المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ فقه هذا الحديث - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٦

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" هل يفيد إخراج الأبنية

- ‌1 - حديث ابن عمر في الصحيحين

- ‌الباب الثاني في الرخصة

- ‌حكم القبلة وقضاء الحاجة

- ‌ فقه هذا الحديث

- ‌فصلهل يُعيد إمامًا

- ‌ أدلة المجيزين:

- ‌فصلوممن رواه عن جابر:

- ‌الدليل الثانيحديث جابر في صلاة الخوف

- ‌ فصلمما يُستدل به لصحة اقتداء المفترض بالمتنفِّل:

- ‌مقدمة في حقيقة الوتر

- ‌المقالة الأولىفي حقيقة الوتر

- ‌مبحث في الوتر [بواحدة]

- ‌بحث في حقيقة "الوتر" ومسمَّاه في الشرع

- ‌الفصل الثانيفي الاقتصار على ثلاث

- ‌تحقيق الكلام في حديث: "لا توتِروا بثلاثٍ

- ‌مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبويوما صار إليه في عهد عمر

- ‌الاختلافُ في الأفضل: أفي البيت أم في المسجد؟فرادى أم جماعة

- ‌هل هناك مانعٌ

- ‌الفصل الأولما هو المقام

- ‌الفصل الثانيلماذا سُمّي "الحَجر" مقامَ إبراهيم

- ‌الفصل الثالثأين وضع إبراهيم المقامَ أخيرًا

- ‌الفصل الرابعأين كان موضعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌تمحيص هذه الأقوال

- ‌الفصل الخامسلماذا حوّل عمر رضي الله عنه المقام

- ‌الفصل السادسمتى حوَّل عمر رضي الله عنه المقام؟ولماذا قدَّرَهُ المُطَّلِبُ، واحتاجَ عُمَرُ إلى تقديرِه

- ‌تلخيص وتوضيح

الفصل: ‌ فقه هذا الحديث

فإذا اعتددنا بما تقدم، قلنا: إن استقبالها بما ذكر إهانةٌ لها، ولذا نراه بيِّنًا عند التحقيق باعتبار القصد والنية، ألا ترى أن أهل الشام لما كانوا يذكرون عليًّا عليه السلام بلفظ "أبو تراب" قاصدين الغضَّ منه، كان ذلك شتمًا، وإن لم تكن تلك الكنية في نفسها دالَّةً على نقصٍ ولا مُشعِرةً به، بل تُشعِر بالمدح بالنظر إلى سببها. وكذلك لما كتب زياد إلى الحسن عليه السلام:"إلى الحسن بن فاطمة" قاصدًا الغضَّ منه، عدَّ الحسن ذلك غضًّا [منه].

ويَهجِسُ

(1)

في نفسي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما كان يستقبل أولًا بيت المقدس، ثم حُوِّل إلى الكعبة، وغاظ اليهودَ تركُه قبلتَهم إلى غيرها غيظًا شديدًا كما هو معروف، كان ذلك مظنةَ أن يَحمِلَ بعضَهم الغيظُ على أن يتحرى استقبال الكعبة بالبول والغائط، قائلًا: إنها لا تصلح لأن تُستقبلَ بل لأن تُستقبلَ بهذا، ويكون فعله هذا تغاليًا في الكفر، وتكذيبًا بآيات الله، وإهانةً للقبلة.

[ص 3]

‌ فقه هذا الحديث

الذي يتحقق من الواقعة هو استقبال الشام بالبول.

أما الشام: فإن الرواية اختلفت؛ فجاء "مستقبلَ الشام"، وجاء "مستقبلًا بيتَ المقدس".

وبيت المقدس من الشام، لكن الذي يترجح "مستقبلًا بيتَ المقدس"، فإنها الثابتة عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهو أكبر من عبيد الله وأجلُّ، وموصوف بالفقه، وبأنه كان يؤدي الحديث على وجهه.

(1)

أي: يخطر في البال.

ص: 49

وأما البول: فلأن الجالس لحاجته إن كان للبول فقط فواضح، وإن كان للغائط فمن لازمهِ عادةً البولُ وإن قلَّ، وليس في كلام ابن عمر ذكرٌ للغائط، والظاهر أنه لم يُثبِته؛ لأنه إنما حانتْ منه التفاتةٌ، والظاهر أنه يَصرِف نظره قبل أن يستثبت، وأقوى من هذا أن الله تبارك وتعالى لم يكن ليكشف لأحدٍ تلك الحالَ من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

إذا تقرر هذا فقد يقال: لا حجة للمرخصين في هذه الواقعة البتة.

أما أولًا: فلأن من كان بالمدينة إذا استقبل بيت المقدس تمامًا لم يكن مستدبرًا الكعبةَ تمامًا، بل يكون منحرفًا عنها إلى جهة الشرق، فلو كان ثَمَّ تغوّط لما كان إلى القبلة.

وأما ثانيًا: فلأنه ليس في الواقعة ذِكرٌ للغائط.

فإن قيل: فما وجه احتجاج ابن عمر بالقضية على ما أنكره من قول الناس: "لا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس"؟

قلت: أما احتجاجه بالنسبة إلى بيت المقدس فواضح، وأما بالنسبة إلى القبلة فلعله لم يُرِد إنكارَ قولِ الناس فيها، وإنما أنكر التسويةَ بينها وبين بيت المقدس، فكأنه قال: يقولون: لا تَستقبلِ القبلةَ ولا بيتَ المقدس، فيسوُّون بينهما، وإنما الثابت أن لا تُستقبلَ القبلةُ، فأما بيت المقدس فالواقعة تردُّه.

وقد يؤيد هذا أنه لم يتعرض في قوله: "إن أُناسًا يقولون .... " لاستدبار القبلة.

فإن قيل: فلماذا ذكر في وصف الواقعة قوله: "مستدبر القبلة"؟

قلت: ليس هذا في رواية يحيى، وإنما هو في رواية عبيد الله، واختُلِف

ص: 50

فيه تقديمًا وتأخيرًا وغير ذلك كما مر، ويحيى أكبر وأجلُّ وفقيه، وممن يؤدي الحديث على وجهه، وعبيد الله إمام في الرواية، ولكن من المحتمل أن يكون تصرَّفَ في اللفظ بحسب ما فهمه من المعنى، كأنه سمع القصة باللفظ الذي رواه يحيى، فوقع في نفسه أن مقصود ابن عمر إنكار النهي عن استقبال القبلة واستدبارها بالحاجة، فلما أدّى الحديث تصرَّفَ في لفظه بحسب ذلك، فأسقط أول الكلام "إن أُناسًا يقولون

" كما مر، وقال: "مستقبل الشام" بدل "مستقبلًا بيت المقدس" كأنه علم ما قدمتُه من أن [مَن] بالمدينة إذا استَقبَل بيتَ المقدس تمامًا لم يكن مستدبر الكعبة تمامًا؛ فوقع له أن مراد ابن عمر ببيت المقدس مطلقُ الشام، ومَن بالمدينة إذا استدبر الكعبة تمامًا يكون مستقبلًا مشارقَ الشام. وزاد قوله: "مستدبر القبلة، أو الكعبة، أو البيت" لأنه فهم أن ذلك هو المقصود من القصة.

ومما يُقوِّي هذا اضطرابُه في هذه اللفظة، فتارةً يؤخِّرها على الأصل من كونها زيادة، وتارةً يقدِّمها نظرًا إلى أنها هي المقصودة بحسب ما فهمه، وتارةً يقول:"القبلة" على الأصل، وتارةً يقول:"الكعبة أو البيت"، حرصًا على أداء ما فهمه من المعنى؛ لأن استقبال الشام يصدق باستقبال بيت المقدس، فلا يلزم منه استدبار الكعبة كما مر، وإن لزم استدبار القبلة، على رأي من يقول: إنها الجهة، أي: سمت البيت وما عن يمينه ويساره إلى حد ربع السماء.

[ص 4] قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط"، احتج به بعضهم على أن النهي لا يتناول البيوت؛ لأن الغائط هو المكان المنخفض من الأرض في الفضاء، ونسب ذلك إلى البخاري؛ إذ ترجم لحديث أبي أيوب بقوله: "باب لا

ص: 51

تُستقبل القبلةُ ببولٍ ولا غائطٍ إلا عند البناء: جدارٍ أو نحوه".

وبسط الحافظ في "الفتح"

(1)

الكلام على ذلك بما لا أرى تحته طائلًا، فإن المتبادر من الحديث أن قوله:"إذا أتى أحدكم الغائط" إنما هو كناية عن إرادة قضاء الحاجة، كما أن قوله تعالى:{أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} كناية عن الحدث.

فحاصل معنى الجملة: إذا أراد أحد منكم أن يقضي حاجته، والمعتبر في الكنايات هو المعنى، ولا يفهم منها موافقة الحقيقة ولا مخالفتها، كما في قولنا:"يد السلطان طويلة" فإنما فيها أنه يقدر على تنفيذ إرادته فيمن يبعد عنه، ولا يفهم من ذلك طول الجارحة البتة.

فإن قيل: فعلى هذا لا يظهر لهذه الجملة فائدة، إذ لو تُرِكتْ واقتُصِر على قوله: "لا يستقبل أحد منكم القبلة

" لكان المقصود واضحًا.

قلت: من فائدتها التنبيه على أنه ينبغي النظر قبل الجلوس حتى لا يغفل قاضي الحاجة عن التحري، أو يحتاج إلى الاستدارة بعد جلوسه، وقد لا يمكنه ذلك.

نعم، في شرح الموطأ للباجي

(2)

ما يتحصل منه دعوى أن هذه العبارة إنما تكون كنايةً عن الخِراءة.

أولًا: لأن الشارع لا يستنكر التصريح بالبول، بل جاء: "لا يقلْ أحدكم:

(1)

(1/ 245).

(2)

"المنتقى"(2/ 390) ط. دار الكتب العلمية.

ص: 52

هَرَقْتُ الماء، وليقلْ: بُلْتُ"

(1)

.

ثانيًا: لأن الملازمة الغالبة التي بُنِي عليها مدارُ الكناية إنما هي بين إتيان المكان المنخفض في الفضاء وبين الخِراءة؛ لأن العرب لها كانوا يأتون الغِيطانَ، فأما البول وحده فلم يكونوا يأتونها له.

وهذا أيضًا ليس بشيء.

أما الوجه الأول: فلأنه أريد هنا ما يشمل البول والخِراءة، فجيء بهذه الكناية لتعمَّهما، ولو لُوحِظ عدم الكناية عن البول لاحْتِيجَ أن يقال مثلًا:"إذا أراد أحدكم أن يبول أو أتى الغائط". وهو تطويل لا حاجة إليه، وما ورد من كراهية أن يقال:"هَرَقْتُ الماء" إنما هو ــ والله أعلم ــ لأن هذه الكناية غير واضحة، فارتكابها أقبح من التصريح.

أما الوجه الثاني: فقد دفعه في الحديث قوله: "فلا تستقبلوا القبلةَ ببولٍ ولا غائطٍ"، ومن الواضح أنه لا معنى للمنع من استقبالها بالبول حال التغوط، وإباحته عند عدم التغوط.

وقد ظهر من الحديث أن المدار على استقبالها بالنجس حال خروجه، ولا يختص ذلك باجتماعٍ ولا افتراقٍ، ولا بمكان دون مكان، والذين فرَّقوا بين الأبنية وغيرها، عللوا ذلك بأمور:

الأول: تضايق المنازل، وتعسر التحرف فيها. قال الشافعي في "كتاب

(1)

أخرجه الطبراني في "الكبير"(22/ 62) وفي "مسند الشاميين"(3394) عن واثلة بن الأسقع بنحوه، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 210): فيه عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة، وقد أجمعوا على ضعفه.

ص: 53

اختلاف الحديث" هامش "الأم" (7/ 270)

(1)

: "وكانت المذاهب بين المنازل متضايقةً، لا يمكن من التحرُّفِ فيها ما يمكن في الصحراء".

وهذا حق، ولا يقتضي الإباحة في البيوت مطلقًا، ولا في المراحيض مطلقًا، بل المدار على التعسُّر، فمن لم يتيسَّر له لقضاء حاجته إلا موضعٌ يتعسَّر فيه عدمُ الاستقبال أو الاستدبار جاز له ذلك.

ومع هذا فإنما يحتاج إلى هذا إذا قلنا: إن الاستقبال يحصل باستقبال الجهة كالجنوب لأهل المدينة، وكذلك الاستدبار على ما يظهر من قوله:"ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا".

وليس هذا بلازم؛ لاحتمال المدار على تحرِّي استقبال يمين الكعبة واستدبارها، كما هو مذهب الشافعي.

ومعنى قوله: "شرِّقوا أو غرِّبوا" شرِّقوا عن القبلة أو غرِّبوا عنها، فيصدق ذلك بالتحرُّف عن يمين البيت.

فأهل المدينة ــ وهم المخاطبون بهذا ــ البيتُ جنوبَهم بانحرافٍ يسيرٍ جدًّا في الجنوب، فإذا اتجه أحدهم نحو البيت فقد استقبل القبلة، وإذا تحرَّف إلى الشرق أو الغرب لم يصدُقْ عليه أنه استقبلها أو استدبرها، وصدق عليه أنه شرَّق عنها أو غرَّب.

والسر في ذلك أنه إذا اعتُبِرت السماءُ أرباعًا: شرق وغرب وشمال وجنوب، فإن أحدنا إذا كان مستقبلًا بعض أجزاء الجنوب ثم تحرَّف يمنةً يقال: شرَّق، لا يقال: إلى جهة المشرق، وإن كان لا يزال مستقبلًا بعض

(1)

(10/ 220) طبعة دار الوفاء.

ص: 54

أجزاء الجنوب. وقِسْ على ذلك.

وعلى هذا فلا حاجة لتخصيص النهي بالفضاء البتةَ؛ لأن المراحيض وإن كان قد يتعسَّر فيها جعلُ القبلة يمينًا أو يسارًا على التحقيق، فلا يتعسَّر فيها التحرُّف، وبه يحصل المقصود من عدم استقبال القبلة أو استدبارها.

[ص 5] 6 - أخرج الإمام أحمد وابن ماجه

(1)

وغيرهما من حديث عائشة قالت: ذُكِر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ناسًا يكرهون أن يستقبلوا القبلةَ بفروجهم، فقال:"أوَقد فعلوها، حوِّلوا مقعدي قِبَلَ القبلة".

هذا الحديث ينفرد به خالد الحذاء، واختلف عنه فيه على أوجه:

الأول: عنه عن عراك عن عائشة. ذكره الدارقطني

(2)

من طريق يحيى بن مطر عن خالد، وذكر أنه تابعه أبو عوانة والقاسم بن مُطيَّب.

الوجه الثاني: عنه عن رجل عن عراك عن عمرة عن عائشة. قال البخاري في التاريخ (2/ 1/

)

(3)

.

الوجه الثالث: عنه عن رجل عن عراك عن عائشة. قال أحمد في المسند (6/ 183): ثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا خالد

الوجه الرابع: عنه عن خالد بن أبي الصلت عن عراك عن عائشة. هكذا قاله حماد بن سلمة، فيما رواه عنه وكيع وبهز وأبو كامل ويزيد بن هارون، رواه عنهم أحمد في المسند (6/ 137 و 219 و 227 و 239).

(1)

أحمد (6/ 227) وابن ماجه (324). وسبق تخريجه من مصادر أخرى.

(2)

في "السنن"(1/ 59).

(3)

"التاريخ الكبير"(3/ 156). وسبق نقل العبارة فيما مضى.

ص: 55

وكذلك يحيى بن إسحاق عند الدارقطني

(1)

وغيرهم.

وأخرجه ابن ماجه

(2)

من طريق وكيع عن حماد فذكره، وفي النسخة بعده:"قال أبو الحسن القطان: حدثنا يحيى بن عبيد ثنا عبد العزيز بن المغيرة عن خالد الحذاء عن خالد بن أبي الصلت مثله".

الوجه الخامس: مثل الذي قبله، إلا أن فيه عن عراك:"حدثتني عائشة".

هكذا رواه على بن عاصم عن خالد الحذاء، أخرجه عن علي أحمد في "المسند"(6/ 184) وغيره، وتابعه موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن خالد الحذاء. قال البخاري في التاريخ [

]

(3)

.

الكلام في الحديث

حكم الإمام أحمد والبخاري وأبو حاتم بأنه مرسل، وأن عراكًا لم يسمع من عائشة. وزاد البخاري وأبو حاتم فحكما بأنه مع إرساله غلط، وأن الصواب موقوف على عائشة. قال البخاري في التاريخ [

]

(4)

.

وساق الدارقطني

(5)

الحديث من طريق من رواه عن خالد الحذاء عن عراك عن عائشة، ثم قال: وهذا القول أصح. ثم قال: "ورواه علي بن عاصم وحماد بن سلمة عن خالد بن أبي الصلت عن عراك

" ثم ذكره من طريق

(1)

في "السنن"(1/ 60).

(2)

رقم (324).

(3)

هنا بياض في الأصل، والنص فيه (3/ 156)، وسبق ذكره.

(4)

بياض في الأصل، وانظر "التاريخ الكبير"(3/ 156). ونقل النص فيما مضى.

(5)

في "السنن"(1/ 59).

ص: 56

علي بن عاصم، ثم قال:"وهذا أضبط (كذا) إسناد، وزاد فيه خالد بن أبي الصلت، وهو الصواب".

فيظهر دفعًا للتناقض عن كلامه أن مراده بقوله في الأول: وهذا القول أصح" أراد به صحته في عنعنة عراك. وأما قوله في الثاني: "وهذا أضبط إسناد

وهو الصواب "، فإنما صوَّب به زيادة خالد بن أبي الصلت في السند، ولم يتعرض للسماع، فكلامه موافق لكلام أحمد ومن معه، أو غير مخالفٍ له، فمن توهم خلاف ذلك فلم يتدبر.

وخالفهم بعض المتأخرين فقال: "إسناده حسن، ورجاله ثقات معروفون، وأخطأ من قال خلاف ذلك، وقد علل البخاري الخبر بما ليس بقادح

فإن ثبوت ما قال لا يستلزم نفي هذا، فبعد صحة الإسناد يجب القول بصحتهما".

واختار بعض أجلة العصر أن الحديث صحيح على شرط مسلم، وقال الذهبي في ترجمة خالد بن أبي الصلت من "الميزان"

(1)

: "هذا حديث منكر .... ".

أقول: ههنا مباحث:

الأول: في سماع عراك من عائشة. احتج بعضهم عليه برواية علي بن عاصم التي مرّت وما معها، وبأن مسلمًا أخرج في "الصحيح"

(2)

حديث عراك عن عائشة: "جاءتني مسكينة تحمل ابنتين .... ". وبأنه عاصرها وكان

(1)

(1/ 632).

(2)

رقم (2630).

ص: 57

معها في المدينة، والحجة في المعاصرة أنه سمع من أبي هريرة، وإنما ماتت عائشة في رمضان سنة 57، فصلى عليها أبو هريرة ثم مات بعدها في السنة، ورواية الرجل عمن عاصره واحتمل لقاؤهما محمول على السماع عند الجمهور، كما شرحه مسلم في مقدمة "صحيحه"

(1)

، وشدد النكير على من خالفه.

أقول: أما الحجة الأولى: ففيها أن علي بن عاصم كذَّبه جماعة، وقال يزيد بن زريع: لقيتُ علي بن عاصم بالبصرة وخالد الحذاء حي، فأفادني أشياء عن خالد، فسألته عنها فأنكرها كلها، وأفادني عن هشام بن حسان حديثًا، فأتيت هشامًا فسألته عنه فأنكره".

وفي رواية أخرى عن يزيد بن زريع: "ثنا علي ــ بن عاصم ــ عن خالد بسبعة عشر حديثًا، فسألنا خالدًا عن حديث فأنكره، ثم آخر فأنكره، ثم ثالث فأنكره، فأخبرناه فقال: كذاب فاحذروه". ذكر ذلك في "التهذيب"

(2)

.

وأقوى ما اعتُذِر به عن علي بن عاصم قول عبّاد بن العوّام: "كان رجلًا موسرًا، وكان الوراقون يكتبون له، فنراه أُتِي من كتبه". ذكره في "التهذيب"

(3)

، ونحوه عن يعقوب بن إسحاق.

أقول: إذا قبلنا هذا فلا مَحِيصَ عن القول بأنه كان يعتمد على وراقين لا يُوثَق بهم، ثم لا يَفْطَن لتخليطهم، بل ولا لكذبهم، وفوق ذلك فقد ذكروا أنه

(1)

(1/ 29 وما بعدها).

(2)

(7/ 347).

(3)

(7/ 345).

ص: 58

كان يحتقر كبار العلماء ويعيبهم، وإذا نبَّهه أحد منهم على غلط لم يقبل منه، ومثل هذا لا يصلح للمتابعة فضلًا عن الحجة.

فأما رواية أحمد عنه وتقويته من شأنه، وقوله:"إنما كان كثير الغلط"، فالظاهر أن أحمد لم يبلغه كلام يزيد بن زريع، أو حملها على أن ذلك كان من علي أولًا، ثم تاب وصلح في الجملة، وعلى كل حال فالجرح المفسر الواضح يجب قبوله.

وأما متابعة حماد بن سلمة فيما رواه موسى بن إسماعيل عنه، فحماد تغير حفظه بأَخَرة، وموسى ممن سمع عنه بأخرة، وقد رواه القدماء الأثبات من أصحاب حماد عنه فقالوا: عن عائشة، أو نحو ذلك.

وهناك أمور أخرى تُبطل ما ذكر في الرواية المذكورة:

منها: أن خالدًا الحذاء تغير حفظه بأخرة، وقد ظهر أن ذلك في هذا الحديث كما مر، وقد رواه عنه وهيب أحد الأثبات المتقنين فقال: "

خالد عن رجل عن عراك عن عمرة عن عائشة" كما مر، فأدخل بين عراك وعائشة واسطة، وإذا ثبتت الواسطة بطل السماع، وتجويز الرواية من الوجهين كما تقدم في شأن مجاهد [ص 6] إنما يُصار إليه في الأسانيد القوية الثابتة، وليس ما هنا كذلك.

ومنها: حال خالد بن أبي الصلت، وسيأتي.

وأما الحجة الثانية: وهي أن مسلمًا أخرج لعراك عن عائشة في صحيحه.

فجوابه من وجوه:

ص: 59

الأول: أن مسلمًا رحمه الله أخرج حديث المسكينة أولًا من حديث عروة عن عائشة

(1)

، ثم أخرجه من حديث عراك عن عائشة، فطريق عراك متابعة، وهم يتسامحون فيها.

الثاني: أنه في فضائل الأعمال، وهم يتسامحون في روايتها.

