الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفيما يلي بعض أقوال السلف التي فيها ما يدل دلالة صريحة على أنّ إنكارهم على الجهمية والمعتزلة وتبديعهم وتضليلهم بل وتكفيرهم، كان بسبب قولهم بخلق القرآن العربي، المنزل، المثبت في المصاحف، لا لإنكارهم الكلام النفسي وعدم إثباتهم له:
-
أقوال بعض السلف التي فيها ما يدل صراحة بأن إنكار السلف على المعتزلة كان بسبب قولهم بخلق القرآن العربي الموجود بين دفتي المصحف:
قال التابعي الجليل عمرو بن دينار: "أدركت أصحاب النبي فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق، والقرآن كلام الله منه خرج وإليه يعود"
(1)
.
وقال سفيان الثوري: "من زعم أن قول الله عز وجل {يَامُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النمل:9]، مخلوق فهو كافر زنديق حلال الدم"
(2)
.
وقال أيضًا: "من قال إنّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2]، مخلوق فهو كافر"
(3)
.
(1)
الرد على الجهمية للدارمي (ص: 189) تحقيق: بدر البدر، دار ابن الأثير - الكويت، ط/ الثانية، 1995 م.
(2)
المصدر السابق (1/ 107).
(3)
المصدر السابق (1/ 108).
وقال حماد بن زيد: "القرآن كلام الله عز وجل، نزل به جبريل عليه السلام من عند رب العالمين جل وعز"
(1)
.
وقرأ عبدُ الله بن المبارك شيئًا من القرآن، ثم قال:"من زعم أن هذا مخلوق، فقد كفر بالله العظيم عز وجل "
(2)
.
وساق اللالكائي بسنده إلى الحسين بن شبيب قال: سمعت ابن المبارك، وقرأ ثلاثين آية من طه فقال: من زعم أن هذا مخلوق فهو كافر"
(3)
.
وقال رجل لهشيم: إن فلانا يقول: القرآن مخلوق، فقال:"اذهب إليه فاقرأ عليه أول الحديد وآخر الحشر، فإن زعم أنهما مخلوقان فاضرب عنقه"
(4)
.
وقال عبد الله بن إدريس الأودي: "من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق، يقول الله تعالى: عز وجل، فالله لا يكون مخلوقًا، والرحمن لا يكون مخلوقًا، والرحيم لا يكون مخلوقًا، وهذا أصل الزنادقة"
(5)
.
(1)
السنة لعبد الله بن أحمد (2/ 485) المحقق: د. محمد سعيد القحطاني، دار ابن القيم - الدمام، ط/ الأولى، 1406 هـ، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 384).
(2)
الشريعة للآجري (ص: 76) المحقق: د. عبد الله الدميجي، دار الوطن - الرياض - السعودية، ط/ الثانية، 1420 هـ- 1999 م.
(3)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 282).
(4)
السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 128).
(5)
خلق أفعال العباد للإمام البخاري (ص: 30)، الشريعة للآجري (1/ 498).
وعن عفان، قال: شهدت سلام بن المنذر قارئ أهل البصرة، وقد جاءه رجل والمصحف في حجره، فقال: ما هذا يا أبا المنذر؟ قال: "قم يا زنديق، هذا كلام الله غير مخلوق"
(1)
.
وعن محمد بن أعين، قال: سمعت النضر بن محمد يقول: "من قال في هذه الآية: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] مخلوق، فهو كافر، فجئت إلى عبد الله بن المبارك، فأخبرته بقول النضر، فقال: صدق النضر، عافاه الله، ما كان ليأمره أن يعبد مخلوقًا"
(2)
.
وساق اللالكائي بسنده إلى وكيع بن الجراح أنه قال: من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن شيئا من الله مخلوق. فقيل له: يا أبا سفيان، من أين قلت هذا؟ قال: لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13]، ولا يكون من الله شيء مخلوق". قال اللالكائي: وكذلك فسره أحمد بن حنبل، ونعيم بن حماد، والحسن بن الصباح البزار، وعبد العزيز بن يحيى المكي الكناني"
(3)
.
(1)
الإبانة الكبرى لابن بطة (6/ 55).
(2)
مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص: 359) تحقيق: طارق بن عوض الله، مكتبة ابن تيمية، مصر
ط/ الأولى، 1420 هـ- 1999 م.
(3)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 245).
وقال رجلٌ لسفيان بن عيينة: إن قومًا يزعمون أن القرآن مخلوق، ففزع وقال: مه، مرتين أو ثلاثا، إن القرآن من عند الله جاء، وإلى الله يعود، وهو قرآن كما سماه الله"
(1)
.
وذُكِر ليحيى بن سعيد القطان أنّ قومًا يقولون القرآن مخلوق فقال: "كيف يصنعون بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] كيف يصنعون بقوله: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} [طه:14] يكون مخلوقًا؟! "
(2)
.
وعن محمد بن إسحاق الصاغاني قال: سمعت حسن بن موسى الأشيب يقول: "أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم، {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)} [الفاتحة:1] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة:5] فقال حسن: أمخلوق هذا؟! "
(3)
.
(1)
المصدر السابق (2/ 384).
(2)
خلق أفعال العباد (ص: 33)، السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 159).
(3)
السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 161)، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 288).
وعن بشر بن الحارث قال: سألت عبد الله بن داود الخريبي عن القرآن؟ فقال: {الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر:23] يكون هذا مخلوقا؟! "
(1)
.
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين: "أدركت الناس ما يتكلمون في هذا، ولا عرفنا هذا إلا من بعد سنين، القرآن كلام الله منزل من عند الله، لا يئول إلى خالق ولا مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، هذا الذي لم نزل عليه ولا نعرف غيره"
(2)
.
وقال عفان بن مسلم: "من قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، مخلوق فهو كافر"
(3)
.
وقال أيضًا: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يريدون أن يبدلوا كلام الله {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255]{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] أمخلوق هذا؟!
(4)
.
وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: "من زعم أنّ من القرآن من أوله إلى آخره آية مخلوقة فهو كافر"
(5)
.
(1)
السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 159).
(2)
الإبانة الكبرى لابن بطة (6/ 36).
(3)
خلق أفعال العباد (ص: 33).
(4)
العلو للعلي الغفار (ص: 167).
(5)
المصدر السابق (ص: 168).
وقال عبد الله بن محمد العيشي: يستحيل في صفة الحكيم أن يخلق كلامًا يدعي الربوبية، يعني قوله تعالى:} {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} [طه:14] وقوله: {أَنَا رَبُّكَ} [طه:12] "
(1)
.
