المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الدليل الثانيحديث جابر في صلاة الخوف - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٦

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" هل يفيد إخراج الأبنية

- ‌1 - حديث ابن عمر في الصحيحين

- ‌الباب الثاني في الرخصة

- ‌حكم القبلة وقضاء الحاجة

- ‌ فقه هذا الحديث

- ‌فصلهل يُعيد إمامًا

- ‌ أدلة المجيزين:

- ‌فصلوممن رواه عن جابر:

- ‌الدليل الثانيحديث جابر في صلاة الخوف

- ‌ فصلمما يُستدل به لصحة اقتداء المفترض بالمتنفِّل:

- ‌مقدمة في حقيقة الوتر

- ‌المقالة الأولىفي حقيقة الوتر

- ‌مبحث في الوتر [بواحدة]

- ‌بحث في حقيقة "الوتر" ومسمَّاه في الشرع

- ‌الفصل الثانيفي الاقتصار على ثلاث

- ‌تحقيق الكلام في حديث: "لا توتِروا بثلاثٍ

- ‌مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبويوما صار إليه في عهد عمر

- ‌الاختلافُ في الأفضل: أفي البيت أم في المسجد؟فرادى أم جماعة

- ‌هل هناك مانعٌ

- ‌الفصل الأولما هو المقام

- ‌الفصل الثانيلماذا سُمّي "الحَجر" مقامَ إبراهيم

- ‌الفصل الثالثأين وضع إبراهيم المقامَ أخيرًا

- ‌الفصل الرابعأين كان موضعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌تمحيص هذه الأقوال

- ‌الفصل الخامسلماذا حوّل عمر رضي الله عنه المقام

- ‌الفصل السادسمتى حوَّل عمر رضي الله عنه المقام؟ولماذا قدَّرَهُ المُطَّلِبُ، واحتاجَ عُمَرُ إلى تقديرِه

- ‌تلخيص وتوضيح

الفصل: ‌الدليل الثانيحديث جابر في صلاة الخوف

‌الدليل الثاني

حديث جابر في صلاة الخوف

في «الصحيحين» من طريق أبي سلمة عن جابر: «أقبلنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا كنّا بذات الرِّقاع قال: كنا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: فجاء رجل من المشركين، وسيفُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُعلَّقٌ بشجرة، فأخذ سيفَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاخْتَرَطَه

فنودي بالصلاة، فصلَّى بطائفة ركعتين، ثم تأخَّروا، وصلَّى بالطائفة الأخرى ركعتين، قال: فكانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربع ركعات، وللقوم ركعتان». لفظ مسلم، أخرجه في صلاة الخوف

(1)

عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عفَّان عن أبان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وذكر البخاري في «الصحيح»

(2)

عن غزوة ذات الرِقاع فقال: «وقال أبانٌ حدثنا يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة» .

وأخرجه مسلم أيضًا

(3)

من طريق معاوية بن سلّام عن يحيى عن أبي سلمة عن جابر، مسلسلًا بالإخبار، ذكر الصلاة فقط.

وقال البخاري

(4)

: وقال لي عبد الله بن رجاء أخبرنا عمران القطّان عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بأصحابه في الخوف في غزوة السابعة غزوة ذات الرقاع» .

(1)

رقم (843).

(2)

رقم (4136) تعليقًا.

(3)

رقم (843/ 311).

(4)

رقم (4125).

ص: 183

وفي «فتح الباري»

(1)

: أن السرَّاج أخرجه في «مسنده»

(2)

المبوَّب فقال: حدثنا جعفر بن هاشم ثنا عبد الله بن رجاء، فذكره

، وفيه:«أربع ركعات؛ صلَّى بهم ركعتين، ثم ذهبوا، ثم جاء أولئك، فصلَّى بهم ركعتين» .

قال البخاري

(3)

: «وقال مسدَّد عن أبي عوانة عن أبي بشر: اسم الرجل غَوْرَث بن الحارث، وقاتلَ فيها مُحارِبَ خَصَفَةَ» .

قال في «الفتح»

(4)

: «أخرجه مسدد في «مسنده» رواية معاذ بن المثنى عنه

عن أبي بشر عن سليمان بن قَيْس عن جابر

قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُحارِبَ خَصَفَةَ بنخلٍ

».

أقول: وقد أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (3/ 364)

(5)

: ثنا عفان ثنا أبو عوانة ثنا أبو بشر عن سليمان بن قَيْس عن جابر بن عبد الله قال: «قاتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مُحارِبَ خَصَفَة بنخلٍ، فرأوا من المسلمين غِرَّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غَوْرث بن الحارث

، فلما كان الظهر أو العصر صلَّى بهم صلاةَ الخوف، فكان الناس طائفتين، طائفة بإزاء عدوِّهم، وطائفة صلَّوا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فصلَّى بالطائفة الذين كانوا معه ركعتين، ثم انصرفوا

وجاء أولئك فصلَّى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، فكان للقوم ركعتان ركعتان، ولرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعُ ركعات».

(1)

(7/ 419).

(2)

رقم (1560).

(3)

رقم (4136).

(4)

(7/ 428).

(5)

رقم (14929).

ص: 184

وأخرجه أحمد أيضًا (3/ 390)

(1)

ثنا سُرَيج ثنا أبو عوانة

فذكره بسنده ومعناه.

وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (3/ 29) من طريق عارم عن أبي عوانة، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرَّه الذهبي.

وفي «تفسير ابن جرير» (5/ 145)

(2)

: ثنا ابن بشَّار قال: ثنا معاذ بن هشام قال: ثنا أبي عن قتادة عن سليمان اليَشْكُري أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة، أيَّ يومٍ أُنزِلَ؟ أو أيّ يومٍ هو؟ فقال جابر: انطلقنا نَتلقَّى عِيرَ قريش آتيةً من الشام، حتى إذا كنا بنخلٍ جاء رجل من القوم

ثم نُودِيَ بالصلاة، فصلَّى رسول الله بطائفة من القوم، وطائفة أخرى يَحرُسونهم، فصلَّى بالذين يَلُونه ركعتين، ثم تأخَّر الذين يَلُونه على أعقابهم، فقاموا في مَصَافِّ أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلَّى بهم ركعتين، والآخرون يَحرُسونهم، ثم سلَّم، فكانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعَ ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذٍ أنزل الله إقصارَ الصلاة، وأمر المؤمنين بأخْذِ السلاح».

أقول: رواية أبي سلمة صحيحة، وأما رواية سليمان بن قيس فإن أبا بشر وقتادة لم يسمعا منه؛ لأنه تقدم موته، ولكن كان قد كتب عن جابر صحيفة، فهي صحيفة جابر المشهورة، فمن الناس من يروي ما فيها عن جابر رأسًا، ومنهم من يقول: عن سليمان عن جابر، ذكر هذا البخاري في «تاريخه»

(1)

رقم (15190).

(2)

(7/ 414) ط. دار هجر.

ص: 185

وأبو حاتم وغيرهما

(1)

.

وفي «الكفاية» للخطيب (ص 354): «وقال همَّام بن يحيى: قدِمَتْ أمُّ سليمان اليشكري بكتاب سليمان، فقُرِئ على ثابت وقتادة وأبي بشر والحسن ومُطرِّف، فروَوْها كلَّها، وأما ثابت فروى منها حديثًا واحدًا.

وفي «معرفة علوم الحديث» للحاكم (ص 110) من طريق ابن المديني سمعت يحيى يقول: قال التيمي: ذهبوا بصحيفة جابر إلى الحسن فرواها، وذهبوا بها إلى قتادة فرواها، وأتوني بها فلم أَرْوِها.

أقول: وقد رُوِي هذا الحديث عن الحسن عن جابر، فيمكن أن يكون من هذه الصحيفة.

قال الشافعي في «الأم» (1/ 153)

(2)

: حدثنا الثقة ابن عُلَيَّة أو غيره عن يونس عن الحسن عن جابر بن عبد الله «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلِّي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطنِ نخلٍ، فصلَّى بطائفةٍ ركعتين ثم سلَّم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلَّى بهم ركعتين ثم سلَّم» .

وفي «سيرة ابن هشام»

(3)

في غزوة ذات الرقاع: حدثنا عبد الوارث بن سعيد التنّوري ــ وكان يُكنى أبا عبيدة ــ قال: حدثنا يونس بن عبيد عن

(1)

انظر «التاريخ الكبير» (4/ 31) و «الجرح والتعديل» (4/ 136) و «تهذيب التهذيب» (4/ 214، 215).

(2)

(2/ 451، 452) ط. دار الوفاء.

(3)

(2/ 204).

ص: 186

الحسن بن أبي الحسن عن جابر بن عبد الله في صلاة الخوف، قال: صلّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف، ثم انصرف بالناس، قال ابن هشام: بطائفة ركعتين ثم سلَّم، وطائفة مُقبِلون على العدو، قال: فجاءوا فصلَّى بهم ركعتين أخريين ثم سلَّم.

وأخرجه النسائي في «السنن»

(1)

: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا يونس عن الحسن قال: حدَّث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى بأصحابه صلاةَ الخوف، فصلَّت طائفة معه، وطائفة وجوهُهم قِبَلَ العدوِّ، فصلَّى بهم ركعتين، ثم قاموا مقامَ الآخرين، وجاء الآخرون، فصلَّى بهم ركعتين، ثم سلَّم».

وكذلك أخرجه البيهقي في «السنن» (3/ 259) من طريق أخرى عن عبد الأعلى.

وقال النسائي

(2)

: أخبرني إبراهيم بن يعقوب قال: حدثنا عمرو بن عاصم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن الحسن عن جابر بن عبد الله «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى بأصحابه ركعتين ثم سلَّم، ثم صلَّى بآخرين أيضًا ركعتين ثم سلَّم» .

وبنحوه أخرجه البيهقي في «السنن» (3/ 86) بسند رجاله ثقات عن سليمان بن حرب عن حماد بن سلمة، وأخرجه أيضًا (3/ 259).

(1)

(3/ 179).

(2)

(3/ 178).

ص: 187

وقال الدارقطني في «سننه» (ص 186)

(1)

: حدثنا الحسين بن إسماعيل ومحمد بن محمود السراج قال: نا محمد بن عمرو بن أبي مذعور ثنا عبد الوهاب الثقفي ثنا عنبسة عن الحسن عن جابر أن نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم كان محاصرًا بني محاربٍ بنخلٍ، ثم نودي في الناس أن الصلاة جامعة، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طائفتين: طائفة مقبلة على العدو يتحدَّثون، وصلَّى بطائفة ركعتين، ثم سلَّم، فانصرفوا، فكانوا مكانَ إخوانهم، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين، فكان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتين».

قال صاحب «التعليق المغني»

(2)

: عنبسة هو ابن سعيد القطان

لم يُحفَظ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلَّى صلاة الخوف قطُّ في حضرٍ.

أقول: بل الراجح أن هذا عنبسة بن أبي رائطة الغنوي، ضعَّفه ابن المديني، وقال أبو حاتم:[ق 16] روى عنه عبد الوهاب الثقفي أحاديث حسانًا

وليس بحديثه بأس

(3)

.

والقصة في السفر، لا في الحضر.

أقول: حديث جابر قد يحمل على ثلاثة أوجه:

الأول: أن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أتمَّ تلك الصلاة، ولا يُلتفَت إلى ما في رواية الحسن من ذكره «ثم سلَّم» بعد الركعتين الأوليين، وكذلك الطائفتان كلٌّ

(1)

(2/ 60).

(2)

(2/ 60).

(3)

انظر «تهذيب التهذيب» (8/ 158، 159)، و «الجرح والتعديل» (6/ 400).

ص: 188

منها أتمّتْ لنفسها بعد أن صلَّت معه صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين. وقوله: «إنه كان له صلى الله عليه وآله وسلم أربع، ولهم ركعتان ركعتان» يُحمَل على ما كان في الجماعة، فأربعتُه صلى الله عليه وآله وسلم كلُّها كانت في الجماعة، وأما أصحابه فإنما كان لكلٍّ منهم في الجماعة ركعتان فقط، فأمّا ركعتاهم الأخرى فإنما أتمُّوها لأنفسهم.

الوجه الثاني: أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم أتمَّ، وقَصَروا.

