معنى الكلام اتحاد الصفات كلها، ثم رفعها بالكلية وجعلها نفس الذات"
(2)
.
(1)
أبكار الأفكار في أصول الدين (1/ 400).
(2)
درء تعارض العقل والنقل (4/ 119).
- ومما يلزم مذهب الأشاعرة أيضًا تخطئةُ السلف الصالح، فالأشاعرة - كما تقدم- مصوِّبون للمعتزلة في قولهم بخلق القرآن الذي بين دفتي المصحف، ويحصرون الخلاف بينهم وبين المعتزلة في إثبات أمر آخر وراء ذلك، ولم يكن الخلاف بين السلف والجهمية والمعتزلة كما قدمنا إلا في القرآن المنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، المثبت في المصاحف، فإذا كان قولُ المعتزلة صوابًا فلا شك أن القول الآخر -وهو قول السلف - ليس بصواب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا ريب أنه قد اشتهر عند العامة والخاصة اتفاق السلف على أن القرآن كلام الله وأنهم أنكروا على من جعله مخلوقًا خلقه الله كما خلق سائر المخلوقات من السماء والأرض،
…
وأنتم [يعني: الأشاعرة] فلا ريب أن كلما يقول هؤلاء إنه مخلوق، لا تنازعونهم في أنّ الكلام الذي يقولون هو مخلوق، بل تقولون أنتم أيضًا إنه مخلوق.
فالذي قال هؤلاء إنه مخلوق إما أن يكون مخلوقًا أو لا يكون، فإن لم يكن مخلوقًا كنتم أنتم وهم ضالين حيث حكمتم جميعًا بخلقه.
وإن كان مخلوقًا لم يجز ذمّ من قال إنه مخلوق ولا عيبه بذلك، ولا يقال إنه جعل كلام الله الذي ليس بمخلوق مخلوقًا، ولا أنه جعل كلام الله في المخلوق ولا أنه جعل الشجرة هي القائلة إنني أنا الله، ونحو ذلك من الأقوال التي وَصف بها السلفُ مذهبَ الجهمية
…
وغاية ما يعاب به عندكم أنه نفى عن الله معنى آخر تثبتونه له، ذلك المعنى أكثر الناس لا يتصورونه لا المعتزلة ولا غيرهم، فضلا عن أن يحكموا عليه بأنه مخلوق، وذلك المعنى لا يتصور أن يقوم بالشجرة ولا غيرها، حتى تكون الشجرة هي القائلة له، والسلف لم يعيبوهم بهذا، ولا قالوا لهم: ما ذكرتم أنه مخلوق فهو مخلوق، لكن ثَمّ معنى آخر ليس بمخلوق، ولا قالوا: هذا الذي قلتم إنه مخلوق هو مخلوق، لكنه ليس هو بكلام الله، ولا نحو ذلك.
فإن كان هذا الذي قالوا هو مخلوق هو مخلوق كما قالوا ليس هو كلام الله، وإنما كلام الله معنى آخر، فلا ريب أنّ السلف مخطئون ضالون في هذه المسألة، فأحد الأمرين لازم إما تضليلكم المعتزلة أو تضليل السلف، والثاني ممتنع، فتعين الأول.
يؤيد هذا
…
أن الأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم إحداث قول ثالث، فإذا لم يكن في صدر الأمة إلا قول السلف وقول المعتزلة تعين أن يكون الحق في أحد القولين"
(1)
.
(1)
الفتاوى الكبرى (6/ 523 - 524).
- ويلزمهم أيضًا أن لا يحكوا عن المعتزلة القول بخلق القرآن وأن لا يذموهم بذلك؛ لأن الذي قالت المعتزلة إنه مخلوق فهم يوافقونهم في أنه مخلوق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لا يحل لكم أن تحكوا عن المعتزلة أنهم قالوا بخلق القرآن أو بخلق كلام الله كما يحكيه عنهم السلف وأئمة الحديث والسنة، وكما يقولون هم ذلك، وإن حكيتم ذلك عنهم فلا يحل لكم أن تذموهم بذلك كما ذموهم السلف به، بل تمدحونهم بذلك كما يمدحون بذلك أنفسهم، فلا بد لكم من مخالفة السلف والمعتزلة جميعًا، أو مخالفة السلف وموافقة المعتزلة؛ وذلك لأن الذي قالت المعتزلة إنه مخلوق فأنتم تقولون إنه مخلوق أيضًا، وذلك واجب عندكم، ومن قال عن ذلك إنه ليس بمخلوق فهو ضال عندكم أو كافر"
(1)
.
(1)
المصدر السابق (6/ 525).