والثالث: فإن عراكًا معروفٌ بالرواية عن عروة، وإذا انضمَّ إلى هذا أن عروة قد روى الحديث المذكور، وقع في النفس أن عراكًا إنما سمعه من عروة، وبذلك تُعلَم الواسطة، وإذا عُلِمت الواسطة صار الإرسال صوريًّا فقط. غاية الأمر أن يكون انضمَّ إلى هذه الأمور تجويز مسلم أن يكون عراك سمع من عائشة، وهذا التجويز تتفاوت درجاته، كما يأتي في الحجة الثالثة، وإن صح استناد مسلم إلى تجويز سماع عراك من عائشة، فإنما ذلك عند انضمامه إلى الأوجه المتقدمة، ومع هذا فرأيُ مسلم ــ إن صح أنه كان يجوِّز سماع عراك من عائشة ــ معارِضٌ لرأي أحمد والبخاري وأبي حاتم. والله أعلم.

وأما الحجة الثالثة: فالمذهب الذي انتصر له مسلم في أول صحيحه، حاصله أنه إذا روى ثقة غير مدلِّس عن ثقة، وكانا معًا في عصر، وكان جائزًا ممكنًا أن يكون سمع منه وشافهه، فالرواية محمولة على السماع.

وعلى هذا فالشروط ثلاثة:

الأول: الثقة مع عدم التدليس.

الثاني: ثبوت المعاصرة.

(1)

رقم (2629).

ص: 60

الثالث: أن يكون جواز اللقاء والسماع جوازًا ظاهرًا.

وهذا مأخوذ من قول مسلم في المقدمة

(1)

: "وجائزٌ ممكنٌ لقاؤه والسماع منه".

فقوله: "ممكن" في معنى قوله: "جائز"، وإنما زاده تأكيدًا، ليفيد أنه لابد أن يكون الجواز ظاهرًا قريبًا.

فأما الشرط الأول، فعراك ثقة، ولم يوصف بالتدليس نصًّا، إلا أن في كلام أحمد وغيره في إنكار سماعه من عائشة الحكم عليه بأنه قال عن عائشة، ولم يسمع منها.

وأما الشرط الثاني، فإنما يتحقق بثبوت أن الراوي بلغ سنَّ السماع والضبط قبل وفاة الشيخ بمدة يتحقق فيها الشرط الثالث، وليس هنا من هذا الثبوت إلا أن عراكًا سمع من أبي هريرة وضبط عنه، وأن أبا هريرة توفي بعد عائشة في السنة أي بنحو ثلاثة أشهر على الأكثر، ومن البعيد بالنظر إلى العادة أن يقال: إنه سمع من أبي هريرة وضبط عنه في وقتٍ كان قبله بشهر أو شهرين أو ثلاثة غيرَ أهلٍ للسماع والضبط.

والجواب [عن] هذا:

أولًا: أن في هذا الاستبعاد نظرًا.

ثانيًا: أن القول بأن أبا هريرة توفي بعد عائشة في السنة لم يثبت ثبوتًا تقوم به الحجة، وإنما نُقل عن هشام بن عروة، ومولد هشام سنة 61.

(1)

(1/ 29).

ص: 61

ثالثًا: قد خالف هشامًا غيرُه في موت أبي هريرة، فقد قال ضمرة بن ربيعة وأبو معشر والهيثم بن عدي: مات سنة 58. وقال الواقدي وأبو عبيد وغيرهما: مات سنة 59. زاد الواقدي أنه صلى على أم سلمة في شوال سنة 59، ثم توفي بعد ذلك فيها.

وغلَّطه ابن حجر

(1)

في وفاة أم سلمة، وغلَطُه في ذلك لا يلزم منه غلطه في موت أبي هريرة، نعم رجح ابن حجر قول هشام ومن تبعه، ولكن ترجيحه لا يوجب أن يكون قوله حجة تبنى عليه الأحكام.

ثالثًا: قد استقرأتُ حديث أبي هريرة في "مسند أحمد"، فلم أجد لعراكٍ عنه إلا أحرفًا يسيرةً بمتونٍ قصيرة، والذي رأيتُه منها حديث:"ليس على المسلم في فرسه ولا عبده صدقة"

(2)

، وحديث:"إن شرَّ الناس ذو الوجهين، يأتي هؤلاء بوجهٍ وهؤلاء بوجهٍ"

(3)

، وحديث:"لا ترغبوا عن آبائكم، فمن رغب عن أبيه فإنه كفر"

(4)

، وحديث:"من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدركها"

(5)

. فهذه الأربعة متون قصيرة كما ترى. والخامس: "خُثَيم بن عراك عن أبيه أن أبا هريرة قدم المدينةَ في رهطٍ من قومه والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بخيبر

"

(6)

. وظاهر هذا الإرسال.

(1)

"تهذيب التهذيب"(12/ 266).

(2)

"المسند"(2/ 242، 254 ومواضع أخرى).

(3)

"المسند"(2/ 307، 455).

(4)

"المسند"(2/ 526).

(5)

"المسند"(2/ 265).

(6)

"المسند"(2/ 345).

ص: 62

هذا ولا آمَنُ أن يكون زاغ نظري عن حديث أو حديثين آخرين

(1)

، ولا أن يكون لعراك عن أبي هريرة شيء آخر في غير "مسند أحمد"

(2)

، ولكن هذا كافٍ فيما أريده، وهو أن عراكًا إنما أدرك من السماع والضبط قبل وفاة أبي هريرة بيسير، فإن أبا هريرة مع كثرة حديثه كان يبذل نفسه للحديث، ويكثر من التحديث، وكان يكون تارةً هو الإمام فيخطب الناس ويحدِّثهم، وتارةً يكون الإمام غيره فيقوم أبو هريرة عند المنبر قبل أن يخرج الإمام فيذكِّر ويحدِّث.

فلو قيل: إن عراكًا إنما سمع من أبي هريرة وضبط عنه في مجلس أو مجلسين قبيل وفاته، لما كان بعيدًا؛ إذ لو أدرك مدةً طويلة من حياة أبي هريرة لكثرت روايته عنه.

[ص 7] وأما الشرط الثالث: فلو تحقق الشرط الثاني لتحقق هذا، فإن عراكًا كان مع عائلته بالمدينة، فمدارُ الكلام عند التحقيق إنما هو على الشرط الثاني.

فإن قيل: إنما مدار اشتراط العلم باللقاء وعدمه إنما هو على أن المحدث إذا روى عن رجل ولم يصرح بالسماع، هل يكون الظاهر السماع؟ قد اتفقوا على أنه إذا تحقق اللقاء ولو مرةً كان الظاهر في كل ما يحدث به الراوي عن ذلك الشيخ السماع، وإن عُلِم أن تلك اللُّقية لا تَسَعُ تلك الأحاديث كلها، بل يشمل كلامهم ما لو قال الراوي: كنت جالسًا مع

(1)

رحم الله المؤلف، فلم يفته شيء مما في "المسند" من هذا الطريق.

(2)

يراجع لأحاديث عراك عن أبي هريرة في غير "المسند": "إتحاف المهرة"(15/ 367 ــ 369).

ص: 63

جماعة فمرّ بنا فلان فسلّم، ويعني: ولم يكلِّم أحدًا، فمثل هذا يثبت به اللقاء، حتى لو حدَّث هذا الراوي عن ذلك المارِّ بألف حديث، ولم يُصرِّح في شيء منها بالسماع؛ لكانت كلها محمولةً على السماع.

ثم اتفقوا على أن الراوي إذا عُرِف منه التدليس، كان كلُّ ما رواه ولم يصرِّح بالسماع محمولًا على الانقطاع.

فهذا يدل على أن رواية الرجل عن آخر ظاهرها السماع، وإنما لم يُحمل على ذلك روايةُ المدلس؛ لأنه قد عُرِف منه مخالفة هذا الظاهر، فصار ذلك قرينةً يسقط بها الظهور.

ثم إذا تقرر هذا، فقد يقال: ينبغي أن يُكتفَى باحتمال الإدراك؛ لأن الرجل إذا روى عمّن لم يتحقق إدراكه له ولكنه محتمل، كان الظاهر السماع؛ لأنه لم يتحقق ما ينافيه. وبعبارة أخرى: ليس هناك قرينة يُردُّ بها ذلك الظاهر.

فالجواب: أن ابن المديني والبخاري اشترطا ثبوت اللقاء، ومعنى هذا أنهما يريانِ أن رواية الرجل عن الشيخ بدون تصريحٍ بالسماع إنما يكون ظاهرها السماع إذا كان قد لقيه ولو مرةً.

نعم، زعم بعض أكابر العصر أن البخاري إنما يشترط اللقاء لصحة الحديث صحة أكيدة بحسب ما اشترطه في جامعه، وأنه لا يشترط اللقاء لأصل الصحة. وعلى هذا فلا خلاف بين قوله والقولِ الذي حكاه مسلم عن الجمهور.

وهذا لا يصح؛ فإن مسلمًا صحب البخاري وحذا حذوَه، وكان من أعرف الناس بقوله، فلو كان هذا هو قول البخاري لما خفي على مسلم، ولو

ص: 64

عرفه لما كان هناك ما يحمله على تشديد النكير على هذا القول، كما تراه في مقدمة "صحيحه".

وأوضح من ذلك: أننا نجد في كتب البخاري، كالتاريخ الكبير وغيره، أنه يحكم بعدم الصحة، ثم يُعلِّلها بعدم العلم باللقاء.

والمقصود أن ذهاب ابن المديني والبخاري هذا المذهب يدل أن عندهما أن رواية الراوي عن الشيخ بدون تصريح بالسماع لا يكون ظاهرها السماع إلا إذا كان قد تحقق اللقاء.

وأما مسلم ومن وافقه فإنهم وإن لم يشترطوا تحقُّقَ اللقاء فقد اشترطوا تحقُّقَ المعاصرة وإمكانَ اللقاء إمكانًا بينًا كما علمت، فكان من لازم قولهم أن رواية الرجل عن شيخٍ بدون تصريحٍ بالسماع، إنما يكون ظاهرها السماع بذينك الشرطين.

وإذ لم يكن هناك مذهبٌ ثالثٌ، فهذا إجماعٌ منهم على أنه عند عدم تحقق الشرطين المذكورينِ لا يُحَمل على السماع، ولزِمَ من ذلك إجماعهم على أنه حينئذٍ لا يكون ظاهرُ الرواية السماعَ.

وسرُّ المسألة: أن يُنظَر في الظهور المذكور من أين جاء؟ أمن وضع اللغة أم من العرف أم من العقل؟

فأقول: أما اللغة فلا شأنَ لها بهذا، فإن قول الرجل:"قال أو حدَّث أو ذكر أو نحو ذلك فلانٌ" حقيقة، سواء أكان سمعه منه أم لم يسمعه.

وأما العرف؛ فالعرف العام لا يتحقق، وما يتراءى منه مصدره العقل، كما يأتي.

ص: 65

وأما العرف الخاص بأن يقال: كان من عادة أهل الحديث أن لا يروي أحدهم عمّن لقيه، أو عمّن عاصره، أو عمّن لم يتضح عدم سماعه منه إلا ما سمعه منه. فهذا يحتاج إلى [نقلٍ]، فإن عَدَدْنا كلامَ مسلم في المقدمة نقلًا، فقد خالفه قول ابن المديني والبخاري وهما أكبر منه وأجلُّ، وأعلمُ بمذاهب المحدثين وبعلل الحديث.

نعم، ما اتفق عليه المذهبان يمكن أن يسلَّم، لذا فيقال: الثابت أنه كان من عادة المحدثين أن لا يروي أحدهم عمّن لقيه إلا ما سمعه منه، فإن بدا له أن يخبر عنه بما لم يسمعه بيَّن ذلك، كأن يقول: بلغني عن فلان.

وشذّ أفراد فكانوا يروون عمّن لقوه ما لم يسمعوا منه، ويكتفون في البيان الذي يُخرِجهم عن الكذب بأنه قد عُرِف من شأنهم ذلك، وهؤلاء هم المدلِّسون الثقات.

لكن يبقى علينا أمران:

الأول: النظر في هذه العادة متى ابتدأت، فإننا نعلم أن كثيرًا من الصحابة كانوا يحدِّثون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما لم يسمعوه منه، وإنما سمعوه من غيرهم من الصحابة عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

الثاني: أن هذا إنما ينفعنا بالنظر إلى من اشتهر بطلب الحديث، وكثرت مجالسته لأهله حتى يظهر أنه [

]

(1)

، فيخرج المقلون، ويمكن التخلص عن هذين، كما يأتي إن شاء الله تعالى.

[ص 8] وأما العقل: فمدخله قوي هنا، بأن يقال: الإنسان العاقل المتثبت

(1)

هنا خرم في الأصل.

ص: 66

لا يخبر إلا بما يَثِقُ به، لأمرين:

الأول: التدين.

الثاني: خشية الاتهام بالكذب.

فإنه إذا أخبر عن رجل خبرًا

(1)

يحتمل أنه سمعه منه، ثم ظهر صحةُ عدمِ ذلك الخبر، اتُّهِم المخبر بالكذب، ولا يدفع ذلك عنه أن يقول: أنا لم أسمعه منه، إنما أخبرني عنه مخبر؛ لأنه يقال: يحتمل أن يكون صادقًا في هذا، وأن يكون إنما أراد أن يدفع عن نفسه الكذب، فإذا تكرر هذا منه قويت التهمة.

فالعاقل المتثبت ينفي هذا من أول الأمر، ولمّا عُرِف هذا في الناس علموا أن العاقل المتثبت لا يخبر إلا بما يثق به، ولمّا كانت الثقة التامة إنما تحصل غالبًا بالمشاهدة صار يتراءى للناس أن العاقل المتثبت إذا أخبر عن شخص بخبر، فالظاهر أنه سمعه منه، فهذا مصدر الظهور فيما أرى.

فأما الصحابة رضي الله عنهم فكانوا بغاية التحرز فيما يخبرون به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكان الرجل منهم يعلم تحرِّيَ الآخر الصدقَ وشدةَ احترازه عن الغلط، فإذا أخبره عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشيء كان عنده في الوثوق نحوًا مما لو سمعه هو من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكانوا مع ذلك معروفين عند إخوانهم وعند التابعين بالصدق والأمانة، فكان أحدهم إذا سمع من أخيه الحديث وثقَ به هذه الثقةَ، فيرى أنه ليس في الإخبار به عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدون بيان الواسطة غِشٌّ في الدين، ولا تعرُّضٌ للاتهام.

(1)

في الأصل: "أخبارًا".

ص: 67

أما عدم الغشّ فظاهر، وأما التعرُّض للاتهام؛ فلأنه يعلم صدق أخيه وتحرُّزه، فيثِقُ بأنه لن يظهر على الخبر المذكور أنه كذب، لا عمدًا ولا خطأً، فإن فُرِض في النادر أن يظهر أنه خطأٌ أمكنه أن يعتذر بأنه إنما أخبره فلان، ويرى أنه لن يُتَّهم بالكذب، لا هو ولا أخوه، ولا أن يُتَّهم بأنه كذب بقوله: إنما أخبره فلان؛ لعلمِ الناس بصدق الصحابة وأمانتهم.

فمن تدبَّر هذا وعلم مصدر الظهور السابق، علم أن قول الصحابي: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم كيتَ وكيتَ، لا يكون ظاهرًا في أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. بل هو على الاحتمال في أن يكون سمعه منه صلى الله عليه وآله وسلم، أو من صحابي آخر عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

وأما التابعون فلم تكن لهم تلك الثقةُ، ولكن بقي قريبٌ منها، فإن العصر كان الغالب فيه الديانة والأمانة، واستعظام الكذب على الله وعلى رسوله، فانقسموا إلى ثلاثة أقسام:

الأول: من جرى على نحو ما وقع من الصحابة، فربما روى عمّن لقيه ما لم يسمعه منه، فمن هؤلاء: أيوب السختياني، وزيد بن أسلم، وطاوس، وأبو قلابة الجرمي، وعمرو بن دينار، وموسى بن عقبة، وأبو مِجْلز، والحسن البصري، والحكم بن عتيبة، وسالم بن أبي الجعد، وسعيد بن أبي عروبة، ويحيى بن أبي كثير، وأبو سفيان طلحة بن نافع، وعبد الملك بن عمير، وعكرمة بن عمار، وأبو الزبير المكي، وابن شهاب، ومكحول، وعدة قد جمعهم ابن حجر في "طبقات المدلسين".

وأكثر هؤلاء إنما كانوا يفعلون ذلك عند الوثوق بصدق من بينهم وبين من سَمَّوه، فيرون أنه ليس في فعلهم غِشٌّ في الدين، وأنه إن ظهر غلطٌ واعتذروا لا يُتَّهمون؛ لعلم الناس بصدقهم وأمانتهم، وأن من تدبر هذه

ص: 68

الحال وعرف مصدر الظهور الذي تقدم بيانه، يرى أنه لا يظهر من روايتهم على الوجه المذكور أنهم سمعوا، بل يكون على الاحتمال، فحالهم قريب من حال الصحابة رضي الله عنهم.

وقليلٌ من هؤلاء كانوا يتساهلون فيروون على الوجه المذكور وإن لم يَثِقُوا بمن بينهم وبين من سمَّوا، والعذر في حقهم أنهم إن شاء الله كانوا أولًا يفعلون ذلك ثم يبينون في المجلس إلى إن اشتهر عنهم أنهم يفعلون ذلك، فعدوا تلك قرينة تصرف عن الظهور، وأهل الحديث يسمون ما وقع من هذا القسم تدليسًا، وهذا الاسم مناسب للمتساهلين، ولكن قد أطلق عليهم وعلى الآخرين.

القسم الثاني: قوم لم يكونوا يفعلون ذلك، ولكنهم كانوا يروون عمن عاصروه ولم يَلْقَوه، كأنهم يرون أن الظهور الذي تقدم بيانه إنما يقوى إذا عُلِم أن الراوي قد لقي من سمى. وأنت إذا تدبرت لم تستبعد هذا، فاعتبِرْه بأهل عصرك، إذا أخبرك واحد منهم عن آخر لم تعلم أنه لقيه، هل يكون الظاهر عندك أنه سمعه منه؟

فإن قلت: بلى قد يكون الظاهر في ذلك إذا كانا في بلد واحد.

قلتُ: أَنْعِمِ النظرَ وكثِّر الأمثلة، فإنك تجد أنه لا يظهر السماع حتى يكون الظاهر اللقاء، بل قد ترتاب في ظهور السماع مع ظهور اللقاء، بل ومع العلم به إذا كان معروفًا أن اللقاء وقع نادرًا، كأن يكون تاجر لا شأن له بمخالطة الملك، ولكنك تعلم أنه قد رأى الملك مرةً في مجلسٍ وسمع كلامه، فتدبر.

والسرّ في هذا أن ذلك التاجر لا يخشى الاتهام بالكذب إذا ظهر بطلان الخبر؛ لأنه يقول: إنما أخبرني [تعلمون الملك ولا]، فإن قلت [

]

ص: 69

فلعل [

] أحدهم كان [

] مع من سمعه كذلك، وكان المعروف ذلك في عصرهم، وإن خفي بعضه [

] على من بعدهم.

ومن هؤلاء: قيس بن أبي حازم، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي، وابن سيرين، وعطاء، ومجاهد، [

] من القسم الأول في جماعة كثير. راجع إن أحببتَ "المراسيل" لابن أبي حاتم.

وحالهم في اشتراط الوثوق بالواسطة بينهم وبين من سمَّوا كحال القسم الأول.

[ص 9] القسم الثالث: الذين لم ينقل عنهم الرواية عمن لقوه لِما لم يسمعوا، ولا الرواية عمّن عاصروه ولم [

]، فأخذوا أنفسهم بالأحوط لدينهم، فمن هؤلاء فيما أرى: القاسم بن محمد بن أبي بكر، وخارجة بن زيد بن ثابت، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس، والأسود بن يزيد، وأبو بردة بن أبي موسى، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، وموسى بن طلحة، وجابر بن زيد، في آخرين.

وكلام أئمة الحديث في تراجم من ذكرنا وغيرها يدل أن الإرسال الخفي كان فاشيًا في التابعين، ودونه التدليس عمّن يوثق به، ودونه التدليس مع التساهل، وتجدهم لا يحكمون بالتدليس إلا بحجة، وكثيرًا ما يكتفون في الحكم الإرسال

(1)

الخفي بالقرائن، بل وبعدم ثبوت السماع، فيقولون:

(1)

كذا في الأصل، ولعل الصواب:"بالإرسال".

ص: 70

لا يثبت له سماع من فلان، ونحو ذلك، يوجد هذا في كلام أحمد وابن معين وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم.

وذلك يرد على مسلم رحمه الله ما زعمه في مقدمة صحيحه من أن قول البخاري مُحدَث، ويدل دلالة واضحة أنه كان عندهم أنه لا يكون الظاهر السماع في رواية أحدهم عمّن عاصره، ولم يتبين لقاؤه له، أو تبين لقاؤه له لُقيةً لا يتضح فيها إمكان السماع، كأن يقول: رأيته يطوف بالبيت، ونحو ذلك، وإذا كان كذلك فليس في روايته عنه ما لم يسمعه منه شبهة كذب، ولا ما يخالف الأمانةَ، وذلك أن السامع المتدبر يكون الأمر عنده على الاحتمال، فعليه أن يسأل ليتضح له الحال.

وإذا كان الأمر هكذا، فالقول بالنسبة إلى التابعين هو القول الذي زعم مسلم رحمه الله أنه محدث، وقد سبق أنه قول الأئمة أحمد ويحيى وعلي والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم ممن تجد كلامه في تراجم أصحاب القسم الثاني، وحجتهم واضحة، وبذلك يردُّ على مسلم قوله

(1)

: "فإن كانت العلة في تضعيفِك الخبرَ وتركِك الاحتجاجَ به إمكان الإرسال فيه لزمك أن لا تُثبِت إسنادًا معنعنًا

وذلك أن الحديث الوارد علينا بإسناد هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، فبيقينٍ نعلم أن هشامًا قد سمع من أبيه، وأن أباه قد سمع من عائشة

وقد يجوز إذا لم يقل هشام في رواية يرويها عن أبيه: سمعت أو أخبرني أن يكون بينه وبين أبيه في تلك الرواية إنسان آخر

وكما يمكن ذلك في هشام عن أبيه، فهو أيضًا ممكن عن أبيه عن عائشة".

(1)

في مقدمة "صحيحه"(1/ 30، 31).

ص: 71

وإيضاح ذلك أن مسلمًا يوافق على عدم قبول عنعنة المدلس، وفي تمثيله بهشام نظر؛ لأنه وُصِف بالتدليس وإن لم يتفق عليه، فنحصر الكلام في عروة، فنقول: إنما قبلنا عنعنة عروة؛ لأن عروة لم يوصف بالتدليس، وقد عُرِف بالثقة والأمانة وكثرة السماع من عائشة.

ثم ههنا مسلكان:

الأول: ردّ ما قدمناه في الاعتذار عن المتثبتين من القسم الأول.