الوجه الثالث: أن يكون صلى الله عليه وآله وسلم قَصَر وقَصروا، ولكنه أعاد صلاته، صلَّى بهؤلاء صلاةً كاملة، وبهؤلاء صلاةً كاملة.

أما الوجه الأول: فلم يذهب إليه أحدٌ فيما أعلم؛ لأنه قد ثبت من حديث عائشة وغيرها أن الصلاة كانت قبل الهجرة ركعتين ركعتين، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُتِمَّتْ صلاة الحضر، وبقيتْ صلاة السفر على ما كانت قبل

(1)

.

وعلى هذا، فيتعين حملُ القصر الذي وقع في رواية قتادة عن سليمان بن قيس:«أنه إنما نزل يومئذٍ» على قصر آخر، وقد حمل جماعة من الصحابة، فمن بعدَهم القصرَ في الآية ــ وهو قوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ــ على قصرٍ آخر خاصّ بالخوف، فمنهم من قال بقصر الصلاة في الخوف إلى ركعة، ومنهم من قال: المراد بالقصر قصر الصِّفة.

وقد يقال: هو القصر إلى ركعة، ولكن بالنظر إلى الجماعة.

(1)

أخرجه البخاري (350، 3935) ومسلم (685) عن عائشة. وفي الباب عن ابن عباس عند مسلم (687)، وعن أبي هريرة عند أحمد في «المسند» (9200).

ص: 189

وذلك أوضح بعض الصور الثابتة، وهي أن يصلي الإمام بطائفةٍ ركعةً، ثم تُتِمُّ لنفسها وتذهب، وتجيء الأخرى فيصلي بها ركعته الأخرى وتتم لنفسها، فلكلٍّ من الطائفتين ركعة واحدة في الجماعة.

[وقريب منه] في الصفة الأخرى، وهو أن يَصُفَّهم صفَّينِ، ويكبِّر بهم جميعًا، ثم يتناوبون، فإنهم وإن كانت لهم في نية الجماعة ركعتان، لكن لم يتمَّ لكلٍّ منهم بالنظر إلى متابعة الإمام إلا ركعة واحدة.

هذا، وقد احتج جماعة على أن المراد بالقصر في الآية هو القصر المشهور، أي من أربع إلى اثنتين، بأن يعلى بن أمية سأل عمر عن الآية وقال: فقد أَمِنَ الناسُ، فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، فقال:«صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم، فاقبلوا صدقتَه» رواه مسلم

(1)

.

وسأل رجل ابن عمر فقال: سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

(2)

.

وقد يجاب عن هذا باحتمال أن عمر لما سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يذكر الآية، وإنما قال مثلًا: كيف تَقْصُر ونحن آمنون؟

وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربما أجمل في تفسير بعض الآيات جريًا مع حكمة الله عز وجل في ترك مجالٍ للتدبر والاجتها د.

وفي «صحيح مسلم»

(3)

عن عمر أنه خطب فقال في خطبته: إني لا أدع

(1)

رقم (686).

(2)

أخرجه مسلم (689).

(3)

رقم (567، 1617).

ص: 190

بعدي شيئًا أهم عندي من الكلالة، وما راجعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم ما راجعتُه في الكلالة، حتى طعنَ بأصبعه في صدري، فقال:«ألا يكفيكَ آيةُ الصيف التي في سورة النساء؟» .

هذا، مع أن عمر كان يتردد في معنى الآية، ولم يزل على ذلك حتى مات. غاية الأمر أن عمر وابنه ويعلى لم يكونوا يفهمون أن القصر في الآية غير القصر المشهور، وهذا لا حجةَ فيه مع وجود القائل بأنه غيره من الصحابة أيضًا. والله أعلم.

وكذلك الوجه الثاني، لم يذهب إليه أحد فيما أعلم لاتفاقهم وإن كان منهم من يرى جواز الإتمام في السفر، فهم متفقون فيما ذكر غير واحد على أنه إذا أتمَّ الإمامُ لزِم المأمومَ الإتمامُ.

وأما الوجه الثالث: فهو الذي ذهب إليه الشافعي وغيره، ويوافقه ما جاء في رواية الحسن من قوله بعد الركعتين الأوليين:«ثم سلَّم» ، وقد جاء مثله من رواية الحسن عن أبي بكرة، كما يأتي، وعليه حمل أبو داود رواية أبي سلمة وسليمان اليشكري عن جابر، فإنه ذكر حديث الحسن عن أبي بكرة ثم قال

(1)

: «وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك قال سليمان اليشكري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم» .

فصل

تقدم الكلام في صحيفة سليمان اليشكري، والظاهر أن أولئك الأئمة لم يعتمدوا عليها إلا بعد الوثوق بصحتها، ورواية قتادة عنها قوية، فقد قال

(1)

عقب الحديث رقم (1248).

ص: 191

البخاري في «التاريخ الكبير» (4/ 1/ 186): قال أحمد بن ثابت نا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر

وعن معمر قال: رأيتُ قتادة قال لسعيد بن أبي عَروبة: أَمسِكْ عليَّ المصحفَ، فقرأ البقرة فلم يُخْطِ حرفًا، فقال: يا أبا النضر، لَأنا لصحيفة جابرٍ أحفظُ منّي لسورة البقرة.

إلا أنَّ في صلاحيتها للاحتجاج بها وحدَه نظرًا، ولاسيَّما إذا لم يُصرِّح قتادة في روايته بأنه روى عن تلك الصحيفة، فإن قتادة مدلِّس، ومن الجائز أن يُدلِّس عن سليمان ما أخذه من واسطة غير تلك الصحيفة.

هذا، وظاهرٌ من رواية قتادة عن سليمان في هذه القصة أن الصلاة التي وصفها كانت قبل نزول قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ

}، ولذلك احتاج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يصلّي بالقوم صلاتين، لتكون لكل من الطائفتين صلاةٌ تامة في الجماعة بدون خلل في المتابعة.

ولم يبين في هذه الرواية وغيرها مما تقدم: هل صلّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك الغزوة بعد هذه الصلاة على وجه آخر مما أذن الله عز وجل فيه؟

[ق 17] لكن قال البخاري في غزوة ذات الرقاع من «الصحيح»

(1)

: وقال بكر بن سَوادة: حدثني زياد بن نافع عن أبي موسى أن جابرًا حدَّثهم قال: «صلّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهم يومَ مُحارِبٍ وثعلبةَ» .

وقد أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (5/ 146)

(2)

عن ابن أخي ابن وهب عن عمه قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سَوادة

(1)

(7/ 417) مع «الفتح» .

(2)

(7/ 417) ط. دار هجر.

ص: 192

حدَّثه

يوم مُحارِب وثعلبةَ، لكل طائفة ركعة وسجدتين».

وأخرج ابن جرير أيضًا

(1)

: حدثنا محمد بن المثنى قال: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة عن الحكم عن يزيد الفقير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى بهم صلاةَ الخوف، فقام صفٌّ بين يديه، وصفٌّ خلفَه، فصلَّى بالذين خلفه ركعةً وسجدتينِ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقامَ أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا مقامَ هؤلاء، فصلَّى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعةً وسجدتينِ، ثم سلَّم، فكانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتين ولهم ركعة».

وبنحوه أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» (2/ 362) من طريق سليمان أبي إسحاق الشيباني عن يزيد الفقير.

وكذلك أخرجه النسائي في «السنن»

(2)

عن إبراهيم بن الحسن عن حجّاج بن محمد عن شعبة، وأخرجه أيضًا

(3)

من طريق يزيد بن زريع عن المسعودي عن يزيد الفقير، فساقه بمعنى حديث شعبة عن الحكم إلى قوله:«وسجدتين» ، وزاد بعدها:«ثمّ إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سلَّم، فسلَّم الذين خلفه، وسلَّم أولئك» .

وحديث شعبة أصح؛ لأن المسعودي ليس بالحافظ، وتغيَّر بأَخَرةٍ.

فكأنه صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن صلّى بهم الظهر صلاتينِ كما تقدم أنزل الله عز وجل الآيات، فصلّى بهم العصر على قصر الخوف، بأن كانت لكل من الطائفتين

(1)

(7/ 419).

(2)

(3/ 174).

(3)

(3/ 175).

ص: 193

ركعة واحدة، إما مطلقًا، وإما في جماعة. والله أعلم.

وقد جاء عن جابر صفة أخرى، أخرج مسلم في «الصحيح»

(1)

من طريق عطاء عن جابر قال: «شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف، فصفَّنا صفَّين، صفٌّ خلفَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والعدوُّ بيننا وبين القبلة، فكبّر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكبّرنا جميعًا، ثم ركع وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصفُّ الذي يليه، وقام الصفُّ المؤخَّر في نَحْر العدوّ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم السجود وقام الصفُّ الذي يليه انحدر الصفُّ المؤخَّر بالسجود، وقاموا، ثم تقدم الصفُّ المؤخَّر، وتأخَّر الصفُّ المقدَّم

».

وبنحوه رواه عَزْرة بن ثابت عن أبي الزبير، أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» (2/ 361).

وقال النسائي

(2)

: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي الزبيرعن جابر قال: «كنّا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنخلٍ، والعدوُّ بيننا وبين القبلة، فكبَّر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكبَّروا جميعًا

». ذكر الصفة التي في رواية عطاء.

وبنحوه رواه أيوب عن أبي الزبير، أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» (2/ 360).

ولا مانع من صحة هذا أيضًا: بأن يكون صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى بهم في تلك الغزوة

(1)

رقم (840).

(2)

(3/ 176).

ص: 194

بعد نزول الآيات مرةً هكذا، ومرةً هكذا، لكن أبا الزبير زاد فيه.

أخرج ابن جرير

(1)

من طريق ابن عيّاش أخبرني عبيد الله بن عمر عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: كنتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلقينا المشركين بنَخْلٍ، فكانوا بيننا وبين القبلة، فلما حضرتْ صلاةُ الظهر صلَّى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن جميع، فلما فرغنا تذامرَ المشركون فقالوا: لو كنّا حملنا عليهم وهم يصلُّون! فقال بعضهم: فإنَّ لهم صلاةً ينتظرونها تأتي الآنَ، هي أحبُّ إليهم من أبنائهم، فإذا صلَّوا فمِيلُوا عليهم. فجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالخبرِ وعلَّمه كيف يُصلِّي، فلما حَضَرَتِ العصرُ قام نبيُّ الله مما يلي العدوَّ، وقمنا خلفه صفَّينِ، فكبَّر نبيُّ الله [وكبَّرنا] معه جميعًا

».

ثم أخرجه ابن جرير

(2)

من طريق حمّاد بن مَسْعدة عن هشام بن أبي عبد الله عن أبي الزبير عن جابر، ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم عن هشام أيضًا، وقال في كلٍّ منهما:«نحوه» .

وقال البخاري في «الصحيح»

(3)

في غزوة ذات الرقاع: وقال معاذ: حدثنا هشام عن أبي الزبير عن جابر قال: «كنّا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنخلٍ

» فذكر صلاة الخوف.

قال الحافظ ابن حجر في «الفتح»

(4)

: سياق رواية هشام عن أبي الزبير

(1)

في «تفسيره» (7/ 439، 440).

(2)

(7/ 440).

(3)

(7/ 421) مع «الفتح» .

(4)

(7/ 423).

ص: 195

هذه تدل على أنه حديث آخر في غزوة أخرى

وهذه القصة إنما هي في غزوة عُسْفان، وقد أخرج مسلم

(1)

هذا الحديث من طريق زهير بن معاوية عن أبي الزبير بلفظٍ يدلُّ على مغايرة هذه القصة لغزوة محارب في ذات الرقاع ، ولفظه عن جابر: «غزونا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم قومًا من جُهَينة، فقاتلونا قتالًا شديدًا، فلما أن صلَّينا الظهر قال المشركون: لو مِلْنا عليهم

».

أقول: وكذلك رواه عبد الرزاق عن سفيان عن أبي الزبير، أخرجه أبو عوانة (2/ 360).

وحديث أبي عياش الزرقي وحديث عند الواقدي عن خالد بن الوليد، كلها تذكر هذه القصة بعُسْفان، ثم قال

(2)

: وهو ظاهر فيما قرَّرتُه أن صلاة الخوف بعُسْفان غير صلاة الخوف بذات الرقاع، وأن جابرًا روى القصتين معًا، فأما رواية أبي الزبير عنه ففي قصة عُسْفان، وأما رواية أبي سلمة ووهب بن كيسان وأبي موسى المصري عنه ففي غزوة ذات الرقاع، وهي غزوة محارب وثعلبة.