وقال أبو جعفر النفيلي: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر، فقيل له: يا أبا جعفر الكفر كفران: كفر نعمة وكفر بالرب عز وجل ، قال: لا، بل كفر بالرب عز وجل ، ما تقول فيمن يقول {اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2]، مخلوق؟ أليس كافرًا هو؟! "
(2)
.
وقال محمد بن إسحاق الصاغاني: رأيت في كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام بخطه: "إذا قال لك الجهمي: أخبرني عن القرآن، أهو الله أم غير الله؟ فإن الجواب له أن يقال له: قد أحلت في مسألتك، لأنّ الله وصفه بوصف لا تقع عليه مسألتك، قال الله تعالى: {الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1 - 2] فهو من الله لم يقل: هو أنا، ولا هو غيري، إنما يسمى كلامه، فليس له عندنا غير ما جلاه، وننفي عنه ما نفى عنه"
(3)
.
(1)
المصدر السابق (ص: 181).
(2)
المصدر السابق (ص: 181).
(3)
السنة لعبد الله بن أحمد (1/ 163)، الإبانة الكبرى لابن بطة (6/ 40).
وقال سليمان بن داود الهاشمي: من قال القرآن مخلوق فهو كافر، وإن كان القرآن مخلوقًا كما زعموا فلِمَ صار فرعون أولى بأن يخلّد في النار إذ قال: أنا ربكم الأعلى، وزعموا أن هذا مخلوق، والذي قال: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني، هذا أيضا قد ادعى ما ادعى فرعون، فلم صار فرعون أولى بأن يخلد في النار من هذا، وكلا منهما عنده مخلوق، فأُخبر بذلك أبو عبيد فاستحسنه وأعجبه"
(1)
.
وقال أحمد بن حنبل: "من زعم أن هذه الآية مخلوقة {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه:14] فقد كفر، ومن زعم أن هذه الآية مخلوقة {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ} [النازعات:15 - 16] وقال الله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة:13] فالقول ممن هو؟ إنما هو منه، والقرآن من علم الله فمن زعم أن من علم الله شيئًا مخلوق فقد كفر"
(2)
.
وقال أيضًا: "القرآن في جميع الوجوه ليس بمخلوق" ثم قال: "جبريل حين قاله للنبي صلى الله عليه وسلم كان منه مخلوقًا؟ والنبي حين قاله كان منه مخلوقا؟ هذا من أخبث قول وأشره" ثم قال: "بلغني عن جهم أنه قال بهذا في بدء أمره"
(3)
.
(1)
خلق أفعال العباد (ص: 36).
(2)
الحجة في بيان المحجة (1/ 240).
(3)
الإبانة الكبرى لابن بطة (5/ 338).
وقال أيضًا: "وأسماء الله في القرآن، والقرآن من علم الله، فمن زعم أنّ القرآن مخلوق فهو كافر، ومن زعم أن أسماء الله مخلوقة فقد كفر"
(1)
.
وقال أيضًا: "اللفظية إنما يدورون على كلام جهم، يزعمون أنّ جبريل صلى الله عليه وسلم إنما جاء بشيء مخلوق إلى مخلوق. يعني: جبريل مخلوق، جاء به إلى محمد صلى الله عليه وسلم "
(2)
.
وقال أيضًا عن الذين يقولون: إن ألفاظنا بالقرآن مخلوق: "هذا شر من قول الجهمية، من زعم هذا، فقد زعم أن جبريل صلى الله عليه وسلم جاء بمخلوق، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلّم بمخلوق"
(3)
.
وقال أيضًا: "القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر بالله واليوم الآخر، والحجة فيه {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} [آل عمران:61]، وقال: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة:120]، وقال {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ} [الرعد:37] فالذي جاء النبيَّ صلى الله عليه وسلم به من العلم هو القرآن، وهو العلم الذي جاءه، والعلم غير مخلوق، والقرآن من العلم وهو كلام الله"
(4)
.
(1)
محنة الإمام أحمد (ص: 52).
(2)
مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص: 363) الإبانة الكبرى لابن بطة (5/ 332).
(3)
مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص: 363).
(4)
الإبانة الكبرى لابن بطة (6/ 26).
وعن أحمد بن سعيد الدارمي قَالَ: قلتُ لأحمد بن حنبل أقول لك قولي، وإن أنكرت منه شيئًا فقل إني أنكره، قلت له: نحن نقول القرآن كلام اللَّه من أوله إلى آخره ليس منه شيء مخلوق ومن زعم أن شيئًا منه مخلوق فهو كافر. فما أنكر منه شيئًا ورضيه"
(1)
.
وقال البخاري: "حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب، فهو كلام الله ليس بخلق، قال الله {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]،
…
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3]، وَقَالَ:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]، فَذَكَرَ أَنَّهُ يُحْفَظُ وَيُسْطَرُ قَالَ:{وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم:1] "
(2)
.
وقال أيضًا: القرآن من أوله إلى آخره كلام اللَّه ليس شيء منه مخلوق، ومن قَالَ: إنه مخلوق أو شيء منه مخلوق فهو كافر"
(3)
.
(1)
طبقات الحنابلة (1/ 46).
(2)
خلق أفعال العباد (ص: 47).
(3)
طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (1/ 279) المحقق: محمد حامد الفقي، دار المعرفة - بيروت.
وساق اللالكائي بسنده إلى الفضل بن بسام قال: سمعت ابراهيم بن محمد يقول: أنا توليت دفن محمد بن إسماعيل البخاري لما مات بخرتنك، فأردت حمله إلى سمرقند أن أدفنه بها، فلم يتركني صاحب لنا من أهل شكخشكت فدفناه بها، فلما أن أفرغنا ورجعت إلى المنزل الذي كنت فيه، قال لي صاحب القصر: سألته أمس فقلت يا أبا عبد الله ما تقول في القرآن؟ فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق. فقلت له: إن الناس يزعمون أنك تقول ليس في المصحف قرآن، ولا في صدور الناس؟ فقال: استغفر الله أن تشهد عليّ بما لم تسمعه مني، إني أقول كما قال الله:{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1 - 2]، أقول: في المصاحف قرآن، وفي صدور الرجال قرآن، فمن قال غير ذلك هذا يستتاب، فإن تاب وإلا سبيله سبيل الكفر"
(1)
.
وجاء كتاب من المحلة إلى أبي إبراهيم إسماعيل المزني يسأل عن رجل قال: ورب يس لا فعلت كذا. ففعل فحنث. قال المزني: لا شيء عليه، ومن قال: حانث يقول القرآن مخلوق"
(2)
.
