الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحاديث الرخصة
1 - حديث ابن عمر في الصحيحين
(1)
وغيرهما، وهو من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وعبيد الله بن عمر العمري عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع عن ابن عمر.
فأما رواية يحيى؛ ففي "الموطأ"
(2)
الرخصة في استقبال القبلة لبولٍ أو غائط، مالك عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حَبَّان عن عمه واسع بن حَبَّان عن عبد الله بن عمر أنه كان يقول: إن أُناسًا يقولون: إذا قعدت لحاجتك فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس. قال عبد الله: لقد ارتقيتُ على ظهر بيتٍ لنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على لَبِنَتين مستقبلَ بيت المقدس لحاجته
…
". "الموطأ" بهامش شرح الباجي (1/ 336).
وأخرجه الشافعي عن مالك. هامش "الأم"()
(3)
.
وقال البخاري
(4)
: باب من تبرز على لبنتين. حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحيى
…
" فذكره، وكذلك رواه غيرهم عن مالك.
وكذلك أخرجه مسلم
(5)
عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري.
(1)
البخاري (145، 148) ومسلم (266).
(2)
(1/ 193، 194).
(3)
كذا في الأصل دون تقييد الصفحة. وهو في "الأم"(10/ 220) ط. دار الوفاء.
(4)
الصحيح مع الفتح (1/ 246، 247).
(5)
رقم (266).
وأخرجه الدارقطني
(1)
من طريق هشيم عن يحيى عن محمد عن واسع: سمعت ابن عمر يقول: ظهرتُ على إجَّارٍ
(2)
على بيت حفصة في ساعة لم أظنَّ [أحدًا يخرج في] تلك الساعة، فاطلعت فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على لبنتينِ مستقبلَ بيتِ المقدس".
وقال البخاري
(3)
: باب التبرز في البيوت. قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا يزيد (هو ابن هارون) قال أخبرنا يحيى (وهو ابن سعيد الأنصاري) .... فذكره بنحو لفظ "الموطأ".
وكذلك رواه عن يزيد أحمد في "المسند"(2/ 41)، والدارمي في "مسنده"(1/ 17)، وأبو بكر بن خلاد ومحمد بن يحيى عند ابن ماجه
(4)
، ولكن سقط منه قوله:"ولا بيت المقدس".
وأخرجه البيهقي في "السنن"(1/ 92) عن الحاكم عن ابن الأخرم عن إبراهيم بن عبد الله عن يزيد بن هارون بسنده، وفيه:"على لبنتينِ لحاجته مستقبلَ الشام مستدبرَ القبلة".
كذا قال! وإبراهيم بن عبد الله هو السعدي النيسابوري، قال الذهبي في "الميزان"
(5)
: صدوق. قال الحاكم: كان يَستخفُّ بمسلم، فغمزه مسلم بلا حجة.
(1)
في السنن (1/ 61).
(2)
الإجَّار: السطح بلغة أهل الشام والحجاز.
(3)
الصحيح مع الفتح (1/ 250).
(4)
رقم (322).
(5)
(1/ 44).
أقول: صنيعه في هذا الحديث مما يصلح حجة لمسلم، فإن الناس قالوا عن يزيد وعن غير يزيد عن يحيى:"مستقبلاً بيت المقدس"، وقال إبراهيم هذا:"مستقبل الشام مستدبر القبلة". انتقل ذهنه إلى رواية عبيد الله، كما يأتي.
وأما رواية عبيد الله ففي الصحيحين وغيرهما، وليس فيه قوله:"إن ناسًا يقولون"، وإنما هو من قوله: "ارتقيتُ على ظهر
…
"، ولفظه في آخره عند مسلم: "مستقبل الشام مستدبر القبلة"، وعند البخاري: "مستدبر القبلة مستقبل الشام".
هكذا اختلف الرواة عن عبيد الله في تقديم إحدى الصفتين على الأخرى، وجاء في بعض الروايات "مستدبر الكعبة"، وفي أخرى "مستدبر البيت".
ولم يقل "مستقبلاً بيت المقدس"، لأن مَن بالمدينة إذا استقبل [ص 3] بيت المقدس متحريًا، لم يكن مستدبرَ الكعبة، بل يكون متحرفًا عنها شرقًا، فعبر بقوله:"مستقبل الشام" لأن مَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة متحريًا، كان مستقبلاً مشارقَ الشام.