أقول: وعلى هذا، فراوية عطاء عن جابر إنما هي في الصلاة بعُسْفان، ويكون أبو الزبير وَهِمَ في قوله:«بنخلٍ» ، وقد روى الشيخان من طريق صالح بن خوّات قصتينٍ:

الأولى: عمن صلَّى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف، أن طائفة صفَّتْ معه، وطائفة وِجاهَ العدوّ، فصلّى بالذين معه ركعة ثم ثبت

(1)

رقم (840/ 308).

(2)

أي الحافظ في «الفتح» (7/ 423).

ص: 196

قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم ثم انصرفوا، فصفُّوا وِجاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت، ثم ثبت جالسًا، وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم». لفظ مسلم

(1)

.

وهذه الصفة توافق الصفة التي رواها أبو موسى المصري ويزيد الفقير عن جابر، إلا أن في هذه بيان أن كلًّا من الطائفتين أتمَّتْ لأنفسها، فإذا كانت القصة واحدةً تعيَّن أن القصر إنما هو باعتبار الجماعة، وأن قوله هناك:«ولهم ركعة» أي في الجماعة، فلا يُنافي إتمامَهم لأنفسهم.

والقصة الثانية: صالح عن سهل بن أبي حَثْمة «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى بأصحابه في الخوف، فصفَّهم خلفه صفَّين

»

(2)

فذكر قصة وقع في حكايتها اضطراب، وذكر الحافظ في «الفتح»

(3)

أن سهلًا لم يشهد ذات الرقاع، وأن مراد [صالح بن]

(4)

خوَّات بقوله في الأولى: «عمن صلى

» رجل آخر غير سهل، أستظهِرُ أنه خوَّات والد صالح.

[ق 18] فصل

رواية قتادة عن سليمان اليشكُري تدلُّ أن ذلك اليوم نزلت الآية، وشُرِعت صلاة الخوف على الصفة التي يُصلِّي فيها الإمام صلاةً واحدة، ويعارضه ما رواه منصور بن المعتمر عن مجاهد عن أبي عيّاش الزُّرَقي قال:

(1)

رقم (842). وأخرجه البخاري (4129).

(2)

أخرجه مسلم (841). ورواه البخاري (4131) بهذا الطريق.

(3)

(7/ 425).

(4)

زيادة من «الفتح» .

ص: 197

«كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلّينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غِرّةً

فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حَضَرَتِ العصرُ قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستقبلَ القبلة، والمشركون أمامه، فصفَّ خلفَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفٌّ، وصفَّ بعد ذلك الصفِّ صفٌّ آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وركعوا جميعًا

»، فذكر مثل الصفة التي تقدمت عن عطاء عن جابر، ثم قال:«فصلّاها بعُسْفان، وصلَّاها في بني سُلَيم» .

رواه أبو داود

(1)

عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد عن منصور.

وخرَّجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 338) من طريق سعيد بن منصور، وقال: صحيح على شرط الشيخين، وأقرّه الذهبي.

ورواه البيهقي في «السنن» (3/ 256) من طريق يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور كلاهما عن جرير.

وأخرجه أحمد في «المسند» (4/ 59)

(2)

: ثنا عبد الرزاق ثنا الثوري عن منصور

وقال: «فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102].

وبنحوه أخرجه أبو داود الطيالسي

(3)

عن ورقاء عن منصور.

(1)

رقم (1236).

(2)

رقم (16580).

(3)

في «مسنده» (1347).

ص: 198

ورواه النسائي في «السنن»

(1)

عن عمرو بن علي عن عبد العزيز بن عبد الصمد ثنا منصور، وقال:«فنزلت ــ يعني صلاة الخوف ــ بين الظهر والعصر» .

وأخرجه أحمد في «المسند» (4/ 60)

(2)

: ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن منصور قال: سمعتُ مجاهدًا يُحدِّث عن أبي عيّاش الزُّرَقي ــ قال: قال شعبة: كتب به إليَّ، وقرأتُه عليه، وسمعته منه يُحدِّث به، ولكني حفظتُه من الكتاب ــ «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في مَصَافِّ العدوِّ بعُسْفانَ، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلَّى بهم النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم الظهر، ثم قال المشركون: إنّ لهم صلاةً بعد هذه، هي أحبُّ إليهم من أبنائهم وأموالهم، فصلَّى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العصر، [فصَفَّهم] صفَّينِ خلفَه

».

فلم يذكر نزول جبريل، ولا نزول الآية، ولا قال في آخره:«فصلّاها بعُسْفانَ، وصلَّاها في بني سُلَيم» .

وكذلك أخرجه النسائي

(3)

عن أبي موسى وبُندار كلاهما عن غُندر، مع اختلاف يسير.

أقول: حديث أبي عيّاش صحَّحه الحاكم كما تقدم، وكذلك الدارقطني

(4)

، وأخرجه ابن حبان في «صحيحه»

(5)

وعندي فيه وقفة، فإنني

(1)

(3/ 177).

(2)

رقم (16581).

(3)

(3/ 176).

(4)

في «سننه» (2/ 60).

(5)

رقم (2876).

ص: 199

لم أرَ في شيء من طرقه تصريحَ مجاهدٍ بالسماع من أبي عياش، ومجاهد معروف بالإرسال عمن لم يَلْقَه حتى من عاصره. ثم رأيتُ البيهقي قال في «السنن» (3/ 257): «وقد رواه قتيبة بن سعيد عن جرير، فذكر سماع مجاهد من أبي عياش

».

أقول: وقد روى ابن أبي نَجِيح نحوه عن مجاهد مرسلًا، أخرجه ابن جرير في تفسيره (5/ 142)

(1)

من طريقين عن ابن أبي نَجِيح، قال في الأول: حدثني محمد بن عمرو (هو الباهلي) قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: 101] قال: «يومَ كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعُسْفانَ، والمشركون بضَجْنانَ، فتوافقوا، فصلَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين، أو أربعًا ــ شكّ أبو عاصم ــ ركوعُهم وسجودُهم وقيامُهم معًا جميعًا، فهمَّ المشركون أن يُغِيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه:{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} ، فصلَّى العصر

وقصرَ العصر إلى ركعتين».

ثم قال: حدثني المثنَّى قال: ثنا أبو حُذيفة قال: ثنا شبل عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} قال: «كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه بعُسْفان، والمشركون بضَجْنانَ، فتوافقوا، فصلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين، ركوعُهم

وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين».

كذا قال، فإن كان المراد القصر المشهور من أربع إلى اثنتين، ويكون

(1)

(7/ 411، 412) ط. دار هجر.

ص: 200

لفظ مجاهد «الظهر أربعًا» كما شكَّ فيه أبو عاصم، فقد تقدَّم أن صلاة السفر لم تكن أربعًا قطُّ. وإن أراد قصر الخوف إلى ركعة مطلقًا، أو بالنظر إلى الجماعة والمتابعة، فكان ينبغي أن يقول في آخره:«وقصرت صلاة العصر إلى ركعة» .

وقد روى النسائي

(1)

وغيره من طريق سعيد بن عُبيد الهُنَائي ثنا عبد الله بن شَقِيق ثنا أبو هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نازلًا بين ضَجْنانَ وعُسْفانَ، مُحاصِرًا المشركين، فقال المشركون: إنّ لهؤلاء صلاةً هي أحبُّ إليهم من أبنائهم وأبكارهم، أَجْمِعوا أمركم، ثم مِيلُوا عليهم مَيلةً واحدة، فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يَقْسِم أصحابَه نصفينِ، فيُصلِّي بطائفةٍ منهم، وطائفةٌ مقبلون على عدوِّهم

فيصلِّي بهم ركعةً، ثم يتأخَّر هؤلاء، ويتقدَّم أولئك فيصلِّي بهم ركعة، تكون لهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعة ركعة، وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتان».

سعيد بن عُبَيد: قال أبو حاتم: «شيخ» ، وذكره ابن حبان في «الثقات»

(2)

، وذلك لا يكفي في رفع جهالة حاله، مع أن هذه الصفة ــ كما يظهر ــ مخالِفة للصفة التي في حديث أبي عيّاش.

وأخرج الحاكم في «المستدرك»

(3)

من طريق يونس بن بكير عن النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «خرج رسول الله

(1)

(3/ 174). وأخرجه أيضًا أحمد في «المسند» (10765) والترمذي (3035) وابن حبان (2872). وحسَّنه الترمذي.

(2)

(6/ 352). وانظر «تهذيب التهذيب» (4/ 62).

(3)

(3/ 30).

ص: 201

- صلى الله عليه وآله وسلم في غزاةٍ، فلقي المشركين بعُسْفَانَ

»، فذكر نحو ما في حديث أبي عيّاش. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، وأقرَّه الذهبي، مع أن النضر أبا عمر وهو النضر بن عبد الرحمن الخزّاز لم يخرج له البخاري، بل هو أجمعوا على ضعفه

(1)

.

وقال ابن حجر في «الفتح»

(2)

: وقد روى الواقدي من حديث خالد بن الوليد قال: «لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية لقيتُه بعُسفانَ، فوقفتُ بإزائه، وتعرضتُ له، فصلَّى بأصحابه الظهر، فهَمَمْنا أن نُغِير عليهم، فلم يَعْزِم لنا، فأَطلعَ الله نبيَّه على ذلك، فصلَّى بأصحابه العصر صلاة الخوف

» الحديث.

أقول: حال الواقدي مشهور، ولكن ابن حجر استأنس به مع ما تقدم، وذلك أن ما جاء من حديث أبي عيّاش وأبي هريرة من الصلاة بعُسْفَان لم يتعين تاريخها، وقد جاء في المغازي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى على عُسْفَان مرتين: مرةً في غزوة بني لِحْيان، ذكر ابن إسحاق

(3)

أنها كانت على رأس ستة أشهر بعد فتح بني قريظة. والثانية: في عمرة الحديبية.

ولم يُذكر في شيء منهما قتال، ولا مقاربة لجيش قريش إلا ما رواه الواقدي.

(1)

انظر «تهذيب التهذيب» (10/ 441، 442).

(2)

(7/ 423).

(3)

انظر «سيرة ابن هشام» (2/ 279).

ص: 202

نعم ذكر ابن إسحاق

(1)

في غزوة بني لِحْيان أن بني لحيان تحصَّنوا من المسلمين، فقال المسلمون: لو أنّا هبطنا عُسْفانَ لرأى أهلُ مكة أنّا قد جئنا مكة، فخرج ــ يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ــ في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عُسْفان، ثم بعث فارسَيْنِ من أصحابه حتى بلغا كُراع الغَمِيم، ثم كرَّا، ورجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قافلًا.

فيحتمل أن قريشًا لما بلغهم خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه إلى بني لِحْيان، ثم نزول عسفان، خافوا ــ كما ظنَّه المسلمون ــ أن يكون قاصدًا مكة، فبعثوا خيلَهم وعليها خالد لترقب ما يفعله المسلمون، وتقاربوا ولم يكن قتال، والله أعلم بحقيقة الحال.

هذا، وقد اختلف في غزوة ذات الرقاع: أهي غزوة مُحارِب خَصَفة، أم غيرها؟ فأكثر أهل المغازي على الأول، وزعم الواقدي أنها غيرها، وتبعه القطب الحلبي في «شرح السيرة» ، ذكره الحافظ في «الفتح»

(2)

.

واختلف أيضًا في غزوة ذات الرقاع: فقال موسى بن عقبة: لا ندري كانت قبل بدر، أوبعدها، أو قبل أُحُد أو بعدها.

قال ابن حجر

(3)

: الذي ينبغي الجزم به أنها بعد غزوة بني قريظة؛ لأنه تقدم أن صلاة الخوف في غزوة الخندق لم تكن شُرِعتْ، وقد ثبت وقوع صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع.

(1)

انظر «سيرة ابن هشام» (2/ 280).

(2)

(7/ 418).

(3)

في «الفتح» (7/ 417).

ص: 203

أقول: لم أجد نصًّا في أن صلاة الخوف لم تكن قد شرعت في الخندق، إلا ما جاء عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه ذكر تأخير النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصلاة يوم الخندق، ثم قال:«وذلك قبل أن يَنزِل في القتال ما نزل»

(1)

.