وقال أبو محمد ابن قتيبة في أثناء كلامه في الجواب عما سأله أحد الجهمية: "قلتُ: ما تقول في قول الله: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] ما هو؟ قال: آية. قلتُ: فهي عندك أمخلوقة أم غير مخلوقة؟ قال: مخلوقة"
(3)
.
(1)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 395).
(2)
المصدر السابق (2/ 394).
(3)
الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية (ص: 67) المحقق: عمر بن محمود أبو عمر، دار الراية، ط/ الأولى 1412 هـ- 1991 م.
وقال ابن خزيمة: "القرآن كلام الله، ووحيه، وتنزيله، غير مخلوق، ومن قال: شيء منه مخلوق،
…
فهو جهمي"
(1)
.
وسئل القاضي أحمد بن كامل البغدادي تلميذ الإمام ابن جرير الطبري عمن قال: القرآن الذي قاله الله: {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79]، وقال:{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:78] غير مخلوق، وأما ما بين أظهرنا يمسه الجنب والحائض فهو مخلوق.
فقال: وهذا مذهب الناشئ [هو أبو العباس ابن شرشير من رؤوس المعتزلة] ، وهو كفر بالله العظيم،
…
فالقرآن على أي وجه تلي وقرئ، فهو واحد، وهو غير مخلوق"
(2)
.
وعلى كل حال فأقوال السلف التي فيها الدلالة الصريحة على أنّ الإنكار على الجهمية والمعتزلة كان بسبب قولهم بخلق القرآن العربي - المنزل، المثبت في المصاحف، المقروء بالألسنة، المحفوظ في الصدور-، كثيرة جدًا، وما تركنا ذكره أكثر مما ذكرناه بكثير، وسيأتي في المبحث التالي وهو حكم من قال: القرآن عبارة عن كلام الله المزيد من أقوال الأئمة في ذلك.
(1)
سير أعلام النبلاء (14/ 379) مؤسسة الرسالة، ط/ الثالثة، 1405 هـ 1985 م.
(2)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لأبي القاسم اللالكائي (2/ 398).
حكمُ من قال:
القرآن عبارة عن كلام الله
- "كان الإمام أحمد يقول: إنّ القرآن كيف تصرف غير مخلوق، وأن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف. وكان يبطل الحكاية ويضلِّل القائل بذلك، وعلى مذهبه أن من قال إن القرآن عبارة عن كلام الله عز وجل فقد جهل وغلط، وأن الناسخ والمنسوخ في كتاب الله عز وجل دون العبارة عنه ودون الحكاية له، وتبطل الحكاية عنده بقوله عز وجل {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء:164] و {تَكْلِيمًا} [النساء:164] مصدر تكلم يتكلم فهو متكلم، وذلك يفسد الحكاية، ولم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين من المتقدمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين رضي الله عنهم القول بالحكاية والعبارة، فدل على أنّ ذلك من البدع المحدثة"
(1)
.
(1)
اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل لأبي الفضل التميمي (ص: 296)، العين والأثر في عقائد أهل الأثر لعبد الباقي المواهبي الحنبلي (ص: 76)، لوامع الأنوار البهية للسفاريني (1/ 139).
- وقال الإمام أبو محمد ابن قتيبة: "ولسنا نشك في أنّ القرآن في المصاحف على الحقيقة، لا على المجاز كما يقول أصحاب الكلام: إن الذي في المصحف، دليل على القرآن وليس به.
والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77 - 79]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:«لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو» يريد المصحف"
(1)
.
- وساق الحافظ الضياء المقدسي بسنده إلى الحافظ أحمد بن سنان الواسطي (المتوفى: 295 هـ) أنه قال: "من زعم أنّ القرآن شيئين أو أن القرآن حكاية فهو والله الذي لا إله إلا هو زنديق كافر بالله، هذا القرآن هو القرآن الذي أنزله الله على لسان جبريل على محمد لا يغير ولا يبدل، {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] "
(2)
.
(1)
تأويل مختلف الحديث (ص: 291 - 292) المكتب الاسلامي - مؤسسة الإشراق، ط/ الثانية، 1419 هـ.
(2)
اختصاص القرآن بعوده إلى الرحيم الرحمن للضياء المقدسي (ص: 32) المحقق: عبد الله بن يوسف الجديع، مكتبة الرشد - الرياض، ط/ الأولى، 1409 هـ 1989 م.
- وقال الإمام ابن جرير الطبري: "فأول ما نبدأ بالقول فيه من ذلك عندنا القرآن كلام الله وتنزيله، إذ كان من معاني توحيده، فالصواب من القول في ذلك عندنا أنه كلام الله غير مخلوق كيف كُتب، وحيث تُلي، وفي أي موضع قرئ، في السماء وُجد، وفي الأرض حيث حفظ، في اللوح المحفوظ كان مكتوبًا، وفي ألواح صبيان الكتاتيب مرسومًا، في حجر نقش أو في ورق خط، أو في القلب حفظ، وبلسان لفظ، فمن قال غير ذلك، أو ادعى أنّ قرآنًا في الأرض أو في السماء سوى القرآن الذي نتلوه بألسنتنا ونكتبه في مصاحفنا، أو اعتقد غير ذلك بقلبه أو أضمره في نفسه أو قاله بلسانه دائنًا به فهو بالله كافر، حلال الدم، بريء من الله والله منه بريء، يقول الله عز وجل:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]، وقال وقوله الحق عز وجل {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فأخبر جل ثناؤه أنه في اللوح المحفوظ مكتوب، وأنه من لسان محمد مسموع، وهو قرآن واحد، من محمد مسموع، في اللوح المحفوظ مكتوب، وكذلك هو في الصدور محفوظ، وبألسن الشيوخ والشباب متلو.
قال أبو جعفر: فمن روى عنا أو حكى عنا أو تقول علينا فادّعى أنا قلنا غير ذلك فعليه لعنة الله وغضبه ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين، لا قبل الله له صرفا ولا عدلاً، وهتك ستره وفضحه على رؤوس الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار"
(1)
.
(1)
صريح السنة (ص: 18 - 19).
- وقال الإمام أبو بكر محمد بن الحسين الآجرّي (المتوفى: 360 هـ): "وكذلك من قال: إنّ هذا القرآن الذي يقرؤه الناس وهو في المصاحف: حكاية لما في اللوح المحفوظ، فهذا قول منكر، تنكره العلماء.
يقال لقائل هذه المقالة: القرآن يكذبك، ويرد قولك، والسنة تكذبك وترد قولك. قال الله عز وجل:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فأخبرنا الله عز وجل أنه إنما يستمع الناس كلام الله عز وجل، ولم يقل: حكاية كلام الله عز وجل.
وقال الله جل وعلا: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف:204] فأخبرنا جل وعلا أن السامع إنما يستمع القرآن، ولم يقل تبارك وتعالى: حكاية القرآن.
