الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
أكثر المتكلمين لا يعرفون قول السلف في كلام الله تعالى، وأكثر بحثهم ونقاشهم مع القول بأن أصوات العباد قديمة:
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا يوجد كثير من المتأخرين المصنفين في المقالات والكلام يذكرون في أصل عظيم من أصول الإسلام الأقوال التي يعرفونها، وأما القول المأثور عن السلف والأئمة الذي يجمع الصحيح من كل قول فلا يعرفونه ولا يعرفون قائله، فالشهرستاني صنف الملل والنحل، وذكر فيها من مقالات الأمم ما شاء الله، والقول المعروف عن السلف والأئمة لم يعرفه ولم يذكره.
والقاضي أبو بكر وأبو المعالي والقاضي أبو يعلى وابن الزاغوني وأبو الحسين البصري ومحمد بن الهيثم ونحو هؤلاء من أعيان الفضلاء المصنفين، تجد أحدهم يذكر في مسألة القرآن أو نحوها عدة أقوال للأمة، ويختار واحداً منها، والقول الثابت عن السلف والأئمة كالإمام أحمد ونحوه من الأئمة لا يذكره الواحد منهم.
مع أنّ عامة المنتسبين إلى السنة من جميع الطوائف يقولون: إنهم متبعون للأئمة كمالك والشافعي وأحمد وابن المبارك وحماد بن زيد وغيرهم، لا سيما الإمام أحمد، فإنه بسبب المحنة المشهورة من الجهمية له ولغيره أظهر من السنة وردّ من البدعة ما صار به إماماً لمن بعده، وقوله هو قول سائر الأئمة، فعامة المنتسبين إلى السنة يدَّعون متابعته والاقتداء به سواء كانوا موافقين له في الفروع أو لا، فإن أقوال الأئمة في أصول الدين متفقة، ولهذا كلما اشتهر الرجل بالانتساب إلى السنة كانت موافقته لأحمد أشد، ولما كان الأشعري ونحوه أقرب إلى السنة من طوائف من أهل الكلام كان انتسابه إلى أحمد أكثر من غيره، كما هو معروف في كتبه.
وقد رأيت من أتباع الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم من يقول أقوالاً ويكفِّر من خالفها، وتكون الأقوال المخالفة هي أقوال أئمتهم بعينها، كما أنهم كثيراً ما ينكرون أقوالاً ويكفرون من يقولها، وتكون منصوصة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكثرة ما وقع من الاشتباه والاضطراب في هذا الباب، ولأن شبه الجهمية النفاة أثّرت في قلوب كثير من الناس، حتى صار الحق الذي جاء به الرسول - وهو المطابق للمعقول - لا يخطر ببالهم ولا يتصورونه، وصار في لوازم ذلك من العلم الدقيق ما لا يفهمه كثير من الناس، والمعنى المفهوم يعبر عنه بعبارات فيها إجمال وإبهام يقع بسببها نزاع وخصام"
(1)
.
وقال أيضًا: "فالذين يسلكون طريقة ابن كلاب كصاحب الإرشاد [أي: إمام الحرمين الجويني] ونحوه يذكرون قول المعتزلة وقول الكرامية ويبطلونهما، ثم لا يذكرون مع ذلك إلا ما يقولون فيه: "وذهبت الحشوية المنتمون إلى الظاهر إلى أنّ كلام الله تعالى قديم أزلي، ثم زعموا أنه حروف وأصوات، وقطعوا بأن المسموع صوت القراء ونغماتهم عين كلام الله تعالى، وأطلق الرعاع منهم القول بأن المسموع صوت الله، تعالى الله عن قولهم! وهذا قياس جهالاتهم. ثم قالوا: إذا كتب كلام الله بجسم من الأجسام رقوماً ورسوماً وأسطراً وكلما فهي بأعينها كلام الله القديم، فقد كان إذ كان جسماً حادثاً ثم انقلب قديماً".