وقد بيَّنه في رواية أخرى، قال:«وذلك قبل أن ينزل صلاة الخوف {فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}» . راجع «مسند أحمد» (3/ 25)

(2)

.

فيحتمل أنهم في الخندق لم يكونوا متمكنين من الصلاة جماعة على ما في آيات النساء: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ

} مع ما بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما كانوا متمكّنين من الصلاة على ما في قوله تعالى في سورة البقرة:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} ، وإذا كان هكذا لم يكن في حديث أبي سعيد ولا قصة الخندق [ق 19] دليل على أن صلاة الخوف لم تكن قد شُرعتْ، وإنما في ذلك دليل على أنه لم يكن قد شُرع هذا القدر منها، وهو الذي تضمَّنه قوله تعالى:{فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا} .

والصلاة في ذات الرقاع كانت جماعة على ما بيَّن به النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية النساء.

وعلى هذا، فليس فيما ذُكِر دليلٌ على تأخر ذات الرقاع عن الخندق، وما اتصل به من أمر بني قريظة.

(1)

أخرجه أحمد في «المسند» (11198) والنسائي (2/ 17) وابن خزيمة (996، 1703) وغيرهم. وإسناده صحيح.

(2)

رقم (11199).

ص: 204

وفي «الفتح»

(1)

أيضًا: عن ابن إسحاق وابن سعد وابن حبان أنها كانت قبل الخندق وقريظة، وأن أبا معشر يجزم بأنها كانت بعد الخندق وقريظة، وذهب البخاري إلى أنها كانت بعد خيبر، واحتج على ذلك بما صح عن أبي موسى الأشعري أنه شهد ذات الرقاع، مع أن أبا موسى إنما جاء بعد أيام خيبر

(2)

، وبما رواه عبد الله بن يزيد المقرئ عن حَيْوة وابن لَهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن مروان أنه سأل أبا هريرة: هل صلَّى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة: نعم، في غزوة نجد.

علَّق البخاري طرفًا منه

(3)

وأخرجه أبو داود في «السنن»

(4)

، وذكر أبو داود عقبه

(5)

بسند فيه مقال: عن عروة بن الزبير عن أبي هريرة قال: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى نجد، حتى إذا كنا بذات الرقاع

». وأبو هريرة إنما جاء أيام خيبر.

وحكى الحافظ في «الفتح»

(6)

عن البيهقي وغيره: أنهم ذهبوا إلى أنها غزوتان، أطلق على كل منهما ذات الرقاع.

(1)

(7/ 417). وانظر «سيرة ابن هشام» (2/ 203) و «الطبقات» (2/ 61) و «الثقات» (1/ 257).

(2)

انظر صحيح البخاري مع «الفتح» (7/ 416، 417).

(3)

عقب الحديث (4137).

(4)

رقم (1240). وأخرجه أيضًا أحمد (8260) والنسائي (3/ 173) وابن خزيمة (1361) وغيرهم.

(5)

رقم (1241). وأخرجه أيضًا الطحاوي في «معاني الآثار» (1/ 314) والبيهقي في «السنن الكبرى» (3/ 264).

(6)

(7/ 417). وانظر «دلائل النبوة» (3/ 372).

ص: 205

أقول: وما وقع في رواية قتادة عن سليمان بن قيس عن جابر: «انطلقنا نتلقَّى عِيرَ قريش آتيةً من الشام»

(1)

ظاهرٌ في تقدُّم ذلك على خيبر، بل وعلى الحديبية، وهي قبله، وذلك أنهم إنما يتلقَّون عِيرَ قريش إذا لم يكن بينهم موادعة، وقد وادعهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، واستمرَّ ذلك حتى غَدَرتْ قريش بإعانة بني بكر على خزاعة، فغزاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وافتتح مكة.

هذا، وقد يُتوهَّم من قوله في رواية قتادة عن سليمان «نتلقَّى عِيرَ قريش آتيةً من الشام» أن هذا في غزوة بدر، وليس كذلك، بل هذه عِيرٌ أخرى.

هذا، ومقتضى ما أطلق عليه أكثر أهل المغازي من أن ذات الرقاع، أو غزوة محارب وثعلبة بنَخْلٍ، كانت قبل الخندق وقريظة، فهي قبل غزوة بني لِحْيان، وقبل الحديبية فتكون الصلاة فيها قبل الصلاة بعُسْفان، وقد يجوز أن يكون أبو عيَّاش لما ذكر شأن عُسْفان إنما ذكر نزول جبريل ينذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما همَّ به المشركون، فتوهم بعضهم أنه نزل بالآيات في صلاة الخوف.

وبالجملة، فلم يتضح أيهما السابق، غزوة محارب وثعلبة أم عُسْفان؟ والله أعلم.

* * * *

(1)

سبق ذكرها وتخريجها.

ص: 206

الدليل الثالث

قال الإمام أحمد في «المسند» (5/ 39)

(1)

: ثنا يحيى عن أشعث عن الحسن عن أبي بكرة: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى بهؤلاء الركعتين، وبهؤلاء الركعتين» .

وقال النسائي في السنن

(2)

: أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه صلَّى صلاة الخوف بالذين خلْفَه ركعتين، والذين جاءوا بعدُ ركعتين، فكانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعَ ركعاتٍ ولهؤلاء ركعتين ركعتين.

وقال الإمام أحمد (5/ 49)

(3)

: ثنا رَوح ثنا أشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: «صلَّى بنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاةَ الخوف، فصلّى ببعض أصحابه ركعتين ثم سلَّم، فتأخَّروا، وجاء آخرون فكانوا في مكانهم، فصلَّى بهم ركعتين ثم سلَّم، فصار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعُ ركعات، وللقومِ ركعتان ركعتان» .

وقال النسائي

(4)

: أخبرنا محمد بن عبد الأعلى وإسماعيل بن مسعود واللفظ له، قالا: حدثنا خالد عن أشعث عن الحسن عن أبي بكرة: «أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى بالقوم في الخوف ركعتين ثم سلَّم، ثم صلَّى بالقوم الآخرين ركعتين ثم سلَّم، فصلَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعًا» .

(1)

رقم (20408).

(2)

(3/ 179).

(3)

رقم (20497).

(4)

(3/ 178).

ص: 207

وقال أبو داود في «السنن»

(1)

: حدثنا عبيد الله بن معاذ نا أبي نا الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة قال: «صلَّى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خوف الظهر، فصفَّ بعضُهم خلفه، وبعضُهم بإزاء العدوّ، فصلَّى ركعتين ثم سلّم، فانطلق الذين صلَّوا معه فوقفوا موقفَ أصحابهم، ثم جاء أولئك فصلَّوا خلفه، فصلَّى [بهم] ركعتين ثم سلَّم، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعًا، ولأصحابه ركعتين ركعتين» . وبذلك كان يُفتي الحسن.

قال أبو داود: وكذلك في المغرب، يكون للإمام ستّ ركعات، وللقوم ثلاث ثلاث.

قال أبو داود

(2)

: وكذلك رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك قال سليمان اليشكري عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وذكر البيهقي في «السنن»

(3)

رواية قتادة ويونس عن الحسن عن جابر، وقد تقدمت في الدليل الثاني، ثم قال: وخالفهما أشعث فرواه عن الحسن عن أبي بكرة، ووافقه على ذلك أبو حُرَّة الرقاشي.

ثم ساقه من طريق سعيد بن عامر عن الأشعث، وفيه: «صلَّى ببعضهم ركعتين ثم سلَّم، فتأخَّروا، وجاء الآخرون فصلَّى بهم ركعتين ثم سلم

».

ثم ذكر

(4)

رواية أبي داود، وقال في زيادة «وكذلك في المغرب»:

(1)

رقم (1248).

(2)

عقب الحديث المذكور.

(3)

(3/ 259).

(4)

(3/ 260).

ص: 208

وجدتُه في كتابي موصولًا بالحديث، وكأنه من قول الأشعث، وهو في بعض النسخ:«قال أبو داود: وكذلك في المغرب» . وقد رواه بعض الناس عن أشعث في المغرب مرفوعًا، ولا أظنُّه إلا واهمًا في ذلك.

ثم ذكر

(1)

رواية المغرب: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ [هو الحاكم] أخبرني أبو علي الحسين بن علي الحافظ أبنا عبدان الأهوازي ثنا محمد بن معمر القيسي ثنا عمرو بن خليفة البكراوي ثنا أشعث بن عبد الملك الحُمْراني عن الحسن عن أبي بكرة: «أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى بالقوم في الخوف صلاةَ المغرب ثلاث ركعاتٍ ثم انصرف، وجاء الآخرون فصلَّى بهم ثلاثَ ركعات» .

أقول: وحديث المغرب أخرجه شيخه الحاكم بهذا السند في «المستدرك» (1/ 337) وقال: سمعتُ أبا علي الحافظ يقول: هذا حديث غريب

قال الحاكم: وإنه صحيح على شرط الشيخين، وفي «تلخيص» الذهبي: على شرطهما وهو غريب.

وأخرجه الدارقطني في «سننه» (ص 187)

(2)

: حدثنا علي بن إبراهيم النجار ثنا محمد بن إسحاق بن خزيمة حدثنا محمد بن معمر

ولعمرو بن خليفة ترجمة في «الميزان»

(3)

، وفيها: ربما كان في روايته

(1)

(3/ 260). وما بين المعكوفتين من المؤلف.

(2)

(2/ 61).

(3)

لم أجد ترجمته فيه، ولعل المؤلف اعتمد على ما في «لسان الميزان» (6/ 205) وتعقيب الحافظ عليه بقوله:«قلت» . فاعتبر الكلام السابق من «الميزان» .

ص: 209

بعض المناكير، ذكره ابن حبان في «الثقات»

(1)

.

زاد ابن حجر في «لسان الميزان» (4/ 363)

(2)

: قلت: هو البكراوي، روى عنه أيضًا محمد بن مَعْمر القيسي، وأخرج له ابن خزيمة في «صحيحه»

(3)

.

[ق 20] أقول: أما مخالفة أشعث وأبي حُرَّة ليونس وقتادة: فلا أراها مما يضر؛ لأن الحسن إمام واسع الرواية، لا ينكر له أن يكون عنده الحديث من وجهين وأكثر. وأما قول البيهقي فيمن روى عن الأشعث في المغرب:«ولا أراه إلا واهمًا» ظنٌّ منه، وقد خالفه غيره فصحَّحه، واحتمال الوهم لا أراه قويًّا.

بقي أن الحسن وصفه النسائي وغيره بالتدليس، ولم يُصرِّح بسماعه من أبي بكرة، إلا أن الذي يظهر من كلام ابن المديني والبخاري في شأن أحاديث الحسن عن سمرة أنه إذا ثبت سماع الحسن من رجل ــ ولو مرةً ــ كان حديثه كلُّه عن ذلك الرجل صحيحًا، فلا أدري أذهبا إلى أنه إنما يُدلِّس عمن لم يسمع منه، أم إلى أنه إذا دلَّس عمَّن قد سمع منه لا يصنع ذلك إلا فيما سمعه من ثقةٍ متفقٍ عليه، كما قيل في ابن عيينة؟ والله أعلم.

تنبيه:

ما وقع في رواية أحمد

(4)

عن رَوْح: «عن أبي بكرةَ قال: صلَّى بنا

(1)

(7/ 229).

(2)

(6/ 205) ط. مكتب المطبوعات الإسلامية.

(3)

انظر رقم (1368).

(4)

رقم (20497).

ص: 210

النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم

» يقتضي أن أبا بكرة شهد القصّةَ، وعليه فتكون غيرَ القصّةِ التي في حديث جابر قطعًا؛ لأن أبا بكرة إسلامه متأخر، ولكن أخشى أن يكون رَوْح وَهِم في ذلك، وأن يكون أبو بكرة إنما سمع هذا من بعض من تقدَّمه من الصحابة.

وكلام الحافظ في «الفتح»

(1)

في غزوة ذات الرقاع يُوهِم أن حديث أبي بكرة في «سنن» أبي داود والنسائي يصرح فيه بشهوده القصة، وليس الأمر كذلك. والله المستعان.

(1)

(7/ 424).