وقال عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:9] وقال عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29 - 30].
وقال جل وعلا: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} [الجن:1 - 2] الآية، ولم يقل عز وجل يستمعون حكاية القرآن، ولا قالت الجن: إنا سمعنا حكاية القرآن كما قال من ابتدع بدعة ضلالة، وأتى بخلاف الكتاب والسنة، وبخلاف قول المؤمنين"
(1)
.
وقال أيضًا: "فينبغي للمسلمين أن يتقوا الله عز وجل، ويتعلموا القرآن، ويتعلموا أحكامه، فيحلوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويعملوا بمحكمه، ويؤمنوا بمتشابهه، ولا يماروا فيه، ويعلموا أنه كلام الله عز وجل غير مخلوق.
فإن عارضهم إنسان جهمي فقال: مخلوق، أو قال: القرآن كلام الله عز وجل ووقف، أو قال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو قال: هذا القرآن حكاية لما في اللوح المحفوظ. فحكمه أن يهجر ولا يكلم، ولا يصلى خلفه، ويحذر منه"
(2)
.
(1)
الشريعة (1/ 535 - 536) المحقق: د. عبد الله الدميجي، دار الوطن - الرياض - السعودية، ط/ الثانية، 1420 هـ- 1999 م.
(2)
المصدر السابق (1/ 539).
- وقال الحافظ أبو بكر الإسماعيلي (المتوفى: 371 هـ): "ويقولون [أي: أهل السنة والحديث]: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه كيفما يصرف بقراءة القارئ له وبلفظه، ومحفوظًا في الصدور، متلوًا بالألسن، مكتوبًا في المصاحف غير مخلوق، ومن قال بخلق اللفظ بالقرآن يريد به القرآن فهو قد قال بخلق القرآن"
(1)
.
- وقال الإمام ابن بطة عبيد الله بن محمد بن حمدان العكبري (المتوفى: 387 هـ): "واعلموا رحمكم الله أن صنفًا من الجهمية اعتقدوا بمكر قلوبهم، وخبث آرائهم، وقبيح أهوائهم، أن القرآن مخلوق، فكنوا عن ذلك ببدعة اخترعوها، تمويها وبهرجة على العامة، ليخفى كفرهم، ويستغمض إلحادهم على من قلّ علمه، وضعفت نحيزته، فقالوا: إن القرآن الذي تكلّم الله به وقاله فهو كلام الله غير مخلوق، وهذا الذي نتلوه ونقرؤه بألسنتنا، ونكتبه في مصاحفنا ليس هو القرآن الذي هو كلام الله، هذا حكاية لذلك، فما نقرؤه نحن حكاية لذلك القرآن بألفاظنا نحن، وألفاظنا به مخلوقة، فدققوا في كفرهم، واحتالوا لإدخال الكفر على العامة بأغمض مسلك، وأدق مذهب، وأخفى وجه، فلم يخف ذلك بحمد الله ومنّه وحسن توفيقه على جهابذة العلماء والنقاد العقلاء، حتى بهرجوا ما دلسوا، وكشفوا القناع عن قبيح ما ستروه، فظهر للخاصة والعامة كفرهم وإلحادهم، وكان الذي فطن لذلك وعرف موضع القبيح منه الشيخ الصالح، والإمام العالم العاقل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، وكان بيان كفرهم بينا واضحا في كتاب الله عز وجل، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
(1)
اعتقاد أئمة الحديث (ص: 59 - 60).
وقد كذبهم القرآن والسنة بحمد الله، قال الله عز وجل:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6] ولم يقل: حتى يسمع حكاية كلام الله.
وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف:204]، فأخبر أن السامع إنما يسمع إلى القرآن، ولم يقل: إلى حكاية القرآن. وقال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45]، وقال عز وجل:{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29].
ومثل هذا في القرآن كثير، من تدبره عرفه.
وجاء في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكلام الصحابة والتابعين، وفقهاء المسلمين، رحمة الله عليهم أجمعين، ما يوافق القرآن ويضاهيه، والحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن قريشًا منعتني أن أبلغ كلام ربي» ولم يقل حكاية كلام ربي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» ولم يقل: من تعلّم حكاية القرآن.
وقال «مثل صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن تعاهدها صاحبها أمسكها، وإن تركها ذهبت» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو، مخافة أن يناله العدو» .
وقال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} [الواقعة:77 - 80] فنهى أن يمس المصحف إلا طاهر، لأنه كلام رب العالمين، فكل ذلك يسميه الله عز وجل قرآنا، ويسميه النبي صلى الله عليه وسلم قرآنا، ولا يقول: حكاية القرآن، ولا حكاية كتاب الله، ولا حكاية كلام الله.
وقال عبد الله بن مسعود: إن هذا القرآن كلام الله فلا تخلطوا به غيره. وقال عبد الله أيضًا: تعلموا كتاب الله واتلوه، فإن لكم بكل حرف عشر حسنات.
فهذا ونحوه في القرآن والسنن، وقول الصحابة والتابعين، وفقهاء المسلمين، ما يدل العقلاء على كذب هذه الطائفة من الجهمية الذين احتالوا ودققوا في قولهم: القرآن مخلوق.
ولقد جاءت الآثار عن الأئمة الراشدين وفقهاء المسلمين الذين جعلهم الله هداة للمسترشدين، وأنسًا لقلوب العقلاء من المؤمنين، مما أمروا به من إعظام القرآن وإكرامه، مما فيه دلالة على أن ما يقرؤه الناس ويتلونه بألسنتهم هو القرآن الذي تكلم الله به، واستودعه اللوح المحفوظ، والرق المنشور، حيث يقول الله تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]، وقوله تعالى:{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور:1 - 3] "
(1)
.
وقال أيضًا بعد أن ذكر جملة من الأحاديث والآثار: "ففي هذه الأحاديث بيان كذب من زعم أن القرآن لا يكون في صدور المسلمين وقلوبهم، فالمنكر لذلك ضال مبتدع"
(2)
.
(1)
الإبانة الكبرى (5/ 317 - 321).
(2)
المصدر السابق (5/ 371).
- وقال الإمام أبو حامد الإسفراييني (المتوفى: 406 هـ): "مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعًا من الله تعالى، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، فما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومنقوشًا كل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين"
(1)
.