ولقائل أن يقول: فيما ذكرته نظر:
أولاً: لاحتمال أن يكون ابن عمر قال مرةً كما ذكر يحيى، ومرة كما ذكر عبيد الله، وحفظ واسعٌ اللفظينِ، وحدَّث بهذا تارة، وبذاك أخرى، وكذلك محمد بن يحيى، ثم سمع يحيى من محمدٍ أحدَ اللفظين، وعبيد الله الآخر.
فإذا سلمنا أن ابن عمر إنما قال أحد اللفظين كما تدل عليه رواية مسلم
وغيره عن القعنبي عن سليمان بن بلال عن يحيى عن محمد عن واسع قال: كنت أصلي في المسجد وعبد الله بن عمر مُسنِدٌ ظهرَه إلى القبلة [فلما] قضيتُ صلاتي انصرفتُ إليه من شِقِّي، فقال عبد الله: يقول ناس .... "، فدل هذا على أن سماع واسعٍ من ابن عمر إنما كان في هذه الواقعة، ويبعد أن يجمع ابن عمر بين اللفظين، فقد يكون التصرف من واسع، عبَّر مرة بهذا، ومرة بهذا، أو من محمد، فحفظ عنه يحيى إحدى العبارتين، وحفظ عبيد الله الأخرى.
وأما ثانيًا: فإذا سلمنا أن واسعًا إنما أتى بإحدى العبارتين، وكذلك محمد، لأن الظاهر الرواية باللفظ، ولم يقم دليل على خلاف ذلك في حقِّ واسعٍ ولا محمدٍ، فغاية الأمر أن يرجح قول يحيى "مستقبلاً بيت المقدس" على قول عبيد الله "مستقبل الشام"؛ لأنه يبعد الإتيان باللفظين جميعًا، ولأن المعنى متقارب.
فأما قول عبيد الله: "مستدبر القبلة، أو الكعبة، أو البيت"، فهي زيادة من ثقة ضابط فوجب قبولها، فعلى هذا يترجح أن يكون أصل لفظ ابن عمر "مستقبلاً بيتَ المقدس مستدبرَ القبلةِ"، ولَأن يُظَنَّ بيحيى أنه ترك هذه الزيادة "مستدبر القبلة" أقربُ من أن يُظَنَّ بعبيد الله أنه زادها بناءً على فهمه.
أقول: هذا متجه، ولكن قد بيّنَّا أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها شرقًا.
فإن قلت: قد يكون أراد ببيت المقدس الشام، فإن مَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة تمامًا، كان مستقبلاً مشارق الشام، ويكون هذا هو الحامل لعبيد الله على تعبيره بقوله:"مستقبل الشام".
قلت: قد يعكس هذا فيقال: أراد بقوله: "مستدبر القبلة" أي مستدبرًا جهتها في الجملة، فإن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا كان مستدبرًا القبلة في الجملة، أي: أن البيت حينئذٍ ليس أمامه، ولا عن يمينه ولا عن يساره، بل هو من خلفه مائلاً إلى يساره.
فإن قلت: يُرجِّح الأولَ قولُ ابن عمر: "إن أُناسًا يقولون
…
فلا تستقبل القبلة"، وإنما يكون للقصة علاقة بهذا إذا كان فيها استدبار القبلة تمامًا، فيقاس الاستقبال على الاستدبار.
قلت: ويُرجِّح الثانيَ قولُ ابن عمر: "ولا بيت المقدس"، وإنما يكون للقصة علاقةٌ باستقبال بيت المقدس إذا كان فيها استقباله تمامًا.
فإن قلت: فما الذي يتجه؟
قلت: كلام ابن عمر يحتمل وجهين:
الأول: أن يكون قوله: "إن أُناسًا يقولون
…
فلا تستقبل القبلة، ولا بيت المقدس" لم يقصد به إنكار كل من الأمرين، وإنما قصد به إنكار تسوية بيت المقدس بالقبلة، فيتحصل من هذا أنه إنما أنكر النهي عن استقبال بيت المقدس، فكأنه قال: يقولون: لا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فيسوُّون بينهما، وإنما الثابت النهي عن استقبال القبلة فقط، وإلى هذا ذهب العيني
(1)
.
