المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في حقيقة "الوتر" ومسماه في الشرع - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٦

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" هل يفيد إخراج الأبنية

- ‌1 - حديث ابن عمر في الصحيحين

- ‌الباب الثاني في الرخصة

- ‌حكم القبلة وقضاء الحاجة

- ‌ فقه هذا الحديث

- ‌فصلهل يُعيد إمامًا

- ‌ أدلة المجيزين:

- ‌فصلوممن رواه عن جابر:

- ‌الدليل الثانيحديث جابر في صلاة الخوف

- ‌ فصلمما يُستدل به لصحة اقتداء المفترض بالمتنفِّل:

- ‌مقدمة في حقيقة الوتر

- ‌المقالة الأولىفي حقيقة الوتر

- ‌مبحث في الوتر [بواحدة]

- ‌بحث في حقيقة "الوتر" ومسمَّاه في الشرع

- ‌الفصل الثانيفي الاقتصار على ثلاث

- ‌تحقيق الكلام في حديث: "لا توتِروا بثلاثٍ

- ‌مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبويوما صار إليه في عهد عمر

- ‌الاختلافُ في الأفضل: أفي البيت أم في المسجد؟فرادى أم جماعة

- ‌هل هناك مانعٌ

- ‌الفصل الأولما هو المقام

- ‌الفصل الثانيلماذا سُمّي "الحَجر" مقامَ إبراهيم

- ‌الفصل الثالثأين وضع إبراهيم المقامَ أخيرًا

- ‌الفصل الرابعأين كان موضعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌تمحيص هذه الأقوال

- ‌الفصل الخامسلماذا حوّل عمر رضي الله عنه المقام

- ‌الفصل السادسمتى حوَّل عمر رضي الله عنه المقام؟ولماذا قدَّرَهُ المُطَّلِبُ، واحتاجَ عُمَرُ إلى تقديرِه

- ‌تلخيص وتوضيح

الفصل: ‌بحث في حقيقة "الوتر" ومسماه في الشرع

‌بحث في حقيقة "الوتر" ومسمَّاه في الشرع

روينا في "صحيح مسلم"

(1)

بسنده إلى أبي مِجْلَز قال: سالتُ ابن عباس عن الوتر، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ركعةٌ من آخر الليل"، وسألتُ ابن عمر فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "ركعةٌ من آخر الليل".

وهذا الحديث بعض حديث. أقول: رويناه في "سنن أبي داود" و"سنن النسائي" و"سنن ابن ماجه". قال أبو داود

(2)

: (باب كم الوترُ؟) حدثنا محمد بن كثير أنا همام عن قتادة عن عبد الله بن شقيق عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الليل، فقال بإصبعَيْه هكذا:"مَثْنَى مَثْنَى، والوتر ركعة من آخر الليل".

قلت: وهذا الإسناد صحيح.

وقال النسائي

(3)

: (باب كم الوترُ؟) أخبرنا محمد بن يحيى بن عبد الله قال: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا شعبة عن أبي التيَّاح عن أبي مِجْلَز عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الوتر ركعةٌ من آخر الليل".

أخبرنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى ومحمد قالا: حدثنا ــ ثم ذكر كلمةً معناها ــ شعبة عن قتادة عن أبي مِجْلَز عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الوتر ركعةٌ من آخر الليل".

(1)

رقم (753).

(2)

في "سننه"(2/ 62) رقم (1421).

(3)

(3/ 232).

ص: 271

أخبرنا الحسن بن محمد عن عفان قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة عن عبد الله بن شقيق عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الليل، قال:"مثنى مثنى، والوتر ركعةٌ من آخر الليل".

وهذا الإسناد الأخير صحيح.

وقال ابن ماجه

(1)

: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، ثنا عبد الواحد بن زياد، ثنا عاصم عن أبي مِجْلَز عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة". قلت: أرأيتَ إن غلَبتْني عيني، أرأيتَ إن نِمْتُ؟ قال:"اجعَلْ "أرأيتَ" عند ذلك النجم". فرفعتُ رأسي، فإذا السِّماكُ. ثم أعاد فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعةٌ قبلَ الصبح". وإسناده صحيح، ولفظ "قبل الصبح" هو بمعنى اللفظ الآخر:"من آخر الليل".

وقد ورد إطلاق الوتر على الركعة الواحدة الموصولة بالشفع، كما في روايةٍ لأبي داود

(2)

في حديث سعد بن هشام عن عائشة، وفيها: "فصلَّى ثماني ركعاتٍ يُخيَّلُ إليَّ أنه يُسوِّي بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعةٍ

" الحديث. مع أن عامة طرق الحديث عند أبي داود

(3)

وعند مسلم

(4)

وغيرهما مبينةٌ أن الركعة متصلة بالثمان، وذلك أنه صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى تسعًا جميعًا، وإنما أفردت الركعة في هذه الرواية لأنه فصلَ بينها وبين الثمان

(1)

رقم (1175).

(2)

رقم (1352).

(3)

رقم (1342، 1343، 1346، 1347).

(4)

رقم (746).

ص: 272

بتشهدٍ، ولم يُسلِّم إلّا في التاسعة، كما في عامة الروايات.

وقد تُحمل هذه الرواية على أن يُوتِر بركعة بمعنى يُوتِر الثمانَ، أي يُصيِّرها وترًا. وإن لم يُقبل هذا التأويل فهذا إطلاق ثالث مجازًا، ومنه أيضًا رواية أبي سلمة عند مسلم

(1)

قالت

(2)

: "كان يصلِّي ثلاث عشرة ركعةً، يُصلِّي ثمانَ ركعات ثم يُوتِر، ثم يُصلِّي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركع، ثم يُصلِّي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح".