- وقال الحافظ أبو القاسم اللالكائي (المتوفى: 418 هـ): "سياق ما دل من الآيات من كتاب الله تعالى وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين على أن القرآن تكلم الله به على الحقيقة، وأنه أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمره أن يتحدى به، وأن يدعو الناس إليه، وأنه القرآن على الحقيقة متلو في المحاريب، مكتوب في المصاحف، محفوظ في صدور الرجال، ليس بحكاية ولا عبارة عن قرآن، وهو قرآن واحد غير مخلوق وغير مجعول ومربوب، بل هو صفة من صفات ذاته، لم يزل به متكلما، ومن قال غير هذا فهو كافر ضال مضل مبتدع مخالف لمذاهب السنة والجماعة"
(2)
.
(1)
نَقَلَ قول أبي حامد هذا أبو الحسن الكرجي في كتابه الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول، نقلاً من كتاب شرح العقيدة الأصفهانية لابن تيمية (ص: 57 - 58) تحقيق: إبراهيم سعيداي، مكتبة الرشد - الرياض، ط/ الأولى، 1415 هـ.
(2)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (2/ 364).
وقال أيضًا بعد أن ساق جملة من الآيات التي تدل على أنّ القرآن هو المنزل على نبينا محمد، المتلو بالألسنة، المكتوب في المصاحف: "فأخبر الله تعالى في جميع هذه الآيات أنه منزل، وأشار إلى جملتها تارة وإلى آياتها تارة.
فمن قال: إن القرآن هو الذي في السماء فقد خالف الله ورسوله، وردّ معجزات نبيه، وخالف السلف من الصحابة والتابعين والخالفين لهم من علماء الأمة"
(1)
.
- وقال الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني (المتوفى: 430 هـ): "طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة، ومما اعتقدوه
…
وأن القرآن كلام الله، وكذلك سائر كتبه المنزلة كلامه غير مخلوق، وأن القرآن في جميع الجهات مقروءا ومتلوًا ومحفوظًا ومسموعًا ومكتوبًا وملفوظًا كلام الله حقيقة، لا حكاية ولا ترجمة، وأنه بألفاظنا كلام الله غير مخلوق، وأن الواقفة واللفظية من الجهمية، وأن من قصد القرآن بوجه من الوجوه يريد به خلق كلام الله فهو عندهم من الجهمية، وأنّ الجهمي عندهم كافر"
(2)
.
- وقال شيخ الإسلام أبو عثمان الصابوني (المتوفى: 449 هـ): "ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وكتابه، ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم، والقرآن الذي هو كلام الله ووحيه هو الذي ينزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم
…
(1)
المصدر السابق (2/ 367).
(2)
العلو للعلي الغفار (ص: 243).
وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويكتب في المصاحف، كيف ما تصرف بقراءة قارئ، ولفظ لافظ، وحفظ حافظ، وحيث تلي، وفي أي موضع قرئ وكتب في مصاحف أهل الإسلام، وألواح صبيانهم وغيرها كله كلام الله عز وجل غير مخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم"
(1)
.
- وقال الإمام ابن حزم الظاهري (المتوفى: 456 هـ): "مع أنّ قولهم [أي: الأشعرية] ليس لله تعالى إلا كلام واحد قول أحمق لا يعقل ولا يقوم به برهان شرعي، ولا تشكل في هاجس، ولا يوجبه عقل، إنما هو هذيان محض
…
وقالوا كلهم: إن القرآن لم ينزل به قط جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما نزل عليه بشيء آخر هو العبارة عن كلام الله، وأنّ القرآن ليس عندنا البتة إلا على هذا المجاز، وأنّ [ما] نرى في المصاحف ونسمع من القراء ونقرأ في الصلاة ونحفظ في الصدور ليس هو القرآن البتة، ولا شيء منه كلام الله البتة، بل شيء آخر، وإن كلام الله تعالى لا يفارق ذات الله عز وجل.
(1)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص: 165 - 166) دراسة وتحقق: د. ناصر الجديع، دار العاصمة للنشر والتوزيع.
(قال أبو محمد): وهذا من أعظم الكفر؛ لأن الله تعالى قال: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21 - 22]، وقال تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء:193 - 194] وقال تعالى: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، وقال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]، وقال رسول الله صلى الله عليه:«إني أحب أن أسمعه من غيري» يعني القرآن، وقال صلى الله عليه وسلم «الذي يقرأ القرآن مع السفرة الكرام البررة» ، ونهيه صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، إلى إجماع عامة المسلمين وخاصتهم وجاهلهم وعالمهم على القول: حَفظ فلان القرآن، وقرأ فلان القرآن، وكتب فلان القرآن في المصحف، وسمعنا القرآن من فلان، وكلام الله تعالى ما في المصحف من أول أمّ القرآن إلى آخر قل أعوذ برب الناس"
(1)
.
- وقال الحافظ أبو القاسم بن منده (المتوفى: 470 هـ) بعد روايته لحديث «من قرأ حرفًا من القرآن كتبت له حسنة
…
الحديث»: "والمبتدع يشير بهذه الحروف إلى قرآن سوى ذلك الكتاب، فقد صار القرآن عنده قرآنين: مجازا وحقيقته، المجاز عنده مخلوق، وصاحب الحديث لا يعرف قرآنًا غير هذا الذي يراه المبتدع مخلوقًا"
(2)
.
(1)
الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 159 - 160) مكتبة الخانجي - القاهرة.
(2)
الرد على من يقول (ألم) حرف (ص: 76) تحقيق: عبد الله الجديع، دار العاصمة - الرياض، ط/ الأولى، 1409 هـ.
- وقال أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي (المتوفى: 532 هـ) في كتابه الذي سماه الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول: "ولم يزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن يُنسبوا إلى الأشعري ويتبرؤون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحوم حواليه على ما سمعت عدة من المشايخ والأئمة منهم الحافظ المؤتمن بن أحمد بن علي الساجي يقولون: سمعنا جماعة من المشايخ الثقات قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفراييني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علمًا وأصحابًا اذا سعى إلى الجمعة من قطعية الكرج إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوزي المحاذي للجامع ويُقبل على من حضر ويقول: اشهدوا عليّ بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كما قاله الإمام ابن حنبل لا كما يقوله الباقلاني، وتكرر ذلك منه جُمُعات فقيل له في ذلك، فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح ويشيع الخبر في أهل البلاد أني بريء مما هم عليه - يعني الأشعرية-، وبريء من مذهب أبي بكر بن الباقلاني، فإن جماعة من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفية ويقرؤون عليه فيفتنون بمذهبه، فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعتهم لا محالة، فيظن ظان أنهم مني تعلموه قبله، وأنا ما قلته، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته"
(1)
.
(1)
درء تعارض العقل والنقل (2/ 96 - 97).
