المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ البدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ: - مذهب جمهور الأشاعرة في القرآن

[محمد بن عبد الله المقشي]

فهرس الكتاب

- ‌ أقوال بعض السلف والأئمة في أنّ القرآن حيثما تصرَّف كلام الله تعالى غير مخلوق:

- ‌مذهبُ جمهور الأشاعرة في القرآنباطنُه الاعتزالوظاهره التستُّر بمذهب السلف

- ‌أقوال بعض أئمة وعلماء الأشاعرةفي أنّ القرآن الذي بين دفتي المصحف مخلوق، وأنّ الخلاف بينهم وبين المعتزلة إنما هو في إثبات الكلام النفسي ونفيه

- ‌أقوال بعض الأئمة والعلماء من غير الأشاعرة

- ‌إنكار السلف على الجهمية والمعتزلةكان بسبب قولهم بخلق القرآن العربي لا لنفي الكلام النفسي

- ‌ أقوال بعض السلف التي فيها ما يدل صراحة بأن إنكار السلف على المعتزلة كان بسبب قولهم بخلق القرآن العربي الموجود بين دفتي المصحف:

- ‌بعض المحذورات التي وقع فيها الأشاعرةوبعض اللوازم التي تلزمهم

- ‌قول الأشاعرة هذا يشبه السفسطة، ومجرّد تصوّره يوجب العلم الضروري بفساده

- ‌مراد الأشاعرة بقولهم:"القرآن قديم

- ‌سببُ منع الإمام أحمد وغيرهإطلاق: "لفظي بالقرآن مخلوق

- ‌ اللفظ يُراد به أمران:

- ‌هل ثبت عن الإمام البخاريأنه قال: "لفظي بالقرآن مخلوق

- ‌تلخيص شيخ الإسلام ابن تيميةللخلاف والافتراق في مسألة اللفظ بالقرآنوما فيها من اللبس، وبيان الحق في ذلك

- ‌ملحق فيه بعض الفوائد

- ‌قولُ ابن كلاب - وتبعه أبو الحسن الأشعري- بأن كلام الله معنى واحد قائم بذاته تعالى قولٌ لم يُسبق إليه

- ‌ البدع تكون في أولها شبرًا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعًا وأميالاً وفراسخ:

- ‌ لا يصح تشبيه كون القرآن في المصحف بكون الله تعالى أو رسوله في الصحف أو الورق:

- ‌ لم يقل أحدٌ من السلف والأئمة: إنّ صوت العبد بالقرآن والمداد المكتوب به قديمٌ:

- ‌ أكثر المتكلمين لا يعرفون قول السلف في كلام الله تعالى، وأكثر بحثهم ونقاشهم مع القول بأن أصوات العباد قديمة:

- ‌ قاعدة في تمييز الصحيح من العقائد من المبتَدَع الفاسد:

الفصل: ‌ البدع تكون في أولها شبرا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعا وأميالا وفراسخ:

*‌

‌ البدع تكون في أولها شبرًا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعًا وأميالاً وفراسخ:

قال الإمام أبو الحسن البربهاري: "واحذر صغار المحدثات من الأمور؛ فإن صغير البدع يعود حتى يصير كبيرًا، وكذلك كل بدعة أُحدثت في هذه الأمة، كان أولها صغيرًا يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل فيها، ثم لم يستطع الخروج منها، فعظمت وصارت دينا يدان [به] فخالف الصراط المستقيم، فخرج من الإسلام"

(1)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كما أنّ أقوامًا ابتدعوا أنّ حروف القرآن ليست من كلام الله، وأنّ كلام الله إنما هو معنى قائم بذاته هو الأمر والنهي والخبر، وهذا الكلام فاسد بالعقل الصريح والنقل الصحيح،

وهذا القول أول من أحدثه ابن كلاب، ولكنه هو ومن اتبعه عليه كالأشعري وغيره يقولون مع ذلك: إن القرآن محفوظ بالقلوب حقيقة، متلو بالألسن حقيقة، مكتوب في المصاحف حقيقة.