الوجه الثاني: أن يكون من رأي ابن عمر أن الاستقبال والاستدبار يكفي فيهما الجهة، ولا يقدح فيه التحرف عن العين، فمَن بالمدينة إذا استقبل بيت
(1)
في "عمدة القاري"(2/ 282).
المقدس عينه، فقد استدبر جهة القبلة، وإن لم يكن مستدبرًا لعين الكعبة تمامًا، ويرى أنه إذا جاز مثل هذا جاز استدبار البيت عينه، وكذلك من بالمدينة إذا استدبر البيت تمامًا فقد استقبل جهة بيت المقدس، وإن لم يكن مستقبلاً لعين بيت المقدس، وإذا جاز هذا جاز استقبال عين بيت المقدس.
[ص 4] وعلى كل حال، فقد ترجح في الرواية قوله:"مستقبلاً بيت المقدس مستدبرًا القبلة"، وظاهر قوله:"مستقبلاً بيت المقدس" استقباله تمامًا، وحينئذٍ فاستدبار القبلة ليس بمعنى استدبار البيت تمامًا، بل بالتحرف عنه إلى جهة الشرق.
[ص 5] هذه الألفاظ الصحيحة صريحة في أن المدار على استقبال القبلة بالنجس حال خروجه من أحد الفرجين، وقد عورضت بحديثين:
الأول: حديث الصحيحين عن ابن عمر قال: "إن ناسًا يقولون: إذا قعدت على حاجتك، فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس، فقال عبد الله بن عمر: فلقد ارتقيتُ يومًا على ظهر بيتٍ لنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على لَبِنَتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته" لفظ البخاري
(1)
.
وفي رواية
(2)
: "مستقبل الشام، مستدبر القبلة".
الحديث الثاني: أخرج أحمد وأبو داود وابن خزيمة والحاكم في المستدرك
(3)
وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي، بسند صحيح
(1)
رقم (145).
(2)
رقم (148).
(3)
أحمد (3/ 360) وأبو داود (13) وابن خزيمة (58) والحاكم (1/ 154).
إلى ابن إسحاق حدثني أبان بن صالح عن مجاهد عن جابر قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نهانا أن نستدبر القبلة أو نستقبلها بفروجنا إذا أهرقنا الماء، ثم رأيناه قبل موته وهو يبول مستقبل القبلة".
وحديث ثالث: اتفق البخاري وأبو حاتم وغيرهما على تعليله. انظره في ترجمة خالد بن أبي الصلت من التهذيب
(1)
.
فمن الناس من أخذ بهذين الحديثين، وقال: إنهما ناسخان للنهي، فإن الأول أباح الاستدبار، والثاني أباح الاستقبال.
وفرق جماعة ــ كمالك والشافعي وغيرهما ــ بين البناء والفضاء، فحملوا النهي على الفضاء، والفعل في الحديثين على البناء.
ومن هؤلاء من زاد فقال: فالإباحة في الفضاء إذا كان بينه وبين القبلة ساتر، ويستدل لهذا بما رواه الحاكم في "المستدرك"
(2)
وغيره من طريق الحسن بن ذكوان عن مروان الأصفر قال: رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن! أليس قد نُهي عن هذا؟ قال: إنما نُهي عن ذلك في الفضاء، فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس به".
قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، فقد احتج بالحسن بن ذكوان.
وللشافعية كلام طويل في تقرير المسألة وتفصيله، يقيسون فيه على
(1)
(3/ 97). والحديث أخرجه ابن ماجه (324) عن عائشة.
(2)
(1/ 154).
سُترة المصلي في الجملة.
ومن أهل العلم من بقي على عموم النهي، وهو الحق إن شاء الله تعالى.
فأما حديث ابن عمر فليس بصريح في المخالفة؛ لاحتماله أن مقصود ابن عمر إنما هو الإنكار على من يُسوِّي بين الكعبة وبيت المقدس، وبيان أن استقبال بيت المقدس غير محظور، ويكون رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعدًا يبول مستقبل بيت المقدس، ولا يلزم من ذلك إخلال في حق الكعبة؛ لأن استدبار البائل لها، ولاسيَّما إذا كان مستور الدبر، كما هو المعروف في عادة العرب؛ لأن غالب لباسهم الأزر، فأما من زعم أن مثل هذه الحال داخلة في النهي، فقد أبطل.
