الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقالة الأولى
في حقيقة الوتر
قال الربيع في كتاب "اختلاف مالك والشافعي"
(1)
: "باب ما جاء في الوتر بركعةٍ واحدة. سألتُ الشافعي عن الوتر: أيجوز أن يُوتِر الرجلُ بواحدةٍ ليس قبلها شيء؟ قال: نعم. والذي أختار أن أُصلِّي عشر ركعاتٍ ثم أُوتِرَ بواحدةٍ".
ثم ساق الأدلة إلى أن قال
(2)
: "فقلتُ للشافعي: فإنا نقول: لا نُحِبُّ لأحدٍ أن يُوتِر بأقلَّ من ثلاثٍ، ويُسلِّمَ بين الركعة والركعتين من الوتر".
ثم ساق جواب الشافعي، وفي آخره: "قال الشافعي رحمه الله تعالى: وقد أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يُوتِر بخمس ركعاتٍ لا يجلس ولا يُسلِّم إلّا في الآخرةِ منهن.
فقلت للشافعي: فما معنى هذا؟ قال: هذه نافلةٌ، يَسَع أن يُوتِر بواحدةٍ وأكثر، ونختار ما وصفتُ من غيرِ أن نُضيِّق غيرَه. وقولكم ــ والله يَغفِر لنا ولكم ــ لا يوافق سنةً ولا أثرًا، ولا قياسًا ولا معقولًا، قولُكم خارجٌ من كل شيء من هذا وأقاويلِ الناس. إما أن تقولوا: لا يوتر إلا بثلاثٍ كما قال بعض المشرقيين، ولا يسلّم إلا في واحدةٍ منهن لئلا يكون الوتر واحدةً. [وإما أن
(1)
ضمن كتاب "الأم"(8/ 554) ط. دار الوفاء.
(2)
المصدر نفسه (8/ 556).
لا تكرهوا الوتر بواحدةٍ، وكيف تكرهون الوتر بواحدةٍ]
(1)
وأنتم تأمرون بالسلام فيها، فإذا أمرتم به فهي واحدة. وإن قلتم: كرهناه لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُوتِر بواحدةٍ ليس قبلها [شيء]، فلم يُوتِر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثٍ ليس قبلهن شيء، وقد استحسنتم أن تُوتِروا بثلاثٍ".
فأول كلامه رضي الله عنه ــ ولاسيَّما قوله: "لئلا يكون الوتر واحدة" ــ يُفِيد أن الوتر هو ما صُلِّي بتسليمةٍ واحدةٍ: ركعة أو ثلاثًا أو أكثر، ولا يَشْرَكُه في اسم الوتر ما سبقَه من شَفْعٍ مفصولًا عنه. وآخر كلامه يُشبه خلافَ ذلك. وكلام المزني في "المختصر"
(2)
يؤيِّد الأول.
وقد يقال: إن قول الشافعي: "وقد استحسنتم أن تُوتِروا بثلاث" تسليمٌ جدلي، كأنه قال: لا يخلو قولكم: "يُوتِر بثلاثٍ مفصولة" أن يكون وجهه كراهية الوتر واحدةً، أو كراهية مخالفة السنة في الوتر بواحدةٍ لم يسبقها شَفْعٌ، فإن كان الأول فإن اشتراطكم الفصلَ هو عينُ ما فررتم منه، إذ الركعة صُلِّيتْ مفردةً، فهي الوتر، ولا تَشْرَكها الركعتان في اسم الوتر لوجود الفصل، وإن كان الثاني فمن تأمل كلام الإمام رضي الله عنه حقَّ تأمُّلِه تبيَّن أن الوتر عنده هو ما صُلِّي بتسليمةٍ واحدة وترًا: ركعةً أو ثلاثًا أو أكثر. ولا يقدح في هذا قوله في آخر كلامه: "وقد استحسنتم أن تُوتروا بثلاثٍ"، لأنه على سبيل التسليم الجدلي، لما ستراه.
وتفسير كلام الإمام بعبارةٍ أخرى: قولكم: "لا نحب أن يوتر [إلا]
(1)
ساقط من الأصل، استدركناه من "الأم".
(2)
(ص 114)(ضمن المجلد الثامن من كتاب "الأم" طبعة دار الفكر بيروت).
بثلاثٍ مفصولة" لا يخلو عن أحد أربعة وجوه:
إما أن يكون كراهيةَ إيقاع ركعةٍ منفردة، ولم يُعهَد ذلك في الصلاة.
وإما أن يكون كراهيةَ الاقتصار عليها، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتصر.
وإما أن يكون ذهابًا إلى حديث "مثنى مثنى".
وإما أن يكون كراهيةَ إيقاعها بدون سَبْقِ شَفْعٍ قبلها.
فأما الأول فشرطكم الفصلَ وقوعٌ فيما فررتم منه، ووجودُ الركعتين قبلها لا يُخلِّصها من كونها مفردة.
وأما الثاني فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقتصر على الثلاث أيضًا، فلِمَ اقتصرتم عليها؟
وأما الثالث فإن أقلَّ ما يقع عليه "مثنى مثنى" أربع، فلِمَ اقتصرتم على ركعتين؟
وأما الرابع فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يُوتِرْ بثلاثٍ لم يَسْبِقْها شَفْع، وأنتم تزعمون أن الثلاث المفصولة وترٌ ولا تشترطون قبلها شفعًا.