ص: 211

أجوبة المانعين

منها: أنه يحتمل في هذه الوقائع أن تكون لما كانت الفريضة تُصلَّى مرتين، وقد نُسِخ ذلك.

ورُدَّ بأنه إن كان المراد أن الفريضة كانت تصلَّى مرتين فرضًا، بمعنى أنه كان فرضًا على المسلم أن يُصلِّيها مرتين، فهذا لم يكن قطُّ، ونفيه معلوم.

وإن أريد أنه كان يجوز إعادتها مرةً ثانية، فذاك الجواز باقٍ اتفاقًا في الجملة، وإنما الخلاف في بعض صوره، وقد تقدمت أدلته.

وعلى هذا، يكون المجيب معترفًا بإمامة المتنفل للمفترض، ومدعيًا النسخ، فيُطالَب بالناسخ.

فأما حديث: «لا تُصلُّوا صلاةً في يومٍ مرتين» والنهي عن الإعادة مرتين، فقد تقدم الكلام عليهما.

ومنها: في خصوص قصة معاذ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم بذلك.

ويُرَدُّ بأننا ذهبنا مذهب جابر في قوله: «كنا نَعْزِل والقرآنُ يَنزِل»

(1)

، كفانا ذلك في ردِّ جوابكم. وتقريرُ هذا المذهب: أنه كما أن تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم يدلُّ على الجواز، فأولى منه تقرير الله عز وجل في وقت وجود الواسطة لتبليغ أحكامه بينه وبين عباده، وهو الرسول، وقد صحّ أن الصحابة كانوا مكروهًا لهم سؤالُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك يدلّ على أنه كان لهم أن يتمسّكوا

(1)

أخرجه البخاري (5208) ومسلم (1440).

ص: 212

بالأصل والظاهر ونحو ذلك، ويعملوا بما ظهر لهم حتى يجيئهم من الشارع ما يخالف ذلك، وهذا يُشعر بأن الشارع إنما أذن بذلك؛ لأن الله عز وجل رقيبٌ عليهم، فإذا علم منهم خطأً في الدين بيّنه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فأما إن وقعت من بعضهم معصية يعلم أنها معصية، وأن الله عز وجل يستره ولا يفضحه، وإنما يُنبِّه على ما يتعلق بالأحكام.

وإن لم يُسَلَّم هذا المذهب، فإننا نُثبِت عِلْمَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم صُنْعَ معاذٍ:

أولًا: لأنه أعلمُ بالله [من] أن يُقدِم على ما لا يثق بصحته، وقد أثنى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه أعلم الأمة بالحلال والحرام

(1)

، وأنه يأتي يوم القيامة أمامَ العلماء [برَتْوةٍ]

(2)

، وهو الذي بيَّن للأمة متابعةَ الإمام، إذ كانوا أولًا إذا جاء الرجل الجماعة، فوجدهم يصلُّون وراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأل [فيُشير] إليه أحدهم أنه قد سُبِق بكذا، فيبدأ فيصلّي ما سُبِق به لنفسه حتى يدرك الإمام فيما هو فيه فيوافقه، فجاء معاذ فقال: لا أجدُه على حالٍ إلا كنتُ عليها، فوافق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما هو فيه، فلما سلّم النبي صلى الله عليه وآله وسلم قام معاذ فأتمَّ ما سُبِق به، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«إن معاذًا قد سَنَّ لكم، فهكذا فاصنعوا»

(3)

أو كما قال. فكيف يُظَنُّ به

(1)

أخرجه الترمذي (3793، 3794) وابن ماجه (154) من حديث أنس بن مالك، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

(2)

الرتوة: رمية السهم. والحديث أخرجه الطبراني في «الكبير» (20/رقم 41) وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 229) من حديث محمد بن كعب القرظي مرفوعًا. وله طرق أخرى، انظر التعليق على «المسند» (108).

(3)

أخرجه أحمد (22124) وأبو داود (506، 507) والحاكم في «المستدرك» (2/ 274) وغيرهم من حديث معاذ، ورجاله ثقات، إلا أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، فهو منقطع.

ص: 213

وبقومه ــ وفيهم كما في «الفتح»

(1)

عن ابن حزم ثلاثون عَقَبيًّا، وأربعون بدريًّا ــ أن يُقدِموا على ما لا يثقون بصحته، بدون ضرورة تُلجِئهم إلى ذلك.

وثانيًا: صنيعُه ذلك كان ظاهرًا مكشوفًا، كان يصلّي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يصلِّي بعشيرته، وهم كثير، وكان يصلّي معهم من يمرُّ على مسجدهم من غيرهم، كما في قصة حرام. ولم يكن بينهم وبين المسجد النبوي إلا نحو ميل، ولا يمرُّ عليهم يوم إلا ويجتمع فيه جماعة منهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكان صلى الله عليه وآله وسلم كثيرَ التفقُّد للأنصار، ولاسيّما في أمر دينهم، والظاهر أنهم لم يكونوا [يقررون] إمامًا في مسجد من مساجدهم إلا بإذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

هب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعلم بذلك تلك المدة التي كان معاذ يصلّي فيها معه صلى الله عليه وآله وسلم ثم يصلي بهم قبل أن يَشْكُوه سُلَيم أو حرام، أو كلاهما، فقد علم صلى الله عليه وآله وسلم عند الشكوى، فلم ينكر ذلك عليهم، وإنما أنكر تأخير معاذ وتطويله، فلم ينكر عليهم صنيعهم فيما سبق، ولا بيَّن لهم أنه لا يجوز، ولا نهاهم عن مثله.

فإن قيل: فقد جاء في رواية معاذ بن رِفاعة: «يا معاذ بن جبل، لا تكن فتانًا، إما أن تصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك»

(2)

.

قلت: تلك الرواية مرسلة، ولم تأت هذه الزيادة في شيء من الروايات الموصولة حتى الرواية التي يُشبِه سياقُها سياقَ هذه المرسلة، وهي رواية

(1)

(2/ 196). وانظر «المحلَّى» (4/ 234).

(2)

سبق تخريجها.

ص: 214

عبيد الله بن مِقْسَم.

وهبْ تلك الزيادة: «إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك» صحَّت، فدونك تحقيق معناها:

حكى ابن حجر في «الفتح»

(1)

عن الطحاوي أنه قال: معناها: إما أن تصلِّي معي، ولا تصلِّ بقومك، وإما أن تُخفِّف بقومك، ولا تُصلِّ معي.

ثم قال ابن حجر: لمُخالفِه أن يقول: بل التقدير: إما أن تُصلِّي معي فقط إذا لم تُخفِّف، وإما أن تُخفِّف بقومك فتصلِّي معي، وهو أولى من تقديره؛ لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف، لأنه هو المسؤول عنه المتنازَع فيه.

وقال العلامة الجليل شَبِّير أحمد العثماني الحنفي في «شرحه لصحيح مسلم»

(2)

: الظاهر من مجموع الروايات أنهم يَشْكُون تأخير معاذ في مجيئه إلى الصلاة؛ لصلاته مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كان ينام القوم، ويشقّ عليهم الانتظار، ثم قراءته السورَ الطويلة، وهذا صريح في سياق أحمد (يعني في المرسل المذكور)، وفي بعض روايات حديث الباب: فقال الرجل: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء، وإن معاذًا صلَّى معك ثم أمَّنا، وافتتح سورة البقرة (أقول: وقد مر نحوه في رواية ابن عيينة)

ففيه كما ترى شكاية التأخير، ثم التطويل، فأرشد النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاذًا إلى إزالة شكواهم بأن يكتفي بأداء صلاته مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويترك الإمامة، أو بأن يخفِّف على قومه

وفي

(1)

(2/ 197). وقول الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 410).

(2)

«فتح الملهم» (3/ 431 - 432) ط دار إحياء التراث العربي.

ص: 215

رواية للبزار «لا تكن فتّانًا تَفْتِن الناس، ارجِعْ إليهم فصَلِّ بهم قبل أن يناموا

».

[ق 21] أقول: هذا تحقيق جيد، ومن الواضح جدًّا أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم لمعاذ:«لا تكن فتّانًا» إنما معناه: لا تكن سببًا لافتتان بعضهم بتشديدك عليهم، فكأنه قال: لا تُشدِّد عليهم.

وإن قوله عقب هذه الجملة: «إما أن تصلّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك» إنما هو بيان لقوله: «لا تكن فتّانًا» أو استئناف بياني، كأنه لما قال لمعاذ:«لا تكن فتّانًا» قال معاذ: كيف أصنع؟ فقال: إما ....

وهذا واضح جدًّا بدلالة المقام، وبعدم الإتيان بالواو بين الجملتين.

إذا تحرَّر هذا، فقوله:«إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك» إنما هي إرشاد إلى ترك التشديد الذي هو مَظِنّة الفتنة، كما قال العثماني نفع الله به: إرشاد إلى إزالة شكواهم.

ثم هاهنا احتمالان:

الأول: أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن التأخير وعن التطويل، حتى كأنه قال: لا تُؤخِّر ولا تُطوِّل، أو عجلِّ وخفِّف. وعليه، فالظاهر أن يتضمّن قوله:«إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك» النهيَ عن كلٍّ من الأمرين.

وقد تبين من الروايات الصحيحة ــ كما ذكره العثماني ــ أن التأخير إنما كان يقع بسبب أن معاذًا كان يبدأ فيصلِّي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فحينئذٍ لابدّ أن تتضمّن الجملة تخييرَ معاذ بين أن يترك الصلاة بهم ليقدموا غيره ممن لا

ص: 216

يصلّي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيعجِّل بهم؛ لأنه لا يحتاج إلى التأخير؛ لعدم صلاته مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو يترك معاذ الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيعجِّل بهم، لعدم احتياجه إلى التأخير.

فإذا قلنا: إن الجملة المذكورة تتضمن النهي عن الجمع بين الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصلاة بالقوم، فقد اتضح أن علة هذا النهي هي لزوم التأخير الذي شكاه القوم، وفيه تشديدٌ عليهم يُخشَى منه افتتانُ بعضهم.

والحاصل: أنه على هذا الاحتمال يكون تقدير الطحاوي صحيحًا في الجملة، ولكن علة المنع إنما هي استلزام التأخير كما هو واضح من دلالة المقام والسياق.

وعلى هذا، فلو فُرِض أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عجَّل العشاء في بعض الأيام بحيث لو صلَّى معاذ معه، ثم عاد إلى قومه معاذٌ في وقت لا يكون فيه تأخير يشقُّ عليهم، أو رَضُوا كلُّهم بالتأخير وأحبُّوه، أكان لهم أن يؤمَّهم معاذ بعد أن صلى مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟ وذلك أنهم يقولون: إنما نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمعنًى هو الآن منتفٍ، وهو التأخير الذي يُخشَى منه الفتنة.

وعلى هذا، فليس في الجملة المذكورة إنكاره لعلة أخرى، وإذًا فليس فيها إنكار لائتمام المفترض بالمتنفل، وإذًا فسكوته صلى الله عليه وآله وسلم عن التعرض لذلك بعد علمه بصنيعهم تقريرٌ على صحة ذلك، وهو المطلوب.

وذكر بعض أئمة الحنفية في الهند

(1)

: أن الجملة المذكورة شبيهة بقوله

(1)

هو الشيخ أنور شاه الكشميري (ت 1352) في كتابه «فيض الباري على صحيح البخاري» (2/ 228).

ص: 217

تعالى حكايةً عن المشركين: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} ، حيث قُوبل في الآية الافتراء بالجنون، لما أن من لازم الجنون عدم الافتراء، فكأنه قيل: أافترى أم لم يفترِ، فكذلك قُوبل في الحديث صلاة معاذ معه صلى الله عليه وآله وسلم بتخفيفه لقومه، كما أن تخفيفه بهم يتوقف على صلاته بهم، وصلاته بهم تستلزم عدمَ صلاته مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكأنه قيل: إما أن تُصلِّي معي، وإما أن لا تُصلِّي معي.

وأقول: لا بأس بهذا، وإنما الشأن في وجه الاستلزام، فاستلزام الجنون لعدم الافتراء واضح معلوم للمخاطب، وكذلك استلزام صلاة معاذ بقومه لعدم صلاته مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيثُ إن المطلوب أن يصلّي بهم معجّلًا، لما عُلِم من المقام والسياق من النهي عن التأخير، لما فيه من التشديد الذي يُخشى منه الفتنة.