- وقال الحافظ أبو القاسم التيمي الأصبهاني الشافعي الملقب بقوام السنة (المتوفى: 535 هـ): "قال أصحاب الحديث وأهل السنة: إن القرآن المكتوب الموجود في المصاحف، والمحفوظ الموجود في القلوب، هو حقيقة كلام الله عز وجل، بخلاف ما زعم قومٌ أنه عبارة عن حقيقة الكلام القائم بذات الله عز وجل ودلالة عليه، والذي هو في المصاحف محدث وحروف مخلوقة"
(1)
.
وروى أيضًا بسنده إلى أبي حاتم الرازي أنه قال: "من كلام جهم بن صفوان، وحسين الكرابيسي، وداود بن علي أن لفظهم القرآن مخلوق، وأن القرآن المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم مما جاء به جبريل الأمين حكاية القرآن فجهّمهم أبو عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل، وتابعه على تجهيمهم علماء الأمصار طراً أجمعون، لا خلاف بين أهل الأثر في ذلك"
(2)
.
(1)
الحجة في بيان المحجة (1/ 400).
(2)
المصدر السابق (2/ 202 - 203).
وقال أيضًا: "قال بعض علماء أهل السنة: الكلام في صفات الله صعب، والدخول فيها شديد، ومن تكلم في صفات الله بما لا يليق به، ونسب إليه ما لا يحسن في صفاته، وترك الاتباع، وآثر الاختراع ضل عن الهدى
…
وقد ترك قومٌ الاقتداء، وقاسوا صفات الله بعقولهم فضلوا وأضلوا، فمن مقالتهم أن قالوا بعقولهم الناقصة، ومقاييسهم الباطلة: كما أن الله تعالى ليس في الدنيا فكذلك صفاته ليست في الدنيا. يعنون أن المصاحف ليس فيها قرآن، وأن القرآن الذي نكتبه إنما هو مداد نسود به بياضًا.
وقالوا: كما أن الله تعالى ليس في قلوبنا فكذلك صفته ليست في قلوبنا. يريدون أن ليس بموجود في الصدور، وأنّ الذي نقرأه ليس بقرآن إنما هو عبارة، وحكاية. ومن قال هذا فقد صرح بأن القرآن غير منزل.
ومذهب أهل السنة أن الله تعالى أظهر للسامعين - من ألسنة مخلوقة وأفعال مخلوقة وهي حركات الألسنة -كلامًا غير مخلوق، وكذلك يظهر من حبر مخلوق وكاغد مخلوق، وأقلام مخلوقة كلامًا غير مخلوق بلا كيف"
(1)
.
(1)
المصدر السابق (2/ 477 - 478).
- وقال أبو الفتح الشهرستاني (المتوفى: 548 هـ): "قالت السلف والحنابلة: قد تقرر الاتفاق على أنّ ما بين الدفتين كلام الله، وأن ما نقرأه ونسمعه ونكتبه عين كلام الله، فيجب أن يكون الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله، ولما تقرر الاتفاق على أنّ كلام الله غير مخلوق، فيجب أن تكون الكلمات أزلية غير مخلوقة.
ولقد كان الأمر في أول الزمان على قولين: أحدهما: القدم. والثاني: الحدوث.
والقولان مقصوران على الكلمات المكتوبة والآيات المقروءة بالألسن، فصار الآن إلى قول ثالث وهو حدوث الحروف والكلمات، وقدم الكلام والأمر الذي تدل عليه العبارات،
…
فكانت السلف على إثبات القدم والأزلية لهذه الكلمات، دون التعرض لصفة أخرى وراها.
وكانت المعتزلة على إثبات الحدوث والخلقية لهذه الحروف والأصوات دون التعرض لأمر وراها.
فأبدع الأشعري قولاً ثابتاً وقضى بحدوث الحروف وهو خرق الإجماع، وحَكَمَ بأنّ ما نقرأه كلام الله مجازاً لا حقيقة، وهو عين الابتداع
…
"
(1)
.
- وقال الإمام يحيى ابن أبي الخير العِمراني شيخ الشافعيين باليمن (المتوفى: 558 هـ):"القرآن عند أصحاب الحديث هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن العربي، السور والآيات، المتلو باللسان، والمسموع بالآذان، المعقول بالأذهان، المحفوظ في الصدور، المكتوب بالمصاحف بالسطور، له أول وآخر وبعض، فمن قال بخلقه فهو كافر كفراً يخرجه عن الملة"
(2)
.
(1)
نهاية الإقدام في علم الكلام (ص: 313).
تنبيه: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فهذا القول الذي ذكره الشهرستاني وحكاه عن السلف والحنابلة ليس هو من الأقوال التي ذكرها صاحب الإرشاد وأتباعه، فإن أولئك لم يحكوا إلا قول من يجعل القديم عين صوت العبد والمداد وهذا القول لا يعرف به قائل له قول أو مصنف في الإسلام.
وأما القول الذي ذكره الشهرستاني فقال به طائفة كبيرة وهو أحد القولين لمتأخري أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم من الطوائف، وهو المذكور عن أبي الحسن بن سالم وأصحابه السالمية
…
فبعض هذا القول الذي ذكره الشهرستاني عن السلف منقول بعينه عن السلف مثل إنكارهم على من زعم أنّ الله خلق الحروف، وعلى من زعم أن الله لا يتكلم بصوت، ومثل تفريقهم بين صوت القارئ وبين الصوت الذي يسمع من الله، ونحو ذلك، فهذا كله موجود عن السلف والأئمة، وبعض ما ذكره من هذا القول ليس هو معروفًا عن السلف والأئمة مثل إثبات القدم والأزلية لعين اللفظ المؤلف المعين". درء تعارض العقل والنقل (2/ 323).
(2)
الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 554).
وقال أيضًا بعد أن ساق أقوال جماعة من أئمة السلف في أن القرآن غير مخلوق، وتكفير من قال بخلقه:"فهؤلاء الأئمة نقلة الأخبار والآثار الذين شهروا بالعلم والفضل، ولو تتبعت ذكر من قال بهذا أو صرح بكفر من قال بخلق القرآن وبكفر من قال بأن هذا المتلو عبارة عن القرآن لطال الكتاب، وفيمن ذكرته منهم مقنع"
(1)
.
وقال أيضًا: "إجماعُ السلف أن لا قرآن إلا هذا المسموع المتلو الذي جعله الله معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم وشاهدًا على صدقه وعلق عليه الأحكام فقال: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل:76]، والعرب لا تشير بقولهم "هذا" إلا إلى شيء موجود، ومدَّعي قرآن لا لغة فيه جاهل غبي"
(2)
.
(1)
المصدر السابق (2/ 571 - 572).
(2)
المصدر السابق (2/ 596).