إذا تقرر ما ذُكِر علمتَ أن الوتر في كلام الإمام عبارة عمّا صُلِّي وترًا بنيته موصولًا بتسليمةٍ واحدة: ركعة أو ثلاث أو خمس أو أكثر. وأما أهل مذهبه فإن الوتر في كلامهم عبارةٌ عما صُلِّي بنية الوتر، من ركعةٍ إلى أحد عشر، مع الوصل أو الفصل.
قلت: وظاهر قول الربيع: "فإنا لا نحب لأحدٍ أن يُوتِر بأقلَّ من ثلاثٍ، ويُسلِّم بين الركعة والركعتين من الوتر": أن مذهب مالك أن الوتر عبارة عن
تلك الثلاث المفصولة، وعليه بنى الشافعي جوابَه في الوجه الرابع حيث قال:"وقد استحسنتم أن توتروا بثلاثٍ"، والظاهر أن ذلك قولٌ في مذهب مالك. والراجح عنده أن الوتر هو الركعة المفصولة.
قال الباجي في "شرح الموطأ": فأما المسألة الثانية في عدد الوتر، فإن مالكًا رحمه الله ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات. والدليل على ما نقوله قول عائشة رضي الله عنها في الحديث: "يُوتِر منها بواحدةٍ"
(1)
.
قال ابن رشد في "بداية المجتهد"
(2)
: وأما صفته ــ أي الوتر ــ فإن مالكًا رحمه الله استحبَّ أن يُوتر بثلاثٍ يُفصَل بينها بسلام. وقال أبو حنيفة: الوتر ثلاث ركعات من غير أن يُفصَل بينها بسلام. وقال الشافعي: الوتر ركعة واحدةٌ. ولكلِّ قولٍ من هذه الأقاويل سلفٌ من الصحابة والتابعين.
إلى أن قال: فمن ذهب إلى أن الوتر ركعة واحدة، فمصيرًا إلى قوله عليه الصلاة والسلام:"فإذا خشيتَ الصبحَ فأوْتِرْ بواحدة"
(3)
، وإلى حديث عائشة أنه كان يُوتِر بواحدة
(4)
. ومن ذهب إلى أن الوتر ثلاث من غير أن يُفصَل بينها، وقصرَ حكم الوتر على الثلاث فقط
…
إلخ.
(1)
(2/ 161) ط. دار الكتب العلمية.
(2)
(1/ 236 - 238) ط. دار الكتب الإسلامية بمصر.
(3)
أخرجه البخاري (1137) ومسلم (749) من حديث ابن عمر.
(4)
أخرجه أبو داود (1336، 1337) والنسائي (2/ 30، 3/ 65) وابن ماجه (1177، 1358). وصححه ابن حبان (2422، 2423) وغيره.
إلى أن قال: وأما مالك فإنه تمسك في هذا الباب بأنه عليه الصلاة والسلام لم يُوتر قطُّ إلّا في إثر شَفْعٍ، فرأى أن ذلك من سنة الوتر، وأن أقل ذلك ركعتان، فالوتر عنده على الحقيقة إما أن يكون ركعةً واحدةً، ولكن من شرطها أن يتقدمها شَفْع، وإما أن يرى أن الوتر المأمور به هو يشتمل على شَفْع ووتر، فإنه إذا زيد على الشفع وترٌ صار الكلُّ وترًا. ويشهد لهذا المذهب حديث عبد الله بن قيس المتقدم
(1)
، فإنه سمَّى الوتر فيه العدد المركب من شفع ووتر، ويشهد لاعتقاده أن الوتر هو الركعة الواحدة أنه كان يقول: كيف يوتر بواحدة ليس قبلها شيء؟ وأي شيء يُوتِر له؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "تُوتِر له ما قد صلَّى"
(2)
. فإن ظاهر هذا القول أنه كان يرى أن الوتر الشرعي هو العدد الوتر بنفسه، أعني الغير المركب من الشفع والوتر، وذلك أن هذا هو وتر لغيره، وهذا التأويل عليه أولى. هـ.
قلتُ: فكلام الباجي قاطعٌ بأن الوتر عند مالك ركعة واحدة، ومفادُه أن الشفع الذي قبلها لا يجوز أن يكون بنية الوتر. وأما ابن رشد فرجَّح ذلك أيضًا، وكلاهما نسباه إلى الشافعي. وأجاز ابن رشد أن يكون مالك يرى أن الوتر يشتمل على شفعٍ ووتر، أي مفصولين، لاستدلاله بحديث عبد الله بن قيس، ولفظه:"قلت لعائشة: بكم كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُوتر؟ قالت: كان يُوتِر بأربعٍ وثلاثٍ، وستٍّ وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعشرٍ وثلاث. ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ، ولا بأكثر من ثلاث عشرة". وأما مع الوصل فثلاثٌ
(1)
أخرجه أبو داود (1362) من حديث عبد الله بن أبي قيس عن عائشة. ويقال له "ابن قيس" أيضًا.
(2)
أخرجه البخاري (990) ومسلم (749).
بتسليمة، أو خمسٌ أو سبع أو تسع، فآخر كلامه أن مالكًا ــ بناءً على الراجح عنه ــ يُسمِّي المجموع وترًا، إلّا أنه لم يُجِز الوصل.
فقد تبيَّن لك أن الراجح عنده عن مالك أن الوتر هو حقيقة شرعية في الركعة الواحدة، ولو أُجِيز الوصلُ بثلاثٍ أو أكثر لكان ذلك وِترًا أيضًا. وأما إذا حصل الفصل بين ركعتين وركعة مثلًا، فلا يكون الوتر إلّا الركعة، فتأمَّلْ.
وظاهر كلامهما نسبة ذلك إلى الشافعي، وهو صحيح.
* * * *