فنقول: لا يلزم من ثقة أحدهم بمن بينه وبين من سمَّى أن يكون في نفسه ثقة، فلعله قد بان لغيره منه ما لم يَبِنْ له، وعلى فرض أنه ثقة فلعله تبين لغيره منه أنه غلط في تلك الرواية.

مثال ذلك: أن يكون سمعه من عمرة أنها سمعت عن عائشة، فيرويه هو عن عائشة، وتكون عمرة قد غلطت فيه لمّا حدثته عروة، فيكون غلطها إنما يتبين برواية أخرى عنها، فلو رواه عن عمرة عن عائشة لعرفنا غلط عمرة بالمقابلة بروايتها الأخرى، ولما رواه عن عائشة لم يتبين ذلك، بل تترجح رواية عروة لظن أنه سمعه من عائشة، وإذا كان هذا الاحتمال قائمًا فروايته ذلك عن عائشة لا تخلو من الغش وقلة التثبت، وإذ كان الظن به أنه يتحفظ من مثل ذلك، فالظاهر من روايته عن عائشة أنه سمعه منها، وإذ كان الظاهر ذلك فروايته عنها تعرض للكذب، إن لم نقل: إنه كذب. وإنما تخلص المدلسون من الكذب بما قدمنا أن الظن بهم أنهم كانوا أولًا يدلسون ويبينون في المجلس، حتى عُرِف ذلك من شأنهم، فزال الظهور المذكور، وبزواله زال الغِشُّ، وعروة لم يفعل ذلك؛ وإلا لوصفه أهل العلم بأنه يدلس.

ص: 72

فأما الصحابة رضي الله عنهم فقد كان معروفًا عنهم أنهم كثيرًا ما يروون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يسمعوه منه، وإنما سمعوه من غيرهم من الصحابة عنه.

المسلك الثاني: أن لا يتعرض لرد ما قدمناه في الاعتذار من المتثبتين من القسم الأول، ونقول:

[ص 10] [

] تتبعوا روايات التابعين، وبحثوا عنها، وقابلوا بعضها ببعض، فبان لهم من كان قد يقع منه التدليس من غيره، فبينوا ذلك، ولما لم يَصِفْ أحد منهم عروة بالتدليس ثبت عندنا أنه لم يكن يدلس، فأما الإرسال الخفي فقد عرف أنه كان فاشيًا في التابعين، وفُشوُّه يجعله محتملًا من كل أحد منهم، وبذلك يزول الظهور البتة، وبزواله يزول الغش والكذب البتة. والله المستعان.

ص: 73

الرسالة الثانية

فائدة في السِّواك

ص: 75

فائدة في السِّواك

قال ــ عليه أفضل الصلاة والسلام ــ: «لولا أن أَشُقَّ على أمّتي لأمرتُهم بتأخير العشاء وبالسِّواك عند كل صلاة» . متفق عليه

(1)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «السِّواك مَطْهرةٌ للفم مَرْضاة للربّ» رواه الشافعي وأحمد والدارمي والنسائي، ورواه البخاري في صحيحه بلا إسناد

(2)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «ما جاءني جبريلُ ــ عليه السلام ــ قطُّ إلا أمرني بالسِّواك، لقد خَشِيتُ أن أُحْفِيَ مُقدَّمَ فيَّ» . رواه أحمد

(3)

.

وقال صلى الله عليه وسلم: «تَفضُل الصلاة التي يُستاك لها على الصلاة التي لا يُستاكُ لها سبعين ضعفًا» . رواه البيهقي في «شعب الإيمان»

(4)

.

(1)

أخرجه البخاري (887) ومسلم (252) من حديث أبي هريرة بالاقتصار على الجزء الثاني. وأخرجه بتمامه أحمد (7339، 7342) وأبو داود (46) والنسائي (1/ 266، 267) وغيرهم من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه الشافعي في «الأم» (2/ 52) وأحمد (24203، 24332) والدارمي (690) والنسائي (1/ 10) من حديث عائشة. وعلَّقه البخاري قبل الحديث (1934).

(3)

في «المسند» (22269) من حديث أبي أُمامة. وفي إسناده عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد الألهاني، وهما ضعيفان. وأخرجه أيضًا ابن ماجه (289) والطبراني في «الكبير» (7876).

(4)

(6/ 70) ط. الهند، من حديث عائشة. وأخرجه أيضًا أبو يعلى في «مسنده» (8/ 142) وابن عدي في «الكامل» (6/ 399) وابن حبان في «المجروحين» (2/ 309) وفي إسناده معاوية بن يحيى الصدفي، وهو ضعيف.

ص: 77

وقال صلى الله عليه وسلم : «لولا أن أَشُقَّ على أمتي لأمرتُهم بالسّواك عند كل صلاة، ولأخَّرتُ العشاءَ إلى ثلث الليل» . رواه الترمذي

(1)

، وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ أفواهكم طُرُقُ القرآن، فطَيِّبوها بالسِّواك» . قال السيد المرتضى في «شرح الإحياء»

(2)

: «قال العراقي

(3)

: أخرجه أبو نعيم

(4)

من حديث علي، ورواه ابن ماجه

(5)

موقوفًا على عليٍّ، وكلاهما ضعيف. ورواه البزار

(6)

مرفوعاً وإسناده جيّد. قلتُ: وكذا أخرجه السِّجْزي في «الإبانة» من حديث عليٍّ مرفوعاً، ورواه أبو مسلم الكَجِّي في «السنن» ، وأبو نعيم من حديث الوضِيْن، وفي إسناده مَنْدَل وهو ضعيف».

وقوله: «رواه البزار

» إلخ صرَّح به في «شرح التقريب»

(7)

بلفظ: «إن العبد إذا تسوَّك ثم قام يُصلِّي قام الملَكُ خلفه، فيستمع لقراءته، فيدنُو منه أو كلمة نحوها، حتى يضع فاه على فِيه، فما يخرجُ مِن فيه شيءٌ إلا صار في

(1)

رقم (23) من حديث زيد بن خالد الجهني. وأخرجه أيضًا أحمد (17032) وأبو داود (47) والنسائي في «الكبرى» (3041).

(2)

«إتحاف السادة المتقين» (2/ 348).

(3)

في «تخريج الإحياء» (1/ 132).

(4)

في «حلية الأولياء» (4/ 296). وقال: «غريب من حديث سعيد، لم نكتبه إلا من حديث بحر» .

(5)

رقم (291). قال البوصيري في الزوائد: إسناده ضعيف.

(6)

كما في «كشف الأستار» (1/ 242). وسيأتي لفظه والكلام عليه.

(7)

«طرح التثريب» (2/ 66).

ص: 78

جَوْف الملَك، فطَهِّروا أفواهَكم للقرآن». قال: ورجاله رجال الصحيح، إلاّ أنّ فيه فُضَيل بن سليمان النميري وهو وإن أخرج له البخار ي ووثَّقه ابن حبّان فقد ضعَّفه الجمهور

(1)

، فتأمّل.

إذا تأمّلتَ ما مرَّ من الأحاديث علمتَ أنّ أمر السواك أمر مهمٌّ، وقد بيَّن الحديثُ الآخر أقوى علله، وهو أنّه مَطْهرة للفم، وهو طريق القرآن؛ لأن الإنسان لا يخلو من التلفظ بقرآنٍ أو ذكرٍ أو اسمٍ من أسماء الله أو اسمٍ من أسماءِ أنبيائه، وكما أن مسَّ المصحف مع الحدث حرام، وتلطيخه بالنجس المستقذَر حتى الرِّيق إنْ قارنَه استهزاءٌ فكفرٌ وإلاّ فحرامٌ، وكذا تلطيخ الذكر أو اسمٍ من أسماء الله أو اسمٍ من أسماء أنبيائه أو ملائكته ونحوه يَحرُم ذلك في الأماكن النجسة، وعند فعل المحرَّمات ومباشرة النجاسات، ويُكْرَه في الأماكن المستكْرَهةِ، وعند فعل المكروهات ومباشرة سائر المستقذرات، فكان القياس أنّه يحرم القراءة والذكر ونحوها عند تغيُّرِ الفم، لأنّ التلفظ بالقرآن بمنزلة كتابتها بل هو أبلغ، وأمّا مجرّد الرِّيق وما عَسُرَ إزالته من التغيُّر فيُعفَى عنه للضرورة.

(1)

انظر «تهذيب التهذيب» (8/ 292).

ص: 79

الرسالة الثالثة

مسألة

بطلان الصلاة بتغيير الآيات في القراءة

ص: 81

الحمد لله.

الحمد لله حمدًا لا انقطاعَ له أبدًا، فإن إحسانه علينا غير مقطوعٍ عنا، والصلاة والسلام على مولانا محمدٍ رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد، فإنه لمّا كان في يوم الجمعة لأربعٍ خلون من شوال 1339 قرأ إمامُ الصلاةِ في الجمعة بسورتَي الأعلى والغاشية؛ فأبدل لفظ الغاشية بالخاشعة، ففتح عليه الحقيرُ فلم يتنبّه، ثم فتح عليه السيّد الضياء صالح بن محسن الصَّيلمي، وكرّر مرارًا فلم يتنبّه، بل استمرّ على القراءة، فلمّا سلّم قال الصَّيلمي:«أعيدوا الصلاةَ» ، فنازعه السيّد العربي محمد بن حيدر النعمي بأنّه لا يلزم في مذهبهما إعادةٌ في مثل ذلك، ثم قال له:«الإمامُ حاكمٌ وهو شافعيٌّ» .

فسُئِلَ الحقيرُ عن الصلاة في مذهبنا، فقلتُ: صحيحة. فلما كان بعد ذلك قال لي الصَّيلمي: «ما دليل الشافعية على عدم بطلان الصلاة؟» .

فقلتُ له: أمّا صلاتُك أنتَ فقد بطلتْ بمذهبك؛ لأنّ فيه أنّه ليس للمأموم الفتحُ على الإمام في ما زاد على الواجب، وهو منه الفاتحة وثلاث آياتٍ في جميع الصلاة لا في كلِّ ركعةٍ، هذا [مع]

(1)

أنّه كرَّر الردَّ بعد أن تجاوز القارئ الآية بآياتٍ.

فقال: لستُ ملتزمًا للمذهب، يعني: بل مجتهد.

(1)

هنا كلمة غير واضحة. ولعلها ما أثبت أو نحوها.

ص: 83

فقلتُ ــ وعلى تسليم دعواه ــ: إذًا ليس لك أن تناظرني؛ لأنّي مقلّدٌ آخُذُ قولَ إمامي، ولا يلزمني معرفة دليله. لكني أتنازل عن هذا فأقول: لا يلزم إمامي الحجةُ؛ لأنه متمسك بالأصل، وهو عدم البطلان، فالبيّنة عليك. ولكنّي أتنازل عن هذا فأقول: لا يخلو دعوى البطلان إمّا أن تكون لتغيير نظم القرآن، وإمّا للإتيان بكَلِمٍ ليست من القرآن.

أمّا الأول فيدلّ على استصحابِ الأصل فيه حديث عليٍّ عند أبي داود والترمذيّ والنسائي والحاكم

(1)

قال: «صنعَ لنا عبد الرحمن بن عوفٍ طعامًا، فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذتِ الخمرُ منّا وحضرتِ الصلاةُ، فقدّموني، فقرأتُ:(قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون). فأنزل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43].

هكذا ذكره الجلال السيوطي في «أسباب النزول»

(2)

. ولفظ أبي داود بعد السند إلى علي: عن عليٍّ ــ عليه السلام ــ: «أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبد الرحمن بن عوفٍ، فسقاهما قبل أن تُحرَّم الخمر، فأمَّهم عليٌّ في المغرب، فقرأ:(قل يا أيها الكافرون) فخلّط فيها، فنزلت:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} .

والاستدلال بهذا مِن حيثُ إنَّه لم يرد أنّهم أُمِروا بالإعادة، والأصل عدم

(1)

«سنن أبي داود» (3671) والترمذي (3026) و «السنن الكبرى» للنسائي (11041) و «المستدرك» (2/ 307).

(2)

«لباب النقول» (ص 68، 69).

ص: 84

الأمر، بل والظاهر، إذ لو كان لنُقِل. وأمّا قولهم:«الدليل إذا تطرَّقَه الاحتمال سقط به الاستدلال» فليس هذا منه.

فإن قيل: هذا قبل تحريم الكلام في الصلاة.

قلنا: لسنا في الكلام، بل نحن في تغيير النظم، إذ قد يقال: إن تغيير النظم أشدُّ من الكلام الأجنبيّ. وسيأتي بحث الكلام إن شاء الله.

فإن قيل: قد نُسِخ جواز صلاة السكران.

قلنا: نعم، ولكن لم يُنسَخ جواز صلاة من غيَّر النظمَ غيرَ مُتعمِّدٍ، مع أنهم في تلك الصلاة كان التخليط بسببهم؛ إذ الشربُ باختيارهم؛ فصحّة صلاة من خلّط بغير سببٍ منه من باب أولى.

فإن قيل: فإنّما كان نسخ صلاة السكران بسبب التخليط.

قلنا: هذا لا يدل على بطلان الصلاة تلك ولا ما بعدها، فإنه إنما هو تحريم الصلاة مع وجود سبب التخليط، بل سبب (

)

(1)

مُبطل، فإذا وقع سبب آخر للتخليط ليس باختيار المخلّط فهو معذور فيه، مع أنّ التخليط الذي في الحديث فظيعٌ في نفسه، وأمّا المخلِّط فمعذورٌ.

فإن قيل: لم يعد القارئ لتصحيح القراءة؟

قلتُ: ليست القراءة واجبةً حتى تبطل الصلاة لبطلانها، إذِ الواجبُ في مذهبه الفاتحة، وفي مذهب غيره هي وثلاث آياتٍ في عموم الصلاة، وقد قرأ سورة الأعلى في الركعة الأولى، مع أنَّ التخليط هنا لم يكدْ يغيِّر المعنى، ومع ذلك فالحديث لم يرد فيه إعادته القرآن.

(1)

كلمة غير واضحة.

ص: 85

وأمّا الثاني وهو: أن يكون سبب البطلان هو الإتيان بكلمةٍ ليست من القرآن، فلفظُ الخاشعة قد جاءت في القرآن، مع أنَّ إتيانه بها خطأٌ، والكلام الأجنبيُّ لا يبطل صلاة المعذور فيه، سواءً كان جاهلاً أو ناسيًا أو مخطئًا، فقد قال تعالى:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]، وهي دعوة مجابةٌ لجميع الأمة، وفي الحديث:«رُفِع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه»

(1)

.

فإن قيل: رُفِع الإثمُ لا الحكم.

قلنا: كلاّ، ففي مسلمٍ وغيره

(2)

عن معاوية بن الحكم السُّلَمي قال: «بينا أنا أصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذْ عطسَ رجلٌ من القوم؛ فقلتُ: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلتُ: وا ثُكْلَ أُمِّياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون أيديَهم على أفخاذهم، فلمّا رأيتُهم يُصمِّتونني لكنّي سكتُّ، فلمّا صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فبأبي هو وأمّي ما رأيتُ معلِّمًا قبله ولا بعده أحسنَ تعليمًا منه، فوالله ما كَهَرني ولا ضربَني ولا شتمَني، ثم قال: «إنّ هذه الصلاة لا يصلُح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» ، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر الحديث.

(1)

أخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 95) وابن حبان (7219) والدارقطني (4/ 170 ــ 171) والحاكم (2/ 198) والبيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 356) من حديث ابن عباس بلفظ: «إن الله تجاوز عن أمتي

». وإسناده صحيح. وأخرجه ابن ماجه (2045) أيضًا، ولكن في إسناده انقطاع بين الأوزاعي وابن عباس.

(2)

مسلم (537) وأبو داود (930، 931) والنسائي (3/ 14 ــ 18).

ص: 86

والدليل منه أنه تكلّم جاهلاً فلم يأمرْهُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالإعادة، مع وضوح أنّ ذلك كان بعد تحريم الكلام، كما لا يخفى من إنكارِ الصحابة ثم كلامِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا حريٌّ أن يكون مجمعًا عليه؛ لأنّ الجاهل المعذور إذا أتى مبطلاً لا يلزمه الإعادةُ، ومنه أهل قُباء الذين كانوا يصلُّون مستقبلين بيتَ المقدس فأُخْبِروا بتحويل القبلة فداروا كما هم

(1)

فهم قد فعلوا بعضَ الصلاةِ إلى غير القبلة ولم يؤمروا بالإعادة، وأدلّة هذا كثيرةٌ، هذا في الجهل.

وأمّا السهو أو النسيانُ ففيه حديث ذي اليدين المشهور، ولفظ البخاريّ

(2)

فيه: عن أبي هريرة قال: صلّى بنا النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم فساقه. ولمسلمٍ وأحمدَ وغيرهما

(3)

عن أبي هريرة قال: بينما أنا أصلّي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وذو اليدين هذا غير ذي الشمالين الشهيد ببدرٍ، فإنّ هذا عاش بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وحدَّث بهذا الحديث كما عند الطبراني

(4)

.

وإسلامُ أبي هريرة وعمران بن حصين ــ الراوي الآخر ــ متأخّر عن تحريم الكلام، وكذا إسلامُ معاوية بن حُدَيج قبل موته صلى الله عليه وآله وسلم بشهرين، وله حديث عند أبي داود

(5)

بسندٍ صحيحٍ، فيها السهو وخطاب طلحة للنّبي صلى الله عليه وآله وسلم والبناء.

(1)

أخرجه البخاري (40، 399) ومسلم (525) من حديث البراء بن عازب.

(2)

رقم (6051).

(3)

مسلم (573) وأحمد (9444) والنسائي في الكبرى (567).

(4)

في «المعجم الكبير» (4224).

(5)

رقم (1023).

ص: 87

فهذه الأحاديثُ متأخرة عن تحريم الكلام بالإجماع، على قول من قال: إنّ النسخ بمكة، وعلى قول من قال: إن النسخ بالمدينة أوائلَ الهجرة، على أن الصحيح أنه كان بالمدينة، لحديث زيد بن أرقم عند البخاري

(1)

وغيره: «إنْ كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يُكلِّم أحدنا صاحبَه بحاجته، حتى نزلت: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ

} الآية [البقرة: 238]، فأُمِرْنا بالسكوت». والآية مدنية باتفاقٍ.

ولا يعارضه حديث عبد الله عند البخاري

(2)

وغيره أيضًا أنَّه قال: «كنا نُسلِّم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو في الصلاة، فيردّ علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي سلّمنا عليه، فلم يردَّ علينا، وقال: «إنّ في الصلاة لشُغلاً» . فإنّ عبد الله رجع من الحبشة إلى مكة أولاً، ثم رجع إلى الحبشة، ثم رجع إلى مكة في ثلاثة وثلاثين رجلاً، فمات منهم رجلان بمكة وحُبِس منهم سبعة، وتوجّه إلى المدينة أربعةٌ وعشرون رجلاً، فشهدوا بدرًا، ومنهم عبد الله كما في سيرة ابن إسحاق

(3)

، وتضافرت عليه الأحاديث.

مع أن عبد الله وافق زيدًا على أنّ الناسخ: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} كما في البخاري

(4)

، والآية مدنيةٌ باتفاق.

وقد حقّق الحافظ في «الفتح»

(5)

هذا المبحثَ بما لا مزيدَ عليه، وأكثرَ

(1)

رقم (1200).

(2)

رقم (1199).

(3)

انظر «سيرة ابن هشام» (1/ 681).

(4)

رقم (1199، 1200).

(5)

(3/ 74، 75).

ص: 88

من الأدلة على أن تحريم الكلام إنّما كان بالمدينة، فراجعْه إن شئت، فإنّ أكثر ما ذكرناه هنا مأخوذٌ منه.

وفي هذا أوضح حجّةٍ على من قال: إنّ الكلامَ يُبطِل الصلاة ولو سهوًا.

ولا حجّة لهم في قولهم: «كيف يُعذَر الناسي وله حالةٌ تُذكِّره، وهي أقوالُ الصلاة وأفعالها» . فإنَّ هذا لا يصدُقُ على من ظنَّ التمامَ مع أنّ النصّ قد ورد بضدِّ ما قالوه، فإنّ في حديث ذي اليدين أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم تكلّم، وذا اليدين تكلّم، والصحابة تكلّموا.

فإن قيل: في هذه سلّمنا، فكيف بالعقل حالَ مباشرة أفعال الصلاة وأقوالها، فإنّ العلّة موجودةٌ في ذلك ولا نصَّ؟

قلتُ: يُلْحَق ظنُّ التمام بمثله؛ لأنَّه وإن لم تكنِ العلّة المذكورة موجودةً فثَمَّ علّةٌ أخرى وهي عدم الضبط، بل هذه أشدُّ، وحيث لم يعتبر الشرعُ تلك فلا تُعتَبر هذه.

ولا دليل في الحديث لمن قال: «إنّ الكلام لمصلحة الصلاة لا يُبطلها ولو عمدًا» ، ويستدلُّ له بأنّ ذا اليدين والصحابة تكلّموا بعد قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«كلُّ ذلك لم يكن» أو نحو ذلك، فعلموا أن الصلاة لم تُقصَر مع أنّها لم تتمَّ.

فقد أجاب بعضُهم بأن الصحابة لم ينطقوا، وإنما أومَؤوا، كما صرّح به في «سنن أبي داود»

(1)

، ويحمل ما ذكره غيره من القول على المجاز. وهذا وجيهٌ في غير ذي اليدين. وأما هو فأجيبَ عنه وعن غيره بتقدير [

]

(2)

:

(1)

رقم (1008).

(2)

هنا كلمة غير واضحة.

ص: 89

بأنّ إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل ومخاطبته لا تُبطِل، لأنّهم قد كانوا يقولون في التشهد:«السلام عليك أيّها النبي ورحمة الله وبركاته» وهو حيٌّ حاضرٌ.

وأقول: ولو سُلِّم أن خطابه كغيره فلا نُسلِّم أنهم غير معذورين، فإنّهم قد يكونون يظنُّون أن السلام والتحوّل عن القبلة والكلام مُبطِل للصلاة، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيستأنف لهم الصلاة، فهم يظنون أنّهم ليسوا حالَ الكلامِ باقين في حكم الصلاة. لكن حديث معاوية بن حُدَيج ــ المتقدم ذكره ــ فيه خطاب طلحة له صلى الله عليه وآله وسلم[

]

(1)

من هذا الاحتمال بعض الضعف؛ لأنَّ إسلام معاوية قبل موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشهرين، والراجح تأخُّر قضيّته عن قضيّة ذي اليدين، والظاهر أنَّ طلحة كان قد علم أن السهو لا يقطع الصلاة. وإن كان هذان الوجهان ضعيفين فيبقى الجواب الأول، وهو أنّ خطابه عليه الصلاة والسلام لا يُبطِل.