ومنهم من يمثل ذلك بأنه محفوظ بالقلوب كما أن الله معلوم بالقلوب ومتلو بالألسن كما أن الله مذكور بالألسن، ومكتوب في المصاحف كما أن الله مكتوب في المصاحف.

(1)

شرح السنة للبربهاري (ص: 37 - 38).

ص: 193

وهذا غلط في تحقيق مذهب ابن كلاب والأشعري؛ فإنّ القرآن عندهم معنى عبارة عنه، والحقائق لها أربع مراتب: وجود عيني وعلمي ولفظي ورسمي. فليس العلم بالمعنى له المرتبة الثانية، وليس ثبوته في الكتاب كثبوت الأعيان في الكتاب، فزاد هؤلاء قول ابن كلاب والأشعري قبحًا.

ثم تبع أقوام من أتباعهم أحد أهل المذهب وأن القرآن معنى قائم بذات الله فقط، وأن الحروف ليست من كلام الله، بل خلقها الله في الهواء، أو صنفها جبريل أو محمد، فضموا إلى ذلك أن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وأعرضوا عما قاله سلفهم - من أن ذلك دليل على كلام الله فيجب احترامه- لمَّا رأوا أنّ مجرد كونه دليلاً لا يوجب الاحترام، كالدليل على الخالق المتكلم بالكلام، فإنّ الموجودات كلها أدلة عليه ولا يجب احترامها، فصار هؤلاء يمتهنون المصحف حتى يدوسوه بأرجلهم

(1)

،

(1)

قال الإمام ابن حزم: "ولقد أخبرني علي بن حمزة المراوي الصقلي الصوفي أنه [رأى] بعض الأشعرية يبطح المصحف برجله، قال: فأكبرت ذلك، وقلت له: ويحك هكذا تصنع بالمصحف، وفيه كلام الله تعالى! فقال لي: ويلك، وبالله ما فيه إلا السخام والسواد، وأما كلام الله فلا. ونحو هذا من القول الذي هذا معناه". الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 160) مكتبة الخانجي - القاهرة.

وقال الحافظ ابن الجوزي: "قدم إلى بغداد جماعة من أهل البدع الأعاجم، فارتقوا منابر التذكير للعوام، فكان معظم مجالسهم أنهم يقولون: ليس لله في الأرض كلام! وهل المصحف إلا ورق وعفص وزاج! وإن الله ليس في السماء! وإن الجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أين الله» كانت خرساء، فأشارت إلى السماء، أي: ليس هو من الأصنام التي تُعبد في الأرض. ثم يقولون: أين الحروفية الذين يزعمون أنّ القرآن حرف وصوت؟! هذا عبارة جبريل!

فما زالوا كذلك، حتى هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام". صيد الخاطر (ص: 195) دار القلم - دمشق، ط/ الأولى، 1425 هـ.

ولا شك أنّ هذا الغلو والكفر الذي وقع فيه هؤلاء لا يرتضيه جمهور الأشاعرة، فهم يعظّمون المصحف ويبجلونه، بل إنّ كثيرًا منهم -كغيرهم من أهل العلم- يحكون الإجماع على كفر من استهان بالمصحف، قال العز بن عبد السلام:"ولا خلاف بين الأشعرية وجميع علماء المسلمين أن تعظيم المصحف واجب، وعندنا أن من استهان بالمصحف أو بشيء منه فقد كفر، وانفسخ نكاحه وصار ماله فيئًا للمسلمين، ويضرب عنقه، ولا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يترك بالقاع طعمة للسباع". طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/ 233) المحقق: د. محمود محمد الطناحي د. عبد الفتاح محمد الحلو، هجر للطباعة والنشر والتوزيع، ط/ الثانية، 1413 هـ.