أما أولاً: فلأن الروايات الصحيحة التي قدمتُها لا تشمل هذه الحال، فإن جاء في بعض الروايات ما يظهر منه شمولها فهو من تصرف الرواة، فلا يُعبأ به، والواجب في ذلك حمل المطلق على المقيد.
وأما ثانيًا: فالمعقول أن هذه الحال أبلغ في احترام القبلة مِمَّا ثبت الإذن به، واتفق عليه الناس، وهو أن يشرق أو يغرب من كانت قبلته في الشمال أو الجنوب.
فإن قيل: إن فيه مواجهتها بالدُّبر.
قلت: مثله مباح إجماعًا في المشي والجلوس وغير ذلك، ونظيره المفروض من استقبالها في الصلاة، مع أن فيه مواجهتها بالقُبُل.
فإن قيل: فإن قول ابن عمر: "مستدبر القبلة" قد يُشعِر بخلاف ما ذكرتَ.
قلت: قال الحافظ في "الفتح"
(1)
: [ولم يقع في رواية يحيى]: "مستدبر القبلة" أي الكعبة، كما في رواية عبيد الله بن عمر؛ لأن ذلك من لازمِ مَن استقبل الشام [بالمدينة، وإنما ذكرت في رواية عبيد الله] للتأكيد والتصريح به.
[ص 6] وقد يورد على ما تقدم أمور:
الأول: أن الأئمة فهموا من رواية يحيى مثل ما يُفهَم من رواية عبيد الله ففي "الموطأ"
(2)
: "الرخصة في استقبال القبلة لبول أو غائط"، وذكر رواية يحيى.
وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الحديث
(3)
رواية يحيى، واحتج بها على الرخصة في البيوت، وقال البخاري في "الصحيح"
(4)
: "باب من تبرَّز على لبنتين"، ثم ذكر رواية يحيى، ولفظ التبرز ظاهر في التغوط، ثم قال:"باب التبرز في البيوت"، وذكر القصة من الوجهين.
الأمر الثاني: ما ذكرته من أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا، بل يكون متحرفًا عنها إلى جهة المشرق= صحيح في نفسه، ولكن قد يقال: لا أثر له، أما على القول بالتوسعة في القبلة، فأهل المدينة قبلتهم في الجنوب كله؛ لأن البيت جنوبهم، كما دل عليه
(1)
(1/ 250).
(2)
(1/ 193).
(3)
مع "الأم"(10/ 220).
(4)
مع "الفتح"(1/ 246، 250).
الحديث الذي صححه الترمذي
(1)
وغيره: "ما بين المشرق والمغرب قبلة".
بل في حديث أبي أيوب في هذا الباب: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا".
فدل على أن التحرف اليسير لا يكفي، بل لابد أن تكون القبلة عن يمين قاضي الحاجة أو يساره، والتحرف الحاصل لمن بالمدينة عند استقباله بيت المقدس ليس بهذا القدر، ولا قريب منه.
وأما على القول: بأن القبلة هي البيت نفسه، وأنه يضرُّ في الصلاة التحرف اليسير إذا عرف، فقد يقال: لا يلزم من القول بذلك في الصلاة أن يقال به في قضاء الحاجة، وقد ثبت في قضاء الحاجة قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا".
وعلى تسليم اللزوم، فإنما ذلك عند ظن التحرف، ومثل ذاك التحرف ــ أعني تحرُّفَ مَن بالمدينة عن الكعبة إذا استقبل بيت المقدس ــ إنما يحصل به الظن لمن عرف الحساب ونحوه، وبنى عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "نحن أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب
…
" الحديث. والظاهر عند عدم الحساب أن المدينة بين مكة والقدس، من استقبل أحدهما استدبر الآخر.
الأمر الثالث: أن تجويز أن يكون عبيد الله إنما سمع القصة باللفظ الذي رواه يحيى، ولكنه تصرف فيها التصرف المذكور، يؤدي إلى سقوط الثقة بالأحاديث التي يحتمل أنها رُوِيتْ بالمعنى، وهي غالب السنة.
[ص 7] قال عبد الرحمن:
أما الأمر الأول؛ فأرى أن الأئمة لاحظوا ما دلَّ عليه كلام ابن عمر من أن
(1)
رقم (344).