وأمّا الخطأ ــ ومنه واقعتنا الحاضرة ــ فهو بالجهل أشبهُ منه بالنسيان؛ لأنّ علّة من أبطل بالنسيان أن للمصلي حالةً تُذكّره من أفعال الصلاة وأقوالها، وهذا غير موجود في الجهل.

وقد قدَّر أصحابنا الكلام الذي لا يُبطِل سهوه بستِّ كلماتٍ أخذًا من حديث ذي اليدين، وحجّتهم أنّ ظاهر النصِّ والقياس إبطال الكلام مطلقًا كما هو مذهب الحنفية، وقد مرّ توجيهه وما فيه. فلمّا ورد النصُّ بخلاف ذلك لزِمَ قصْرُه حيث ورد. وهذا مثل قولهم في المدة التي لا يجوز للمسافر أن يقصر فيها إذا مكث بمنزلٍ ولم ينوِ إقامةَ أربعةِ أيام كواملَ، لأن ظاهر

(1)

هنا كلمة غير واضحة.

ص: 90

حديث: «يقيم المهاجر [بمكة] بعد قضاء نسكه ثلاثًا» ــ متفق عليه ــ

(1)

على أن الثلاث لا تقطع السفر، وأفهمَ أنّ الأربعة تقطعه، ويلحق نيّةَ الإقامة الإقامةُ بالفعلِ. وحديث «الصحيحين»

(2)

عن أنس في القصر، وفيه: قال: «أقمنا بها عشرًا» أي بمكة، قالوا: العشر بمكة وضواحيها، والتي بمكة نفسها أربعة أيام.

فلما رُدَّ بإقامته صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية عشر يومًا يقصُر، حملوه على أنه لم يَنْوِ ذلك، بل كان متردّدًا متى [

]

(3)

داع الحاجة يرحل.

وقد يقال عليه: إن المسافر لا يسلب اسم السفر حتى يرجعَ إلى أهله، أو يستوطنَ بلدًا آخر، أو يقيمَ فيه مدةً تسلُبه اسمَ السفر عُرفًا، والأدلةُ علَّقتِ القصرَ باسم السفر، فما دام اسمُ السفر موجودًا فالقصر مشروع.

وأمّا دليلا الأربعة أيام فلم يدلاّ على سلب اسم السفر [

]

(4)

، أنّ الأول يدلُّ على أنّ الأربعة أيام ترفع حكم السفر؛ لأنّ المهاجر حُرِّم عليه طولُ المكث بمكة لحكمةٍ أخرى.

وأمّا حديث أنس فلا دليلَ فيه، لأنّه من جملة وقائع الأحوال، ثم عثرت على كلام لابن القيم، وفي هذا خلافٌ طويل بين السلف، وكذا في مسافة القصر، والظاهر أنها ما يسمّى سفرًا للآية وهي على إطلاقها. ثم السفر ليس

(1)

البخاري (3933) ومسلم (1352) ــ واللفظ له ــ من حديث العلاء بن الحضرمي.

(2)

البخاري (1081) ومسلم (693).

(3)

هنا كلمة غير مقروءة.

(4)

هنا كلمة غير واضحة ولعلها: سُلِّم.

ص: 91

مجملاً حتى يُبيَّن بما يرد من الأحاديث، بل هو مطلق في كل سفر، ولا يُقيَّد بما ورد من فعله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنّ الأفعال وقائعُ أحوال، ولا دليلَ على أنه لو وقعَ دونها في المسافة أو فوقَها في مُدّة اللبثِ لأتمّ، فتأمّلْ.

وهذا بعدما تصفحَّتُ الأحاديث المستدلَّ بها في ذلك؛ فلم أرَ فيها ما يصحُّ الاحتجاجُ به، ولكنّي تعظَّمتُ هذه العبارة حتى عثرتُ على قول ابن القيّم في «زاد المعاد»

(1)

: «ولم يَحُدَّ صلى الله عليه وآله وسلم لأمته مسافةً محدودةً للقصر والفطر، بل أطلق لهم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض، كما أطلق لهم التيمّم في كلِّ سفرٍ، وأمّا ما يُروى عنه [من التحديد باليوم أو]

(2)

اليومين أو الثلاثة فلم يصحَّ عنه فيها شيءٌ البتة، والله أعلم».

وإن كان قوله: «كما أطلق لهم التيمُّم في كلِّ سفرٍ» لا حجَّة فيه؛ لأنَّ العلة في التيمُّم عدمُ الماء، وإنّما خرج السفر مخرجَ الغالب، وأمّا في القصر فالعلّةُ في نفس السفر.

وأمّا تحديد الكلام بالستِّ كلماتٍ فيقال: (التي دلَّ الحدُّ عليه)

(3)

السهو سهوان كما تقدّم، إمّا أن يكون في أثناء الصلاة فيغفل عنها، ويتكلّم بكلامٍ غير مُبطِلٍ وإن كثرُ ما دام معذورًا

(4)

، فيه للنصِّ.

فإن قيل: سلّمنا أنه قد خرج من الصلاة مثلاً، فله الكلام (على الأخير

(1)

(1/ 463).

(2)

سقطت من الأصل، استدركناها من «الزاد» .

(3)

هكذا وجدت، وقبلها كلام قد خُط عليه.

(4)

فوق هذه الكلمة كُتب: «وإما أن يكون بطل» .

ص: 92

بقدر الحاجة)

(1)

، في الأخير للنصِّ، فكيف يُلحق الأول به مع أنّ فيه تقصيرًا ليس في الثاني، وهو أنَّ له حالةً تذكّره؟

قلنا: وقد يقال: وفي الثاني تقصير أيضًا، وهو عدم الضبط مع إمكانه لولا السهو، فلمّا لم يعتبر الشارع عدم العذر فلا نعتبره. وأمّا كونه ستَّ كلماتٍ أو أقلَّ أو أكثرَ فواقعةُ حالٍ لا يُقيَّد بها الحكمُ، ولا دليلَ على أنَّه يُبِطل ما فوقها، وهذا لا غبار عليه إن شاء الله تعالى.

فإن قيل: التقصير حاصلٌ لعدم الضبط.

قلنا: لا تقصيرَ في ذلك يوجب العقوبة؛ إذ قد وقع ذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم وإن اختلف السبب.

وأمّا ما أشرنا إليه سابقًا أن مذهب الهدويّة

(2)

أنّ الفتح على الإمام إنّما جاز للضرورة، وهم بَنَوا قولهم على أنّ القراءة مع قراءة الإمام مُبطِلة، ولعمري إنّه لظاهر قوله تعالى:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، نزلت في القراءة خلف الإمام، وقيل: في الكلام والإمام يخطب، وأُطلِق القرآنُ على الخطبة مجازًا، وقيل: في الكلام في الصلاة؛ فعلى هذا تكون ناسخةً لجواز الكلام.

وفي حديث مسلمٍ

(3)

وغيره: «وإذا قرأ فأنصتوا» يعني الإمامَ، وأحاديث

(1)

هذه العبارة وجد عليها بعض الضرب.

(2)

كذا في الأصل، والصواب:«الهادوية» نسبة إلى الهادي.

(3)

رقم (404) من حديث أبي موسى الأشعري. وأخرجه أيضًا أحمد (19723) وأبو داود (973) والنسائي (2/ 242) وابن ماجه (847). قال أبو داود: قوله «فأنصتوا» ليس بمحفوظ، لم يجئ به إلا سليمان التيمي في هذا الحديث. وأعلَّه كذلك الدارقطني في «العلل» (7/ 254) وأبو علي النيسابوري كما في «السنن الكبرى» للبيهقي (2/ 156). وقد رُوي أيضًا من حديث أبي هريرة، أخرجه أبو داود (604) والنسائي (2/ 141، 142) وابن ماجه (846)، قال أبو داود:«وهذه الزيادة «وإذا قرأ فأنصتوا» ليست بمحفوظة، الوهم من أبي خالد». وتكلم فيه أيضًا ابن معين وأبو حاتم الرازي والدارقطني والبيهقي، انظر «سنن» الدارقطني (1/ 329) والبيهقي (2/ 156) ولكن صححه مسلم في صحيحه (1/ 304) دون أن يخرّجه.

ص: 93

كثيرة يُخصِّصها حديث أبي داود والترمذي والنسائي

(1)

عن عبادة بن الصامت قال: كنّا خلفَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الفجر، فقرأ فثقُلَتْ عليه القراءة، فلما فرغ قال:«لعلكم تقرأون خلف إمامكم؟ » قلنا: نعم يا رسول الله. قال: «لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بها» .

وفي روايةٍ لأبي داود

(2)

: «وأنا أقول مالي ينازعني القرآن، فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرتُ إلا بأمّ القرآن» .

مع عموم الأدلة المُلزِمة بقراءة الفاتحة.

وفي «أسباب النزول»

(3)

: «وأخرج ابن أبي حاتم

(4)

عن الزهري قال: نزلت هذه الآية يعني قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ

} الخ في فتًى من الأنصار كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كلّما قرأ شيئًا قرأه».

(1)

أبو داود (823) والترمذي (311) والنسائي (2/ 141). وقال الترمذي: حديث حسن.

(2)

رقم (824).

(3)

«لباب النقول» (ص 105، 106). وانظر «الدر المنثور» (6/ 721).

(4)

وأخرجه أيضًا الطبري في «تفسيره» (10/ 659).

ص: 94

وقال سعيد بن منصور في «سننه»

(1)

: حدثنا أبو معشر عن محمد بن كعب قال: «كانوا يتلقَّفون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذا قرأ قرأوا معه، حتى نزلت هذه الآية التي في الأعراف:{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .

فهذا دليلٌ على أنّهم كانوا يقرأون غير الفاتحة.

وفي حديث أبي داود

(2)

: «فجاء رجلٌ فقرأ خلفه بسبح اسم ربّك الأعلى» .

وفي حديث أبي هريرة عند مالكٍ وأحمد وأبي داود والترمذي والنسائي، ولابن ماجه نحوه

(3)

: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انصرف من صلاةٍ جهرَ فيها بالقرآن، قال: «هل قرأ معي أحدٌ منكم؟ » فقال رجلٌ: نعم يا رسول الله، قال:«إني أقول مالي أُنازَع» . قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

قال بعضهم: لعلّ هذا هو الناسخ لما تقدّم، يعني حديثَ عبادة ونحوه؛ لأنّ أبا هريرة متأخر الإسلام.

قلتُ: هذا باطلٌ من وجوه:

أولاً: دعوى النسخ مع إمكان الجمع، بل الجمع هو الظاهر، فالقصة واحدةٌ، وإنّما زاد عبادة:«إلا بأمّ القرآن» ، وهي زيادة ثقةٍ مخصِّصةٌ لعموم

(1)

رقم (978 ــ تفسير).

(2)

رقم (828) من حديث عمران بن حصين.

(3)

«الموطأ» (1/ 86) و «مسند» أحمد (7270) و «سنن» أبي داود (826) والترمذي (312) والنسائي (2/ 141) وابن ماجه (848).

ص: 95

الحديث، أو مقيِّدةٌ لإطلاقه، مع أن حديث عبادة أصله في الصحيحين

(1)

بلفظ: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» .

وأمّا اختلاف العبارتين فهذا من الرواية بالمعنى، وهو واضحٌ، وممّا يدلُّك على ذلك حديث أبي هريرة عند مسلمٍ

(2)

وغيره قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من صلَّى صلاةً لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خِداجٌ، ثلاثًا، غير تمامٍ» . فقيل لأبي هريرة: إنّا نكون وراء الإمام؟ قال: اقرأْها في نفسك، فإنّي سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «قال الله تعالى: قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل

» الحديث.

واستدلالُ أبي هريرة به من حيث إنّه قال: «قسمتُ الصلاة» ، ثم فسَّرها بالفاتحة، فدلّ على أنّ الفاتحة هي الجزء الأهمُّ في الصلاة، كما في قوله:«الحجُّ عرفة»

(3)

، فكيف يخفى عليه أن الحديث الذي رواه ناسخٌ لغيره؟ مع أنّ الحديث الذي رواه وذكرناه آنفًا هو عين حديث عبادة، إلا أنّه في حديث عبادة تلك الزيادة.

وقوله: «لا صلاة

» إلخ، النفي واقع على الذات، لأن ألفاظ الشارع محمولة على عُرفه، ولا يسمّى عنده صلاة إلا الصحيح المجزئ، فغير الصحيح المجزئ لا يسمّى عنده صلاة، فنفيه حقيقةٌ، ولو سُلِّم امتناع انتفاء

(1)

البخاري (757) ومسلم (394).

(2)

رقم (395). وأخرجه أيضًا أبو داود (821) والترمذي (2953) والنسائي (2/ 135).

(3)

أخرجه أبو داود (1949) والترمذي (889) والنسائي (5/ 264) وابن ماجه (3015) من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي. وإسناده صحيح.

ص: 96

الذات فأقرب المجازات الصحة والإجزاء، وهذا واضح لا غبار عليه، مع ورود أحاديث كثيرة تنصُّ على وجوبها وبطلان الصلاة عند عدمها.

وبهذا ــ ولله الحمد ــ تقرّر أن الفاتحة لا بدّ منها للإمام والمأموم في كل ركعة، لحديث المسيء صلاته

(1)

، وفيه:«ثم اقرأْ بما تيسَّر معك من القرآن» ، فعلَّمه إلى تمام ركعة، وقال في آخره:«ثم افعلْ ذلك في صلاتك كلها» . وفي رواية لأحمد وابن حبان

(2)

: «ثم افعلْ ذلك في كل ركعة» .

وقد تحقَّق من حديث عبادة أن الفاتحة لا تصحُّ الصلاة إلا بها، فتكون هي الذي تيسَّر، وإذا لم يُسلَّم هذا فلا أقلّ من ثبوت وجوب ما تيسَّر في كلّ ركعة، ثم عيَّن حديثُ عبادة وحديثُ أبي هريرة الفاتحةَ، فتكون هي بمكان ما تيسَّر، وذلك في كلّ ركعةٍ، كذا قالوه.

وبعدُ، فقد تقرّر أن الرجل المسيء صلاته هو خلاّد بن رافع الأنصاري، كما ذكره ابن حجر وبيَّن مستنده في ذلك في «الفتح»

(3)

، وخلاّد استشهد ببدرٍ، فدلّ على أنه كان أولَ الأمر يكفي في القراءة ما تيسر من القرآن: الفاتحةُ أو غيرها، ثم أوجبت الفاتحة، وعلى هذا يدلُّ حديث أبي داود

(4)

عن أبي سعيد قال: «أُمِرْنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسَّر» ، وعن أبي هريرة

(5)

قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اُخرجْ فنادِ في المدينة أنّه لا صلاة

(1)

أخرجه البخاري (757) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة.

(2)

«مسند أحمد» (18995) و «صحيح ابن حبان» (1787) من حديث رفاعة الزرقي.

(3)

(2/ 277).

(4)

رقم (818).

(5)

عند أبي داود (819).

ص: 97

إلا بقرآنٍ، ولو بفاتحة الكتاب فما زاد». وفي روايةٍ

(1)

: «أن أناديَ أنه لا صلاة إلا بقرآنٍ: فاتحة الكتاب فما زاد» .

فهذا يشير إلى النسخ؛ لأنّ النداء لا يكون إلا في أمرٍ تجدّد، لأنَّ إسلام أبي هريرة متأخّر جدًّا، ويستحيل أن يكون مَضَت تلك المدّة الطويلة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُعلِمِ الناسَ بوجوب قراءة الفاتحة حتى يحتاج في إعلامهم حينئذٍ إلى نداءٍ إلا وهي لم تكن واجبةً، وهذا ــ إن شاء الله ــ مُتَّجهٌ.

وقد يقال: هذه الأحاديث دلّت على وجوب قدر زائدٍ على الفاتحة.

فنقول: قال الحافظ في «الفتح»

(2)

: «وتُعقِّب بأنّه ــ أي قوله: «فصاعدًا» ــ ورد لدفع توهّم قصر الحكم على الفاتحة، قال البخاريّ في «جزء القراءة»

(3)

: وهو نظير قوله: «تُقطَع اليدُ في رُبع دينارٍ فصاعدًا»

(4)

، وفي حديثٍ لأبي هريرة موقوفًا

(5)

: «وإن لم تزِدْ على أمّ القرآن أجزأتَ» ، ولابن خزيمة

(6)

من حديث ابن عبّاس أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم قام فصلّى ركعتين لم يقرأ فيهما إلا بأمّ الكتاب.

واعلم أنّ الأدلة تُعطِي أنّ القراءة إذا جهر الإمام حرامٌ إلا بالفاتحة،

(1)

عند أبي داود أيضًا (820).

(2)

(2/ 243).

(3)

(ص 48) بتخريجه «تحفة الأنام» .

(4)

أخرجه البخاري (6789) ومسلم (1684) من حديث عائشة.

(5)

أخرجه البخاري (772).

(6)

في «صحيحه» (513).

ص: 98

وكذا الدعاء، فإنّ ظاهر الآية الوجوب، وقد قال:«فأنصِتوا» ، وظاهر النهيّ التحريم، وقد قال:«لا تفعلوا» و «فلا تقرأوا» وغير ذلك، لكنّه يجوز قول:«سبحان ربي الأعلى» عند قراءة الإمام: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} لوروده

(1)

.

فأمّا قول: «وأنا على ذلك من الشاهدين» بعدَ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8]، وقول:«بلى» بعدَ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، و «آمنا بالله» بعد {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50] فذلك بعد تمام القراءة، فهو بمنزلة التأمين.

نعم، أمّا الدعاء عند آيات الثواب والاستعاذة عند ذكر العذاب، فإن دعا الإمام فللمأموم الدعاء؛ لأنّ الإمام حينئذٍ ليس في قراءة.

وأمّا من قال: «إن الآية نزلت في الكلام في الخطبة» ــ وهو الذي يميل إليه المفسِّرون ــ فهو موافقٌ لحديث: «من قال لصاحبه يوم الجمعة والإمام يخطب «صَهْ» فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له»

(2)

. وعليه فالظاهر وجوب الإنصات إلا إذا كان الكلام لمصلحة الخطبة، كما في حديث الذي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يخطب بقوله:«متى الساعة؟ » فقال: «ما أعددتَ لها؟ »

(3)

. فافهم.

(1)

أخرجه أحمد (2066) وأبو داود (883) من حديث ابن عباس.

(2)

أخرجه أبو داود (1051) من حديث علي بن أبي طالب، وإسناده ضعيف.

(3)

أخرجه البخاري (3688، 6167، 6171، 7153) ومسلم (2639) من حديث أنس بن مالك. وليس فيه أنه سأله وهو يخطب. بل في بعض طرقه أنه سأل والنبي صلى الله عليه وسلم كان خارجًا من المسجد.

ص: 99

وهل النفخُ والتنحنح ونحوه يُعدُّ كلامًا يُبطِل الصلاة؟ الأصحُّ عند أصحاب الشافعيّ: نعم، والصحيح هو الصحيح، والله أعلم.

ص: 100

الرسالة الرابعة

هل يدرك المأموم الركعة بإدراكه الركوع

مع الإمام

ص: 101

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصلَّى الله وسلَّم على محمد وآله وصحبه.

أما بعد، فإن الأخ العلامة الشيخ محمد عبد الرزاق حمزة المدرس بالمسجد الحرام، ومدير دار الحديث ــ عافاه الله ــ، أَطلَعني على رسالته المحررة في اختيار إدراكِ المأموم الركعةَ بإدراكه الركوعَ مع الإمام، وأشار عليَّ أن أكتبَ ما يظهر لي في هذه المسألة، فأستعين الله تبارك وتعالى وأقول:

قال البخاري في "جزء القراءة"

(1)

: "والقيام فرضٌ في الكتاب والسنة، قال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ} [المائدة: 6]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستطعْ فقاعدًا"

(2)

". وبسط الكلامَ في تثبيت فرضية قراءة الفاتحة في كل ركعة حتى على المأموم، وساق في موضعٍ آخرَ الأحاديثَ في وجوب قضاء المسبوق ما فاته، ولم يُنازِعْه الشيخ إلا في هذه القضية، فظاهرُ صنيعهِ أنه يُسلِّم ما استدلَّ به البخاري على فرضية القيام

(3)

، وعلى فرضية قراءة الفاتحة في كل

(1)

(ص 283 ــ 285) بتخريجه "تحفة الأنام".

(2)

أخرجه البخاري في "صحيحه"(1117) من حديث عمران بن حصين.

(3)

إذا كان الإمام في الركوع فكبَّر المسبوق للإحرام قائمًا لا يُعدُّ هذا إدراكًا منه للقيام الذي هو الركن، كيف وقد فاته بفوات قيام الإمام؟ وإنما هذا قيام يشترطونه لتكبيرة الإحرام حتى فيمن أدرك الإمام ساجدًا، وقيام الركن شأنه الطول، قال تعالى:{وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} ، وأقلُّ ما يُقدَّر طوله بقراءة الفاتحة، فأما التكبيرة فالشأن أن تتأخر تكبيرة المأموم ولو كان غير مسبوق، وليس القيام كذلك، وأيضًا فإنه شُرِع للمسبوق أن يدخل في الصلاة على أي حال كان الإمام، فقد لزمه في ذلك أن يشرع له تكبيرة الإحرام، إذ لا يدخل في الصلاة إلا بها، وليس قيام الركن كذلك. [المؤلف].

ص: 103

ركعة حتى على المأموم

(1)

، وعلى فرضية قضاء ما فات، مع أن تلك الأدلة تتناول هذه القضية [أيضًا، فجعلها] مستثناةً من ذلك العموم.

ويتلخَّص من كلامه الاحتجاجُ على هذا التخصيص

(2)

بأمور:

الأول: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا جِئتُم إلى الصلاة ونحن سجودٌ فاسجدوا ولا تَعُدُّوها شيئًا، ومن أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة". قال الشيخ: "سكت عليه أبو داود

(3)

والمنذري، واحتجَّ به ابن خزيمة في "صحيحه"

(4)

.... ".

(1)

من لم يقل بفرضيتها على المأموم قد يكون لقوله وجه فيما إذا خصَّ ذلك بالجهرية وبالمأموم الذي يسمع قراءة الإمام، فإن استماعه يمكن أن يقال: إنه نابَ منابَ قراءته، ودون هذا من يقول بعدم فرضيتها على المأموم ولو لم يسمع قراءة الإمام، إذا كان عند قراءة الإمام قائمًا معه في الصلاة، فقد يقال: إن احتباسه مع الإمام والإمام يقرأ ربما يقوم مقام قراءته، والمسبوق خارج عن هذا كله. [المؤلف].

(2)

في المطبوع: "التلخيص". ولعل الصواب ما أثبته كما يظهر من السياق.

(3)

رقم (893).

(4)

رقم (1622).

ص: 104

الثاني: ابن وهب: حدثني يحيى بن حميد عن قُرَّة بن عبد الرحمن عن ابن شهاب الزهري، أخبره أبو سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدركها قبل أن يُقيمَ الإمامُ صُلْبَه"

(1)

. قال الشيخ: "أخرجه الدارقطني وابن خزيمة

(2)

محتجًّا على أن من أدرك الركوع مع الإمام أدرك الركعة".