وقال أيضًا: "الأشعرية قالوا: كلام الله الحقيقي هو معنى قائم في نفسه لا يفارقه،
…
وهذه السور والآيات عبارة وحكاية عن كلام الله وتسمى قرآناً،
…
والدليل على أن هذا القرآن يسمى كلام الله قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، ولا خلاف أنه أراد حتى يسمع منك هذا القرآن، فإن قبله ودخل في الإسلام فهو منكم، وإلا فأبلغه مأمنه.
ومن الدليل على ذلك أيضاً قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح:15].
ومعلوم أن المشركين لا سبيل لهم إلى سماع ما في نفس الله من الكلام ولا إلى تبديله. فتقرر بهذا أن المراد بهذا كله هو القرآن المتلو المسموع.
ويدل على ما قلناه قوله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} [البقرة:75]، والمراد بكلام الله في هذه الآية التوراة، ويدل على هذا أن المتلو يسمى كلام الله قوله تعالى:{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس:62] الآية إلى قوله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [يونس:64]، أي لا تغيير لما وعد الله أولياءه من كريم ثوابه.
وأما الدليل على أن هذا المتلو يسمى قرآناُ فقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88].
فالذي تحدى الله العرب أن يأتوا بمثله وجعله معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم وأخبر أنهم لا يأتون بمثله هو هذا القرآن والسور والآيات، فأما ما في نفس الباري من الكلام فلا سبيل للعرب، ولا لأحد من الخلق إلى سماعه، ولا إلى معارضته.
ويدل على ما قلنا قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام:19]، فقال:{هَذَا الْقُرْآنُ} [الأنعام:19] و (هذا) إشارة إلى شيء موجود مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما في نفس الباري ليس بموجود معه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أنذرهم بما يتلى في هذه السور والآيات"
(1)
.
وقال أيضًا في الجواب عن قول الغزالي بأن القرآن اسم مشترك بين الصفة القديمة وبين العبارات الدالة عليه: "لا نسلِّم أن المراد بالقرآن وبقول الله وبكلام الله في جميع الإطلاقات إلا هذا المسموع المفهوم المتلو.
(1)
المصدر السابق (2/ 554 - 556).
والدليل على ذلك نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة والعقل، أما الكتاب فقوله تعالى:{قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} [المائدة:115]، وقال في آية أخرى {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} [المائدة:115]، وقال في آية أخرى:{قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، وقال في ثلاث آيات من البقرة:{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ} [البقرة:68]، ولا يجوز أن يقال: قال الله، ما لم يقله حقيقة
…
وأما الإجماع فإن أحدا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء إلى أن حدث ابن كلاب والأشعري ومن تابعهما أطلقوا اسم القرآن على هذه السور والآيات، وقالوا من قال بخلقه فهو كافر،
…
وقد بيّنا أنّ القرآن والسنة والإجماع دل كل واحد منهما أنّ القرآن هو هذه السور والآيات دون ما تدعي الأشعرية بعقولهم وتأويلهم الذي يؤدي إلى خلاف ذلك"
(1)
.
(1)
المصدر السابق (2/ 597 - 599).
- وقال الإمام الوزير ابن هبيرة (المتوفى: 560 هـ) في قوله تعالى {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]: "العرب لا تعرف (ذا) ولا (هذا) إلا في الإشارة إلى الحاضر. وإنما أشار هذا القائل إلى هذا المسموع. فمن قال: إن المسموع عبارة عن القديم، فقد قال: هذا قول البشر"
(1)
.
- وقال الإمام العارف عبد القادر الجيلاني (المتوفى: 561 هـ): "وكلام الله تعالى هو القرآن غير مخلوق كيفما قرئ وتلي وكتب، وكيفما تصرفت به قراءة قارئ، ولفظ لافظ، وحفظ حافظ، هو كلام الله وصفة من صفات ذاته
…
وهو كلام الله في صدور الحافظين وألسن الناطقين وفي أكف الكاتبين وملاحظة الناظرين ومصاحف أهل الإسلام وألواح الصبيان حيثما رؤي ووُجد. فمن زعم أنه مخلوق أو عبارته
…
فهو كافر بالله العظيم"
(2)
.
وقال أيضًا: "وهذه الآيات والأخبار تدل على أنّ كلام الله عز وجل صوت لا كصوت الآدميين، كما أن علمه وقدرته وبقية صفاته لا تشبه صفات الآدميين، كذلك صوته.
(1)
ذيل طبقات الحنابلة لابن رجب (2/ 155) المحقق: د. عبد الرحمن العثيمين، مكتبة العبيكان - الرياض، ط/ الأولى، 1425 هـ - 2005 م.
(2)
الغنية لطالبي طريق الحق (1/ 127 - 128) دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، ط/الأولى، 1417 هـ.
وقد نص الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- على إثبات الصوت في رواية جماعة من الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم أجمعين خلاف ما قالت الأشعرية من أنّ كلام الله تعالى معنى قائم بنفسه، والله حسيب كل مبتدع ضال مضل"
(1)
.
- وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (المتوفى: 600 هـ): "والقرآن كلام الله عز وجل، ووحيه وتنزيله، والمسموع من القارئ كلام الله عز وجل، قال عز وجل:{فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، وإنما سمعه من التالي
…
وأجمع أئمة السلف والمقتدي بهم من الخلف على أنه غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر
…
وروي عن سفيان بن عيينة قال سمعت عمرو بن دينار يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة يقولون: "القرآن كلام الله منه بدأ وإليه يعود"
…
ونعتقد أن الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة عين كلام الله عز وجل لا حكاية ولا عبارة
…
فمن لم يقل إنّ هذه الأحرف عين كلام الله عز وجل فقد مرق من الدين وخرج عن جملة المسلمين"
(2)
.
(1)
المصدر السابق (1/ 131).
(2)
عقيدة الحافظ تقي الدين عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي (ص: 63 - 70) المحقق: عبد الله بن محمد البصيري، مطابع الفردوس، الرياض، المملكة العربية السعودية، ط/ الأولى، 1411 هـ.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن الإيمان بالله وبكتبه: الإيمان بأنّ القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة؛ فإنّ الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا"
(1)
.
وقال أيضًا: "وكذلك من قال ليس القرآن في المصحف، وإنما في المصحف مداد وورق، أو حكاية وعبارة، فهو مبتدع ضال. بل القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم هو ما بين الدفتين"
(2)
.
وقال أيضًا: "العبارة عن كلام الغيب يقال لمن في نفسه معنى ثم يعبر عنه غيره كما يعبر عما في نفس الأخرس من فهم مراده، والذين قالوا القرآن عبارة عن كلام الله قصدوا هذا، وهذا باطل، بل القرآن العربي تكلم الله به، وجبريل بلغه عنه"
(3)
.