الموضع الذي رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاعدًا عليه كان معدًّا لقضاء الحاجة، وإذا كان كذلك ثبت وقوع الاستدبار عند التغوط، إن لم يكن في هذه الواقعة ففي غيرها؛ لأن الموضع كان معدًّا لذلك، وفي "الفتح"
(1)
: أنه جاء في رواية لابن خزيمة: "فرأيته يقضي حاجته محجوبًا عليه بلَبِنٍ". قال: وللحكيم الترمذي بسند صحيح: "فرأيته في كنيف".
وبهذا يندفع ما يتراءى أن من تقدم من أهل العلم أغفلوا الاحتجاجَ بما ذُكِر، واقتصروا على الاحتجاج بالواقعة التي ذكرها ابن عمر.
ثم يحتمل أن مالكًا لم يستحضر ما قدمناه من أن مَن بالمدينة إذا استقبل بيتَ المقدس تمامًا لم يكن مستدبرًا الكعبةَ تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها إلى الشرق.
ويحتمل أن يكون استحضر ذلك، ولكنه بنى على رأيه في التوسعة في القبلة، ومثله البخاري، وأما الشافعي فيتعين في حقه الاحتمال الأول.
إذا تقرر هذا فالجواب عما يحتج به بأن ذلك الموضع كان معدًّا لقضاء الحاجة أنه يحتمل أنه يكون معدًّا للبول فقط، وعلى تسليم أنه كان معدًّا للأمرين، فالتوسعة في القبلة إنما هي إذا لم يحصل العلم أو الظن بالانحراف عن البيت، كما هو مقرر في مذهب مالك نفسه.
والحجة على ذلك واضحة؛ فإن من بالمسجد الحرام لا تصح صلاته إذا كان البيت عن يمينه أو يساره يقينًا أو ظنًّا، فكذلك من بَعُدَ، وإنما الرخصة في الصلاة والتشديد في قضاء الحاجة عند الاشتباه.
(1)
(1/ 247).
وعلى هذا فنقول: قد ذكروا أن قبلة المسجد النبوي مقطوع بمُسامتتها للبيت، وفي بعض الآثار أن جبريل أقامها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
، فيحتمل مثل ذلك في بيت المقدس لما كان قبلةً، وإذا علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم السمتَ الذي يستقبل به بيت المقدس تمامًا، والسمت الذي يستقبل به الكعبة تمامًا، فقد علم أنه إذا استقبل بيت المقدس لم يكن مستدبرًا البيتَ، بل منحرفًا عنه كما مر.
وأما الأمر الثاني؛ فقد تقدم الجواب عنه قريبًا. وقوله في حديث أبي أيوب: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" يحتمل أنه عند الاشتباه كما مر، ويحتمل أن يكون المراد: فانحرفوا إلى جهة الشرق أو إلى جهة الغرب. فإن مَن كان مستقبلاً بعض الربع الجنوبي إذا مال عنه يَسْرةً صَدق عليه أنه شرَّقَ، أو يَمنةً صَدق أنه غرَّب، وإن كان مع انحرافه لا يزال مستقبلاً بعضَ الجنوب.
وقد يحتمل أن يكون الأمر بالتشريق أو التغريب أريد بهما جعلُ القبلة عن اليمين أو اليسار تمامًا، ولكن يكون ذلك عند التيسر، ولما كان يكثر التعسير في البيوت اكتُفي فيها بالتحرُّف، كما قال أبو أيوب:"فننحرف ونستغفر الله". ولما كان الانحراف في البيوت كافيًا جاز بناء المرحاض فيها منحرفًا فقط، وإن أمكن خلافه، على أنه قد لا يتيسر في البيوت الضيقة بناء المرحاض بحيث تكون القبلة عن يمين القاعد فيه أو يساره تمامًا، وقد يجوز أن يكون ذلك الموضع الذي في بيته صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ قبل نزول الحكم،
(1)
ذكر ذلك شيخ الإسلام في "مجموع الفتاوى"(27/ 420) نقلًا عن مالك قال: بلغني أن جبريل هو الذي أقام قبلته للنبي صلى الله عليه وسلم. وانظر "المغانم المطابة" للسمهودي (2/ 77).
فإن حجرات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بعضها كانت بيوتًا [
…
]
(1)
.
وقد يحتمل أن يكون ذلك الموضع بُنِي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل هذا الحكم، ولا يدفع هذا قول عائشة: "والبيوت يومئذٍ ليس فيها [كُنُفٌ]
(2)
"؛ لاحتمال أن يكون المعنى ليس فيها كلها، فلا ينافي أن يكون قد كان في بعضها، ولم يُغيِّره النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الحكم؛ لأنه منحرف، وفي تغييره كلفة.