والأشعرية حيث قالوا بكفر من استهان بالمصحف لم يقولوا بذلك لأنّ ما في المصحف هو عين ما تكلم الله به، بل لكون ما فيه عبارة عن كلام الله النفسي ودلالة عليه، قال العز بن عبد السلام:"متكلم بكلام قديم أزلي ليس بحرف ولا صوت، ولا يتصور في كلامه أن ينقلب مدادا في الألواح والأوراق، شكلا ترمقه العيون والأحداق، كما زعم أهل الحشو والنفاق، بل الكتابة من أفعال العباد، ولا يتصور في أفعالهم أن تكون قديمة، ويجب احترامها لدلالتها على كلامه، كما يجب احترام أسمائه لدلالتها على ذاته، وحقّ لما دل عليه وانتسب إليه أن يُعتقد عظمته وترعى حرمته، ولذلك يجب احترام الكعبة والأنبياء والعباد والصلحاء". طبقات الشافعية الكبرى للسبكي (8/ 219).

ص: 194

ومنهم من يكتب أسماء الله بالعذرة إسقاطًا لحرمة ما كُتب في المصاحف والورق من أسماء الله وآياته. وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله إهانة له إنه كافر مباح الدم. فالبدع تكون في أولها شبرًا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير أذرعًا وأميالاً وفراسخ"

(1)

.

وقال الحافظ ابنُ القيم: "فإنّ البدع تستدرج بصغيرها إلى كبيرها حتى ينسلخ صاحبها من الدين كما تنسل الشعرة من العجين"

(2)

.

(1)

مجموع الفتاوى (8/ 423 - 425).

(2)

مدارج السالكين (1/ 224) تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتاب العربي - بيروت، ط/ الثانية، 1393 هـ.

ص: 195

* اعتراف الشهرستاني بأن القول بحدوث حروف القرآن محدث:

قال رحمه الله: "قالت السلف والحنابلة: قد تقرر الاتفاق على أنّ ما بين الدفتين كلام الله، وأن ما نقرأه ونسمعه ونكتبه عين كلام الله، فيجب أن يكون الكلمات والحروف هي بعينها كلام الله، ولما تقرر الاتفاق على أنّ كلام الله غير مخلوق، فيجب أن تكون الكلمات أزلية غير مخلوقة.

ولقد كان الأمر في أول الزمان على قولين: أحدهما: القدم. والثاني: الحدوث.

والقولان مقصوران على الكلمات المكتوبة والآيات المقروءة بالألسن، فصار الآن إلى قول ثالث وهو حدوث الحروف والكلمات، وقدم الكلام والأمر الذي تدل عليه العبارات،

فكانت السلف على إثبات القدم والأزلية لهذه الكلمات، دون التعرض لصفة أخرى وراها.

وكانت المعتزلة على إثبات الحدوث والخلقية لهذه الحروف والأصوات دون التعرض لأمر وراها.

فأبدع الأشعري قولاً ثابتاً وقضى بحدوث الحروف وهو خرق الإجماع، وحَكَمَ بأنّ ما نقرأه كلام الله مجازاً لا حقيقة، وهو عين الابتداع، فهلا قال: ورد السمع بأن ما نقرأه ونكتبه كلام الله تعالى دون أن يتعرض لكيفيته وحقيقته كما ورد السمع بإثبات كثير من الصفات من الوجه واليدين إلى غير ذلك من الصفات الخبرية.

ص: 196

ولا يغفل عاقل عن مذهب السلف وظهور القول في حدوث الحروف؛ فإنّ له شأناً، وهم يسلِّمون الفرق بين القراءة والمقروء، والكتابة والمكتوب، ويحكمون بأنّ القراءة التي هي صفتنا وفعلنا غير المقروء الذي ليس هو صفة لنا ولا فعلنا، غير أن المقروء بالقراءة قصص وأخبار وأحكام وأوامر، وليس المقروء من قصة آدم وإبليس هو بعينه المقروء من قصة موسى وفرعون، وليس أحكام الشرائع الماضية هي بعينها أحكام الشرائع الخاتمة، فلا بد إذاً من كلمات تصدر من كلمة، وترد على كلمة، ولا بد من حروف تتركب منها الكلمات، وتلك الحروف لا تشبه حروفنا، وتلك الكلمات لا تشبه كلامنا كما ورد في حق موسى عليه السلام سمع كلام الله كجر السلاسل، وكما قال المصطفى صلوات الله عليه في الوحي «أحياناً يأتيني كصلصلة الجرس، وهو أشد عليّ، ثم يفصم عني وقد وعيت ما قال والله أعلم"

(1)

.