الثالث: حديث مالك عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدركها"

(3)

.

الرابع: الحسن البصري عن أبي بَكْرة: أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركع قبل أن يَصِلَ إلى الصفّ، فذَكَر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"زادك الله حِرْصًا ولا تَعُدْ". أخرجه البخاري في "صحيحه"

(4)

، وذكروا أنَّ فيه

(5)

دلالتين:

الأولى: لولا أن أبا بكرة كان يرى أنه بإدراكه الركوعَ يدرك الركعة لما بادر إلى الركوع قبل أن يبلغ الصفَّ.

(1)

هكذا في "سنن" الدارقطني (ص 132)، وهكذا في "سنن" البيهقي (2/ 89)، وهكذا نقله الشيخ عن "تلخيص الحبير" عن ابن خزيمة. وذكره الشيخ في تعداد الأدلة بلفظ:"من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يقيم الإمام صلبَه فقد أدرك الركعة". [المؤلف]

(2)

"سنن الدارقطني"(1/ 346، 347)، و"صحيح ابن خزيمة"(1595).

(3)

أخرجه بهذا الطريق البخاري (580) ومسلم (607).

(4)

رقم (783).

(5)

في المطبوعة: "أفيه".

ص: 105

الثانية: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ أبا بكرةَ على السلام معه، ولم يأمره بإتمامٍ ولا إعادة.

الخامس: أشار الشيخ إلى دليل خامس، وهو: أنه ثبت عن جماعة من الصحابة القولُ بالإدراك، ولم يتحققْ عن أحدٍ منهم خلافهُ، وتَبِعَهم الجمهور.

* * * *

ص: 106

النظر في هذه الأمور

أما الحديث الأول: فتفرَّد به يحيى بن أبي سليمان، رواه عن زيد بن أبي عتّاب وسعيد المقبري عن أبي هريرة. ويحيى هذا قال فيه البخاري

(1)

: "منكر الحديث، روى عنه أبو سعيد [عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد] مولى بني هاشم وعبدُ الله بن رجاء البصري مناكير، [يعني: وهما ثقتان، فالحمل في تلك المناكير على يحيى]، ولم يتبينْ سماعه من زيدٍ ولا من ابن المقبري به".

ومذهب البخاري وشيخِه ابن المديني أن ذلك في حكم المنقطع، وجرى المتأخرون على هذا المذهب ونسبوه إلى المحققين، وخالفهم مسلم، فذكر في مقدمة "صحيحه"

(2)

أنه يكتفي بثبوت المعاصرة وإمكانِ اللقاء والسماع، لكن في سياق كلامه وفحواه ما يدلُّ أن مراده الإمكان البيِّن، وقد شرحتُ ذلك في موضع آخر

(3)

.

وقال أبو حاتم

(4)

في يحيى هذا: "مضطرب الحديث ليس بالقوي، يكتب حديثه"، وقال البيهقي في "المعرفة"

(5)

في هذا الحديث: "تفرد به

(1)

في "جزء القراءة خلف الإمام"(ص 380). والزيادات بين المعكوفتين من المؤلف للإيضاح.

(2)

(1/ 29، 30).

(3)

انظر (ص 64 وما بعدها).

(4)

انظر "الجرح والتعديل"(9/ 155).

(5)

"معرفة السنن والآثار"(3/ 9).

ص: 107

يحيى بن أبي سليمان هذا، وليس بالقوي". كذا في "التعليق على الدارقطني" (ص 132)

(1)

.

وذكر البيهقي هذا الحديث في "السنن"(ج 2 ص 89) ثم قال: "تفرد به يحيى بن أبي سليمان المدني، وقد رُوِي بإسنادٍ آخر أضعف من ذلك عن أبي هريرة"، ثم ساق الحديث الآتي.

وذكر الذهبي يحيى هذا في "ميزانه"

(2)

، وذكر له حديثًا آخر، كأنه استنكره.

وقال ابن خزيمة بعد أن أخرج في "صحيحه"

(3)

هذا الحديث: "في القلب شيء من هذا الإسناد، فإني لا أعرف يحيى بن أبي سليمان بعدالة ولا جرح، وإنما أخرجتُ خبره لأنه لم يختلف فيه العلماء". كذا في "تهذيب التهذيب"

(4)

.

وظاهر هذا أن ابن خزيمة لم يكن حين كتب هذا يعرف اختلافًا في إدراك الركعة بإدراك الركوع، ثم كأنه اطلع بعدُ على الخلاف، فرجع إلى القول بعدم الإدراك، فقد نقلوا ذلك عنه. والله أعلم.

ويعارض ما تقدم أن أبا داود أخرج الحديث في "سننه"

(5)

وسكت

(1)

"التعليق المغني على سنن الدارقطني"(1/ 349) ط. عبد الله هاشم يماني.

(2)

"ميزان الاعتدال"(4/ 383).

(3)

(3/ 58).

(4)

(11/ 228).

(5)

رقم (893).

ص: 108

عليه، وقد قال في "رسالته إلى أهل مكة"

(1)

: "ما كان في كتابي من حديثٍ فيه وهنٌ شديد فقد بينتُه، ومنه ما لا يصلح سنده، وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح". وأن المنذري سكت عنه كما ذكر الشيخ، وأن ابن حبان ذكر هذا في "ثقاته"

(2)

، وأن شعبة روى عنه، كما في ترجمة يحيى من "التهذيب"

(3)

، وقد ذكروا شعبة فيمن لا يروي إلا عن ثقة، وأن الحاكم أخرج هذا الحديث في "المستدرك"(ج 1 ص 216)، وقال:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويحيى بن أبي سليمان من ثقات المصريين".

فأما سكوت أبي داود فإنما يدلُّ أنه يرى أن هذا الحديث ليس فيه وهن شديد، وهذا هو مراده بقوله "صالح"، على أنه إنما ذكره

(4)

في "باب الرجل يُدرِك الإمام ساجدًا كيف يصنع"، فلعل مراده أنه ليس فيه وهنٌ شديد بالنسبة إلى ذلك الباب، لأن ذاك الحكم متفق عليه، فلا يلزم من هذا أنه ليس فيه وهن شديد مطلقًا.

وقد عُرِف من تصرفات البخاري في "صحيحه" ما يُشبِه هذا، فإنه ربما يذكر الحديث في غير مظنته، ويُعرِض عنه في مظنته حيث يترجَّح له في تلك المظنّة خلافُ ذلك الحديث، كأنه يرى أنه صحيح حيث ذكره لا في مظنته.

وأما ابن حبان فإنه يذكر في "الثقات" كل من رَوى عن ثقة وروى عنه

(1)

(ص 69، 70) ط. المكتب الإسلامي سنة 1417.

(2)

(7/ 604).

(3)

(11/ 228).

(4)

في المطبوع: "أنكره" تحريف.

ص: 109

ثقة، ولم يجد له منكرًا خرج هو بذلك من

(1)

الثقات

، فتوسَّع، كما شرحتُه في ترجمته من "التنكيل"

(2)

، وأوضحتُ هناك ما يُوثَق به من توثيق ابن حبان مما لا يُوثَق به

من الثاني

(3)

، كما يُعلم مما شرحتُه هناك.

وأما ما

(4)

في ترجمة يحيى هذا من "التهذيب": أن شعبة روى عنه

ثقة"، فإن ابن حجر التزم أن يذكر في ترجمة شعبة جميعَ شيوخه

(5)

، ولم يذكر فيهم يحيى هذا، وإنما ذكر أبا بَلْج يحيى بن أبي سُليم، وهو رجل آخر، فأخشى أن يكون وقع اشتباه.

ومع ذلك ففي "فتح المغيث" للسخاوي (ص 134)

(6)

: "من

(7)

كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر: الإمام أحمد، وشعبة

وذلك في شعبة على المشهور

، وإلا فقد قال عاصم بن علي: سمعتُ شعبة يقول: لو لم أحدِّثْكم إلا عن ثقةٍ لم أحدِّثْكم عن ثلاثة

(8)

وفي نسخة ثلاثين

(9)

، وعلى كل حال فهو لا يروي عن متروك ولا عمن أُجمِع على ضعفه".

(1)

في المطبوع: "في".

(2)

(1/ 450، 451).

(3)

كذا في المطبوع، ولم أعرف وجه الصواب.

(4)

"ما" ساقطة من المطبوع.

(5)

انظر "تهذيب التهذيب"(4/ 338 ــ 343).

(6)

(2/ 42) ط. الجامعة السلفية.

(7)

في "فتح المغيث": "ممن"، وفي هامشه إشارة إلى أن في بعض النسخ:"من".

(8)

انظر "حلية الأولياء"(7/ 156) و"سير أعلام النبلاء"(7/ 209).

(9)

انظر "الكفاية" للخطيب (ص 90).

ص: 110

وأما "مستدرك" الحاكم فقد عُرِف أن فيه تخليطًا كثيرًا، وتساهلاً في التصحيح وفيما يقع فيه من التوثيق، وقد شرحتُ ذلك في ترجمة الحاكم من "التنكيل"

(1)

.

وقد ذكر هو يحيى هذا في موضع آخر، واقتصر على قوله:"يحيى مدني سكنَ مصر، لم يُذكَر بجرح"، ذكر ذلك ابن حجر في "التهذيب"

(2)

، وقال:"كأنه جعله مصريًّا لرواية أهل مصر عنه"، يعني: والمعروف أنه مدني سكن البصرة، فأما رواية بعض المصريين عنه فكأنهم لَقُوه بالمدينة أو بالموسم أو نحو ذلك، وكفى بكلمة البخاري جرحًا، وقد جاء عنه أنه قال:"كل من قلتُ فيه منكر الحديث لا تحلُّ الرواية عنه". انظر "فتح المغيث" طبع الهند (ص 162)

(3)

.

ومما يُوضِّح وهنَ هذا الحديث أن يحيى هذا تفرَّد به عن رجلين معروفين، أحدهما ــ وهو سعيد المقبري ــ مشهور جدًّا، فكيف يُقبَل من مثل يحيى مثلُ هذا التفرد؟

وأما الحديث الثاني: فتفرَّد به يحيى بن حُميد بن أبي سفيان المعافري المصري، رواه عن قُرَّة بن عبد الرحمن بن حَيْوِيل

(4)

عن الزهري عن أبي

(1)

(1/ 472، 473).

(2)

(11/ 228).

(3)

(2/ 125) ط. الجامعة السلفية. وانظر "ميزان الاعتدال"(1/ 6) و"لسان الميزان"(1/ 220).

(4)

في المطبوع: "جبرئيل" تحريف.

ص: 111

سلمة عن أبي هريرة. ويحيى بن حميد هذا قال فيه البخاري

(1)

: "مجهول لا يُعتَمد على حديثه"، وضعفه الدارقطني

(2)

، وذكره "العقيلي"

(3)

في الضعفاء، وتقدم عن البيهقي أن هذا الحديث أضعفُ من سابقه. وقال ابن يونس في "تاريخ مصر"

(4)

: "أسند حديثًا واحدًا، وله مقطعات". وقال ابن عدي

(5)

: "تفرد بهذه الزيادة، ولا أعرف له غيره".

أقول: وإذا لم يكن له غير هذا الحديث، وقد تفرد به، فكيف يُقبَل؟

فإن قيل: فقد ذكره ابن حبان في "الثقات"

(6)

، وأخرج ابن خزيمة حديثه هذا في "صحيحه".

قلت: أما "ثقات" ابن حبان فقد تقدم ما فيها، وأما ابن خزيمة فإنه يُخرج في "صحيحه" للمجهول إذا لم يَستنكِرْ حديثَه، وكأنه لم يَستنكر هذا لأنه عند كتابة الصحيح كان يرى الإدراك متفقًا عليه بين أهل العلم، كما تقدم في الكلام على الحديث الأول.

ومع هذا فقُرَّة بن عبد الرحمن فيه كلام

(7)

، قال الإمام أحمد:"منكر الحديث" وقال ابن معين: "ضعيف الحديث"، وقال أبو زرعة: "الأحاديث التي

(1)

في "جزء القراءة"(ص 351، 352).

(2)

انظر "ميزان الاعتدال"(4/ 370) و"لسان الميزان"(8/ 431).

(3)

(4/ 398).

(4)

نقل عنه في "لسان الميزان"(8/ 432).

(5)

"الكامل"(7/ 228).

(6)

(9/ 251).

(7)

انظر أقوال النقاد فيه في "تهذيب التهذيب"(8/ 373، 374).

ص: 112

يرويها مناكير"، وأخرج له مسلم في "صحيحه"

(1)

مقرونًا بآخر، ولعل اعتماده كان على ذاك الآخر، وذكره ابن حبان في "الثقات"

(2)

وأشار إلى لينٍ فيه.

نعم، قوله أولَ الحديث:"من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدركها" معروفٌ صحيحٌ، كما يأتي في الحديث الثالث، وإنما المنكر زيادته:"قبل أن يُقيمَ الإمام صُلبه". وقد دفع البخاري في "جزء القراءة"

(3)

هذه الزيادة بأن مالكًا وجماعة من الأئمة رووا الحديث عن الزهري بسنده ولم يذكروا هذه الزيادة، قال

(4)

: "وقوله: قبل أن يُقيمَ الإمامُ صلبه، لا معنى له ولا وجهَ لزيادته".

يعني أن معنى الحديث في رواية مالك والأئمة: من أدرك من الصلاة في وقتها ركعةً أي واحدة من الثنتين اللتين هما الصبح، أو الثلاث التي هي المغرب، أو الأربع التي هي الظهر أو العصر أو العشاء للمقيم= فقد أدركها، أي أدرك الصلاة أداءً، أي أنها لم تَفُتْه.

وإذا كان كذلك فلا معنى ولا وجهَ لزيادة "قبل أن يقيم الإمام صلبه"، غاية الأمر أن يكون أحد الرواة توهَّم أن معنى الحديث: من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة؛ فزاد هذه الزيادة تفسيرًا في زعمه؛ وقد جوَّز بعضهم أن تكون من زيادة الزهري، لأنه قد عُرِف عنه أنه كان كثيرًا ما يَصِلُ الحديثَ بكلامٍ من عنده على وجه التفسير أو نحوه، فربما التبس ذلك على بعض الضعفاء كقُرَّة.

(1)

رقم (1591/ 92).

(2)

(7/ 342 ــ 344).

(3)

(ص 352 ــ 355).

(4)

(ص 355).

ص: 113

قال البخاري في موضع آخر من "جزء القراءة"

(1)

: "قال مالك: قال ربيعة للزهري: إذا حدثتَ فبيِّنْ كلامَك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ".

لكن سيأتي في الكلام على الحديث الثالث ما يدفع هذا التجويز، فالظاهر أن الزيادة من قرة بن عبد الرحمن أو يحيى بن حُمَيد.

وأما الحديث الثالث: فلا خلافَ في صحته، وهو في "الموطأ" و"الصحيحين"

(2)

وغيرهما، والتشبُّثُ به في هذه المسألة مبنيٌّ على زعم أن معناه: من أدرك من الصلاة مع الإمام ركوعًا فقد أدرك الركعة، وقد يُستأنس لهذا بالزيادة المتقدمة، وبما في "صحيح مسلم"

(3)

عن حرملة عن ابن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة".

فأما الزيادة السابقة فقد فُسِّر ما فيها، وأما زيادة "مع الإمام" فقد ردَّها مسلم نفسُه، فرواه [عن يونس] وعن جماعة عن الزهري، قال

(4)

: "وليس في حديث أحدٍ منهم "مع الإمام".

وله في "صحيح البخاري"

(5)

و"جزء القراءة"

(6)

و"سنن [النسائي] "

(7)

(1)

(ص 230، 231).

(2)

"الموطأ"(1/ 10) والبخاري (580) ومسلم (607).

(3)

رقم (607/ 162).

(4)

تعقيبًا على الحديث المذكور.

(5)

رقم (580).

(6)

بأرقام (202، 203، 206 ــ 216) بتخريجه "تحفة الأنام".

(7)

هنا بياض في الأصل، وقد ذكر النسائي (1/ 274) طرق هذا الحديث.

ص: 114

وغيرها طرق كثيرة عن يونس وغيره بدون هذه الزيادة، والظاهر أن الوهم في زيادتها من حرملة، وهو الذي روى عن ابن وهب عن يحيى بن حميد الحديث، فكأنه جاءه الوهم من هناك.

وقد أخرج البخاري في "جزء القراءة"

(1)

من طريق سليمان بن بلال أخبرني عبيد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ويونس عن ابن شهاب [الزهري] عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك من الصلاة ركعةً فقد أدرك الصلاة إلا أن يقضي ما فاته". وهو ذاك الحديث عينُه، وزيادة "إلا أن يقضي ما فاته" تدفع زيادةَ يحيى بن حميد وزيادة حرملة.

وفي روايةٍ في "صحيح مسلم"

(2)

وغيره من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلعَ الشمسُ فقد أدرك الصبحَ، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغربَ الشمس فقد أدرك العصر".

والحديث بهذا اللفظ ونحوِه أشهر، فقد صحَّ هكذا كما ترى عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وهو سند الأول، وأخرجه البخاري في "الصحيح"

(3)

بنحوه من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وأخرجه مسلم

(4)

من طريق عطاء بن يسار وبُسر بن سعيد والأعرج عن أبي هريرة،

(1)

رقم (207).

(2)

رقم (608/ 163).

(3)

رقم (556).

(4)

رقم (608).

ص: 115

ومن حديث عائشة

(1)

.

ووقع في بعض الروايات بلفظ: "سجدة"

(2)

، ولفظ حديث عائشة: "من أدركَ من الصلاة سجدةً

" وفي آخره: "والسجدة إنما هي الركعة"

(3)

.

وفي "الفتح"

(4)

في شرح قوله: "فقد أدرك الصبح": " .. يُحمَل على أنه أدرك

(5)

الوقت، فإذا صلَّى ركعةً أخرى فقد كملتْ صلاته .. وقد صرَّح بذلك في رواية الدراوردي عن زيد بن أسلم، أخرجه البيهقي

(6)

من وجهين، ولفظه: "من أدرك من الصبح ركعة

(7)

قبل أن تطلع الشمس، وركعةً بعدما تطلع الشمس، فقد أدرك الصلاة". وأصرحُ منه رواية أبي غسَّان محمد بن مُطرِّف عن زيد بن أسلم عن عطاء ــ وهو ابن يسار ــ عن أبي هريرة بلفظ:"من صلَّى ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشمس ثم صلَّى ما بقي بعد غروب الشمس فلم تَفُتْه العصر"، وقال مثل ذلك في الصبح. وقد تقدمتْ رواية المصنِّف

(8)

من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة، وقال فيها: "فليُتِمَّ

(1)

رقم (609).

(2)

هي رواية البخاري (556).

(3)

"صحيح مسلم"(609).

(4)

"فتح الباري"(2/ 56).

(5)

في المطبوع: "إدراك"، والمثبت من الفتح.

(6)

في "السنن الكبرى"(1/ 378، 379).

(7)

في المطبوع: "ركعة أخرى"، وهو خطأ، ولا معنى له. والتصويب من الفتح والبيهقي.

(8)

أي البخاري (556).

ص: 116

صلاتَه". وللنسائي

(1)

من وجه آخر: "من أدرك ركعةً من الصلاة فقد أدرك الصلاة كلها إلا أنه يقضي ما فاته". وللبيهقي

(2)

من وجه آخر: "من أدرك ركعةً من الصبح قبل أن تطلع الشمسُ فلْيُصَل إليها أخرى".

وهذا كله يُبيِّن أنه لا وجهَ لزيادة "مع الإمام"، ولا لزيادة "قبل أن يُقِيمَ الإمامُ صُلْبَه"، كما يُبيِّن أنه لا وجهَ للتشبُّث بهذا الحديث في قضية إدراك الركعة بإدراك الركوع.

ويُوضِّح هذا أن أبا هريرة نفسه لم يفهم هذا من الحديث، فقد صحّ عنه كما يأتي:"لا يُجزِئك إلا أن تُدرِكَ الإمامَ قائمًا"

(3)

. وهكذا الزهري، صحّ عنه أنه ذكر الحديث عن أبي سلمة مرفوعًا بلفظ:"من أدرك من الصلاة ركعةً واحدة فقد أدركها"، ثم قال الزهري

(4)

: "ونرى لما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه من أدرك من الجمعة ركعة واحدة فقد أدرك"

(5)

، يعني أن كون الجمعة مع الإمام هو في معنى الوقت للصلاة في أن كلًّا منهما إذا فات فاتت الصلاة، فإن

(6)

كانت السنة بأنه يكفي لإدراك الوقت إدراكُ ركعةٍ، فكذلك ينبغي أن يكفي لإدراك الجمعة مع الإمام إدراكُ ركعة.

(1)

(1/ 275).

(2)

"السنن الكبرى"(1/ 379).

(3)

أخرجه البخاري عنه في "جزء القراءة"(ص 267).

(4)

كما في "جزء القراءة"(ص 359).

(5)

أخرجه النسائي (3/ 112) وابن خزيمة في "صحيحه"(1850) والحاكم في "المستدرك"(1/ 291) من طريق الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا.

(6)

في المطبوع: "فإنه" خطأ.

ص: 117

ويوضِّحه أيضًا أن الركعة في عرف الشرع حقيقةٌ في واحدة من الاثنتين اللتين هما الصبح، أو من الثلاثِ التي هي المغرب، أو من الأربعِ التي هي الظهر أو العصر أو العشاء في حقِّ المقيم ونحو ذلك.

وقد دفع الشيخ ــ عافاه الله ــ هذا، فقال: "بل الركعة حقيقة في الركوع لغةً وشرعًا كالسجدة في السجود، وإطلاقُها على ما يشمل القيامَ والقراءةَ والركوعَ والسجودَ من باب إطلاق الجزء على الكلّ، كإطلاق السجدة على ذلك، وكإطلاق العين على الجاسوس، والرقبة على العبد أو الجارية. ومما جاء في إطلاقها على الركوع أحاديث

".

فذكر حديث يحيى بن أبي سليمان وحديث يحيى بن حُميد المتقدمَين، وحديث البراء في وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه:"فوجدت قيامه كركعتِه وسجدتِه، واعتدالَه في الركعة كسجدتِه"

(1)

. وستة أحاديث في وصف الكسوف.

ثم قال: "فأنت ترى في هذه الأحاديث إطلاق الركعة على الركوع بدون قرينة، لأنها حقيقة، وإن كانت اشتهرتْ في عرف المتأخرين فيما هو أعمُّ من الركوع، فذلك لا ينافي حقيقتها اللغوية والشرعية في الركوع".