كما ثبت عنها في مسلم

(3)

وغيره من رواية سعد بن هشام، وفيه: "ويُصلِّي تسعَ ركعاتٍ لا يجلس فيها إلّا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يُسلِّم، ثم يقوم فيصلِّي التاسعة

" الحديث.

وأصرحُ منه رواية النسائي

(4)

في حديث سعد بن هشام المذكور، ولفظه: "قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أوتر بتسع ركعاتٍ لم يقعد إلا في الثامنة، فيحمد الله ويذكره ويدعو، ثم ينهض ولا يُسلِّم، ثم يُصلِّي التاسعة

" الحديث.

وهذا الإطلاق مجازٌ أيضًا.

وقد يُطلق الوتر مجازًا على مطلقِ صلاة الليل، لاشتمالها على الوتر، رواه بعضهم عن الطيبي، ومرَّ نَقْلُه فيه عن "سنن الترمذي"، واقتضاه كما

(1)

رقم (738/ 126).

(2)

أي عائشة رضي الله عنها.

(3)

رقم (746).

(4)

(3/ 240).

ص: 273

ذكرنا صنيع الإمام النسائي، بل يقتضيه كلام أكثر العلماء لتأوُّلهم إطلاقَ الوتر على الثلاث عشرة في بعض الأحاديث على أنه أدخل فيه سنة العشاء أو افتتاح الوتر أو سنة الصبح، ومنه حديث أم سلمة وحديث الحاكم السابقانِ، وحديث أبي داود

(1)

بإسناد صحيح إلى عبد الله بن أبي قيس قال: قلتُ لعائشة رضي الله عنها: بكَمْ كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُوتر؟ قالت: كان يُوتِر بأربعٍ وثلاث، وستٍّ وثلاث، وثمانٍ وثلاث، وعشرٍ وثلاث. ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ ولا بأكثر من ثلاث عشرة.

وهذا الحديث دليل واضح على ما قلناه؛ لأنه صُرِّح فيه بالتقطيع، وقد عرفتَ أن عامة الأحاديث على إطلاق الوتر على القطعة الأخيرة. وقوله:"ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ" مع أن القطعة الأخيرة قد صحَّ وقوعُها ركعةً واحدةً. وليس من هذا بعض روايات حديث ابن عمر

(2)

: "صلَّى ركعةً واحدةً تُوتِرُ له ما قد صلَّى"؛ إذ لا يتعين أن يكون معنى "تُوتِر له ما قد صلَّى" أي تُصيِّره وترًا، بل المعنى: تكون منه وترًا. وهذا الإطلاق هو الأقرب إلى مذهبنا؛ لأن الوتر عند أصحابنا عبارة عن صلاةٍ مخصوصةٍ، أقلُّها ركعةٌ وأكثرها أحد عشر. قالوا: وما ورد من أنه ثلاثة عشر أو خمسة عشر، فهو بضمِّ ركعتين خفيفتين عند افتتاح الوتر، وركعتين قبليَّة الصبح.

قلت: وهذا هو المجاز الذي قلناه، وقلنا: إنه كذلك إذا ورد مطلقًا على أحد عشر مقطعة أو نحوها، وحقيقة فيما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، ولم يثبت ذلك في أكثر من تسعٍ.

(1)

رقم (1362).

(2)

عند البخاري (990) ومسلم (749).

ص: 274

ولا ينافي ما ذكرناه من وَصْل الثلاث والخمس والسبع والتسع قولُه صلى الله عليه وآله وسلم: "صلاة الليل مثنى مثنى"، وإن اقتضى ذلك الحصر؛ لأننا نقول: صلاة الليل غير الوتر، كما هو مفهوم من السنة. ولذلك ترى الأئمة كالشيخين وغيرهما يُفرِدون كلًّا بترجمة

(1)

.

وحينئذٍ فالصلاة التي تُقدَّمُ على الوتر ينبغي أن تكون مثنى مثنى، فإذا جاء الوتر كان الإنسان بالخيار: إن شاء صلَّى واحدةً، وإن شاء صلَّى ثلاثًا، وإن شاءَ سبعًا، وإن شاء تسعًا، كما مرَّ. ويَدُلُّك على ذلك أنه لو قال:"صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ثلاث" أو نحو ذلك لكان الكلام

(1)

ذكر المؤلف في هامشه ما يلي:

قال في "الفتح" في أول أبواب الوتر: ولم يتعرَّض البخاري لحكمه، لكن إفراده بترجمةٍ عن أبواب التهجد والتطوع يقتضي أنه غير ملحقٍ بها عنده. ثم ذكر أن ذلك يقتضي أنه يُوجِبه، ولكنه أورد ما يُنافي الوجوب.

وأقول: بل المقتضي لإفرادِه بترجمة هو ما عرفتَ، ومما يدلُّك على ذلك أن صلاة الليل كانت مشروعةً من أول الإسلام، بخلاف الوتر، فإنما شُرِع أخيرًا. ويُبيِّن هذا حديثُ "السنن":"إنَّ الله أمدّكم بصلاةٍ هي خيرٌ لكم من حُمر النعم. قلنا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الوتر". الحديث سيأتي إن شاء الله.

لا يقال: إن شرطَ وقوعه في الليل يُدخِلُه في صلاة الليل، فإنا نقول: هذا وإن اقتضَتْه اللغة، لكن صلاة الليل أُطلِقَتْ شرعًا على صلاةٍ مخصوصة، ولا تَشْمَلُ كلَّ ما وقع بالليل، إذ لا تَشْمَلُ المغربَ والعشاء ورَواتبَها اتفاقًا، فكذا الوتر.

ولا يَرِدُ على هذا أن الوتر يكفي عن صلاة الليل، لأننا نقول: ذلك مثل سنة الوضوء وتحية المسجد، يكفي عنهما وقوعُ صلاةٍ في وقتهما. فتأمَّل. [المؤلف].