(1)

نهاية الإقدام في علم الكلام (ص: 313) وما بعدها.

ص: 197

* صفة الكلام لا تفارق الموصوف وتنتقل إلى غيره:

قال أبو طالب أحمد بن حميد للإمام أحمد بن حنبل: " قد جاءت جهمية رابعة، قال: ما هي؟

قلت: زعموا أن إنسانا أنت تعرفه قال: من زعم أن القرآن في صدره، فقد زعم أن في صدره من الإلهية شيئًا.

قال: ومن قال هذا، فقد قال مثل ما قالت النصارى في عيسى أنّ كلمة الله فيه. فقال: ما سمعت بمثل هذا قط"

(1)

.

وقال أبو الوليد الطيالسي: "القرآن كلام الله، ليس ببائن من الله"

(2)

.

وقال القاضي أبو يعلى الفراء: "لأنا وإن قلنا: إن القرآن مكتوب فِي الحقيقة، وأن الكتابة هِيَ المكتوب، فلسنا نقول إنه حالّ فِي الجلد، وَلا فِي الورق وَلا فِي اللوح، فاحتراق المحل لا يوجب احتراقه، لأَنَّهُ ليس بحال فِي محل كتابته"

(3)

.

(1)

الإبانة الكبرى لابن بطة (5/ 355).

(2)

مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود السجستاني (ص: 357).

(3)

إبطال التأويلات (ص: 392).

ص: 198

وقال الحافظ أبو القاسم التيمي الأصبهاني: "والدليل على أنّ الكلام لا يفارق المتكلم، أنه لو كان يفارقه لم يكن للمتكلم إلا كلمة واحدة، فإذا تكلم بها لم يبق له كلام، فلما كان المتكلم قادراً على كلمات كثيرة بعد كلمة دل على أن الكلمات فروع لكلامه الذي هو صفة له ملازمة"

(1)

.

وقال الإمام يحيى ابن أبي الخير العمراني: "إلزام واعتراض ذكره الغزالي أيضا في الاقتصاد: إن قال قائل: هل كلام الله حالّ في المصحف أم لا، فإن كان حالا فكيف حلّ القديم في المحدث، وإن قلتم: لا، فهو خلاف الإجماع أن في المصحف القرآن، بدليل أنه يحرم على المحدث مسه

والجواب أن يقال: أما قولك: إنه حالّ في المصاحف عبارة غير مرضية، لأنّ الحلول صفة الأجسام يقال حل يحُل بالمكان بضم الحاء في المستقبل إذا نزل به، وحل الدَّين يحِل بكسر الحاء في المستقبل إذا وجب، وحلّ الشيء يحِل بكسر الحاء إذا حل فعله، وإنما يقال القرآن موجود في المصاحف ومكتوب ومسطور"

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "واتفق سلف الأمة وأئمتها على أن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود.

(1)

الحجة في بيان المحجة (2/ 204).

(2)

الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 593 - 595).

ص: 199

ومعنى قولهم "منه بدأ" أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره كما قالت الجهمية من المعتزلة وغيرهم أنه بدأ من بعض المخلوقات وأنه سبحانه لم يقم به كلام.

ولم يُرد السلفُ أنّه كلامٌ فارق ذاته، فإن الكلام وغيره من الصفات لا تفارق الموصوف، بل صفة المخلوق لا تفارقه وتنتقل إلى غيره، فكيف تكون صفة الخالق تفارقه وتنتقل إلى غيره. ولهذا قال الإمام أحمد: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وردّ بذلك على الجهمية المعتزلة وغيرهم الذين يقولون: كلام الله بائن منه خلقه في بعض الأجسام.