(1)
درء تعارض العقل والنقل (2/ 307 - 309).
فلم يذكر أبو المعالي إلا هذا القول مع قول المعتزلة والكلابية والكرامية.
ومعلوم أنّ هذا القول لا يقوله عاقل يتصور ما يقول، ولا نعرفُ هذا القول عن معروف بالعلم من المسلمين، ولا رأينا هذا في شيء من كتب المسلمين، ولا سمعناه من أحد منهم.
فما سمعنا من أحد ولا رأينا في كتاب أحد أن المداد الحادث انقلب قديماً، ولا أنّ المداد الذي يُكتب به القرآن قديم، بل رأينا عامة المصنفين من أصحاب أحمد وغيرهم ينكرون هذا القول، وينسبون ناقله عن بعضهم إلى الكذب، وأبو المعالي وأمثاله أجلّ من أن يتعمد الكذب، لكن القول المحكي قد يُسمع من قائل لم يضبطه، وقد يكون القائل نفسه لم يحرّر قولهم، بل يذكر كلاماً مجملاً يتناول النقيضين، ولا يميز فيه بين لوازم أحدهما ولوازم الآخر، فيحكيه الحاكي مفصلاً ولا يجمله إجمال القائل، ثم إذا فصّله يذكر لوازم أحدهما دون ما يعارضها ويناقضها، مع اشتمال الكلام على النوعين المتناقضين أو احتماله لهما أيضاً، وقد يحكيه الحاكي باللوازم التي لم يلتزمها القائل نفسه، وما كل مَن قال قولاً التزمه لوازمه، بل عامة الخلق لا يلتزمون لوازم أقوالهم، فالحاكي يجعل ما يظنه من لوازم قوله هو أيضاً من قوله، لا سيما إذا لم ينف القائل ما يظنه الحاكي لازماً، فإنه يجعله قولاً بطريق الأولى.
ولا ريب أن من الناس من يقول: هذا القرآن كلام الله، وما بين اللوحين كلام الله، ويقول: إن كلام الله محفوظ في القلوب متلو بالألسن، مسموع بالآذان، مكتوب في المصاحف.
وهذا الإطلاق حق متفق عليه بين المسلمين، ثم من هؤلاء من إذا سئل عن المداد وصوت العبد: أقديم هو؟ أنكر ذلك، وربما سكت عن ذلك، وكره الكلام فيه بنفي أو إثبات، خشية أن يجرّه ذلك إلى بدعة، مع أنه لو سمع من يقول:(إن المداد قديم) ألزمه العقوبة به والعذاب الأليم
…
إذاً المقصود هنا أن من أكابر الفضلاء مَن لا يعرف أقوال الأئمة في أكابر المسائل، لا أقوال أهل الحق ولا أهل الباطل، بل لم يعرف إلا بعض الأقوال المبتدعة في الإسلام.
ومن المعلوم أن السلف والأئمة كان لهم قول ليس هو قول المعتزلة ولا الكلابية ولا الكرامية، ولا هو قول المسمين بالحشوية، فأين ذلك القول؟ أكان أفضل الأمة وأعلمها وخير قرونها لا يعلمون في هذا حقاً ولا باطلاً؟
ومعلوم أن كل قول من هذه الأقوال فاسد من وجوه، وقد يكون بعضها أفسد من بعض، فقول المعتزلة - الذي قالوا إن كلام الله مخلوق - وإن كان فاسداً من وجوه، فقول الكلابية فاسد من وجوه، وقول الكرامية فاسد من وجوه.
والإمام أحمد وغيره من الأئمة أنكروا هذه الأقوال كلها، أنكروا قول الكلابية والكرامية بالنصوص الثابتة عنهم، وإنكارهم لقول المعتزلة متواتر مستفيض عنهم، وأنكروا على من جعل ألفاظ العباد بالقرآن غير مخلوقة، فكيف بالقول المنسوب إلى هؤلاء الحشوية؟!