والحديث الذي ذكره أخرجه أبو داود (1418) والترمذي (452) وابن ماجه (1168) من حديث خارجة بن حُذافة. قال الترمذي: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن حبيب.

ص: 275

صحيحًا. وسيأتي بحث صلاة الليل مثنى مثنى إن شاء الله تعالى.

وصنيع الإمام النسائي رحمه الله يقتضي أن الوتر عنده هو ما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواء أكان واحدةً أو ثلاثًا أو سبعًا أو تسعًا، وأنه قد يُطلَق على الإحدى عشرة والثلاث عشرة مجازًا. وهذا هو الحق عندي، وعامة الأحاديث والآثار تدلُّ عليه إلا ما ندر.

قال أولًا

(1)

: (باب كم الوتر؟ )، فأورد فيه حديث:"الوتر ركعة من آخر الليل" بروايتين، ثم ختمه بأصله أن رجلًا من أهل البادية سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة الليل، قال:"مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل".

ثم قال

(2)

: (باب كيف الوتر بواحدة؟ ) وأورد فيه حديث ابن عمر بلفظ: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردتَ أن تنصرفَ فاركعْ بواحدة" وروايات أخرى بألفاظ مختلفة. وختمه بحديث عروة عن عائشة: "كان يُصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعة يُوتِر منها بواحدة

" إلخ.

ثم قال

(3)

: (باب كيف الوتر بثلاث؟ )، وأورد حديث عائشة، وفيه: "يُصلِّي أربعًا فلا تسأَلْ عن حسنهن وطولهن، ثم يصلِّي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي ثلاثًا

" الحديث. ثم ثنَّى بحديث سعد بن هشام عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان لا يُسلِّم في ركعتي الوتر". ثم أطال بالاختلافات الواقعة في بعض أحاديث [الوتر] بالثلاث.

(1)

"سنن النسائي"(3/ 232).

(2)

المصدر نفسه (3/ 233).

(3)

المصدر نفسه (3/ 234).

ص: 276

ثم قال

(1)

: (باب كيف الوتر بخمسٍ؟ )، وصدَّره بحديث الحكم عن مِقْسم عن أم سلمة:"كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُوتِر بخمسٍ وبسبعٍ لا يَفصِل بينها بسلامٍ ولا بكلام". ورواه أخرى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن أم سلمة بلفظ "بسبعٍ أو بخمسٍ". ثم رواه بسنده إلى الحكم عن مقسم قال: "الوتر سبع، فلا أقلَّ من خمس". فذكرتُ ذلك لإبراهيم فقال: عمن ذكره؟ قلت: لا أدري. قال الحكم: فحججتُ فلقيتُ مِقْسمًا، فقلت له: عمن؟ قال: عن الثقة عن عائشة وعن ميمونة.

قلت: وفي "تهذيب التهذيب"

(2)

: قال أحمد وغيره: لم يسمع الحكم حديث مقسم ــ كتاب ــ إلا خمسة أحاديث، وعدَّ منها حديث الوتر.

ومِقْسم من رجال البخاري، وممن طُعِن فيه منهم، وقد وثَّقه جماعة، ولكن في "تهذيب التهذيب"

(3)

: وقال البخاري في "التاريخ الصغير": لا يُعرف لمِقسمٍ سماعٌ عن أمّ سلمة ولا ميمونة ولا عائشة.

قلتُ: والرواية الوسطى بواسطة ابن عباس.

قلتُ: ورجال الثالثة رجال الصحيح إلّا شيخ النسائي محمد بن إسماعيل بن إبراهيم، فهو من أفراده، وقال عنه ــ كما في "الخلاصة"

(4)

وغيرها ــ: ثقة حافظ. وأما مِقْسم فقد علمتَ ما فيه.

(1)

المصدر نفسه (3/ 239).

(2)

(2/ 434).

(3)

(10/ 289).

(4)

(ص 327)، و"تهذيب التهذيب"(9/ 56).

ص: 277

ثم ذكر النسائي

(1)

حديث عائشة: "كان يوتر بخمسٍ ولا يجلس إلّا في آخرهن".

ثم قال

(2)

: (باب كيف الوتر بسبعٍ؟ )، فذكر حديث سعد بن هشام عن عائشة مختصرًا بلفظ:"قالت: لما أسنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذَ اللحمَ، صلَّى بستّ ركعاتٍ لا يقعد إلا في آخرهن" الحديث. ثم ذكره مطوَّلًا.

ثم قال

(3)

: (باب كيف الوتر بتسعٍ؟ )، فذكر حديث سعد بن هشام عن عائشة، وفيه: "ويصلّي تسع ركعاتٍ لا يجلس فيهن إلَّا عند الثامنة، ويحمد الله ويصلّي على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ويدعو بينهن، ولا يسلِّم، ثم يُصلِّي التاسعة

" الحديث. ثم أعاده بروايات أخرى. ثم روى بسنده إلى الأسود عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلّي من الليل تسعَ ركعات".

ثم أراد أن يُبيِّن أن الوتر إذا أُطلِق على أكثر من ذلك فالمراد به صلاة الليل، والحال أنه قد ذكره في (باب كيف الوتر بواحدةٍ؟ )، وذلك صريح في أن الوتر في هذا الحديث واحدة. ثم ذِكْره هنا في (باب الوتر بإحدى عشرة) صريح في أن الوتر فيه بإحدى عشرة. وهذا بحسب الظاهر مناقضة، والسرُّ ما ذكرناه من أنه أراد أن يُبيِّن ما أشرنا إليه، فحينئذٍ الاستدلال بهذا الحديث في البابين هو باعتبارين، فذكره هناك باعتبار أن الوتر هو ما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدة، وذكره هنا باعتبار أن الوتر قد يطلق على صلاة الليل، فقال

(4)

: (باب

(1)

(3/ 240).