ومعنى قول السلف "إليه يعود" ما جاء في الآثار إن القرآن يسرى به حتى لا يبقى في المصاحف منه حرف، ولا في القلوب منه آية.

وقد قال الله تعالى عن المخلوق {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، ومع هذا فكلمة المخلوق لا تفارق ذاته وتنتقل إلى غيره.

ص: 200

وما جاءت به الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لهم بإحسان وغيرهم من أئمة المسلمين كالحديث الذي رواه أحمد في مسنده وكتبه إلى المتوكل في رسالته التي أرسل بها إليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه» يعني القرآن، وفي لفظ «بأحبّ إليه مما خرج منه» ، وقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع كلام مسيلمة: إن هذا كلام لم يخرج من إلّ. أي من رب. وقول ابن عباس لما سمع قائلا يقول لميت لما وُضع في لحده: اللهم رب القرآن اغفر له. فالتفت إليه ابن عباس فقال: مه القرآن كلام الله ليس بمربوب، منه خرج وإليه يعود. وهذا الكلام معروف عن ابن عباس.

وقول السلف: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود -كما استفاضت الآثار عنهم بذلك كما هو مذكور عنهم في الكتب المنقولة عنهم بالأسانيد المشهورة - لا يدل على أن الكلام يفارق المتكلم ويتنقل إلى غيره، ولكن هذا دليل على أن الله هو المتكلّم بالقرآن، ومنه سُمع لا أنه خلقه في غيره كما فسّره بذلك أحمد وغيره من الأئمة"

(1)

.

(1)

العقيدة الأصفهانية (ص:20 - 21) تحقيق: إبراهيم سعيداي، مكتبة الرشد - الرياض، ط/الأولى، 1415 هـ.

ص: 201

وقال أيضًا: "ولا نزاع بينهم أن كلام الله لا يفارق ذات الله، وأنه لا يباينه كلامه ولا شيء من صفاته، بل ليس شيء من صفة موصوف تباين موصوفها وتنتقل إلى غيره، فكيف يتوهم عاقل أن كلام الله يباينه وينتقل إلى غيره؟! ولهذا قال الإمام أحمد: كلام الله من الله ليس ببائن منه، وقد جاء في الأحاديث والآثار أنه منه بدأ، ومنه خرج، ومعنى ذلك أنه هو المتكلم به لم يخرج من غيره، ولا يقتضي ذلك أنه باينه وانتقل عنه فقد قال سبحانه في حق المخلوقين:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:5]، ومعلوم أن كلام المخلوق لا يباين محلّه.

وقد علم الناس جميعهم أن نقل الكلام وتحويله هو معنى تبليغه كما قال: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67] وقال تعالى: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} [الأحزاب:39]

والكلام في الورق ليس هو فيه كما تكون الصفة بالموصوف، والعرض بالجوهر

بل الناس بفطرهم يفهمون معنى: كلام المتكلم في الصحيفة، ويعلمون أن كلامه الذي قام به لم يفارق ذاته ويحل في غيره، ويعلمون أن ما في الصحيفة ليس مجرد دليل على معنى في نفسه ابتداء، بل ما في الصحيفة مطابق للفظه، ولفظه مطابق لمعناه، ومعناه مطابق للخارج"

(1)

.

(1)

مجموع الفتاوى (12/ 390 - 391).

ص: 202

وقال أيضًا: "هذا القرآن الذي نقرؤه ونبلغه ونسمعه هو كلام الله الذي تكلم به، ونزل به منه روح القدس

وهذا الكلام صفة الله تعالى.