هذا هو الذي يفهمه القوم، ويقتضيه المقام والسياق وعدمِ الإتيان بالواو بين الجملتين، كما مرَّ.

فإن زعم زاعم أن للاستلزام وجهًا آخر فهو باطل، إذ لم يكن القوم يعرفونه، ولا في المقام والسياق ما يدل عليه.

الاحتمال الثاني: أن يكون مراده صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو النهي عن الجمع بين التأخير والتطويل.

وعليه، فالتقدير كما قال ابن حجر، وقد يؤيده أن التأخير إنما شقَّ عليهم تلك الليلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخَّر العشاء فوق العادة، فتأخّر معاذ

(1)

فوق ما

(1)

في الأصل: «بلال» ، سبق قلم.

ص: 218

كان يتأخّر تلك الليلةَ، وهذا بيِّنٌ في الروايات المفصّلة الصحيحة، كرواية ابن عيينة: «وقال الرجل: يا رسول الله، إنك أخَّرتَ العشاء

».

ومما يوضِّح هذا أن الروايات المفصّلة الصحيحة مقتصرة على [النهي] عن التطويل، وذلك يدلّ أنه هو الذي استوعب الحال.

فأما الزيادة التي نقلها العثماني: «ارجعْ إليهم قبل أن يناموا» فهي تدلّ على تقرير النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم، وأن يأتمُّوا بمعاذ بعد أن يصلِّي معه صلى الله عليه وآله وسلم.

وبيان ذلك: أن عادة بني سلمة كانت أن الأقوياء منهم يأتون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيصلُّون معه المغرب، ثم يرجعون إلى بيوتهم فيصلُّون، والرامي يرى موقعَ سهمه، كما يأتي عن جابر، ثم إذا جاء وقت العشاء أتوا المسجدَ النبوي وصلَّوا العشاء مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يرجعون إلى بيوتهم، ومنهم معاذ، غير أنه انفرد بأنه كان إذا رجع إلى قومه صلَّى بالمتأخرين منهم، فإذا رجع عقب المغرب صلَّى بهم المغرب كما في حديث الترمذي، وقد تقدم، وإذا رجع عقب العشاء صلى بهم العشاء كما في حديث «الصحيحين» وغيرهما، فكان له في المغرب والعشاء مجيئان ورجوعان، ولا يحسن حمل الرجوع في قوله صلى الله عليه وآله وسلم:«ارجِعْ إليهم قبل أن يناموا» على الأول؛ لأن الحمل عليه يُحوِج إلى تقدير، والأصل عدمه، ولأن المتبادر إنما هو الرجوع الثاني؛ لأنه هو الذي شَكَوا من تأخُّره حتى يناموا.

إذا تقرر هذا، فمعنى هذه الزيادة ــ والله أعلم ــ هكذا: إذا جئتَ لتصلِّي العشاء معي فانظر، فإن وجدتَني عجَّلتُها فصلِّ معي، ثم ارجِعْ إليهم قبل أن يناموا، وإن وجدتَني أخَّرتُها فلا تنتظرْني، وارجِعْ إليهم قبل أن يناموا.

ص: 219

وفي هذه مراعاة لرغبة معاذ ورغبة قومه؛ لأن معاذًا كان يرغب في أن يصلّي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقومه ــ وإن شكا بعضُهم من تشديده ــ راغبون في أن يُصلِّي هو بهم، إذْ لم يكن فيهم أعلم ولا أفضل ولا أحبّ إليهم منه.

[ق 22] ومن أجوبتهم الخاصة بقصة معاذ أيضًا: أنه يحتمل أن يكون معاذ كان يُصلِّي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنها نافلة له، ثم يُصلِّي بقومه على أنها فريضته.

ورُدَّ بأن هذا خلاف الظاهر، بل الظاهر من حال مَن يعلم أن عليه فريضة يجب عليه أداؤها أنها إذا حضرتْ فصلّاها، إنما يَقصِد أداءها، ويتأكد ذلك بعدم الوقوف، أو من المحتمل أن يموت أو يعرض له عارض.

وقال بعض الشافعية: لا يُظَنُّ بمعاذٍ أن يترك فضيلة الفرض خلف أفضل الأئمة في المسجد الذي هو من أفضل المساجد.

حكاه ابن حجر في «الفتح»

(1)

ثم قال: للمخالف أن يقول: إذا كان ذلك بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يمتنع أن يحصل له الفضل بالاتباع.

أقول: الأصل عدم الأمر، وإنما دلَّت الظواهر على إذنه صلى الله عليه وآله وسلم لهم أن يُصلِّي معاذ معه، ثم يؤمَّهم. فإن ادَّعَى مدّعٍ أنه صلى الله عليه وآله وسلم أمر معاذًا أن ينوي بصلاته معه نافلة، وبصلاته بقومه الفرض، فعليه البيان، والأصل عدم ذلك.

وفوق هذا، فقد جاء في رواية ابن جريج عن عمرو عن جابر:«هي له تطوع، ولهم المكتوبة» وقد تقدم الكلام مع من زعم أنها مدرجة.

(1)

(2/ 196).

ص: 220

فأما من قال: «ذاك ظنٌّ من جابر فلا حجة فيه»

(1)

، فقد دفعه ابن حجر في «الفتح»

(2)

بقوله: «

مردود؛ لأن جابرًا كان ممن يصلّي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يُظَنُّ بجابر أنه يخبر عن شخصٍ بأمر غير مشاهد، إلا بأن يكون ذلك الشخص أَطْلَعَه عليه».

أقول: في هذا نظر، فقد يجوز أن يكون جابر بنى على الظاهر، نعم، إذا كان هذا هو الظاهر عند جابر، وكان ممن يصلِّي مع معاذ، ففي ذلك دليل على أنه لم يكن عند القوم خبر بما يخالف ذلك، وهذا يدلُّ على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما أذِنَ لهم أن يصلِّي بهم معاذٌ بعد أن يُصلِّي به، لم يأمر معاذًا بأن ينوي بالأولى النافلة، وبالثانية الفريضة؛ إذ لو أمره بذلك لأخبر قومه؛ ليعرفوا الحكم، ولئلا تكون صلاتهم مختلة، فإن الحنفية لا يجيزون صلاة المقتدي إذا كان يرى أن إمامه قد أدّى تلك الصلاة، وإنما يُعيدها نافلةً.

ومن أجوبتهم: دعوى النسخ، واستدلُّوا على النسخ بقوله في تلك الرواية:«إما أن تُصلِّي معي، وإما أن تُخفِّف على قومك» ، وقد تقدم الكلام عليه. واستدلُّوا أيضًا بحديث ابن عمر:«لا تُصلُّوا صلاةً في يوم مرتين» وقد تقدم الكلام عليه. واستدلُّوا بحديث: «الإمام ضامنٌ» ، وحديث:«إنما جُعِل الإمام ليُؤتَمَّ به» . وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.

(1)

قاله الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 409).

(2)

(2/ 196).

ص: 221

فصل

أجاب بعض أئمة الحنفية في الهند

(1)

عن حديث معاذ: بأن أصل القصة إنما هي أن معاذًا كان يُصلِّي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم المغرب، ثم يرجع إلى قومه، فيؤمُّهم في العشاء والصبح، فإن في حديث الترمذي

(2)

: «أن معاذ بن جبل كان يُصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المغربَ، ثم يرجع إلى قومه، فيؤمُّهم» . وفي «الصحيحين»

(3)

: «كان معاذ بن جبل يُصلِّي مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يرجع فيؤمُّ قومَه، فصلَّى بهم العشاء، فقرأ بالبقرة» .

وفي موضع في رواية الترمذي اختصار فلم يذكر العشاء، وفي حديث الصحيح اختصار فلم يذكر المغرب، فلما تعدّد اللفظ منهما تصرَّف فيه الرواة على حسب ظنونهم.

أقول: قد تقدَّم الكلام على حديث الترمذي، ويكفيك أن تراجع الروايات، وتتدبَّرها، لتعلم حال هذا الجواب. والله المستعان.

وأجاب هذا الإمام

(4)

عن حديث صلاة الخوف أن الصلاة التي قيل في حكايتها إنه صلَّى بطائفةٍ ركعتين، ثم صلَّى بطائفة ركعتين، فكان له أربع ركعات، ولكل طائفة ركعتان، ووقع في بعض الروايات زيادة «ثم سلم» ، إنما المراد بها الصفة التي رواها صالح بن خوّات عمن شهد ذات الرقاع، أنه

(1)

هو الشيخ أنور شاه الكشميري في «فيض الباري» (2/ 229 - 230).

(2)

رقم (583).

(3)

البخاري (701) ومسلم (465).

(4)

«فيض الباري» (3/ 247).

ص: 222

صلَّى بطائفةٍ ركعةً ثم ثبت قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم وذهبوا، وجاءت الطائفة الأخرى فصلَّى بهم ركعةً، وثبتَ جالسًا حتى أتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم.

وإنما تجوَّز الراوي فاعتبرَ ثباتَ الإمام قائمًا حتى صلَّت الطائفة الأولى ركعتها الثانية، ركعةً تابعة له أي الإمام، وكذلك اعتبر ثباته جالسًا حتى صلت الطائفة الثانية ركعتها ركعة أخرى له.

فالحاصل: أن الإمام صلّى بالطائفة الأولى ركعة على الحقيقة، وانتظرها حتى صلَّت ركعة أخرى، فكان كأنه صلَّى ركعة أخرى، فتكون له ركعتان بهذا التجوُّز. ثم صلَّى بالطائفة الثانية ركعةً على الحقيقة، ثم انتظرها حتى صلَّت ركعة أخرى، فكان كأنه صلَّى ركعة أخرى. وأما زيادة «ثم سلَّم» في الوسط فتجوُّزٌ أيضًا، والمعنى أن الطائفة الأولى سلَّمت لأنفسها، فأضيف ذاك السلام إلى الإمام.

أقول: لا يخفى ما في هذا التأويل من البعد، مع أنه لا مُلْجِئَ إليه؛ لأن الرباعية تتكرَّر في اليوم ثلاث مرات، وقد يُحتاج في الغزوة الواحدة إلى صلاة الخوف في يومين وأكثر.

والظاهر أن الصلاة التي صلّاها بنخلٍ ركعتين ثم ركعتين هي الظهر كما في رواية الشافعي وغيرها، وأن الصلاة التي صلّاها كما في رواية صالح بن خوّات عمن شهد هي العصر، وقد جاء مثلها عن جابر كما تقدم، ورواية قتادة عن سليمان بن قيس تُؤيِّد ذلك، وقد تقدَّم البحث فيها.

وهبْ أنه لا دليلَ على هذا، فهو على الأقلّ محتملٌ احتمالًا ظاهرًا، وإذا كان كذلك فلا مُلجِئَ إلى ما ادّعاه هذا الإمام من حمْلِ الكلام على التعمية والإلغاز. والله الموفق.

ص: 223

وقد يجاب: بأن في رواية قتادة عن سليمان بن قيس أن تلك الصلاة كانت قبل نزول آية النساء في صلاة الخوف، وأن الآية نزلت بعدها، وعلى هذا فهذه الصفة منسوخة.

أقول: قد تقدَّم الكلام على رواية قتادة عن سليمان، وأن قتادة مدلِّس، فيجوز أن يروي عن سليمان ما سمعه من غيره مما ليس في الصحيفة، وعلى فرض أنه إنما يروي عنه من تلك الصحيفة، ففي جواز الاحتجاج بما في الصحيفة وحده نظر، مع أن اعتماد جماعة من الأكابر عليها يُقوِّي شأنها، ولكن الذي يظهر من اعتمادهم عليها إنما هو في الرواية، ولم يتبين اعتمادهم عليها في الاحتجاج.

فأما فتوى الحسن بصلاة الخوف مرتين بكل طائفة مرة، فلعله إنما اعتمد في ذلك على روايته عن أبي بكرة، ولعل روايته عن جابر لم تكن عن الصحيفة، بل عن طريق غيرها، كما يظهر من زيادته في روايته:«ثم سلَّم» ، وليس ذلك في رواية أبي بشر وقتادة، حتى إن قتادة لما أراد [أن] يروي بزيادة «ثم سلَّم» رواه عن الحسن عن جابر، كما مر.