أقول: في هذا كلِّه نظر، نعم إطلاق "ركعة" على المرَّة من الركوع موافق للحقيقة اللغوية، لكن لا يلزم أن يكون هكذا في الشرع. وقوله:"من باب إطلاق الجزء على الكل" حقٌّ، فيكون مجازًا لغةً، لكن لا يلزم من ذلك أن

(1)

لفظ حديث مسلم (471): "فوجدتُ قيامَه، فركعتَه، فاعتدالَه بعد ركوعه، فسجدتَه، فجلْسته بين السجدتين، فسجْدتَه، فجلْستَه ما بين التسليم والانصراف= قريبًا من السواء".

ص: 118

يكون مجازًا في الشرع. وكافَّة الحقائق الشرعية ــ أعني الألفاظ التي نقلها الشارع عن معانيها اللغوية إلى معانٍ شرعية ــ بين معانيها الشرعية ومعانيها اللغوية علاقات مجازية، كالإيمان والصلاة والزكاة والصيام وغيرها.

وأما تلك الأحاديث التي ذكرها الشيخ فالأولانِ لم يثبتا كما مرَّ، ومع ذلك فالقرينة فيهما قائمة، وهي في الأول قوله:"إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجودٌ فاسجدوا ولا تعدُّوها شيئَا"، وفي الثاني قوله:""قبل أن يُقيمَ الإمامُ صُلْبه"، فكلٌّ من هاتين العبارتين تقتضي أن تكون كلمة "ركعة" في بقية الحديث مرادًا بها الركوعُ، فلولا هذا الاقتضاء لما سلَّمنا أن الركعة في الحديثين عبارة عن الركوع، على أننا إنما نُسلِّم ذلك على فرض صحة الزيادة المقتضية، فأما إذا أبطلناها فلا، كما تقدم.

والقرينة في حديث البراء في قوله "قيامه كركعتِه

(1)

": أنه من الممتنع أن يكون القيامُ وحدَه مساويًا لما يَشملُه ويشمَلُ الركوعَ والاعتدالَ والسجدتينِ والجلسةَ بينهما، ضرورةَ أن الجزء لا يساوي الكل. وأما قوله فيه: "واعتداله في الركعة كسجدته"، فالقرينة فيه أن يظهر أن تعريف الركعة للعهد الذكري، وبذلك تكون الثانية عينَ الأولى، ويساعد ذلك قولُه: "واعتداله".

ومع هذا فليس هذا اللفظ في "الصحيح"، والذي في البخاري

(2)

: "كان ركوعُ النبي صلى الله عليه وسلم وسجودُه وإذا رفعَ رأسَه من الركوع وبين السجدتينِ

(1)

في المطبوع: "كركعتيه".

(2)

رقم (801).

ص: 119

قريبًا من السواء"، ونحوه في "صحيح مسلم" في رواية

(1)

، وفي أخرى

(2)

: "فوجدتُ قيامَه فركعتَه فاعتدالَه بعد ركوعِه فسجدتَه [فجلستَه]

(3)

بين السجدتين

".

وأصل هذا الحديث من لفظ الصحابي لا من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك فقد اختلفت رواياتها وألفاظها، فيمكن أن يكون ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الركوع بالركعة إنما هو ممن بعد الصحابي.

وأما الأحاديث في صلاة الكسوف فأصلها من لفظ الصحابي أيضًا، ومع ذلك اختلفت رواياتها وألفاظها، فيمكن أن يكون ما وقع في بعض الروايات من التعبير عن الركوع بالركعة إنما هو ممن بعد الصحابي. ومع ذلك فالقرينة قائمة، وهي ما يُعلَم من السياق والروايات الأخرى، وأرى الأمر في ذلك أوضح من أن يُحتاج إلى الإطالة.

على أن ورود الكلمة في النصوص الشرعية مع دلالة القرينة على أن المراد منها معناها اللغوي، لا يَدفعُ أن يكون الشرع نقلَها إلى معنى آخر تكون فيه حقيقةً شرعية. هذه كلمة "صلاة" نقلها الشارع إلى معنى غير معناها لغةً، ومع ذلك وردت في عدة نصوص بحسب معناها اللغوي، كقوله تعالى:{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة: 103]، وقوله:{وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة: 99]، وقوله:{صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].

(1)

رقم (471/ 194).

(2)

رقم (471/ 193).

(3)

ساقطة من المطبوع، استدركناها من صحيح مسلم.

ص: 120

فإن قيل: فإنه يكفي القائلَ بأن لفظ "ركعة" حقيقة شرعية في المرَّة من الركوع أن يقول: قد ثبت أنها حقيقة لغوية في ذلك، والأصلُ موافقة الشرع للّغة.

قلت: فعلينا البيان، في الصلاة الشرعية أمران يحتاج كلٌّ منهما إلى لفظ يدل عليه:

الأول: المرة من الركوع.

والثاني: الواحدة التي تتألف صلاة المغرب من ثلاثٍ منها، والصبح والجمعة من اثنتين، وكذا بقية الفرائض في حقّ المسافر. أما المقيم فمن أربع، وهكذا يختلف حال سائر الصلوات كالعيدين والاستسقاء والنوافل.

والحاجة في الشرع إلى ذكر الثاني أكثر منها

(1)

إلى ذكر الأول، وبتتبُّعِ النصوص الشرعية يتضح أنها [تُعبِّر]

(2)

عن الأول غالبَا بالركوع، وتُعبِّر عن الثاني بالركعة، وكثُر هذا جدًّا من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ أصحابه في حياته وبعد وفاته، وبتدبُّرِ ذلك يتبينُ أن الذي كان يتبادر في عهده صلى الله عليه وسلم من كلمة "ركعة" في الكلام الشرعي هو الأمر الثاني، فهي حقيقة شرعية.

فمما ورد من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً مما ورد في "الصحيحين" أو أحدِهما:

حديثُ أبي هريرة

(3)

مرفوعًا: "من أدرك من الصبح ركعةً قبل أن تطلع الشمس .. ومن أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس

".

(1)

في المطبوع: "منهما" خطأ.

(2)

ساقطة من المطبوع، زدناها ليستقيم السياق.

(3)

أخرجه البخاري (579) ومسلم (608).

ص: 121

وحديث عائشة

(1)

مرفوعًا نحوه.

وحديثها

(2)

مرفوعًا: "ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها".

وحديث عثمان

(3)

مرفوعًا: "من توضأ نحوَ وضوئي هذا ثم صلَّى ركعتين

".

وحديث أبي قتادة

(4)

مرفوعًا: "إذا دخل أحدُكم المسجدَ فلْيُصلِّ ركعتين".

وحديث جابر

(5)

في القدوم من سفر مرفوعًا: "صلِّ ركعتينِ".

وحديثه

(6)

في الداخل يوم الجمعة وقت الخطبة مرفوعًا: "قُمْ فصَلِّ الركعتين".

وحديثه

(7)

أيضًا مرفوعًا: "إذا جاء أحدكم يومَ الجمعة وقد خرج الإمام فلْيُصَلِّ ركعتين".

وحديثه في الاستخارة

(8)

مرفوعًا: "

فليركَعْ ركعتين من غيرِ الفريضة

".

(1)

أخرجه مسلم (609).

(2)

أخرجه مسلم (725).

(3)

أخرجه البخاري (159) ومسلم (226).

(4)

أخرجه البخاري (444) ومسلم (714).

(5)

أخرجه البخاري (443) ومسلم (715).

(6)

أخرجه البخاري (930، 931) ومسلم (875).

(7)

أخرجه البخاري (1166) ومسلم (875/ 57).

(8)

أخرجه البخاري (1162).

ص: 122

وحديث أبي ذر

(1)

مرفوعًا: "

ويُجزِئ من ذلك كلِّه ركعتانِ يركعهما في الضحى".

وحديث أم حبيبة

(2)

مرفوعًا: "من صلَّى اثنتي عشرةَ ركعةً

".

وحديث ابن عمر

(3)

مرفوعًا: "الوتر ركعةٌ من آخرِ الليل".

وحديثه

(4)

أيضًا مرفوعًا: "فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلَّى ركعةً واحدة".

إلى غير ذلك من الأحاديث في "الصحيحين"، وأما في غيرهما فكثير.

ومما في "الصحيحين" أو أحدِهما: الأحاديثُ التي يُنَصُّ فيها على العدد فقط، كحديث أبي سعيد

(5)

مرفوعًا: "إذا شكَّ أحدُكم فلم يَدْرِ كم صلَّى؟ ثلاثًا أم أربعًا؟ فليَطْرَح [الشَّكَّ]

(6)

ولْيَبْنِ

(7)

على ما استيقَنَ، ثم يسجد

فإن كان صلَّى خمسًا شَفعْنَ له صلاتَه، وإن كان صلَّى إتمامًا لأربعٍ كانتا ترغيمًا للشيطان".

فإن المتبادر الواضح أن المراد ثلاث ركعات

وهكذا، ومثل هذا في الأحاديث كثير، ويدخل فيه تسميةُ صلاة الوتر وترًا، وقول الله تبارك وتعالى:

(1)

أخرجه مسلم (720).

(2)

أخرجه مسلم (728).

(3)

أخرجه مسلم (752).

(4)

أخرجه البخاري (990) ومسلم (749).

(5)

أخرجه مسلم (571).

(6)

ساقطة من المطبوع، استدركناها من صحيح مسلم.

(7)

في المطبوع: "وليبني" خطأ.

ص: 123

{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] على ما رواه الإمام أحمد وغيره

(1)

عن عمران بن حُصين أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك، فقال: " [هي]

(2)

الصلاةُ، بعضها شَفْعٌ وبعضها وِتْر".

وأما الحديث الرابع: وهو حديث الحسن عن أبي بَكْرة، ففي "الفتح"

(3)

: "أعلَّه بعضُهم بأن الحسن عنعنه، وقيل: إنه لم يسمع من أبي بكرة، وإنما يروي عن الأحنف عنه، ورُدَّ هذا الإعلال برواية سعيد بن أبي عروبة عن الأعلم قال: حدثني الحسن أنّ أبا بكرة حدَّثه. أخرجه أبو داود والنسائي".

أقول: وهكذا رأيتُه في عدة نسخ من "المجتبى" من سنن النسائي

(4)

، لكنه في نسخ "سنن" أبي داود

(5)

: "أن أبا بكرةَ حدَّثَ"، وهذا في حكم العنعنة، وبين سياق أبي داود والنسائي اختلافٌ مع أن السند واحد، روياه عن حُميد بن مَسْعَدة عن يزيد بن زُريع ممن سمع منه قديمًا.

والحسن معروف بالرواية عمن لم يَلْقَه، بل وُصِفَ بالتدليس، كما في "طبقات المدلِّسين"

(6)

لابن حجر، وروايتُه عن الأحنف عن أبي بكرة

(1)

انظر "مسند أحمد"(19919، 19935، 19973) و"سنن الترمذي"(3342) و"المستدرك"(2/ 522). وإسناده ضعيف لإبهام الراوي عن عمران.

(2)

ساقطة من المطبوع، والزيادة من المصادر السابقة.

(3)

"فتح الباري"(2/ 268).

(4)

(2/ 118).

(5)

رقم (683).

(6)

"تعريف أهل التقديس بمراتب الموصوفين بالتدليس"(ص 102).

ص: 124

مشهورة في حديث: "إذا التقى المسلمانِ بسيفَيْهما

"

(1)

، لكن لا يلزم من ذلك أن لا يسمع من رجلٍ غيرِ الأحنف عن أبي بكرة. وقد يَشُدُّ الاتصالَ أن البخاري أخرج الحديث في "صحيحه"، ومذهبه اشتراط ثبوت اللقاء حتى فيمن لم يُعرف بالتدليس ولا بالرواية عمن لم يَلْقَه، فما بالك بهذا؟ وفي "مراسيل" ابن أبي حاتم

(2)

عن بَهْز بن أسد في شأن الحسن: "وسمع من أبي بكرة شيئًا". وعلى كلّ حالٍ فلم تَسْلَمْ صحةُ هذا الحديث من مقالٍ.

ولننظر فيما ذكر من الدلالتين:

فأما الأولى وهي قولهم: "لولا أن أبا بكرةَ كان يرى أنه بإدراكه الركوعَ يُدرِك الركعة لما بادر إلى الركوع قبل أن يبلغ الصفَّ"= ففيها نظر، لماذا لا يُبادِر لإدراك فضلِ

(3)

الركوع مع النبي صلى الله عليه وسلم وإن عَلِمَ أنه لا تُحْسَبُ له ركعة؟ بل قد يقال: إن هذا هو الذي ينبغي أن يُظَنَّ بالصحابي، لا أن يُظَنَّ به أنه حَرَصَ على إدراك الركعة وإن فاته الخيرُ الكثير فيها تفاديًا من أن يكون عليه ركعةٌ أخرى بعد سلام الإمام، فإن هذا يدلُّ على الكسلِ والتبرُّمِ بالتعب اليسير في العبادة والرغبةِ عن زيادة الأجر، فإنه إذا أدرك بعض الركعة ولم تُحْسَبْ له ثم صلّاها بعد سلام الإمام كُتِبَ له أجرُ الصلاة كاملةً وزيادةُ أجرِ ما أدركه من تلك الركعة، فأما من لم يُدرِك إلا بعض الركعة وحُسِبَتْ له ركعة فإنه يفوته بعضُ أجر الصلاة كما لا يخفى.

(1)

أخرجه البخاري (31) ومسلم (2888).

(2)

"المراسيل"(ص).

(3)

في المطبوع: "أفضل" خطأ.

ص: 125

وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "زادك الله حِرْصًا، ولا تَعُدْ" يُشْعِر بما ذكرنا، فإنه يدل أن ذاك الحرص محمود، فلذلك دعا بالزيادة منه، وإنما نهى عن العود إلى الإخلال بالمشروع

(1)

من السكينة والوقار ونظم الصلاة، والحرصُ المحمود هو

(2)

الحرص على زيادة الأجر، لا على التخلُّص من زيادة العمل غيرَ مُبالٍ بما فيها من زيادة الأجر.

فإن قيل: فإن في "جزء القراءة"

(3)

للبخاري من طريق عبد الله بن عيسى الخزَّاز عن يونس عن الحسن عن أبي بكرة:

فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاةَ قال لأبي بكرة: "أنت صاحب النَّفَسِ؟ " قال: نعم، جعلني الله فداءك، خَشِيتُ أن تفوتني ركعةٌ معك، فأسرعتُ المشيَ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم :"زادك الله حرصًا، ولا تَعُدْ، صَلِّ ما أدركتَ، واقْضِ ما سبقَ".

وفي مسند أحمد (ج 5 ص 42)

(4)

: "

بشَّار الخيَّاط

(5)

قال سمعتُ عبد العزيز بن أبي بكرةَ يُحدِّث: أن أبا بكرة جاء والنبي صلى الله عليه وسلم راكع

فسمع النبي صلى الله عليه وسلم صوتَ نعلِ أبي بكرةَ وهو يُحْضِرُ، يريد أن يُدرِك الركعةَ

".

قلت: عبد الله بن عيسى الخزَّاز مُجمَعٌ على ضعفه

(6)

. وبشار الخياط

(1)

في المطبوع: "بالشروع" خطأ.

(2)

في المطبوع: "وهو"، ولا حاجة إلى الواو هنا.

(3)

(ص 340).

(4)

رقم (20435).

(5)

كذا في المسند، وفي "تعجيل المنفعة" (ص 51):"الحنَّاط".

(6)

انظر "تهذيب التهذيب"(5/ 353) و"ميزان الاعتدال"(2/ 470).

ص: 126

هو ابن عبد الملك ضعفه ابن معين

(1)

، فلا ينفعه ذكر ابن حبان له في "ثقاته"

(2)

؛ لما عُرِفَ من توسُّعه. وشيخه عبد العزيز فيه مقال

(3)

، وروايته مرسلة، لأنه لم يُدرِك القصة، ولعل قوله:"يريد أن يُدرك الركعةَ" من ظنِّ عبد العزيز، ومع ذلك فوَقْعُ كلمة "ركعة" في هاتين الروايتين في سياق بيان أنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلم راكع ربما يُسوِّغ في حملها على معنى الركوع، والله أعلم.

وأما الدلالة الثانية وهي قولهم: "إن النبي صلى الله عليه وسلم أقرَّ أبا بكرةَ على السلام معه، ولم يأمره بإتمامٍ ولا إعادةٍ"= ففي هذه الدعوى نظرٌ، ولفظ البخاري في "الصحيح"

(4)

من طريق همَّام عن زياد الأعلم عن الحسن عن أبي بكرة:

فذَكَر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال:"زادك الله حرصًا ولا تَعُدْ"، كما تقدم أولَ الرسالة، وليس فيه ما يُثبِت هذه الدعوى. ونحو ذلك من "سنن" أبي داود والنسائي

(5)

من طريقي سعيد بن أبي عَروبة عن زياد الأعلم. ونحوه في "مسند أحمد"(ج 5 ص 39)

(6)

من طريق أشعث عن زياد الأعلم. ونحوه في "المسند" أيضًا (ج 5 ص 46)

(7)

من طريق قتادة وهشام عن الحسن البصري.

(1)

انظر "تعجيل المنفعة"(ص 51) و"ميزان الاعتدال"(1/ 310) و"لسان الميزان"(2/ 285).

(2)

"الثقات"(6/ 113).

(3)

انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب"(6/ 332).

(4)

رقم (783).

(5)

أبو داود (683) والنسائي (2/ 118).

(6)

رقم (20405).

(7)

رقم (20470، 20471).

ص: 127

ورواه حماد بن سلمة عن زياد الأعلم بسنده، واختُلِفَ على حماد: ، ففي "المسند"(ج 5 ص 45)

(1)

عن عفّان عن حمّاد بنحو رواية الجماعة، وفي "سنن" أبي داود

(2)

عن موسى بن إسماعيل عن حمّاد، وفيه: "فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاتَه قال: أيُّكم الذي ركع دون الصف، ثم مشى إلى الصفّ؟ فقال أبو بكرة: أنا

".

وأرى رواية عفّان أرجحَ لمزيد إتقان عفان، ولموافقته روايةَ الجماعة كما تقدم، وحماد بن سلمة على إمامته كان يخطئ، وقد رَوى بهذا الإسناد عينهِ حديثًا آخر في تقدُّم النبي صلى الله عليه وسلم ليؤُمَّهم، وتذكُّرِه أن عليه غسلاً، وفي آخره:"فلما قضى الصلاة قال: إنما أنا بشرٌ"

(3)

.

وقد لا يبعد أن يكون ذهن حماد انتقل من أحد الحديثين إلى الآخر، ثم أتمَّ التفسير بما يناسب، وجاء نحو هذه الزيادة في رواية عبد الله بن عيسى الخزّاز، وفي رواية بشار الخياط عن عبد العزيز بن أبي بكرة، وفي روايةٍ نقلَها الشيخ أول رسالته عن "تلخيص الحبير"

(4)

عن ابن السكن، فلا أدري ما سندها؟ وعسى أن تكون راجعةً إلى ما ذكر.

وعلى كل حال، فالروايات الصحيحة المتينة لا أثرَ فيها لقوله: "فلما قضى

" ولا ما في معناها، على أنها لو صحَّتْ لما كانت صريحةً في

(1)

رقم (20457).

(2)

رقم (684).

(3)

أخرجه أحمد في "المسند"(20420) وأبو داود (234) وابن خزيمة (1629) وغيرهم.

(4)

"التلخيص"(1/ 285).

ص: 128

الفورية، وقد قال الله تعالى:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37]، ومعلوم أن بين القضاء والتزويج مهلةٌ، وقال تعالى:{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص: 29]، وبين قضائه الأجلَ وشروعِه في السير وبين الإيناس مهلة.

وعلى فرض صحة تلك الزيادة وأن الظاهر في مثلها الفورية، فقد يكون أبو بكرة ممن يرى أن الركعة لا تُدرَك بالركوع، فرأى أن السياق قرينة على عدم الفورية، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أن الذي

(1)

لم يدرك إلا الركوع سيقوم لإتمام صلاته، فلما سلَّم وقام بعضهم يُتِمُّ اشتغلَ النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر، حتى سلَّم من سُبِقَ، وحينئذٍ سأل النبي صلى الله عليه وسلم .

وأرى أن من تدبَّر وأنعمَ النظر [أقرَّ]

(2)

بأن هذا احتمالٌ غير بعيد، بل يتبين له أنه ليس هناك ما يدل دلالةً تقوم بها الحجة على أن ركوع النبي صلى الله عليه وسلم الذي أدركه أبو بكرة كان هو الركوع في الركعة الأولى، بل من المحتمل أن يكون هو الركوع في الثانية.

وهَبْ أنه يَقوَى عندك أنه الركوع في الركعة الأولى، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سأل عقب السلام، فأجابه أبو بكرة فورًا، فهل تجد تلك القوة كافيةً لتخصيص هذه القضية من النصوص العامة الموجبة للقيام، ولقراءة الفاتحة، ولقضاء المسبوق ما قد فاته، إلى غير ذلك مما مر ويأتي؟

(1)

في المطبوع: "النهي" مكان "الذي". وهو تحريف.

(2)

زيادة على المطبوع ليستقيم السياق.

ص: 129

وأما الأمر الخامس: فقد أجاب عنه البخاري في "جزء القراءة"

(1)

بقوله: ثنا عُبيد بن يَعيش، قال: حدثنا يونس، [قال: حدثنا ابن إسحاق]

(2)

قال: أخبرني الأعرج، قال: سمعتُ أبا هريرة يقول: "لا يُجزِئك إلا أن تُدرِكَ الإمامَ قائمًا قبلَ أن يركع".

حدثنا

(3)

عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني جعفر بن ربيعة

(4)

عن عبد الرحمن بن هرمز قال: قال أبو سعيد رضي الله عنه: "لا يَركعْ أحدُكم حتى يقرأَ أمَّ القرآن".

قال البخاري: وكانت عائشة تقول ذلك.

وقال علي بن عبد الله

(5)

(ابن المديني): إنما أجاز إدراكَ الركوع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين لم يروا القراءةَ خلف الإمام، منهم: ابن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر، فأما من رأى القراءة فإن أبا هريرة قال:"اقرأْ بها في نفسِك يا فارسيُّ"، وقال:"لا تعتدَّ بها حتى تُدرِكَ الإمام قائمًا".

وقال البخاري في موضع آخر

(6)

: حدثني مَعْقِل بن مالك، ثنا أبو عوانة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة قال:"إذا أدركتَ القومَ ركوعًا لم تعتدَّ بتلك الركعة".

(1)

(ص 267 وما بعدها). والأثر الأول برقم (140).

(2)

ساقطة من المطبوع، والاستدراك من "جزء القراءة".

(3)

المصدر السابق رقم (141).

(4)

في المطبوع: "أي ربيعة" خطأ. والتصويب من المصدر السابق.

(5)

نقل عنه البخاري في "جزء القراءة"(ص 269 ــ 271).

(6)

"جزء القراءة"(ص 439).