وأما ما اختص قيامه بنا من حركاتنا وأصواتنا وفهمنا وغير ذلك من صفاتنا فلم يقم منه شيء بذات الله سبحانه، كما أن ما اختص الرب تعالى بقيامه به لم ينتقل عنه ولم يقم بغيره لا هو ولا مثله، فإن المخلوق إذا سمع من المخلوق كلامه وبلّغه عنه كان ما بلغه هو كلامه كما تقدم قول النبي صلى الله عليه وسلم:«نضّر الله امرأ سمع منا حديثًا فبلّغه كما سمعه» ، مع أن ما قام بالنبي صلى الله عليه وسلم بباطنه من العلم والإرادة وغيرهما، وبظاهره من الحركة والصوت وغيرهما - لم ينتقل عنه ولم يقم بغيره، بل جميع صفات المخلوقين لا تفارق ذواتهم وتنتقل عنهم، فكيف يجوز أن يقال: إن صفة الخالق فارقت ذاته فانتقلت عنه؟! "

(1)

.

وقال أيضًا: "ولو تُرك الناس على فطرتهم لكانت صحيحة سليمة، فإذا رأى الناس كلامًا صحيحًا، فإن من تكلم بكلام وسُمع منه ونُقل عنه أو كتبه في كتاب لا يقول عاقل: إن نفس ما قام بالمتكلم من المعاني التي في قلبه والألفاظ القائمة بلسانه فارقته وانتقلت عنه إلى المستمع والمبلّغ عنه، ولا فارقته وحلّت في الورق، بل ولا يقول: إن نفس ما قام به من المعاني والألفاظ هو نفس المداد الذي في الورق، بل ولا يقول: إن نفس ألفاظه التي هي أصواته هي أصوات المبلّغ عنه.

(1)

المصدر السابق (12/ 544 - 545).

ص: 203

فهذه الأمور كلها ظاهرة لا يقولها عاقل في كلام المخلوق إذا سمع وبلّغ أو كتب في كتاب، فكيف يقال ذلك في كلام الله الذي سمع منه وبلغ عنه أو كتبه سبحانه كما كتب التوراة لموسى، وكما كتب القرآن في اللوح المحفوظ، وكما كتبه المسلمون في مصاحفهم.

وإذا كان من سمع كلام مخلوق فبلغه عنه بلفظه ومعناه، بل شعر مخلوق كما يبلغ شعر حسان وابن رواحة ولبيد وأمثالهم من الشعراء، ويقول الناس: هذا شعر حسان بعينه، وهذا هو نفس شعر حسان، وهذا شعر لبيد بعينه كقوله: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.

ومع هذا فيعلم كل عاقل أن رواة الشعر ومنشديه لم يسلبوا الشعراء نفس صفاتهم حتى حلّت بهم، بل ولا نفس ما قام بأولئك من صفاتهم وأفعالهم كأصواتهم وحركاتهم حلّت بالرواة والمنشدين، فكيف يتوهم متوهّم أن صفات الباري كلامه أو غير كلامه فارق ذاته وحل في مخلوقاته، وأن ما قام بالمخلوق من صفاته وأفعاله كحركاته وأصواته هي صفات الباري حلّت فيه، وهم لا يقولون مثل ذلك في المخلوق"

(1)

.

(1)

المصدر السابق (12/ 287 - 289).

ص: 204

والذي جعل بعضَ الناس يفرّ من الإقرار بأن ما بين دفتي المصحف هو كلام الله على الحقيقة، وأنّ الله تعالى تكلم به حقيقة هو ظنّهم أنه إذا أقرّوا بذلك فقد جعلوا صفةّ الكلام القائمة بالله تعالى حالّة في المصحف، وأنها فارقتِ اللهَ تعالى، وانتقلت وحلّت في الورق.