وقد تقدم أن رواية مجاهد عن أبي عيّاش الزُّرَقي معارضة لرواية قتادة عن سليمان في تاريخ نزول الآية، وإن لم يتضح التاريخ، وأن البخاري رجَّح تأخُّر غزوة ذات الرقاع، فتكون على هذا قصة جابر متأخرةً عن قصة أبي عيّاش، وكذلك رواية أبي بكرة، إن صحّ ما في بعض الروايات أنه شهد تلك الصلاة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهي متأخرة عن نزول الآية [ق 23] حتمًا، وإلا فالأمر محتمل.

ص: 224

فإن قيل: مما يدلّ على تقدُّمِ هذه الصلاة على نزول الآية أنها مخالفة لظاهر الآية، فإن في الآية:{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} [النساء: 102]. فظاهر قوله: {فَإِذَا سَجَدُوا} الأمرُ بتأخُّرهم عقب الركعة الأولى.

قلت: قد يحتمل أن يكون صالحًا للسجود في الأولى، والسجود في الثانية، فيكون ذلك صالحًا لهذه الصفة التي فيها أنه يُصلِّي بكل طائفة مرةً.

وعلى فرض أنه صالح لها، فقد تقدم أن الصفة التي فيها صلاة الإمام بكل طائفةٍ ركعة هي من القصر الذي أباحه الله عز وجل أول هذه الآية، إذ قال سبحانه:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]. فقوله بعد ذلك: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} إنما هو بيان لذلك القصر الذي أباحه، أو لبعض أنواعه، وإذا كان كذلك فليس الأمر لإيجاب هذه الصفة بعينها، لما علمتَ أنها بيان للمباح، بدليل اقتصاره على نفي الجناح.

ومما يدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صلَّى بعد نزول الآية صلاة الخوف بأوجهٍ أخرى، منها ما يخالف ظاهر الآية. فبان بهذا أن تلك الصلاة التي فيها أنه صلَّى بهؤلاء مرةً، وبهؤلاء مرةً، أن فرض تقدمها على نزول الآية، فليس في الآية ولا في صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الأحيان بحسب ظاهر الآية ما يوجب نسخَ الصفة السابقة، فتدبر! والله الموفق.

ص: 225

فصل

أجود ما رأيته للمانعين ما قاله العلامة الجليل شبِّير أحمد العثماني الحنفي في «شرحه لصحيح مسلم» فإنه ذكر ما يحتجُّ به أصحابه من حديث «الإمام ضامن»

(1)

وحديث «إنما جُعل الإمام ليؤتمَّ به»

(2)

وقوله: «فلا تختلفوا عليه»

(3)

، ثم قال: ولا يخفى على المنصف الممعن أن مسألة الائتمام ــ أي متابعة المأموم للإمام ــ إنما كملت على لسان الشارع شيئًا فشيئًا

ثم استشهد بقضية القراءة: أي أنهم كانوا أولًا يقرؤون خلف الإمام، ثم أُمِروا بالاكتفاء بقراءته، وأنها تكون لهم قراءة.

وبقصة معاذ: إذ كانوا أولًا يجيء المسبوق، فيبدأ بصلاة ما سبُق به لنفسه، ثم يدخل مع الإمام فيما هو فيه، فخالفهم معاذ، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«إن معاذًا قد سنَّ لكم» .

ثم قال: فينبغي أن يُحمَل كل ما جاء في الأحاديث مما ينافي مقتضى هذا الائتمام ولم يُعلَم تاريخه، على ما قبل أوامر الائتمام ونواهي الاختلاف.

أقول: أما القراءة فلسنا نوافقه على مذهبه فيها، غاية الأمر أن بعض

(1)

أخرجه أحمد (7818) والترمذي (207) وابن خزيمة (1528) وغيرهم من حديث أبي هريرة، وإسناده صحيح.

(2)

أخرجه البخاري (722) ومسلم (414) من حديث أبي هريرة، وفي الباب عن أنس وعائشة وغيرهما.

(3)

ضمن الحديث السابق.

ص: 226

الصحابة كان يقرأ زيادة على الفاتحة خلف النبي صلى الله عليه وآله وسلم[

] فنهاهم، ولم يكن ذلك مشروعًا ثم نُسخ.

وأما قصة معاذ: فأخرجها أبو داود وغيره

(1)

، وفيها كلام.

وعلى كل حال، فينبغي أن نتدبَّر ما أشار إليه العثماني من الأوامر والنواهي، فإذا كانت دلالتها واضحةً على المنع من اقتداء المفترض بالمتنفل، بحيث لا يمكن الجمع بينها وبين أدلة المجيزين إلا بنسخ أحد [القبيلين] للآخر، فدلائل المنع أولى بأن تكون الناسخة. والله أعلم.

ومما احتجوا به حديث: «الإمام ضامن» .

قالوا: وصلاة المأموم لا تكون في ذمة الإمام، فتعين أن يكون «ضامن» بمعنى متضمن، أي محتوٍ مشتمل، كما قال الشاعر

(2)

:

بالباعثِ الوارثِ الأمواتِ قد ضَمِنَتْ

إيّاهم الأرضُ في دهرِ الدَّهارير

فالمعنى أن صلاة الإمام متضمنة لصلاة المأموم بأن تكون صلاة المأموم في ضمن صلاة الإمام.

قالوا: والشيء لا يتضمّن ما فوقه، وإنما يتضمّن ما هو مثله أو دونه.

أقول: لا يخفى أن «ضامن» بمعنى متضمِّن أي محتوٍ مشتمل، قليل في الاستعمال، ومع ذلك فالذي في الحديث «الإمام ضامن» ، فحَمْلُه على

(1)

سبق تخريجه والكلام عليه.

(2)

البيت للفرزدق في «ديوانه» (1/ 214) ولأمية بن أبي الصلت في «الخصائص» (1/ 307، 2/ 195).

ص: 227

معنى: «صلاة الإمام ضامنة» مُحوِجٌ إلى تقديرٍ الأصلُ عدمه، وفي تضمُّن الشيء ما هو مثله نظرٌ، والمعروف أن الشيء إنما يتضمن ما هو دونه، كما في تضمن الأرض للموتى.

وعلى هذا، فيلزم من الحمل على هذا المعنى أن لا يصحَّ اقتداء المفترض بالمفترض، والمتنفل بالمتنفل.

وقولهم: «صلاة المأموم لا تكون في ذمة الإمام» إن سلم فذاك إذا حُمِل على ضمان الدين.

والصواب أنّ ما في الحديث من باب ضمان العين، كما في ضمان العين المستعارة والمستأجرة والمستأجَر على إصلاحها ، ويُؤيِّده قولُه عقبه:«والمؤذن مؤتمن» ، وفي بعض طرقه زيادة «اللهم أَرشِدِ الأئمة، واغفر للمؤذنين»

(1)

.

وكما أن ضامن العين المالية يكون عليها بدلُها إذا تَلِفتْ، وأَرْشُ نقصِها إذا نقصتْ، على التفصيل المعروف في الفقه، فكذلك الإمام ضامن لصلاة المأموم عليه بدلُها إذا تَلِفتْ بسببه، وأرْشُ نقصِها إذا نقصَتْ بسببه، غير أن البدل والأَرْشَ هنا إنما يُستوفى في الآخرة، فإذا كان الإمام مُحدِثًا وهو يعلم ذلك، ولا يعلمه المأموم، فصلاة المأموم في نفس الأمر تالفة، والإمام ضامن لها غارم، ومعنى الغرامة ــ والله أعلم ــ أن الله عز وجل يكتب للمأموم صلاة صحيحة، ويَحْرِم الإمامَ ثوابَ صلاة من صلواته الصحيحة.

(1)

أخرجه أحمد (7818) والترمذي (207) وابن خزيمة (1528) وغيرهم من حديث أبي هريرة. وإسناده صحيح.

ص: 228

أو قُلْ: يأخذ صلاةً من صلوات الإمام الصحيحة، فيجعلها للمأموم بدلًا من صلاته التي أتلفها الإمام، ويكون الإمام مسؤولًا عن صلاته هذه التي صلّى وهو مُحدِث، وعن صلاته التي أُخِذت منه؛ لأنها إذا أُخِذت منه صار في معنى مَن لم يُصلِّها.

وقِسْ على هذا، وكذلك في النقص.

ومما يُؤيِّد هذا ما أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 216) وابن ماجه

(1)

من طريق عبد الحميد بن سليمان أخي فليح عن أبي حازم: أن سهل بن سعد كان يُقدِّم فتيانًا يصلُّون به، فقلت: أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، [ق 24] ولك من الفضل والسابقة، تُقدِّم هؤلاء الصبيان، فيصلُّون بك؟ أفلا تتقدَّم فتصلِّي لقومك؟ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الإمام ضامن، فإن أتمَّ كان له ولهم، وإن نقصَ كان عليه ولا عليهم» فلا أريد أن أتحمَّلَ ذلك. لفظ الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقرَّه الذهبي.

كذا قال، مع أن عبد الحميد لم يُخرِّج له مسلم، وضعّفه ابن معين وابن المديني وغيرهما، وأحسنُ ما قيل فيه قول الإمام أحمد: ما كان أرى به بأسًا

(2)

(3)

.

(1)

رقم (981).

(2)

انظر «تهذيب التهذيب» (6/ 116).

(3)

في موسوعة أقوال الإمام أحمد: أنه سُئل عن حديثه فقال: «لا أدري، إلا أنه ما أرى كان به بأسًا» اهـ. هكذا بتقديم «أرى» على «كان» .

ص: 229

وبالجملة، فهو كما قال ابن عَدي: ممن يُكتَب حديثُه، فيصلح للاستشهاد والاعتضاد.

وقوله: «فإن أتمَّ كان له ولهم، وإن نقصَ كان له ولا عليهم» لها شواهد ذكر البخاري في «الصحيح»

(1)

بعضها في باب إذا لم يُتِمَّ الإمام وأتمَّ مَن خلفه، وذكر ابن حجر في «فتح الباري»

(2)

بعضها.

ووجه التفرقة بين الإمام والمؤذن ــ والله أعلم ــ أن الذي يتعلق بالمؤذن شيء واحد وهو دخول الوقت، والعلم بذلك متيسر للناس، فيمكنهم إذا قصَّر المؤذن أو أخطأ أن يعرفوا ذلك بسهولة، ولا يضطرُّهم شيء إلى اتباع المؤذن إذا تبين لهم خطاؤه.

وأما الإمام فإنه يتعلق به أشياء كثيرة في الصلاة:

فمن إخلاله وتقصيره ما لا يمكن أن يعرفه المقتدي، كالحدث الخفي، والنجاسة الخفية، والإخلال بقراءة الفاتحة في السرّية، وعدم الاطمئنان في الركوع والسجود، ولاسيّما في الظلمة، وغير ذلك.

ومنه ما قد يعلمه المقتدي، ولا يمكنه الإتمام لنفسه، كترك الإمام القراءة بالسور المستحبة، كالجمعة والمنافقين في عشاء الجمعة، والسجدة والدهر في صبحها.

ومنها: ما يمكنه أن يُتِمَّه لنفسه، ولكن يفوته فيه فضل الاتباع، فإن فضل الصلاة في الجماعة ببضع وعشرين، فالسنة التي يؤديها الإمام والمأموم معًا

(1)

(2/ 187)«مع الفتح» .

(2)

(2/ 187).

ص: 230

كالتسبيح في الركوع والسجود يكون ثوابها ــ والله أعلم ــ بذلك التضعيف، فإذا تركها الإمام، وأدَّاها المأموم فالأصل أن لا يكون له ذلك التضعيف، إلا أن يُعوِّضه الله عز وجل من حسنات الإمام؛ لأن الفوات إنما جاء بتقصير الإمام.