(2)

(3/ 240).

(3)

(3/ 241).

(4)

"سنن النسائي"(3/ 243).

ص: 278

كيف الوتر بإحدى عشرة)، فذكر حديث عروة عن عائشة:"كان يُصلِّي من الليل إحدى عشرة ركعة ويُوتر منها بواحدة" الحديث.

ثم قال

(1)

: (باب الوتر بثلاثَ عشرةَ)، وذكر فيه حديث أم سلمة:"كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُوتِر بثلاثَ عشرةَ ركعةً، فلما كبر وضعُف أوتَر بتسعٍ". وهو بمعنى الذي قبله، فالمراد بالوتر فيه صلاة الليل.

فالحق ــ إن شاء الله ــ أن الوتر حقيقة شرعية تقعُ على ما صُلِّي وِترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواء أكان ركعةً أو ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو تسعًا، ولا يثبت أكثر من ذلك.

وهذا المعنى هو الذي عليه عامة الأحاديث والآثار، وهو المتبادر من لفظ الوتر؛ إذ الوتر في اللغة هو كما في "القاموس"

(2)

: "الفرد أو ما لم يتشفَّعْ من العدد"، وذلك إنما يُعتبر فيما جُمِع، لا فيما فُرِّق. فلو صلَّى ركعتين ثم سلَّم ثم صلَّى ثلاثًا، لم يَنْبغِ أن يُطلَق الوتر إلّا على الثلاث التي وقعت بتسليمة واحدة، ولا تشركُ معها الركعتان، لانفصالِ كلٍّ من الصلاتين عن الأخرى وانقطاعها.

وقد أفهمك حسنُ صنيع الإمام النسائي رحمه الله ما قلناه من أن لفظ: "الوتر ركعة من آخر الليل" هو بعض الحديث الآخر، وإنما أفرده ابن عباس وابن عمر لأن أبا مِجْلَز إنما سألهما عن الوتر كما في مسلم

(3)

، وأصل

(1)

(3/ 243).

(2)

(2/ 152).

(3)

رقم (753).

ص: 279

الحديث مشتمل على بيان صلاة الليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أجاب به من سأله عنها كما مرَّ، فأخذا من الحديث ما يتعلق به الغرض، ومثل هذا كثير في الأحاديث.

وقد روى البخاري ومسلم حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى" عن ابن عمر بروايات مختلفة

(1)

، فإما أن تُحمَل على التعدد، وإما أن تكون من باب الرواية بالمعنى، وقد ثبت للواقعة التعددُ مرتين، وذلك في رواية عبد الله بن شقيق عند مسلم

(2)

عن عبد الله بن عمر أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا بينه وبين السائل، فقال: يا رسول الله، كيف صلاةُ الليل؟ قال:"مثنى مثنى، فإذا خشيتَ الصبحَ فصلِّ ركعةً، واجعل آخرَ صلاتك وترًا". ثم سأله رجل على رأس الحول وأنا بذلك المكان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا أدري أهو ذلك الرجل أو رجل آخر، فقال له مثله. انتهى.

فيمكن أن يكون الجواب الثاني مغايرًا للجواب الأول في اللفظ، وقول ابن عمر:"فقال له مثله" أي مثل معناه.

قال في "الفتح"

(3)

: ووقع في "المعجم الصغير"

(4)

للطبراني أن السائل هو ابن عمر لكن يُعكِّر عليه روايةُ عبد الله بن شقيق عن ابن عمر

(5)

أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وأنا بينه وبين الرجل

، فذكر الحديث، وفيه: ثم سأله رجلٌ

(1)

انظر "صحيح البخاري"(472، 473، 990، 993، 1137) ومسلم (749).

(2)

رقم (749/ 148).

(3)

(2/ 478).

(4)

(1/ 103).

(5)

عند مسلم (749/ 148).

ص: 280

على رأس الحول وأنا بذلك المكان منه، قال: فما أدري أهو ذلك الرجل أو غيره. وعند النسائي

(1)

من هذا الوجه أن السائل المذكور من أهل البادية. وعند محمد بن نصر في كتاب "أحكام الوتر" ــ وهو كتاب نفيس في مجلدة ــ من رواية عطية عن ابن عمر أن أعرابيًا سأل. فيحتمل أن يُجمَع بتعدد من سأل، وقد سبق في باب الحِلَق في المسجد أن السؤال المذكور وقعَ في المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر. هـ

(2)

.

أقول: قد يثبت برواية "المعجم" زيادة مرة ثالثة للتعدد، وأما رواية أعرابي فهي بمعنى رجل من أهل البادية، وكلاهما بمعنى رواية عبد الله بن شقيق التي أشار إليها الحافظ. ولا يثبت زيادة تعدد برواية ابن عباس، لاحتمال أنه سمعه مع ابن عمر، ولاسيَّما والسؤال وقع في المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، والغالب حضور ابن عباس حينئذٍ. وقد أفهمَ قولُ "الفتح": "وعند النسائي من هذا الوجه

" إلخ، أن الحديث واحدٌ وإن اختلفت الروايات، وهو ظاهر. وقد عرفتَ لفظ النسائي، وعلى كثرة الروايات فالظاهر أن لفظ النسائي من أصحِّها؛ لأن ابن عباس وابن عمر أفرداه في مقام الفتوى في الوتر كما علمتَ.

إذا تقرر ذلك فلنُعِدْ لفظَ الإمام النسائي

(3)

لنبني عليه البحث في حقيقة الوتر:

عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن صلاة

(1)

(3/ 233).

(2)

الهاء رمز "انتهى".

(3)

(3/ 233).

ص: 281

الليل، قال:"مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل".