(1)
العقيدة الواسطية (ص: 89 - 90) المحقق: أشرف بن عبد المقصود، أضواء السلف - الرياض، ط/ الثانية 1420 هـ- 1999 م.
(2)
مجموع الفتاوى (3/ 403).
(3)
المصدر السابق (12/ 552).
وقال أيضًا: "وأولُ من قال هذا في الإسلام عبد الله بن سعيد بن كلاب، وجعل القرآن المنزل حكاية عن ذلك المعنى. فلما جاء الأشعري واتبع ابنَ كلاب في أكثر مقالته ناقشه على قوله: "إن هذا حكاية عن ذلك"، وقال: الحكاية تماثل المحكي. فهذا اللفظ يصح من المعتزلة، لأن ذلك المخلوق حروف وأصوات عندهم وحكاية مثله، وأما على أصل ابن كلاب فلا يصح أن يكون حكاية. بل نقول: إنه عبارة عن المعنى.
فأول من قال بالعبارة الأشعري. وكان البلاقلاني - فيما ذُكر عنه- إذا درَّس مسألة القرآن يقول: هذا قول الأشعري ولم يتبين صحته، أو كلامًا هذا معناه"
(1)
.
- وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: "والذي ظهر من محمد [أي: ابن إسماعيل البخاري] أمر خفيف من المسائل التي اختلف فيها الأئمة في القول في القرآن، وتسمى مسألة أفعال التالين، فجمهور الأئمة والسلف والخلف على أن القرآن كلام الله، منزل، غير مخلوق. وبهذا ندين الله تعالى، وبدعوا من خالف ذلك.
(1)
جامع المسائل لابن تيمية (5/ 127).
وذهبت الجهمية، والمعتزلة، والمأمون، وأحمد بن أبي دؤاد القاضي، وخلق من المتكلمين، والرافضة إلى أن القرآن كلام الله المنزل مخلوق، وقالوا: الله خالق كل شيء، والقرآن شيء. وقالوا: تعالى الله أن يوصف بأنه متكلم. وجرت محنة القرآن، وعظم البلاء، وضرب أحمد بن حنبل بالسياط ليقول ذلك. نسأل الله السلامة في الدين.
ثم نشأت طائفة، فقالوا: كلام الله تعالى منزل غير مخلوق، ولكن ألفاظنا به مخلوقة - يعنون: تلفظهم وأصواتهم به وكتابتهم له، ونحو ذلك - وهو حسين الكرابيسي ومن تبعه، فأنكر ذلك الإمام أحمد، وأئمة الحديث، وبالغ الإمام أحمد في الحط عليهم، وثبت عنه أن قال: اللفظية جهمية.
وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، فهو مبتدع، وسدّ باب الخوض في هذا. وقال أيضا: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن، فهو جهمي.
وقالت طائفة: القرآن محدث كداود الظاهري ومن تبعه، فبدّعهم الإمام أحمد، وأنكر ذلك، وثبت على الجزم بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأنه من علم الله، وكفَّر من قال بخلقه، وبدّع من قال بحدوثه، وبدّع من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ولم يأت عنه ولا عن السلف القول بأن القرآن قديم. ما تفوّه أحدٌ منهم بهذا. فقولنا: قديم، من العبارات المحدثة المبتدعة، كما أن قولنا: هو محدث، بدعة.
وأما البخاري، فكان من كبار الأئمة الأذكياء، فقال: ما قلتُ: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، وإنما حركاتهم، وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة، والقرآن المسموع المتلو الملفوظ المكتوب في المصاحف كلام الله، غير مخلوق. وصنف في ذلك كتاب (أفعال العباد) مجلد، فأنكر عليه طائفة، وما فهموا مرامه كالذهلي، وأبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي بكر الأعين، وغيرهم.
ثم ظهر بعد ذلك مقالة الكلابية، والأشعرية، وقالوا: القرآن معنى قائم بالنفس، وإنما هذا المنزل حكايته وعبارته، ودال عليه.
وقالوا: هذا المتلو معدود متعاقب، وكلام الله تعالى لا يجوز عليه التعاقب ولا التعدد، بل هو شيء واحد، قائم بالذات المقدسة. واتسع المقال في ذلك، ولزم منه أمور وألوان، ترْكُها - واللهِ- من حسن الإيمان"
(1)
.
- وقال ابن أبي العز الحنفي (المتوفى: 792 ه): "ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى، وإن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارئ حكاية كلام الله، وهو مخلوق، فقد قال بخلق القرآن في المعنى وهو لا يشعر، فإن الله تعالى يقول:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88]، أفتراه عز وجل يشير إلى ما في نفسه أو إلى المتلو المسموع؟
ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع؛ إذ ما في ذات الله غير مشار إليه، ولا منزل ولا متلو ولا مسموع.
(1)
سير أعلام النبلاء (11/ 510 - 511) مؤسسة الرسالة، ط/ الثالثة، 1405 هـ 1985 م.
وقوله: {لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء:88] أفتراه سبحانه يقول: لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه، وما في نفس الباري عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه، ولا إلى الوقوف عليه.
فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته، وهو المتلو المكتوب المسموع، فأما أن يشير إلى ذاته فلا - فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق"
(1)
.
- وقال محمد صديق خان القنوجي (المتوفى: 1307 هـ): "فالقرآن العظيم هو كتابه المبين، وحبله المتين، أنزله على سيد المرسلين بلسان عربي مبين، وهو سور وآيات، وأصوات، وحروف، وكلمات، له أول وآخر، متلو بالألسنة، محفوظ في الصدور، مكتوب في المصاحف، مسموع بالآذان، قال تعالى:{بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49]، وقال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف:109]، وقال تعالى:{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77 - 78]،
(1)
شرح الطحاوية (ص: 149 - 150) تحقيق: أحمد شاكر، وزارة الشؤون الإسلامية، والأوقاف والدعوة والإرشاد، ط/ الأولى، 1418 هـ.
والقرآن هو هذا الكتاب العربي الذي قال فيه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [سبأ:31]، وقال بعضهم فيه:{إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر:25]، فتوعده الله بإصلاه سقر، وقال بعضهم: هو شعر فقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس:69]، فلما نفى سبحانه عنه الشعر وأثبته قرآنًا لم تبق شبهة لذي لبّ في أن القرآن هو هذا الكتاب العربي الذي عُلم أوله وآخره، فمن زعم أن القرآن اسم لغيره دونه بان جهله وحمقه، قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] وقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88] ولا يجوز أن يتحداهم بالإتيان بمثل ما لا يدرى ما هو ولا يعقل معناه"
(1)
.
(1)
قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر (ص: 78).