ص: 130

وفي موضع آخر

(1)

: عن يحيى بن بُكَير عن الليث عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز أن أبا سعيد الخدري كان يقول: "لا يركعنَّ أحدُكم حتى يقرأَ بفاتحةِ الكتاب"، قال: وكانت عائشة تقول ذلك.

أجاب الشيخ ــ عافاه الله ــ بقوله: ما حكاه البخاري عن أبي هريرة هو من طريق ابن إسحاق، ومُعارَضٌ بما ذكر مالك في "الموطأ"

(2)

بخلافه، ويقول شارحه ابن عبد البر

(3)

: "هذا قول لا نعلم أحدًا من فقهاء الأمصار قال به، وفي إسناده نظر. وما حكاه عن أبي سعيد وعائشة من قولها .. ليس نصًّا صريحًا في عدم الاعتداد .. بل هو في إتمام الفاتحة قبل أن يركع ....

أقول: محمد بن إسحاق ثقة عند كبار الأئمة، وقد ساق البخاري في "جزء القراءة"

(4)

كلامًا طويلاً في تثبيته، وقد صرَّح هنا بالسماع، فانتفتْ تهمةُ التدليس.

وأما ما في "الموطأ" فبلاغ منقطع لا تقوم به حجة، وربما يكون مالك إنما أخذه من عبد الرحمن بن إسحاق، فقد أشار البخاري إلى روايته نحو ذلك، وساق البخاري كلامًا في توهين عبد الرحمن هذا

(5)

، والبخاري وشيخه ابن المديني إمامان مجتهدان مقدَّمان في معرفة النقل والنقلة، فلا يُدفَع كلامهما في ذلك إلا بحجة واضحة.

(1)

(ص 242، 243).

(2)

(1/ 11) ولفظه: "من أدرك الركعة فقد أدرك السجدة".

(3)

"الاستذكار"(1/ 62) ط. دار الكتب العلمية.

(4)

(ص 301 ــ 304).

(5)

(ص 285 ــ 287).

ص: 131

وما ذكره عن أبي سعيد وعائشة إنما احتجَّا به؛ لأنه يدل أن المأموم إذا أدرك الإمام قُبيلَ الركوع لم يكن له أن يدع الفاتحة أو بعضها، ثم يعتد بتلك الركعة، فإذا لم يتحمل عنه الإمام بعضًا من الفاتحة فقط، فَلَأنْ لا يتحمَّلها عنه كلَّها، ومعها القيامُ أولى.

وإذا كان الظاهر أن القول بالإدراك مخالفٌ للقول بافتراض الفاتحة على المأموم، وكان المصرِّحون من الصحابة بالإدراك هم من الذين عُرِف عنهم القولُ بعدم افتراض الفاتحة على المأموم، وجاء عن جماعةٍ من القائلين بالافتراض من الصحابة ما هو صريحٌ أو ظاهرٌ في عدم الإدراك، ولم يثبت عن أحدٍ منهم خلافُ ذلك= فإنه يَقوى جدًّا ظنُّ أن القائلين بالافتراض قائلون بعدم الإدراك، فكلام البخاريِّ وشيخِه متينٌ جدًّا.

وأما أن الجمهور الغالب على الإدراك فحقٌّ، ولكن هل يكفي هذا لتخصيصِ

(1)

النصوص الدالة على فرضية القيام وفرضية الفاتحة وفرضية قضاء ما فات؟ ومع تلك الأدلة الاعتبار الواضح، فإن المعهود في فرائض الصلاة أن لا يسقط شيء منها إلا لعذرٍ بيِّن، وليس المسبوقية كذلك، لتمكُّنِ المسبوق بدون مشقةٍ تُذْكَر من الإتمام بعد سلام الإمام.

ومن المسبوقين من يكون مقصِّرًا تقصيرًا واضحًا، فقد رأينا من يتكاسل عن القيام فلا يُكبِّر إلا عند ركوع الإمام، ومنهم من يتشاغل بمحادثة رفيقه، أو تجميلِ لِبْسته، أو التفرُّجِ على بعض الأشياء، أو يتخطَّى الصفوفَ لِيُزاحِم في الصفّ الأول بدون فُرجةٍ فيه، أو يتشاغل بذكر أو دعاء، إلى غير ذلك.

(1)

في المطبوع: "التخصيص" خطأ.

ص: 132

والقائلون بالإدراك لم يُفرِّقوا فيما أعلم.

نعم، لا يُنكَر أنَّ للقول بالإدراك قوةً مَّا لذهاب الجمهور ــ ومنهم جماعة من علماء الصحابة ــ إليه، وما جاء مما يدلُّ عليه على ما فيه، فلا لومَ على من قوِيَ عنده جدًّا فقال به.

فأما أنا فلا أرى له تلك القوة، والأصل بقاء النصوص على عمومها، واشتغال الذمة بالصلاة كاملةً، والله الموفق.

ص: 133

الرسالة الخامسة

بحث في حديث قيس بن عمرو

"صلاة ركعتي الفجر بعد الفرض"

ص: 135

[ق 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه وبركاته على محمد وآله.

أما بعد، فهذا بحث في حديث قيس بن عمرو، التمسه مني بعض الإخوان.

قال الإمام أحمد في "المسند"(5/ 447)

(1)

: ثنا ابن نمير ثنا سعد بن سعيد حدثني محمد بن إبراهيم التيمي عن قيس بن عمرو قال: رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجلًا يُصلِّي بعد صلاة الصبح ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"أصلاةَ الصبحِ مرتينِ؟ " فقال الرجل: إني لم أكن صلَّيتُ الركعتينِ اللتين قبلهما، فصليتهما الآن، قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأخرجه ابن ماجه

(2)

: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الله بن نمير ثنا سعد بن سعيد

فذكره. وكذلك هو في "مصنَّف"

(3)

أبي بكر بن أبي شيبة.

وأخرجه أبو داود

(4)

: ثنا عثمان بن أبي شيبة، نا ابن نمير

فذكره،

(1)

رقم (23760).

(2)

رقم (1154).

(3)

(2/ 254).

(4)

رقم (1267).

ص: 137

وفيه: "صلاة الصبح ركعتان" بدل قوله في رواية أحمد وأبي بكر: "أصلاة الصبح مرتين".

وأخرجه الشافعي في "الأم"(1/ 131)

(1)

أنا سفيان بن عيينة عن ابن قيس عن محمد بن إبراهيم التيمي عن جده قيس قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنا أصلي ركعتين بعد الصبح، فقال:"ما هاتان الركعتان يا قيس؟ " فقلت: لم أكن صليتُ ركعتي الفجر، فسكت عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وكذلك أخرجه البيهقي في "السنن"(1/ 456) من طريق الشافعي والحميدي كلاهما عن ابن عيينة، إلا أن في رواية الحميدي: ثنا سفيان ثنا سعد بن سعيد بن قيس عن محمد بن إبراهيم التيمي عن قيس جد سعد.

قال البيهقي: زاد الحميدي في حديثه: قال سفيان: وكان عطاء بن أبي رباح يروي هذا الحديث عن سعد.

قوله في "مصنف" ابن أبي شيبة

(2)

: ثنا هشيم قال أخبرنا عبد الملك عن عطاء أن رجلًا صلَّى مع النبي عليه السلام صلاة الصبح

فقال النبي: "ما هاتان الركعتان؟ " فقال

، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يأمره ولم ينهه.

ثنا هشيم قال أخبرنا شيخ يقال له مِسْمع بن ثابت قال: رأيتُ عطاءً فعل مثل ذلك.

وأخرجه الترمذي

(3)

: ثنا محمد بن عمرو السواق البلخي ثنا

(1)

(10/ 101) ضمن "اختلاف الحديث" ط. دار الوفاء.

(2)

(2/ 254).

(3)

رقم (422).

ص: 138

عبد العزيز بن محمد عن سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن جدّه قيس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأقيمت الصلاة، فصليتُ معه الصبح، ثم انصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجدني أصلِّي، قال:"مهلًا يا قيس! أصلاتانِ معًا؟ " قلت: يا رسول الله، إني لم أكن ركعتُ ركعتي الفجر، قال:"فلا إذًا".

قال الترمذي:

وإسناد هذا الحديث ليس بمتصل، محمد بن إبراهيم التيمي لم يسمع من قيس.

وقال أبو داود: روى عبد ربه ويحيى ابنا سعيد هذا الحديث مرسلًا أن جدَّهم صلَّى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

أقول: رواية عبد ربه عند أحمد في "المسند"(5/ 447)

(1)

: ثنا عبد الرزاق أنا ابن جريج قال: وسمعت عبد الله (كذا) بن سعيد أخا يحيى بن سعيد يحدث عن جده قال: خرج إلى الصبح

فمرَّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:"ما هذه الصلاة؟ "، فأخبره فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومضى ولم يقل شيئًا.

وذكره البيهقي في "السنن"(1/ 487) عن الحاكم عن الأصمّ عن الربيع بن سليمان عن أسد بن موسى عن الليث عن يحيى بن سعيد عن أبيه عن جده أنه جاء والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلِّي صلاة الفجر، فصلَّى معه، فلما سلَّم قام فصلَّى ركعتي الفجر، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"ما هاتان الركعتان؟ " فقال:

، فسكتَ ولم يقل شيئًا.

وفي ترجمة قيس من "الإصابة"

(2)

أن ابن مندة ذكر رواية أسد ثم قال:

(1)

رقم (23761).

(2)

(9/ 137) ط. التركي.

ص: 139

غريب، تفرَّد به أسد موصولًا، وقال غيره: عن الليث عن يحيى أن جدّه (في النسخة: حديثه

(1)

) مرسل".

أقول: سعد بن سعيد ليس بالحافظ عندهم

(2)

، وقد اختلفت الألفاظ في موضعين كما ترى:

أما الأول: ففي رواية ابن نمير عنه "أصلاة الصبح مرتين؟ "، هكذا رواه أحمد وأبو بكر بن أبي شيبة عن ابن نمير، وفي رواية عثمان بن أبي شيبة "صلاة الصبح ركعتان"، وهي قريب من التي قبلها، فإن خالفتْها فأحمد وأبو بكر أثبتُ، وفي رواية سفيان بن عيينة عن سعد "ما هاتان الركعتان؟ "، ويوافقها ما في مرسل عبد ربه:"ما هذه الصلاة؟ "، وفي مرسل يحيى، وأسنده أسد:"ما هاتان الركعتان؟ "، وفي رواية الدراوردي عن سعد:"مهلًا يا قيس! أصلاتان معًا؟ ". والدراوردي ليس بالحافظ؛ إلا أن هذا اللفظ يقرب في المعنى من لفظ ابن نمير.

[ق 8 ب] وأما الموضع الثاني: ففي عامة الروايات: "فسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم "، وفي رواية الدراوردي عن سعد وحدها:"فقال: فلا إذًا".

فأما الموضع الأول ففيه احتمالان:

الأول: أن ترجَّح رواية ابن عيينة لجلالته وقِدَم سِنِّه وسماعه، وذلك مظنة أن سماعه من سعد أقدم من سماع غيره، وإذا اختلفتْ رواية رجلٍ فالرواية التي ذكرها قبل تقدمه في السنّ أولى؛ لأن العادة أن الرجل كلما

(1)

كذا في المطبوعة.

(2)

انظر "تهذيب التهذيب"(3/ 470).

ص: 140

تقدَّم في العمر ضعف حفظه. ولموافقتها ــ أعني رواية ابن عيينة عن سعد ــ لمرسل عطاء، والظاهر أنه إنما سمعه من سعد كما تقدم عن ابن عيينة، ولرواية عبد ربه ويحيى أخوي سعد، وهما أجلُّ من سعد، ولاسيما يحيى، فإن ابن عيينة عَدَّه في محدثي الحجاز الذين يجيئون بالحديث على وجهه.

وعلى هذا، فالظاهر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما سأل عن تينك الركعتين خشيةَ أن تكونا مما لا يجوز صلاته في ذلك الوقت، فلما ذكر الرجل أنهما ركعتا الفجر لم يُصلِّهما قبل الفريضة فقد أدركهما حينئذٍ سكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدلَّ سكوتُه على الجواز، كما فهمه عطاء والشافعي وغيرهما.

الاحتمال الثاني: أن يقال: لا منافاة بين قوله: "ما هاتان الركعتان؟ " وبين قوله: "أصلاة الصبح مرتين؟ "، فلعله صلى الله عليه وآله وسلم جمع بين اللفظين.

فأما قوله: "أصلاتان معًا؟ " فهو محتمل لأن تكون بمعنى: "أصلاة الصبح مرتين؟ ".

وأما ما في رواية الدراوردي: "صلاة الصبح ركعتان" فهو قريب من ذلك، مع أن الدراوردي ليس بالحافظ.

وعلى هذا الاحتمال فيكون قد قال صلى الله عليه وآله وسلم: "أصلاة الصبح مرتين؟ " وهذا يحتمل وجهين:

الأول: إبقاؤه على ظاهره، وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعلم أن راتبة الصبح محلها قبلها، والغالب أداؤها كذلك، فلما رأى الرجل صلَّى بعد الصبح ركعتين جوَّز أن يكون إنما أعاد الصبح، فأنكر عليه ذلك، فلما أخبره بأنه لم يُصلِّ الصبح مرة أخرى، وإنما تداركَ الراتبة، سكت عنه.

ص: 141

الوجه الثاني: أن يحمل على نحو ما وقع في حديث عبد الله بن سَرْجَس في "صحيح مسلم"

(1)

وغيره أن رجلًا دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في صلاة الصبح، فصلى ركعتين وحده، ثم دخل مع الجماعة فصلى، قال: فلما سلَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "يا فلان! بأيِّ الصلاتينِ اعتددتَ؟ أبصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا؟ ".

فلم يكن صلاة الرجل وحدَه مَظِنةَ أنه قصد بها الفرض، ولكن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نزَّلها منزلتَها، كناية عن أن ذلك الوقت إنما تصلح فيه الفريضة، كما صرّح به في الحديث الآخر:"إذا أقيمت الصلاة فلا صلاةَ إلا المكتوبةُ".

فيحمل قوله في حديث قيس: "أصلاة الصبح مرتين" على نحو هذا، بأن يقال: لم يكن هناك مظنة لإعادة الرجل صلاةَ الصبح بعد أن صلاها مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما نُزِّلتْ منزلةَ ذلك كنايةً عن أن الوقت إنما تصلح فيه الفريضة؛ لأنه وقت كراهة.

أقول: وينبغي تدبر هذا الموضع، فإن فيه دقةً، فاعلم أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي صلَّى بعد إقامة الصبح:"بأيِّ صلاتَيْك اعتددت؟ " يتضمن إنكارينِ:

الأول: إنكار اشتغاله بصلاة غير المكتوبة، وقد أقيمت المكتوبة. وكنى عن هذا الإنكار بتنزيل صلاته وحده منزلة الفريضة، فكأنه قال: هذا الوقت ــ أي وقت إقامة المكتوبة ــ لا تصلح فيه إلا المكتوبة، فلعلك أردتَ بصلاتك أن تكون هي المكتوبة، وهذا كما تقول لمسلم تعلم أنه مفطر في نهار رمضان بغير عذر، وقد سمعته يشتم إنسانًا: لا ينبغي للصائم أن يشتم

(1)

رقم (712).

ص: 142

الناس، تُنزِّله منزلةَ الصائم توبيخًا له؛ لأنه كذلك ينبغي له أن يكون.

الإنكار الثاني: مبني على الأول، أي لا ينبغي أن يحضر الرجل الجماعةَ، فيصلِّي تلك الصلاةَ وحده، ثم يصلِّيها مع الجماعة.

فأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم للذي صلى بعد الفراغ من الصبح: "أصلاة الصبح مرتين؟ " فإنه إنما يظهر منه الإنكار الثاني، وأما الأول فلا، وذلك أن الأول مبني على أن الوقت يصلح للصبح، ولا يصلح لغيرها، وهذا واضح في الصلاة بعد الإقامة، بخلاف الصلاة بعد الفراغ من الصبح، لأنك إن أردت الصلاحية في مثل تلك الحال، فالوقت في مثل تلك الحال غير صالح للصبح، لأن الرجل قد أدَّاها في جماعة في المسجد، فلم يبقَ الوقتُ صالحًا [ق 9 أ] لأن يعيدها وحده.

وإن أردت الصلاحية في الجملة فهي ثابتة لها، ولراتبتها؛ لأنه بين طلوع الفجر وطلوع الشمس الوقتُ صالح لراتبة الصبح وفريضتها.

فعلى كلا الحالين لا يصح أن يقال: إن ذاك الوقت إنما يصلح للفريضة، فتدبرْ، وأَنْعمِ النظر!

فعلى الاحتمال الثاني يتعين الوجه الأول، وهو الموافق للظاهر، فيكون في الحديث النهي عن أن تُصلَّى الصبحُ مرتين.

على أنه لو صح الوجه الثاني لوجب استثناء راتبة الصبح بدليل آخر الحديث.

وأما الموضع الثاني: فلا ريب في مخالفة رواية الدراوردي لسائر الروايات؛ لأن عامة الروايات تتفق على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سكت ولم يقل شيئًا،

ص: 143

والدراوردي يقول: "فقال: فلا إذًا".

وهَبْ أن رواية الدراوردي صحت، فهي موافقة في الحكم لراوية الجماعة، وذلك أننا إذا قلنا في الموضع الأول بالاحتمال الأول، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما سأله عن تلك الصلاة خشيةَ أن يكون مما لا يجوز في ذلك الوقت، فأخبره الرجل بأنها راتبة الفجر تداركَها، فسواءٌ أسكتَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم قال:"فلا إذًا"؛ لأن سكوته دلَّ على أنه تبين أنها مما يجوز، إذ لو كانت مما لا يجوز لبيَّن له ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز.

فإن قيل: اكتفى ببيانٍ سابقٍ بالنهي عن الصلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس.

قلنا: اعتذار الرجل يدلُّ أنه لم يبلغه ذلك، أو لم يفهم منه النهي عن تدارك راتبة الفجر، فكيف يسكت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أن يبيِّن له في وقت حاجته اكتفاءً ببيانٍ لم يحصل له؟ مع أن السكوت مُوهِمٌ للجواز، كما لا يخفى.

وإن صح قوله: "فلا إذَنْ" فهو أوضح من السكوت؛ لأن هذه العبارة معناها في العربية: "فإذا كان كذلك فلا"، فمؤدَّاها هنا:"فإذا كانت صلاتك إنما هي راتبة الصبح تداركتَها فلا".

والمنفي بـ "لا" هو ما دل عليه قوله: "ما هذه الصلاة؟ " من أن من الصلاة ما هو ممنوع في ذلك الوقت، فكأنه قال:"فلا منْعَ".

ونظير هذا ما في "الصحيحين"

(1)

أنهم أخبروا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيلَ طواف الوادع أن صفية حاضت، فقال:"أحابِستُنا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت. قال:

(1)

البخاري (1757) ومسلم (1211/ 384) من حديث عائشة.

ص: 144

"فلا إذنْ"، أي إذا كانت قد أفاضت فليستْ بحابستنا.

ومثله ما في "صحيح مسلم"

(1)

في حديث النعمان بن بشير لما نَحَلَه أبوه غلامًا، وجاء يُشهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لبشير:"أكلَّ بَنِيكَ قد نَحَلْتَ مثل ما نحلتَ النعمانَ؟ " قال: لا. قال: "فأَشْهِدْ على هذا غيري"، ثم قال:"أيسرُّكَ أن يكونوا إليك في البرِّ سواءً؟ " قال: بلى. قال: "فلا إذَنْ" أي فإذا كان كذلك بأن كان يسرُّك استواؤهم في البر، فلا يصح أن تُفضِّل بعضَهم على بعض في النحلة.

وحكى صاحب "فيض الباري"

(2)

من الحنفية عنهم أنهم قدَّروا: "فلا جوازَ إذنْ" قال: "إلا أنه لا يظهر فيه معنى الفاء

". ثم ذهب يُوجِّه ذلك، ويحاول أن يصير المعنى ما عبَّر عنه بلغة أردو بقوله: "بهر بهي نهين" أي "وأيضًا لا"، أو "ومع ذلك لا".

ولم أر فيما استشهد به ما تقوم به الحجة.

ومقصودي هنا الكلام على هذا الحديث لا على أصل المسألة، فإن للكلام فيها موضعًا آخر، حتى لو ثبت ما تقوم به الحجة على المنع من تدارك ركعتي الفجر بعد صلاتها وقبل طلوع الشمس، لكان الجواب عن حديث قيس أنه لم يثبت ثبوتًا تقوم به الحجة وحده، فأما دلالته فظاهرة، والله أعلم.

(1)

رقم (1623/ 17).

(2)

هو الشيخ محمد أنور شاه الكشميري، وكلامه في "العرف الشذي"(1/ 402، 403).

ص: 145

نعم، أنبِّه على شيء واحدٍ، وهو أن صاحب "الفيض" ذكر ما وقع عن أبي داود

(1)

في باب المسح على الخفين في حديث المغيرة في إدراك النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناسَ وهم يصلُّون الصبحَ خلف عبد الرحمن بن عوف وقد صلَّوا ركعة، قال المغيرة:"قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصلَّى الركعة التي سُبِقَ بها، ولم يَزِدْ على ذلك".

فحمل صاحب "الفيض" قولَه: "ولم يَزِدْ على ذلك" على أنه لم يتدارك ركعتي الفجر، لا ما ذكره أبو داود من نفي سجود السهو.

أقول: يحتمل في الواقعة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى ركعتي الفجر راكبًا قبل أن يصلَ إلى الجماعة لأنه كان مسافرًا، بل هذا هو الظاهر.

وقوله: "ولم يَزِدْ شيئًا" يحتمل ما قال أبو داود، ويحتمل [ق 9 ب] معنى ثالثًا، وهو أنه لم يزِدْ ركعة أخرى، والحامل على هذا أنه قد يُتوهَّم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يعتدُّ بالركعة التي صلَّاها خلف عبد الرحمن. فتأمل! والله أعلم.

(1)

رقم (152).

ص: 146

الرسالة السادسة

إعادة الصلاة

ص: 147

[ق 10] إعادة الصلاة

أخرج أبو داود والنسائي وابن حِبّان في «صحيحه» وغيرهم

(1)

من طريق حسين بن ذَكْوان المعلِّم عن عمرو بن شعيب عن سليمان مولى ميمونة قال: أتيتُ ابنَ عمر على البلاط وهم يُصلُّون، فقلتُ: ألا تصلِّي معهم؟ قال: قد صليتُ، إني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:«لا تُصَلُّوا صلاةً في يومٍ مرتينِ» . لفظ أبي داود.

ولفظ النسائي: «لا تُعاد الصلاةُ في يومٍ مرتينِ» .

وفي رواية لغيره

(2)

: «والناس في صلاة العصر» ، ذكره الدارقطني (ص 159)

(3)

وقال: تفرد به حسين المعلم عن عمرو بن شعيب.