أقول وبالله التوفيق: قوله: "الوتر ركعة من آخر الليل" قد يقال: إنه يفيد الحصر، وهو أن الوتر لا يكون إلّا كذلك، وليس مرادًا هنا، لأن من قال به في مثل هذا شَرَطَ أن لا تمنع منه قرينة، وقد منعتْ منه ههنا قرائن، لأن القول به يقتضي أن لا تصلَّى تلك الركعة إلا مفصولةً، إذ لو وُصِلَتْ بركعتين مثلًا فإما أن ينوي بالثلاث وترًا، والوتر لا يكون إلّا واحدةً، وإما أن ينوي بالثنتين من قيام الليل وبالثالثة وترًا، ولم يُرِدْ مثل هذا مَن جمع صلاتين مختلفتين بتسليمة واحدة.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم الوصلُ بثلاثٍ وبخمسٍ وبسبعٍ وبتسعٍ، وورد في الإحدى عشرة إفراد واحدةٍ آخرَ صلاةِ الليل، كما يقتضيه هذا الحديث، وثبت عنه الثلاث عشرة بما يحتمله، وكل ذلك يُطلَق عليه لفظ الوتر.

من ذلك: حديث مسلم

(1)

عن عروة عن عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُصلِّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء ــ وهي التي يدعو الناس العَتَمة ــ إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يُسلِّم بين كل ركعتين ويُوتِر بواحدة" الحديث.

ومن ذلك: حديث مسلم

(2)

عن ابن عباس، وفيه:"فصلَّى ركعتين، فأطال فيهما، ثم انصرف فنامَ، ففعل ذلك ثلاث مرات بستّ ركعات، كلَّ ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هذه الآيات، ثم أوتر بثلاثٍ" الحديث.

(1)

رقم (736/ 122).

(2)

رقم (763/ 191).

ص: 282

ومن ذلك: حديث أحمد والشيخين

(1)

عن عائشة: "كان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يُصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً، يُوتِر بخمسٍ لا يجلس في شيء إلّا في آخرها".

ولمسلم

(2)

في حديث عائشة وقد سألها سعد بن هشام عن وتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه:"ويُصلِّي تسعَ ركعات لا يجلس فيها إلّا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض ولا يُسلِّم، ثم يقوم فيصلِّي التاسعة"، وساق الحديث إلى أن قالت:"فلما أسنَّ نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه اللحم أوتر بسبعٍ" الحديث.

وأما الإحدى عشرة فيحتمله حديث عائشة عند الشيخين

(3)

: "كان يصلي من الليل عشر ركعات، ويُوتِر بسجدةٍ" لاحتمال أن يكون وصل الأحد عشر بتشهدين: تشهُّد في العاشرة ولم يُسلِّم، وتشهُّد في الحادية عشرة وسلَّم. وقد وقعت مثل هذه العبارة بمثل هذه الصورة في بعض روايات حديث سعد بن هشام عند أبي داود

(4)

، ولفظه: "فصلَّى ثمان ركعاتٍ يُخيَّل إليَّ أنه يُسوِّي بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يوتر بركعة

" الحديث. يحتمل أن التسع موصولة، وقولها مع ذلك: "يوتر

(1)

"المسند"(24239) وصحيح مسلم (737/ 123). ولم أجده بهذا اللفظ عند البخاري.

(2)

رقم (746).

(3)

مسلم (738/ 128). ولفظ البخاري (1140): "كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعةً، منها الوتر وركعتا الفجر".

(4)

رقم (1352).

ص: 283

بركعةٍ" مجاز كما سيأتي.

وأصرح منه حديث البخاري

(1)

عن عروة عن عائشة: "وقد كان يُصلِّي إحدى عشرة ركعةً، كانت تلك صلاتَه" الحديث.

وأما الثلاث عشرة فيحتمله حديث النسائي

(2)

بإسنادٍ فيه أحمد بن حرب، قال فيه ابن أبي حاتم: صدوق، وقال النسائي: لا بأس به. ذكر ذلك في "تهذيب التهذيب"

(3)

. قال: وذكره ابن حبان في "الثقات"

(4)

، وخرَّج له في "صحيحه".

قلت: وبقية رجاله رجال الصحيح، فهو إسناد صحيح.

ولفظ الحديث: عن أم سلمة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوتر بثلاثَ عشرةَ ركعةً، فلما كبر وضعُفَ أوتَر بتسع".

فظاهر الحديث أن الثلاث عشرة موصولة، ولكن عامة الأحاديث أن الإحدى عشرة والثلاث عشرة لم تقع إلا مفصولةً، ومنه حديث الشيخين

(5)

عن عائشة: "كان يصلِّي من الليل عشر ركعات ويوتر بسجدةٍ". وحديث البخاري

(6)

عن عروة عنها، وفيه: "كان يصلِّي إحدى عشرة ركعة، كانت

(1)

رقم (1123).

(2)

(3/ 243).

(3)

(1/ 23).

(4)

انظر (8/ 39).

(5)

مسلم (738/ 128). وسبق التنبيه على لفظ البخاري (1140).

(6)

رقم (1123).

ص: 284

تلك صلاته

" الحديث. وحديث مسلم

(1)

عنها، وفيه: "إحدى عشرة ركعة، يُسلِّم بين كلِّ ركعتين، ويُوتر بواحدةٍ

" الحديث.