وأما الأمر الثالث؛ فلا ريب أن الأصل والظاهر هو الرواية باللفظ، أو بما لا يخالفه مخالفةً لها شأن، وأنه لا يجوز تجويز خلاف هذا لغير دليل، وأنا إنما جوزته في رواية عبيد الله لما يتراءى من الأدلة.
[ص 8] على أني أقول: قد تقدم ترجيح ما في رواية يحيى من قوله: "مستقبلاً بيت المقدس" بما لا غبار عليه، وإذا صح وصححنا زيادة عبيد الله، فالراجح من وجوه الاختلاف فيها تأخيرها بلفظ:"مستدبرًا القبلةَ". ويحتمل في حقه الاحتمالان اللذان تقدما في حق مالك فقد جاء عن ابن عمر التوسعة في القبلة، وعليه فالجواب ما تقدم. والله أعلم.
هذا ولأهل العلم في هذا الحديث أقوال أخرى:
منها: أنه لا يحتج به، لاحتمال أن القصة كانت قبل النهي، وفي هذا بحثٌ محلُّه كتب الأصول.
ومنها: عكسه، وهو أنه ناسخ للنهي إما مطلقًا، وإما بالنسبة إلى الاستدبار أو إلى البيوت، أو إلى المراحيض، ورُدّ من وجوه:
(1)
هنا بياض في الأصل.
(2)
هنا بياض في الأصل. وقول عائشة في حديث الإفك الطويل: "وذلك قبل أن نتخذ الكُنُفَ قريبًا من بيوتنا"، أخرجه البخاري (2661، 4750) ومسلم (2770).
الأول: أن الفعل لا ينسخ القول، وفي هذا بحث محلُّه كتب الأصول.
وقد جاء عن الصحابة الاحتجاج بالفعل على نسخ القول، كما في الوضوء مما غيَّرت النار، مع أنه قد يقال: ليس هذا مجرد فعل، بل فيه تقرير؛ لأن الظاهر أن المرحاض إذا كان في البيت لا يختص بالرجل، بل تشاركه فيه النساء، بل هن أولى.
الثاني: أنه لو كان هناك نسخٌ لأعلنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أعلن النهي، ومن البعيد أن ينسخ الحكم فلا يبينه صلى الله عليه وآله وسلم، بل يقتصر على الفعل في خلوته.
وقد يدفع هذا بأنه بنى المرحاض في بيته صلى الله عليه وآله وسلم على الهيئة المؤذنة بالنسخ، فعلم بذلك أهل البيت، وقد احتج الصحابة على نسخ عدم وجوب الغسل على من أكسل بخبر بعض أمهات المؤمنين، بأنه وقع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم ومنها فاغتسلا، مع ما في هذا من الاحتمال، ومن كان له معرفة بالسيرة عرف أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان ربما اكتفى في تبليغ النسخ بإخبار الواحد أو الاثنين، وفي ذلك من الحكمة ما ليس هذا محلَّ بيانه.
الثالث: أن التاريخ مجهول، وعليه فإما أن يترجح احتمال أن الواقعة كانت قبل النهي على حسب الإباحة الأصلية، فلا يكون هنا نسخ، وإما أن يتوقف على الجزم، ويعمل بعموم النهي احتياطًا.
ومنها: أن هذا الحديث مخصِّص لعموم أحاديث النهي على ماهو مختارُ كثيرٍ من الأصوليين، أنه عند جهل التاريخ، إذا أمكن الحمل على العموم والخصوص حُمِل عليه.
وقد يُردُّ هذا بأن التخصيص بيان لا يجوز تأخيره عن وقت الخطاب عند قوم، وعن وقت الحاجة عند آخرين، وهذه الواقعة ليست مقترنةً
بخطاب النهي كما هو ظاهر، فإن كانت متأخرة فقد تأخرت عن وقت الحاجة حتمًا؛ لأن الحاجة إلى قضاء الحاجة متكررةٌ كلَّ يوم، وإذا تأخرت عن وقت الحاجة فلا تخصيص، وإنما يبقى احتمال النسخ، وقد مرَّ ما فيه.