وللطحاوي

(4)

من طريق عمرو بن شعيب أيضًا عن خالد بن أيمن المعافري قال: «كان أهلُ العوالي يُصلُّون في منازلهم، ويُصلُّون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُعيدوا الصلاةَ في يومٍ مرتين» . قال عمرو: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: صدق.

(1)

أبو داود (579) والنسائي (2/ 114) وابن حبان (2396). وأخرجه أيضًا أحمد (4689) وابن خزيمة (1641) والدارقطني (1/ 415، 416) والبيهقي في «السنن الكبرى» (2/ 303) بهذا الإسناد.

(2)

هي رواية الدارقطني (1/ 416).

(3)

(1/ 416) من طبعة عبد الله هاشم يماني.

(4)

«شرح معاني الآثار» (1/ 317).

ص: 149

أقول: أما الحديث الأول فترجم له أبو داود: «باب إذا صلى في جماعة ثم أدرك جماعة» ، وترجم له النسائي «سقوط الصلاة عمن صلى مع الإمام في المسجد جماعةً» ، أراد بذلك الجمعَ بين حديث ابن عمر وأحاديث الإعادة، وستأتي. وذلك أن حديث ابن عمر عامٌّ، وأحاديث الإعادة أخصُّ منه، وعبارة النسائي أفقه، كما ستعلم إن شاء الله تعالى.

وحمل بعضهم

(1)

حديث ابن عمر على النهي عن الإعادة على سبيل الفرض، وليس بواضح.

نعم، لفظه في رواية:«لا صلاة مكتوبة في يوم مرتين»

(2)

، وهذا يحتمل معنى أنها إنما تكتب مرة، ولا تُكتب مرة أخرى، أي لا تُفرَض، فيكون حاصله أنه لا تُفرض إعادة الصلاة.

وأما مرسل خالد، وقد صدَّقه ابن المسيّب، فقوله:«مرتين» يحتمل أن يكون راجعًا إلى الصلاة، والتقدير:«أن يُعيدوا الصلاة، يصلوها في يوم مرتين» ، فتكون كحديث ابن عمر باللفظ الأول.

ويحتمل أن يكون راجعًا إلى الإعادة، أي «إعادتين» وهذا هو الظاهر، فإن قولك:«أعدتُ الصلاةَ مرتين» ظاهره أنك صلَّيتَها ثمَّ أعدتَها ثم أعدتَها.

فإن قيل: الواقع من فعل القوم إنما هو أنهم كانوا يُصلُّون في منازلهم، ويصلُّون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

(1)

هو البيهقي، انظر «السنن الكبرى» (2/ 303).

(2)

في المصدر السابق.

ص: 150

قلت: نعم، ولكن كان علمهم بمشروعية إعادة الصلاة في الجملة مظنةَ أن يرغب بعضهم في إعادتها أكثر من مرة.

وحديث ابن عمر يحتمل هذا المعنى، بل لفظ النسائي ظاهر فيه، وهو:«لا تُعاد الصلاةُ في يوم مرتين» .

وقد اختلف النقل عن ابن عمر؛ ففي «مصنَّف ابن أبي شيبة»

(1)

: عن يونس عن الحكم عن الأعرج قال: أتيتُ على ابن عمر والناسُ في صلاتهم الظهر، فظننته في غير طُهرٍ، فقلت له: يا أبا عبد الرحمن! آتِيْك بطهر. قال: إني على طهارة، وقد صليتُ، فبأيِّهما أَحتسبُ. قال يونس: فذكرت ذلك للحسن، فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن، يجعل الأولى المكتوبة، وهذه نافلةً.

وعن عبد الوهاب الثقفي عن عبد الله بن عثمان عن مجاهد قال: خرجتُ مع ابن عمر من دار عبد الله بن خالد، حتى إذا نظرنا إلى باب المسجد إذِ الناس في صلاة العصر، فلم يزل واقفًا حتى صلَّى الناس، وقال: إني صلّيتُ في البيت

(2)

.

وعن أبي خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان عن نافع أن ابن عمر اشتغل ببناءٍ له، فصلَّى الظهر، ثم مرَّ بمسجدِ بني عوف وهم يصلّون، فصلَّى معهم

(3)

.

(1)

رقم (6709).

(2)

المصدر السابق (6739).

(3)

المصدر السابق (7625).

ص: 151

وفي «الموطأ»

(1)

: عن نافع أن رجلًا سأل ابنَ عمر فقال: إني أُصلِّي في بيتي، ثم أُدرِكُ الصلاةَ مع الإمام، أفأُصلِّي معه؟ فقال له عبد الله بن عمر: نعم

».

وفي «مصنف ابن أبي شيبة»

(2)

: عن ابن نُمير عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: «إذا صلَّى الرجل في بيته ثم أدرك جماعةً صلَّى معهم، إلا المغرب والفجر» .

وفي «الموطأ»

(3)

عن نافع عن ابن عمر نحوه.

وفي هذه الآثار كالدلالة على أن أصل الحديث إنما هو النهي عن الإعادة مرتين، كما في رواية النسائي، لا عن الصلاة مرتين.

وبالجملة، فالذي استقرَّ عليه رأيُ ابن عمر مشروعية الإعادة مع الجماعة، وإنما استثنى المغرب والفجر؛ لأن المغرب وتر، وللنهي عن الصلاة بعد صلاة الفجر، وإنما لم يستثنِ العصر؛ لأن مذهبه جواز الصلاة بعد العصر حتى تصفرَّ، كما في «فتح الباري»

(4)

.

ولننظر في الأدلة على مشروعية الإعادة:

1 -

في «صحيح مسلم»

(5)

وغيره من حديث أبي ذر: قال لي

(1)

(1/ 133).

(2)

رقم (6726).

(3)

(1/ 133).

(4)

(2/ 63).

(5)

رقم (648).

ص: 152

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كيف أنت إذا كانت عليك أمراءُ يُؤخِّرون الصلاةَ عن وقتها، أو يُمِيتُون الصلاةَ عن وقتها؟ » . قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: «صلِّ الصلاةَ لوقتها، فإن أدركتَها معهم فصَلِّ، فإنها لك نافلة» .

وفي روايةٍ لمسلم

(1)

: «صلِّ الصلاةَ لوقتها، فإن أدركتَ الصلاة معهم فصَلِّ، ولا تقلْ: إني قد صلَّيتُ، فلا أُصلِّي» .

وبمعناه أحاديث عن ابن مسعود

(2)

وعبادة بن الصامت

(3)

وغيرهما، وليس فيها التقييد بخوف فتنة أو نحوه.

2 -

أخرج ابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما»

(4)

، والحاكم في «المستدرك»

(5)

وقال: صحيح كما في «تلخيص المستدرك» (1/ 244)، وابن السكن وصححه

(6)

، والترمذي

(7)

وقال: حسن صحيح، والنسائي

(8)

وأبو داود

(9)

وغيرهم عن يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه قال: «شهدتُ مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حَجَّتَه، فصليتُ معه صلاة الصبح في

(1)

رقم (648/ 242).

(2)

أخرجه مسلم (534).

(3)

أخرجه أبو داود (433).

(4)

ابن خزيمة (1279، 1638، 1713) وابن حبان (1564، 1565، 2395).

(5)

(1/ 244، 245).

(6)

نقل تصحيحه الحافظ في «التلخيص الحبير» (2/ 29).

(7)

رقم (219).

(8)

(2/ 112، 113).

(9)

رقم (575، 576).

ص: 153

مسجد الخيف، فلما قضى صلاتَه وانحرف إذا هو برجلين في أُخرى القوم لم يُصلِّيا معه، فقال:«عليَّ بهما» ، فجِيءَ بهما تُرْعَدُ فَرائصُهما، فقال:«ما مَنَعَكما أن تُصلِّيا معنا؟ » ، فقالا: يا رسول الله، كنَّا صلَّينا في رِحالِنا. قال:«فلا تفعلا، إذا صلَّيتما في رِحالكما، ثم أتيتُما مسجدَ جماعةٍ، فصلِّيا معهم، فإنها لكما نافلةٌ» .

أقول: جابر بن يزيد بن الأسود، قال ابن المديني: لم يروِ عنه غير يعلى بن عطاء

(1)

، ولذلك قال الشافعي: «إسناده مجهول، نقله البيهقي

(2)

. وقد وثَّقه النسائي

(3)

، وصحَّح حديثه جماعة كما مر. ولأئمة الحديث مذاهبُ في توثيق من لم يروِ عنه إلا واحد، ليس هذا موضعَ شرحها.

وقد أخرجه الدارقطني (ص 159)

(4)

بسندٍ رجاله موثَّقون عن بقيَّة حدثني إبراهيم (بن عبد الحميد) بن ذي حماية حدثني عبد الملك بن عُمير عن جابر بن يزيد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نحوه.

وإبراهيم، قال أبو زرعة

(5)

: ما به بأس، وقال ابن حبان في أتباع التابعين من «الثقات»

(6)

: من فقهاء أهل الشام، كان على قضاء أهل حمص.

(1)

انظر «تهذيب التهذيب» (2/ 46).

(2)

في «السنن الكبرى» (2/ 302).

(3)

انظر «التلخيص الحبير» (2/ 29).

(4)

(1/ 414).

(5)

انظر «الجرح والتعديل» (2/ 113).

(6)

(6/ 13).

ص: 154

وهذه متابعة جيدة، وذكر الدارقطني وجهين آخرين

(1)

، فراجعه.

3 -

مالك في «الموطأ» ، وابن خزيمة في «صحيحه» ، والحاكم في «المستدرك» وقال: صحيح، والنسائي

(2)

وغيرهم عن زيد بن أسلم عن بُسْر بن مِحْجَن الدِّيلي: أنه كان جالسًا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأُوذِنَ

(3)

بالصلاة، فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلَّى بهم، ثم رجعَ ومِحْجَنٌ في مجلسه كما هو، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«ما منعَكَ أن تُصَلِّي؟ ألستَ برجلٍ مسلم؟ » قال: بلى يا رسول الله، ولكني يا رسول الله كنتُ قد صلَّيتُ في أهلي. قال:«فإذا جئتَ فصَلِّ مع الناس وإن كنتَ قد صلَّيتَ» . لفظ الحاكم في المستدرك (1/ 244)، ثم قال: هذا حديث صحيح، ومالك بن أنس الحَكَم في حديث المدنيين، وقد احتجَّ به في «الموطأ» .

أقول: لم يذكروا لبُسْرٍ إلا راويًا واحدًا هو زيد بن أسلم

(4)

، فحاله شبيهة بحال جابر بن يزيد، لكن رواية زيد مع جلالة محله تُقوِّي حالَه، وقد جاء عن زيد أنه سُئل عن حديثٍ فقيل له: عمَّن هذا؟ فقال: يا ابن أخي، لم نكن نجالس السفهاء

(5)

.

(1)

انظر «سننه» (1/ 414).

(2)

«الموطأ» (1/ 132) و «المستدرك» (1/ 244) والنسائي (2/ 112) ولم أجده عند ابن خزيمة. وأخرجه أيضًا أحمد (16395) وابن حبان (2405) والبيهقي (2/ 300).

(3)

في الموطأ والمسند: «فأُذِّن» .

(4)

انظر «تهذيب التهذيب» (1/ 438).

(5)

انظر «تهذيب التهذيب» (3/ 396).

ص: 155

4 -

أبو داود

(1)

وغيره من طريق سعيد بن السائب عن نوح [بن]

(2)

صعصعة عن يزيد بن عامر قال: جئتُ

فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا جئتَ إلى الصلاة فوجدتَ الناسَ، فصَلِّ معهم وإن كنتَ قد صلَّيتَ، تَكُنْ لك نافلةً، وهذه مكتوبة» .

أقول: نوح بن صعصعة لم يُذكَر له راوٍ إلا سعيد بن السائب

(3)

، واستنكروا قوله:«وهذه مكتوبة» .

5 -

مالك في «الموطأ»

(4)

عن عَفِيف السَّهمي عن رجلٍ من بني أسد أنه سأل أبا أيوب الأنصاري فقال: إنّي أصلِّي في بيتي، ثم آتي المسجدَ، فأجدُ الإمامَ يُصلِّي، أفأُصلِّي معه؟ فقال أبو أيوب: نعم، فَصَلِّ معه، فإنَّ من صنَعَ ذلك فإن له سَهْمَ جَمْعٍ، أو مثلَ سَهْمِ جَمْعٍ.

وأخرجه أبو داود

(5)

بسند صحيح إلى بُكَير بن عبد الله بن الأشجِّ عن عَفِيف بن عمرو بن المسيّب، وفيه: فقال أبو أيوب: سألنا عن ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:«فذلك له سهمُ جَمْعٍ» .

وقال بعضهم: «يعقوب بن عمرو بن المسيب» بدل «عفيف» ، كما في «تاريخ» البخاري (4/ 2/ 190)

(6)

.

(1)

رقم (577).

(2)

ساقطة من الأصل.

(3)

انظر «تهذيب التهذيب» (10/ 485).

(4)

(1/ 133).

(5)

رقم (578).

(6)

«التاريخ الكبير» (8/ 390).

ص: 156

عفيف: وثَّقه النسائي

(1)

، ويكفيه رواية مالك وبُكير عنه، ومالك مشهور بأنه لا يروي إلا عن ثقة، وكذلك بُكير، قال عمرو بن الحارث

(2)

: إذا رأيتَ بكير بن عبد الله روى عن رجلٍ فلا تسأل عنه، فهو الثقة الذي لا شكَّ فيه. ذكره في «التهذيب» في ترجمة بكير.

6 ــ أحمد في «المسند» (4/ 215)

(3)

: ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق قال: حدثني عمران بن أبي أنس عن حنظلة بن علي الأسلمي عن رجلٍ من بني الدِّيل قال: «صليتُ الظهر في بيتي، ثمّ خرجتُ بأباعِرَ لي لأُصْدِرَها إلى الراعي، فمررتُ برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يُصلِّي بالناس الظهرَ، فمضيتُ فلم أُصَلِّ معه، فلما أَصدَرتُ أباعرِي ورجعتُ ذُكِرَ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: «ما مَنَعَك يا فلانُ أن تُصلِّي معنا حينَ مررتَ بنا؟ » قال: قلت: يا رسول الله، إنّي قد كنتُ صلَّيتُ في بيتي، قال:«وإنْ» .

[ق 11] أقول: الرجل من بني الدِّيل صحابي، ورجال السند كلهم ثقات، إلا أن في ابن إسحاق كلامًا، والراجح عندهم أنه ثقة يُدلِّس، وقد صرَّح هنا بالسماع، فزالت تهمة التدليس.

7 ــ أبو داود والترمذي

(4)

وقال: حديث حسن، وابن خزيمة وابن حبان في «صحيحيهما»

(5)

، والحاكم في «المستدرك» (1/ 209) وقال: صحيح

(1)

انظر «تهذيب التهذيب» (7/ 236).

(2)

بل أحمد بن صالح المصري كما في «التهذيب» (1/ 492، 493).

(3)

رقم (17890).

(4)

أبو داود (574) والترمذي (220).

(5)

ابن خزيمة (1632) وابن حبان (2397، 2398، 2399). وأخرجه أيضًا أحمد (11613، 11019) والدارمي (1/ 318) والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 69).

ص: 157

على شرط مسلم، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري قال: جاء رجل وقد صلَّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمدة، فقال:«أيكم يَتَّجِرُ على هذا؟ » ، فقام رجل فصلَّى معه. لفظ الترمذي، ولفظ أبي داود والحاكم:«ألا رجلٌ يتصدق على هذا فيُصلِّي معه» .

وجاء بمعناه من حديث أبي أمامة عند أحمد (5/ 254)

(1)

، ومن حديث أنس عند الدارقطني (ص 103)

(2)

، وفي «كنز العمال»

(3)

أنه أخرجه أبو عوانة والضياء في «المختارة»

(4)

. وقال الترمذي

(5)

: وفي الباب عن أبي أمامة وأبي موسى

(6)

والحكم بن عُمير

(7)

.

(1)

رقم (22189، 22316). وإسناده ضعيف جدًّا، لضعف عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد الألهاني.

(2)

(1/ 276).

(3)

(7/ 643) برقم (20692).

(4)

رقم (1670، 1671). وأخرجه أيضًا الطبراني في «المعجم الأوسط» (7282). وإسناده حسن.

(5)

عقب الحديث (220).

(6)

أخرجه ابن ماجه (972) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 308) والدارقطني (1/ 280) والحاكم في «المستدرك» (4/ 334) والبيهقي (3/ 69) بلفظ: «الاثنان فما فوقهما جماعة» . وإسناده ضعيف جدًّا، الربيع بن بدر متروك، ووالده وجدّه مجهولان.

(7)

في الأصل: «عمرو» ، والتصويب من الترمذي. والحديث أخرجه ابن سعد في «الطبقات» (7/ 415) وابن عدي في «الكامل» (5/ 250) باللفظ المذكور. وفي إسناده عيسى بن إبراهيم القرشي، قال البخاري:«منكر الحديث» .

ص: 158

وجاء من مرسل أبي عثمان النهدي

(1)

، والحسن البصري. قال ابن أبي شيبة في «المصنف»

(2)

: ثنا هُشيم نا خصيف بن يزيد التيمي

(3)

قال: نا الحسن أن رجلًا دخل المسجدَ وقد صلَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: «ألا رجلٌ

(4)

يقوم إلى هذا فيصلِّي معه؟ »، فقام أبو بكر فصلَّى معه، وكان قد صلَّى تلك الصلاة.

8 و 9 و 10 ــ حديث جابر في صلاة معاذ، وحديثه في صلاة الخوف، وحديث أبي بكرة في صلاة الخوف أيضًا، وستأتي إن شاء الله تعالى.

(1)

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف برقم (7173).

(2)

رقم (6723).

(3)

كذا في نسخ «المصنّف» ، والصواب:«خصيب بن زيد التميمي» ، كما في «التقريب» وغيره من كتب الرجال.

(4)

في الأصل: «رجلًا» . والتصويب من «المصنّف» .

ص: 159

الفقه

لا يخفى أن الأصل عدم مشروعية الإعادة، وهذه الأحاديث إنما دلَّت على مشروعية الإعادة في صور:

الأولى: من صلَّى في بيته أو نحوه، ولو جماعةً، ثم أدرك الجماعة في المسجد.

وقولي: «ولو جماعةً» مأخوذ من عموم الأحاديث؛ إذ لم تُقيَّد الصلاة في الرحل بكونها فرادى.

الثانية: فيما إذا رأى إنسانًا يريد الصلاة وحده، فيتصدَّق عليه.

الثالثة: في الرجل يكون إمامًا راتبًا، فيصلِّي في غير مسجده، ثم يرجع إلى مسجده، فيصلِّي بهم.

الرابعة: في الخوف.

فما عدا هذه الصور باقٍ على الأصل من عدم مشروعية الإعادة، إلا أن يتفق ما هو في معنى واحدةٍ منها.

فأما حديث ابن عمر مرفوعًا: «لا تُصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين» أو «لا تُعاد الصلاة في يومٍ مرتين» أو «لا صلاةَ مكتوبة في يومٍ مرتين» ، فإن كان باللفظ الثاني، ومعناه النهي عن إعادتها مرتين، بأن يصلِّيها ثم يعيدها ثم يعيدها، فلا مخالفةَ فيه لما تقدم، إلا أن يُتصوَّر في بعض الصور الأربع ما يستلزم مثل هذا، كأن يصلّي في بيته، ثم يعيد مع الإمام، ثم يريد أن يتصدق بإعادتها مع من يريد أن يصلِّي وحدَه.

ص: 160

وإن كان باللفظ الثالث: لا تُكْتَب أي لا تُفْرَض صلاةٌ واحدةٌ في يوم مرتين، وحاصله أن تكون إعادةُ صلاةٍ من المكتوبات مفروضةً كأصلها، فلا خلاف فيه أيضًا.

وإن كان باللفظ الأول: «لا تُصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين» فهو عام، وأحاديث الباب خاصة، فيعمل بها فيما دلَّت عليه، وما بقي فللعام.

وهذا فيما يظهر مُجمَعٌ عليه في الظهر والعشاء، واختلف الناس في الباقي.

أما الصبح والعصر، فللنهي عن الصلاة بعدهما.

وأما المغرب فقياسًا على الوتر.

والذي يترجح إعادة الصبح أيضًا للحديث الثاني، وكذلك العصر للحديث الأول، وقياسًا على الثاني من باب أولى؛ لأنه قد ورد جواز الصلاة بعد العصر في غير هذا.

وقد يقال: إنه بين طلوع الفجر وطلوع الشمس إنما المنهيُّ عنها ما عدا راتبةِ الصبح وفريضتِها، فهي خارجة عن النهي، فكذلك الصبح إذا أُعيدَتْ حيث تُشْرَع إعادتها، ونحوه يقال في إعادة العصر.

هذا، والأحاديث في الأوقات المكروهة تدلُّ أن الكراهة إنما تشتدُّ في وقت طلوع الشمس ووقت غروبها. وأما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس، وبين صلاة العصر ووقت الغروب، فإنما هما كالحِمَى لسدِّ الذريعة.

فلو قيل: إن ما عدا الفريضتين مما له سببٌ متقدمٌ أو مقارنٌ إنما يمتنع عند الطلوع وعند الغروب، لكان مذهبًا يتفق به عامة الأدلة، كذا كان يخطر

ص: 161

لي، ثم رأيتُ بعض أجلَّة العصرِ نحا نحوه.

فأما المغرب فقد جاءت إعادتها في إمامة معاذ بقومه، كما يأتي، وكذلك في الخوف كما يأتي، وعموم الأدلة يقتضي إعادتَها بصفتها، وجاء عن جماعةٍ من السلف أنه يَشْفَعُها بركعة، كما قيل بنحوه في الوتر. وجاء عن بعضهم ما يدلُّ على التخيير بين أن يُعيدَها بصفتها، وأن يُعيدَها ويَشْفعَها بركعة.

والأقرب ــ والله أعلم ــ أنه يُعيدها بصفتها، ومما يُؤيِّد هذا احتمالُ أن يكون في صلاته الأولى خللٌ ضارٌّ لم يتنبه له، فتكون الثانية هي فرضَه على الحقيقة، أو تكون الثانية أكثرَ أجرًا، فيتفضل الله عز وجل بجعلها فريضتَه حتى يكون له فيها الثواب الفرض.

وهذا مجمل ما جاء عن ابن عمر وابن المسيِّب أن تعيين أيهما الفرض إلى الله عز وجل، ولا يُنافي هذا ما جاء من السنة، وفي كلام ابن عمر وغيره أن الثانية نافلة، فإن هذا ــ والله أعلم ــ مبنيٌّ على الظاهر من أنه قد صلَّى صلاةً صحيحة بَرِئتْ بها ذمتُه في الظاهر، فتدبَّر! والله أعلم.

ص: 162