ومنه حديث أم سلمة أن الترمذي رواه في "سننه"

(2)

بلفظ النسائي، إلا أنه قال:"بسبعٍ". ثم قال

(3)

: حديث أم سلمة حديث حسن، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوتر بثلاثَ عشرة وإحدى عشرة وتسعٍ وسبعٍ [وخمسٍ] وثلاثٍ وواحدة. قال إسحاق بن إبراهيم: معنى ما رُوِي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يُوتِر بثلاثَ عشرةَ، قال: إنما معناه أنه كان يُصلِّي من الليل ثلاث عشرة ركعةً مع الوتر، فنُسِبَتْ صلاة الليل إلى الوتر. ورَوَى في ذلك حديثًا عن عائشة. واحتجَّ بما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:"أوتروا يا أهل القرآن". قال: إنما عَنَى به قيام الليل، يقول: إنما قيام الليل على أصحاب القرآن. هـ

قلتُ: استدلالُه بحديث: "أوتروا يا أهل القرآن" يُعكِّر عليه أن في آخره كما في "بلوغ المرام"

(4)

: "فإن الله وِتْرٌ يحبُّ الوتر". قال: رواه الخمسة

(5)

، وصححه ابن خزيمة

(6)

. فالتعليل بقوله: "فإن الله وتر" يستدعي مناسبةً مَّا، فتأمَّلْ.

(1)

رقم (736/ 122).

(2)

رقم (457).

(3)

أي الترمذي بعد رواية الحديث في "سننه"(2/ 320، 321).

(4)

(2/ 14) مع "سبل السلام".

(5)

أحمد في "المسند"(877) وأبو داود (1416) والترمذي (453) والنسائي (3/ 288، 229) وابن ماجه (1169).

(6)

رقم (1067).

ص: 285

وأما قوله: "إنها أرادت كان يُصلِّي من الليل

" إلخ، فجيد جدًّا، وعامة الأحاديث تؤيِّده، وكل ما روي في الثلاث عشرة فمُفصَّلٌ بالتقطيع والوتر فيه، إلّا هذا الحديث وحديث الحاكم

(1)

: "لا تُوتِروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بالمغرب، أو تروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك"، فهما مجملان، فيُحملانِ على الأصحّ الأغلب.

إذا تقرر ما ذُكِر فقد أجاز أصحابنا الاقتصارَ على ركعة واحدةٍ بعد العشاء، واستدلُّوا بحديث مسلم

(2)

عن ابن عمر وابن عباس مرفوعًا: "الوتر ركعةٌ من آخر الليل".

وحديث أبي أيوب مرفوعًا: "الوتر حقٌّ على كل مسلم، فمن أحبَّ أن يُوتر بخمسٍ فليفعل، ومن أحبَّ أن يُوتِر بثلاثٍ فليفعلْ، ومن أحبَّ أن يُوتِر بواحدةٍ فليفعلْ" رواه أبو داود

(3)

بسند صحيح. قاله النووي في "شرح المهذّب"

(4)

. ورواه النسائي وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم

(5)

كما في "الفتح"

(6)

.

(1)

في "المستدرك"(1/ 304).

(2)

رقم (753).

(3)

رقم (1422).

(4)

(4/ 17).

(5)

"سنن" النسائي (3/ 238) وابن ماجه (1190) وابن حبان (2407) و"المستدرك"(1/ 302).

(6)

(2/ 482).

ص: 286

وحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوتر بركعةٍ. رواه الدارقطني

(1)

. قال بعض شرَّاحه

(2)

: رواته كلهم ثقات.

ومثله في صحيح ابن حبان

(3)

عن ابن عباس، قاله في "المغني"

(4)

.

قالوا: وقد ثبت عن جماعة من الصحابة الإيتار بركعةٍ، كسعد بن أبي وقّاص، ومعاوية وصوَّبه ابن عباس

(5)

، بل رُوي عن الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة فمَن بعدهم.

وفي كلٍّ من أدلتهم نظر:

أما حديث: "الوتر ركعة من آخر الليل" فهو من الإطلاق الثاني كما مر، وليس فيه الاقتصار عليها، بل قد ثبت عن ابن عمر التصريحُ بخلافه كما مرَّ عن "سنن أبي داود"

(6)

. نعم، هو دليلٌ على مَن يقول: لا تكفي الواحدة وترًا وإن سبَقَها شفعٌ بغير نية الوتر.

وأما حديث أبي أيوب ففي "بلوغ المرام"

(7)

: ورجَّح النسائي وقفَه،

(1)

(2/ 33).

(2)

هو شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني"(2/ 34).

(3)

رقم (2424).

(4)

"مغني المحتاج"(1/ 221).

(5)

أخرجه البخاري (3764).

(6)

رقم (1421) عن ابن عمر أن رجلًا من أهل البادية سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، فقال بإصبعيه هكذا:"مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل".

(7)

(2/ 8) مع "سبل السلام".

ص: 287

قال الشارح ابن الأمير

(1)

: وكذا صحَّح أبو حاتم والذهلي والدارقطني في "العلل" والبيهقي وغير واحدٍ وقفَه. قال المصنِّف: وهو الصواب. انتهى.

وأما قول الشارح بعد ذلك: "قلت: وله حكم الرفع، إذ لا مَسْرحَ للاجتهاد فيه أي في المقادير"، ففيه نظر ظاهر. ومع الإغماض عن ذلك فهو محمولٌ على الإطلاق الثالث، وليس فيه الاقتصار على .... ، وغايةُ ما فيه أن يكون دليلًا على من يقول: لا تكفي الواحدة وترًا وإن سبَقَها شفعٌ بغير نية الوتر، كما في ........

(2)

.

وأما حديث عائشة عند الدارقطني، وابن عباس عند ابن حبان

(3)

، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم[أوتَر] بركعةٍ، فهو محمولٌ على الإطلاق الثاني أو الثالث، وكأنه مختصر من أحاديثهما المطولة، كما في الصحيحين

(4)

عن عائشة كان يصلِّي من الليل عشر ركعات ويُوتِر بسجدة، وعنها عند مسلم

(5)

: إحدى عشرة. وحديث ابن عباس عندهما

(6)

، وفيه:"فصلَّى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر".

قال في "الفتح"

(7)

: وظاهره أنه فصلَ بين كل ركعتين، ووقعَ التصريحُ

(1)

في "سبل السلام"(2/ 8). وانظر "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 428 - 430) و"علل الدارقطني"(6/ 95 - 97) و"السنن الكبرى" للبيهقي (3/ 24).