وهذا جهلٌ منهم بحقيقة الأمر؛ فإنّ نقْل الكلام ليس كنقل الأجسام كالأحجار ونحوها، فالحَجَر - مثلاً- إذا نُقِل من موضع إلى آخر زال عن الموضع الأول وانتقل إلى الموضع الآخَر، وليس كذلك الكلام.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا يقال: فلان ينقل علم فلان وينقل كلامه، ويقال: العلم الذي كان عند فلان صار إلى فلان وأمثال ذلك، كما يقال: نقلت ما في الكتاب ونسخت ما في الكتاب أو نقلت الكتاب أو نسخته، وهم لا يريدون أن نفس الحروف التي في الكتاب الأول عُدمت منه وحلّت في الثاني، بل لما كان المقصود من نسخ الكتاب من الكتب ونقلها من جنس نقل العلم والكلام، وذلك يحصل بأن يجعل في الثاني مثل ما في الأول، فيبقى المقصود بالأول منقولاً منسوخًا وإن كان لم يتغير الأول، بخلاف نقل الأجسام وتوابعها؛ فإن ذلك إذا نُقل من موضع إلى موضع زال عن الأول"

(1)

.

(1)

المصدر السابق (12/ 288 - 289).

ص: 205

وقال أيضًا: "وأما قول القائل: إن قلتم: إنّ هذا نفس كلام الله فقد قلتم بالحلول وأنتم تكفّرون الحلولية والاتحادية، فهذا قياس فاسد.

مثاله مثال رجل ادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم يحلّ بذاته في بدن الذي يقرأ حديثه، فأنكر الناس ذلك عليه، وقالوا إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يحلّ في بدن غيره. فقال: أنتم تقولون: إن المحدِّث يقرأ كلامه وإن ما يقرؤه هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قلتم ذلك فقد قلتم بالحلول.

ومعلوم أن هذا في غاية الفساد، والناس متفقون على إطلاق القول بأنّ كلام زيد في هذا الكتاب، وهذا الذي سمعناه كلام زيد، ولا يستجيز العاقل إطلاق القول بأنه هو نفسه في هذا المتكلِّم أو في هذا الورق.

وقد نطقت النصوص بأن القرآن في الصدور كقول النبي صلى الله عليه وسلم «استذكروا القرآن فلهو أشد تفلتًا من صدور الرجال من النعم في عقلها» ، وقوله:«الجوف الذي ليس فيه شيء من القرآن كالبيت الخرب» وأمثال ذلك، وليس هذا عند عاقل مثل أن يقال: الله في صدورنا وأجوافنا.

ولهذا لما ابتدع شخص يقال له الصوري بأنّ من قال: القرآن في صدورنا فقد قال بقول النصارى، فقيل لأحمد: قد جاءت جهمية رابعة - أي: جهمية الخلقية واللفظية والواقفية وهذه الرابعة- اشتد نكيره لذلك، وقال: هذا أعظم من الجهمية. وهو كما قال؛ فإنّ الجهمية ليس فيهم من يُنكر أن يقال: القرآن في الصدور. ولا يُشِّبه هذا بقول النصارى بالحلول إلا من هو في غاية الضلالة والجهالة"

(1)

.

(1)

المصدر السابق (12/ 291 - 292).

ص: 206

فالقرآن العربي مكتوب فيما لا يُحصى من المصاحف، ومحفوظ في صدور من لا يحصيهم إلا الله تعالى، وهو قرآن واحد، وهو نفسه الذي تكلّم الله تعالى به، وسمعه منه جبريل عليه السلام، وسمعه من جبريل نبيُّنا صلى الله عليه وسلم، وسمعه الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا قرأه الناس بألسنتهم، أو كتبوه في المصاحف بأيديهم، أو حفظوه في صدورهم لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإنّ الكلام إنما يُضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا.

قال الإمام أبو محمد ابن قتيبة: "والقرآن لا يقوم بنفسه وحده كما يقوم المأكول بنفسه وحده، وإنما يقوم بواحدة من أربع: كتابة أو قراءة أو حفظ أو استماع. فهو بالعمل في الكتابة قائم، والعمل خط وهو مخلوق، والمكتوب قرآن وهو غير مخلوق. وهو بالعمل في القراءة قائم، والعمل تحريك اللسان واللهوات بالقرآن وهو مخلوق، والمقروء قرآن وهو غير مخلوق. وهو بالاستماع قائم في السمع، والاستماع عمل وهو مخلوق، والمسموع قرآن غير مخلوق"

(1)

.