وإن كانت متقدمة عن النهي، فالأولى حملها على موافقة الإباحة الأصلية، كما مر.
ومنها: حمل الواقعة على خصوصيةٍ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقوَّاه بعض الأجلة بما قيل: إن فضلاته صلى الله عليه وآله وسلم طاهرة.
وليس بالبين:
أولاً: لأن في الطهارة نظرًا.
ثانيًا: لأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يعاملها معاملة الأنجاس، فيبعد عند قضاء الحاجة، ويستنجي، وغير ذلك.
فالظاهر أن تعاملها في استقبال القبلة كذلك، وهو أحق بإكرام قبلة ربه عز وجل.
ثالثًا: الظاهر من كون المرحاض في البيت أنه لا يختص بالرجل، بل يحتاج إليه النساء، كما مر.
وبالجملة فالذي يترجح لي في هذا الحديث ما قدمتُه، وحاصله أن الذي في حديث النهي هو النهي عن استقبال القبلة بالبول أو استدبارها بالغائط، والقبلة في الأصل هي سَمْتُ البيت نفسه، ومن وسَّع فيها فمحل التوسعة عند الاشتباه. فأما من علم أو ظن أنه منحرف عن سمت البيت، فلا صلاة له، وليس ذلك قبلةً في حقه، وإذا لم يكن قبلةً في حقه فلا حرج عليه
في استقباله.
[ص 9] إذا تقرر هذا فأقول: نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين عن مثل ذلك الفعل، كما نهاهم الله عز وجل أن يقولوا لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم:"رَاعِنا"، كما كان اليهود يقولونها، يريدون بها معنى سوء. والله أعلم.
وجاء عن الشعبي ولم يصح كما يأتي، أنه قال: [
…
]
(1)
.
ورُدَّ بأنه لو لوحظ هذا لمنع قضاء الحاجة في الفضاء مطلقًا؛ لأن ما يحتمل معاينة المصلين من الملائكة ومسلمي الجن في حال الاستقبال يجيء مثله في غيره.
فالمعتمد ما تقدم، وهو ملاقٍ للتعليل المشهور بالإكرام، فإنّ تحرِّي تركِ ما قد يكون إهانةً إكرامٌ، وإذا ظهر أن المفسدة المنظور إليها في المنصوص هي إنما ذلك الفعل، مظنةَ أن يقصد به إهانة القبلة، تكذيبًا لآيات الله، تبين أن مجرد كشف العورة ليس كذلك؛ لأنه لا يكادُ يقصد به الإهانة، وتبين أن استدبار من يريد البول فقط القبلةَ لا محذور فيه، وإن كان بعض ألفاظ النصوص قد يشمله، وقد منعه بعض الشافعية، وتلك ظاهرية صرفة.
وظهر أيضًا صحة ما اقتضاه إطلاق النصوص من شمول النهي للتغوط نحو القبلة مع عدم الانحناء، كما إذا كان بين قاضي الحاجة وبين القبلة ساتر، وكما إذا كان في البيوت أو في المواضع المعدَّة لقضاء الحاجة.
لأن
(2)
القبلة هي الكعبة، وإهانتها إنما تتحقق بتنجيسها وتقذيرها ونحو
(1)
هنا بياض في الأصل. وأثر الشعبي سيأتي (ص 32).
(2)
من هنا إلى "الباب الثاني" مكتوب في أسفل الصفحة في الركن مقلوبًا.
ذلك، ولو رُئي رجل يبول أو يتغوط مستقبلاً بيت الملك من مسافة ميل أو أبعد، لم يعد ذلك إهانةً لبيت الملك، اللهم إلا أن يقصد الإهانة، فتكون الإهانة في الحقيقة بالقصد أو بتحري ذلك، فيدل على قصد الإهانة.
فإن قلت: فليكن العلة هو أن ذلك الفعل قد يُقصد به الإهانة.
قلت: الأفعال التي قد يُقصَد بها الإهانة كثيرة، وفيها ما ليس يُنهى عنه عند عدم قصد الإهانة إجماعًا، كوضع مرحاض البيت في قبلته، وكالجلوس مستدبر القبلة.
فإن قلت: الاستقبال بالبول والغائط أظهر في احتمال قصد الإهانة، وأشبه بالإهانة بالفعل؛ لأنه لو كان بالقرب يحصل به التنجيس، وهو إهانة بالفعل.
أقول: هذا في نظري قوي.