(2)

مكان النقط كلمات غير واضحة.

(3)

سبق تخريجهما.

(4)

البخاري (1140) ومسلم (738/ 128).

(5)

رقم (736).

(6)

البخاري (993) ومسلم (763/ 182).

(7)

(2/ 483).

ص: 288

بذلك في رواية طلحة بن نافع

(1)

، حيث قال فيها: يُسلِّم من كلِّ ركعتين، ولمسلم

(2)

من رواية علي بن عبد الله بن عباس التصريحُ بالفصل أيضًا، وأنه استاك بين كل ركعتين، إلى غير ذلك. هـ

يُقوِّي أنها لا تُصلَّى إلا مفصولةً حديثُ علي عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أَوتِرُوا يا أهلَ القرآن، فإن الله وِترٌ يحبُّ الوتر" رواه الخمسة

(3)

، وصححه ابن خزيمة

(4)

قاله في "بلوغ المرام"

(5)

.

ووجهُ التقويةِ المقابلةُ بين قوله: "فإن الله وِتر يحبُّ الوتْرَ". فتأمَّلْ، ويقويه صدرُ الحديث نفسه.

قال في "الفتح"

(6)

: وقد فسَّره ابن عمر راوي الحديث، فعند مسلم

(7)

من طريق عُقبة بن حُرَيث قال: قلتُ لابن عمر: ما معنى مثنى مثنى؟ قال: تُسلِّم من كل ركعتين. وفيه ردٌّ على من زعم من الحنفية أن معنى "مثنى" أن يتشهد بين كل ركعتين؛ لأن راوي الحديث أعلم بالمراد به، وما فسَّره به هو المتبادر إلى الفهم؛ لأنه لا يقال في الرباعية مثلًا: إنها مثنى مثنى.

(1)

عند ابن خزيمة (1093).

(2)

رقم (763/ 191).

(3)

أحمد في المسند (877) وأبو داود (1416) والترمذي (453) والنسائي (3/ 228، 229) وابن ماجه (1169).

(4)

برقم (1067).

(5)

(2/ 14) مع "سبل السلام".

(6)

(2/ 479).

(7)

رقم (749/ 159).

ص: 289

واستُدِلَّ بهذا على تعيُّن الفصل بين كل ركعتين من صلاة الليل.

قال ابن دقيق العيد: وهو ظاهر السياق، لحصْر المبتدأ في الخبر.

وحمله الجمهور على أنه لبيان الأفضل، لما صحَّ من فعله صلى الله عليه وآله وسلم[بخلافه]

(1)

.

قلت: ولم يُبيِّن ذلك. فأما أحاديث الوصل بين التسع والسبع والخمس والثلاث فلا تُعكِّر عليه؛ لأنها وتر. وقوله: "مثنى مثنى" واقع على صلاة الليل.

وأما حديث عائشة عندهما

(2)

وفيه: "كان يُصلِّي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي أربعًا فلا تسألْ عن حسنهن وطولهن، ثم يُصلِّي ثلاثًا"، فقد أجاب عنه الباجي في "شرح الموطأ"

(3)

، وعبارته: وقوله

(4)

: "يصلي أربعًا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن" تُرِيد ــ والله أعلم ــ أنه كان يَفصِل بينهما بكلام، ولكنها جمعتهما في اللفظ لأحد معنيين:

أحدهما: أن صفتهما وطولهما وحسنهما من جنس واحدٍ، وأن الأربع الأُخر ليست من جنسهما وإن كانت قد أخذتْ من الحُسن والطول حظَّها.

والمعنى الثاني: أنه يحتمل أنه كان يُصلِّي أربعًا ثم ينام، ثم يصلي اربعًا ثم ينام، ثم يُصلِّي ثلاثًا. ثم استدل بحديث ابن عباس في تقطيع النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلاته بالنوم ....

(1)

زيادة من الفتح ليتم المعنى.

(2)

البخاري (1147) ومسلم (738).

(3)

"المنتقى"(1/ 215 - 216) ط. السعادة.

(4)

كذا في الأصل، وفي المنتقى.

ص: 290

ويؤيد ما قاله قولها في آخر الحديث: "قلتُ: يا رسول الله، أتنامُ قبلَ أن توتر؟

" إلخ. وكذا حديث عائشة عند مسلم

(1)

برواية القاسم بن محمد: "كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الليل عشر ركعات، ويُوتِر بسجدة، ويركع ركعتي الفجر، فتلك ثلاث عشرة"

(2)

= محمول على أنه كان يصلِّيها مثنى مثنى، لما ثبت عنها في رواية عروة

(3)

: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُصلِّي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء ــ وهي التي يدعو الناس العَتَمة ــ إلى الفجر إحدى عشرة ركعةً يُسلِّم بين كل ركعتين، ويُوتر بواحدةٍ، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر وتبيَّن له الفجر وجاءه المؤذن، قام فركع ركعتين خفيفتين

" الحديث.

وأما رواية أبي سلمة عند مسلم

(4)

قالت: "كان يُصلِّي ثلاث عشرة ركعةً، يُصلِّي ثمانَ ركعاتٍ ثم يُوتِر، ثم يُصلِّي ركعتين وهو جالس، فإذا أراد أن يركع قام فركعَ، ثم يُصلِّي ركعتين بين النداء والإقامة من صلاة الصبح"، فيحتمل وجهين:

الأول: أن يُحمل على الفصل مثنى مثنى.

الثاني: أنه جمع التسع معًا، كما شرحته رواية سعد بن هشام، وقد ورد في بعض طرقه عند أبي داود

(5)

: "فيُصلِّي ثماني ركعاتٍ يُسوِّي بينهن في

(1)

رقم (738/ 128).