فقوله: «الإمام ضامن» لو انفردت كان الظاهر أن يتضمن ما تعمَّد الإخلالَ به، أو أخطأ ولكن لتقصيرٍ بيِّن. فأما إذا قُرنتَ بقوله:«والمؤذن مؤتمن» فإن ذلك يُشعِر بأن الإمام يضمن وإن لم يُقصِّر، وذلك أن من الأشياء ما تُضمن بشرط التقصير كالوديعة، ومنها ما تضمن وإن لم يقصّر، كالمبيع في يد المشتري إذا عرض له نقص كقطع رجل الدابة مثلًا، ثم ظهر به عيب قديم، فأراد المشتري أن يردَّه، فإن النقص الحادث محكوم به على المشتري، وإن كان بدون تقصيره، والمؤتمن يضمن إذا قصَّر. فلو كان الإمام لا يضمن إلا إذا قصَّر لكان مساويًا للمؤذن، فلما فرق بينهما فقيل:«الإمام ضامن، والمؤذن مؤتمن» دلَّ ذلك على أن ضمان الإمام أشدُّ، وتأكَّد ذلك بما في بعض الروايات:«اللهم أَرشِدِ الأئمة واغْفِر للمؤذنين» ، فدعا للأئمة بالإرشاد حتى لا يقع منهم إخلال، ودعا للمؤذنين بالمغفرة، وذلك يُشعِر بأن الأئمة إذا أخلُّوا فلابدَّ من الضمان، وأما المؤذنون فيُرجَى أن لا يَضمَنوا، ولذلك دعا لهم بالمغفرة.

هذا ما يُشعِر به هذا اللفظ، وأما حقيقة الحال فتُعلَم بالرجوع إلى الأصول القطعية.

فإن قيل: وكيف يَضْمَن المتنفل، ويَغْرَم للمفترض؟

قلت: إذا رضي أن يكون إمامًا فقد التزم، فيلزمه ما التزم، وإن كان متنفلًا.

ص: 231

والمقصود أن الحديث ظاهر في هذا المعنى، وهو معنى صحيح لا غبار عليه، فلا وجهَ لحمله على ذلك المعنى البعيد، مع ما يلزم عليه مما مرّ. والله أعلم.

[ق 25] ومما احتجوا به حديث: «إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به» .

قال العثماني

(1)

: «يدلُّ على أن الإمام لا يكون إمامًا إلا إذا ربط المقتدي صلاتَه بصلاته، بحيث يُمكِنه الدخولُ في صلاته بنية الإمام

».

أقول: قد يقرّر هذا بأن الحديث دلّ على أن شرع الإمام إنما كان للائتمام، وعُلِم بذلك أنه إذا انتفى الائتمام انتفى شرع الإمامة، والائتمام يشمل الائتمام في أصل الصلاة المَنْويَّة وفي أعمالها، فإذا أراد مفترض أن يقتدي بمتنفل، قيل له: أنت غير مؤتمٍّ به في أصل صلاتك فكيف تتخذه إمامًا أو أنت ناوٍ أن لا تأتم به في أصل صلاتك، فكيف يصحّ مع ذلك نيتك أن تتخذه إمامًا؟

والجواب: أنها قد تقدمتْ أدلة الجواز، واستقر الأمر على أن ذلك قد كان جائزًا صحيحًا يومًا ما في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، والأصل استمرار ذلك إلا أن يثبت ناسخ، فاعلم الآن أن هذا الحديث لا يصلح ناسخًا؛ لأنه صريح في أن شرع الإمامة لم يكن أصلًا إلا للائتمام، فالائتمام المراد فيه، إما أن يصدق بائتمام المفترض بالمتنفل على ما تقدم في أدلة الجواز وإما أن لا يصدق، الثاني باطل؛ لأنه قد ثبت الجواز والصحة بعد شرع الإمامة، كما تقدم في أدلة الجواز، فتعين الأول.

(1)

«فتح الملهم» (3/ 433).

ص: 232

فتقرر بهذا أنه يكفي في الائتمام في أصل الصلاة أن ينوي كلٌّ منهما الصلاة، وأن تتفق الصلاتانِ بأن لا تكون إحداهما صلاة جنازة، والأخرى ذات ركوع وسجود، ونحو ذلك مما هو مفصَّل في كتب الفقه.

فإن قيل: سلَّمنا أن الحديث صريح في أن الإمامة إنما شُرِعت للائتمام، ولكنا نقول: هذه العلة لم يجب العمل بحسبها تمامًا من أول الأمر، بل كان الأمر على التدريج، فكأنه قيل: المقصود من شَرْعِ الإمامة هو الائتمام في كل شيء، ولكن في ذلك الوقت رُخِّص بالإخلال ببعض ذلك لحكمة التدريج.

أو يقال: الإمامة إنما شُرِعت للائتمام، والائتمام يتفاوت، فاكتُفِي أولَ الأمر بائتمام غير كامل؛ لمصلحة التدريج إلى الائتمام الكامل.

قلت: في هذا نظر من وجوه:

الأول: أن الحديث وإن احتمل هذا المعنى، فهو محتمل لما قلنا، لعل ما قلنا أقرب.

الثاني: أن التدريج إنما يقع في الشرع لمصلحة، كالتدريج في تحريم الخمر وغيره، وقد تظهر المصلحة في سنة معاذ، وذلك أن المسبوق يَشُقّ عليه أن يتابع الإمام فيما هو فيه، ثم يقضي بعد ذلك ما فاته؛ لأنه قد يدركه في ثانية المغرب بحيث لا تحسب له تلك الركعة، وقد أتى ببعضها، فيحتاج إلى أن يتشهد معه التشهد الأول والثاني، وليسا محسوبَيْنِ له، ثم يقوم فيصلّي ركعة ويتشهد، ثم أخرى ويتشهد.

وقريب من هذا قد يتفق في الصلوات الأخرى، فأما إذا بدأ فصلَّى

ص: 233

لنفسه حتى لحِقَ الإمام فوافقه، فإنه يسلِّم معه، فرُخِّص لهم أولًا فيما يَخِفُّ عليهم، ومع ذلك فليس في ذلك مخالفةٌ لحديث:«إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به» ؛ لأن المسبوق إنما كان يصلّي ما سبق به منفردًا قبل أن يجعل الإمام إمامًا له، فإذا وصل إلى ما فيه الإمام اتخذه إمامًا من حينئذ، ووافقه وتابعه.

فأما اقتداء المفترض بالمتنفل: فلا يظهر لي فيه شيء من هذا القبيل.

الثالث: أن العمل إذا شُرِع لمعنى، واقتضت الحكمة التدريج في إبلاغ ذلك العمل غايتَه فالمعقول أن يرعى فيه أولًا المقصود الأهم، ويكون التدريج في الفروع. وأنتم تزعمون أن الموافقة في النية هي الأصل، حتى أن لا ينعقد عندكم إلا بها، فلو كان الأمر كما زعمتم لكان الظاهر أن يُهتمّ أولًا بالموافقة في النية، ويكون التدريج في الموافقة الظاهرة، فكيف وانعكس الحال؟ !

الرابع: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصَّل في حديث: «إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به» أشياء، قال:«فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا» وزاد في رواية: «فإذا كبَّر فكبِّروا

وإذا سجد فاسجدوا» إلى غير ذلك.

فنصَّ على المتابعة التي قد علموا أنها مشروعة، فلو أريد به نسخ جواز اقتداء المفترض بالمتنفل لكان أولى بأن ينصَّ عليه مما ذكر.

الخامس: أنه نصَّ على المتابعة في الأفعال تفصيلًا، والمتابعة في النية على حسب دعواكم أهمُّ منها، فلو كان الأمر كما قلتم لكان النص على المتابعة في النية ــ على حسب دعواكم ــ أولى.

ص: 234

هذا، وقد نصّ في هذا الحديث على قوله:«وإذا صلّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا» فبيَّن أن هذا من الائتمام الذي شُرِعت له الإمامة، وعندكم أن هذا منسوخ، وقال جماعة منهم أبو حنيفة وأبو يوسف والشافعي: إن الإمام إذا صلَّى قاعدًا لعذرٍ وجب على المأموم إذا لم يكن معذورًا أن يصلِّي قائمًا، ولا يخفى فُحْشُ المخالفة في هذا.

واتفقوا على صحة اقتداء المتنفل بالمفترض مع اختلاف النية، وهو مخالف قطعًا لهذا الحديث، لو كان شاملًا للائتمام في النية على ما قلتم في اقتداء المفترض بالمتنفل.

واتفقوا على أن من المخالفة في بعض ما نصّ عليه في التفصيل ما لا يبطل الصلاة ولا القدوة، حتى ولو كانت لغير عذر، فما لم ينصّ عليه أولى.

فغاية الأمر أن يكون اقتداء المفترض بالمفترض أولى من اقتدائه بالمتنفل؛ لمخالفته له في بعض النية، فإن كان لعذر ما فلا حرج، وبهذا تتفق الأدلة بدون حاجة إلى نسخ، ولا فسْخٍ.

هذا، وفي «الفتح»

(1)

: عن ابن حبان أن القصة التي في هذا الحديث ــ وهي أنه صلى الله عليه وآله وسلم جُحِش شِقُّه الأيمن، فصلَّى جالسًا، فصلّى وراءه قوم قيامًا، فأشار إليهم أن اجلسوا، فلما سلّم قال: «إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به

» ــ كانت في ذي الحجة سنة خمس. وعلى هذا فهي متقدمة على صلاته في الخوف بطائفةٍ ركعتين، ثم بطائفةٍ ركعتين، لأنها كانت بنَخْلٍ في غزوة محارب وثعلبة، وهي ذات الرقاع، فإن البخاري اختار أنها كانت بعد خيبر،

(1)

(2/ 178). وانظر «صحيح ابن حبان» (5/ 492).

ص: 235

واستدلّ على ذلك بأدلّة. والله أعلم.

ومما احتجوا به قوله في بعض طرق هذا الحديث: «ولا تختلفوا عليه»

(1)

.

قال العثماني

(2)

: «فإنه يشمل الاختلافَ عليه في الأفعال الباطنة» .

ويُجاب: بأن حقيقة اختلافهم عليه هو أن يكون بعضهم موافقًا، وبعضهم مخالفًا.

ولفظ مسلم

(3)

: «إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهمَّ ربَّنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون» .

فقوله: «أجمعون» يعود ــ والله أعلم ــ إلى جميع الجمل قوله: «فإذا كبَّر فكبِّروا

» وما بعدها.

وقد علمتَ من الكلام على الدليل السابق جوازَ أن يصلِّي المأمومون كلهم مفترضين، والإمام متنفل، وأن ذلك ليس من الخلاف للائتمام الذي شُرِعت له الإمامة، فأولى من ذلك أن يكون بعضهم مفترضًا، وبعضهم متنفلًا.

وبالجملة، فالتفصيل في الحديثين يدلُّ أن الموافقة والمتابعة المطلوبة

(1)

سبق تخريجه.

(2)

«فتح الملهم» (3/ 433).

(3)

رقم (414).

ص: 236

إنما هي في الصفة الظاهرة، فأما الباطن فأصل مقصود الشارع من الباطن الإخلاصُ والخضوع وصدق التوجه إلى الرب سبحانه، وكلّ مصلٍّ مأمورٌ بذلك، فإذا اتفقوا فيه فقد اتفقوا في كل شيء من مقصود الباطن.

هذا، وإذا دقَّ عليك فهمُ بعض ما تقدم، فيكفيك أن تعلم أن غاية ما في قوله:«إنما جُعِل الإمام ليؤتم به» وقوله: «فلا تختلفوا عليه» أن يكون ظاهر اللفظ يتناول الموافقة في نية الصلاة فرضًا ونفلًا.

ويجاب عنه: بأن هذا العموم ــ على تسليمه ــ مخصَّص بأدلة الجواز، وقد تقدَّم عن ابن حبان والبخاري ما يقتضي أن بعض أدلة الجواز متأخرة حتمًا عن هذا الحديث.

وما ذكره العثماني من أنَّ الظاهر التأخرُ، لا يصادم النقل.

فإن سُلِّم الجهل بالتاريخ، أو تأخَّر هذا الحديث عن أدلة الجواز، فالصحيح في الأصول: العمل بالتخصيص أيضًا، وقد تأكّد ذلك بأنه في التفصيل اقتصر على الأعمال الظاهرة، مع أن المتابعة فيها كانت معلومة عندهم، فلو أريد نسخُ جواز ائتمام المفترض بالمتنفل لكان النصّ عليه في التفصيل أولى وأحرى.

وأيضًا، فهذا العموم ــ على تسليمه ــ قد خُصَّ عند جماعة منهم أبو يوسف وأبو حنيفة والشافعي، قالوا: إذا صلى الإمام جالسًا لم يجب الجلوس على المأموم، بل يجب عليه القيام في الفرض.

بل خُصَّ بالنظر إلى اختلاف النية اتفاقًا، فأجازوا ائتمام المتنفل بالمفترض.

ص: 237