…
ومن المعلوم أنّ السلف والأئمة لهم قول خارج عن قول المعتزلة والكرامية والأشعرية والواقفة، ومن علم ذلك القول فلا بد أن يحكيه ويناظرهم به، كما يناظرهم بقول المعتزلة وغيرهم، لكن من لم يكن عارفاً بآثار السلف وحقائق أقوالهم، وحقيقة ما جاء به الكتاب والسنة، وحقيقة المعقول الصريح الذي لا يتصور أن يناقض ذلك لم يمكنه أن يقول إلا بمبلغ علمه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
ولا ريب أن الخطأ في دقيق العلم مغفور للأمة وإن كان ذلك في المسائل العلمية، ولولا ذلك لهلك أكثر فضلاء الأمة، وإذا كان الله تعالى يغفر لمن جهل وجوب الصلاة وتحريم الخمر لكونه نشأ بأرض جهل مع كونه لم يطلب العلم، فالفاضل المجتهد في طلب العلم بحسب ما أدركه في زمانه ومكانه إذا كان مقصوده متابعة الرسول بحسب إمكانه هو أحق بان يتقبل الله حسناته ويثيبه على اجتهاداته ولا يؤاخذه بما أخطأه، تحقيقاً لقوله تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] "
(1)
.
(1)
المصدر السابق (2/ 310 - 315).
وقال أيضًا في الجواب عمن حلف بالطلاق الثلاث أنّ القرآن صوت وحرف: "إن كان مقصود هذا الحالف أن أصوات العباد بالقرآن والمداد الذي يكتب به حروف القرآن قديمة أزلية: فقد حنث في يمينه. وما علمت أحدًا من الناس يقول ذلك، وإن كان قد يكره تجريد الكلام في المداد الذي في المصحف وفي صوت العبد لئلا يتذرع بذلك إلى القول بخلق القرآن.
ومن الناس من تكلم في صوت العبد وإن كنا نعلم أن الذي نقرؤه هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، وأن الذي بين اللوحين هو كلام الله حقيقة، لكن ما علمتُ أحدًا حَكَمَ على مجموع المداد المكتوب به وصوت العبد بالقرآن بأنه قديم.
ولكن الذين في قلوبهم زيغ من أهل الأهواء لا يفهمون من كلام الله وكلام رسوله وكلام السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان في باب صفات الله إلا المعاني التي تليق بالخلق لا بالخالق، ثم يريدون تحريف الكلم عن مواضعه في كلام الله وكلام رسوله إذا وجدوا ذلك فيها، وإن وجدوه في كلام التابعين للسلف افتروا الكذب عليهم ونقلوا عنهم بحسب الفهم الباطل الذي فهموه، أو زادوا عليهم في الألفاظ وغيّروها قدرًا ووصفًا كما نسمع من ألسنتهم ونرى في كتبهم.
ثم بعض من يحسن الظن بهؤلاء النقلة قد يحكي هذا المذهب عمن حكوه عنهم ويذم ويبحث مع من لا وجود له، وذمّه واقع على موصوف غير موجود نظير ما صرف الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم حيث قال:«ألا تعجبون من قريش يشتمون مذمما وأنا محمد» .
وهذا نظير ما تحكي الرافضة عن أهل السنة من أهل الحديث والفقه والعبادة والمعرفة أنهم ناصبة، وتحكي القدرية عنهم أنهم مجبرة، وتحكي الجهمية عنهم أنهم مشبهة، ويحكي من خالف الحديث ونابذ أهله عنهم أنهم نابتة وحشوية وغثاء وغثرا. إلى غير ذلك من الأسماء المكذوبة.
ومن تأمل كتب المتكلمين الذين يخالفون هذا القول وَجَدهم لا يبحثون في الغالب أو في الجميع إلا مع هذا القول الذي ما علمنا لقائله وجودًا"
(1)
.
(1)
مجموع الفتاوى (33/ 170 - 171).