(1)

الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية (ص: 63) المحقق: عمر بن محمود أبو عمر، دار الراية، ط/ الأولى 1412 هـ- 1991 م.

ص: 207

وقال الإمام ابن جرير الطبري: "فأخبر جل ثناؤه أنه في اللوح المحفوظ مكتوب، وأنه من لسان محمد مسموع، وهو قرآن واحد، من محمد مسموع، في اللوح المحفوظ مكتوب، وكذلك هو في الصدور محفوظ، وبألسن الشيوخ والشباب متلو"

(1)

.

وقال عماد الدين أحمد بن إبراهيم الواسطي المشهور بابن شيخ الحزاميين (المتوفى: 711 هـ): "فإن الله تعالى قد تكلّم بالقرآن المجيد بجميع حروفه فقال تعالى: {المص} [الأعراف:1]، وَقَالَ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1]

فإن قيل: هذا الذي يقرؤه القارئ هو عين قراءة الله وعين تكلّمه هو؟ قلنا: لا، بل القارئ يؤدي كلام الله، والكلام إنما ينسب إلى من قاله مبتدئّا لا إلى من قاله مؤديًا مبلغًا"

(2)

.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فنفس القرآن أُنزل إلينا، ونفس القرآن مكتوب في مصاحفنا، كما أن نفس القرآن في الكتاب المكنون، وهو في الصحف المطهرة"

(3)

.

وقال الحافظ الذهبي: "فالمقرئ يلقِّن الختمة مائة نفس ومائتين فيحفظونه، وهو لا ينفصل عنه منه شيء، كسراج أُوقدت منه سُرجًا ولم يتغير"

(4)

(1)

صريح السنة (ص: 18).

(2)

النصيحة في صفات الرب جل وعلا (ص: 26 - 28) المحقق: زهير الشاويش، المكتب الإسلامي - بيروت، ط/ الثانية، 1394 ه.

(3)

مجموع الفتاوى (12/ 384).

(4)

العلو للعلي الغفار (ص: 169).

ص: 208

وقال أيضًا: "فإنك تنقل من المصحف مائة مصحف وذاك الأول لا يتحول في نفسه ولا يتغير، وتلقّن القرآن ألف نفس وما في صدرك باق بهيئته لا يفصل عنك ولا يغير، وذاك لأن المكتوب واحد والكتابة تعددت، والذي في صدرك واحد وما في صدور المقرئين وهو عين ما في صدرك سواء، والمتلو وإن تعدد التالون به واحد، مع كونه سورا وآيات وأجزاء متعددة، وهو كلام الله ووحيه وتنزيله وإنشاؤه، ليس هو بكلامنا أصلاً.

نعم وتكلمنا به وتلاوتنا له ونطقنا به من أفعالنا، وكذلك كتابتنا له وأصواتنا به من أعمالنا قال الله عز وجل {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96]، فالقرآن المتلو مع قطع النظر عن أعمالنا كلام الله ليس بمخلوق، وهذا إنما يحصله الذهن، وأما في الخارج فلا يتأتى وجود القرآن إلا من تال أو في مصحف"

(1)

.

وقال الحافظ ابن القيم: "فإنك إذا قلت: في هذا الكتاب كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كلام الشافعي وأحمد، فإنّ كل أحد يفهم المراد بذلك، ولا يتوقف فهمه على حذف وإضمار، كما لا يذهب وهمه إلى أن صفة المتكلم والقول القائم به -الصوت واللفظ المسموع منه- فارق ذاته، وانفصل من محله، وانتقل إلى محل آخر"

(2)

.

(1)

المصدر السابق (ص: 192).

(2)

مختصر الصواعق المرسلة (1/ 520).

ص: 209