(2)

في الأصل: "ثلاثة عشر"، والتصويب من صحيح مسلم.

(3)

أخرجها مسلم (736/ 122).

(4)

برقم (738/ 126).

(5)

رقم (1347).

ص: 291

القراءة والركوع والسجود، ولا يجلس في شيء منهن إلّا الثامنة، فإنه كان يجلس، ثم يقوم ولا يُسلِّم، فيصلِّي ركعةً يُوتِر بها

" الحديث.

وفي رواية أخرى

(1)

: "فصلَّى ثمانَ ركعاتٍ يُخيَّلُ إليَّ أنه يُسوِّي بينهن في القراءة والركوع والسجود، ثم يُوتر بركعةٍ" الحديث.

لكن قد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم الوصلُ بثلاثٍ وبخمسٍ وبسبعٍ وبتسعٍ، وحينئذٍ فالحصر المفهوم من قوله:"صلاة الليل مثنى مثنى" والحصر المفهوم من قوله: "والوتر ركعة من آخر الليل" غير مرادَيْن. والحصر في مثل هذا مختلف فيه، ومن قال به قال: ما لم تَصْرِف عنه قرينة، وكفى بفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرينةً، وليس هنا ما يُلْجِئ إلى دعوى الخصوصية، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم الفصلُ كما ثبتَ الوصلُ.

وممّا ذُكِر تقرر أن إطلاق الوتر على الركعة الواحدة خاصٌّ بما إذا كانت مفصولةً. وقد ورد إطلاق الوتر على الثلاث أو الخمس أو السبع أو التسع التي تُوقَعُ موصولةً:

فمنه حديث مسلم

(2)

عن ابن عباس، وفيه: "فصلَّى ركعتين أطالَ فيهما [القيامَ والركوعَ والسجود]

(3)

، ففعلَ ذلك ثلاث مراتٍ، ستَّ ركعاتٍ، كلَّ ذلك يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتَر بثلاثٍ" الحديثَ.

ومنه حديث أحمد والشيخين

(4)

عن عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلِّي

(1)

عند أبي داود (1352).

(2)

رقم (763/ 191).

(3)

مطموس في الأصل.

(4)

"المسند"(24239) ومسلم (737) ولم أجده عنده البخاري بهذا اللفظ.

ص: 292

من الليل ثلاثَ عشرةَ ركعةً، يُوتِر بخمسٍ لا يجلس في شيء إلا في آخرها.

ولمسلم

(1)

في حديث عائشة، وقد سألها سعد بن هشام عن وتر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه:"ويُصلّي تسعَ ركعاتٍ لا يجلس فيها إلّا في الثامنة، فيذكر الله ويحمده ويدعوه، ثم ينهض، ولا يُسلِّم، ثم يقوم فيصلِّي التاسعة". ثم ساق الحديث إلى أن قالت: "فلما أسنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذَه اللحمُ أوترَ بسبعٍ" الحديث. وقد رواه أبو داود

(2)

.

فتلخَّص لنا أن الوتر بهذا الاعتبار عبارةٌ عن ما صُلِّي وترًا بتسليمةٍ واحدةٍ، سواء أكان ركعةً أو ثلاثًا أو أكثر وترًا. والظاهر أنه حقيقة شرعية فيه، لأن عامة الأحاديث عليه إلّا الأقلّ.

ويُؤيِّد ما قلناه أن الخلاف كان شائعًا: هل تُختَم صلاة الليل بركعةٍ مستقلةٍ أو بثلاثٍ أو أكثر من ذلك؟ ويُطلقون على ذلك لفظ "الوتر"، كما هو شأن الإطلاق الثالث.

يدلُّك عليه حديثُ البخاري

(3)

عن القاسم عن عبد الله بن عمر مرفوعًا: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا أردتَ أن تنصرفَ فاركعْ ركعةً تُوتِر لك ما صلَّيت". قال القاسم: ورأينا أناسًا منذ أدركنا يُوتِرون بثلاثٍ، وإن كلًّا لواسعٌ، وأرجو أن لا يكون بشيءٍ منه بأسٌ. هـ.

(1)

رقم (746).

(2)

رقم (1342).

(3)

رقم (993).

ص: 293

قال في "الفتح"

(1)

: قوله: "يوترون بثلاث، وإن كلًّا لواسعٌ" يقتضي أن القاسم فهم من قوله: "فاركَعْ ركعةً" أي منفردةً منفصلةً، ودلَّ ذلك على أنه لا فرقَ عنده بين الوصل والفصل في الوتر. والله أعلم. هـ

فإنهما ذكَرا حديثهما لمجرد إفادة وقوع الفصل من النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وأما فعل الصحابي فلا حجة فيه كما لا يخفى، على أن أكثر ما رُوي من ذلك محتمل.

فإن قيل: سلَّمنا هذه الاحتمالات، ولكن ظاهر هذه الأحاديث لا يأبى جواز الاقتصار على ركعة، ومثل هذا الظاهر يُكتفَى به ما لم يُعارضه ما هو أقوى منه.

قلت: فقد عارضه ما هو أقوى منه في ذلك، حديث الصحيحين

(2)

: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدُكم الصبحَ صلَّى ركعةً واحدةً تُوتِر له ما قد صلَّى".

قال في "الفتح"

(3)

: واستُدِلَّ به على تعيُّنِ الشَّفْع قبل الوتر، وهو عن المالكية بناءً على أن قوله:"ما قد صلَّى" أي من النفل. وحملَه من لا يشترط سبقَ الشَّفْع على ما هو أعمُّ من النفل والفرض، وقالوا: إنَّ سبْق الشَّفْع شرطٌ في الكمال لا في الصحة. هـ

ثم أيَّده بحديث أبي أيوب وما رُوي عن بعض الصحابة.

(1)

(2/ 485).

(2)

البخاري (990) ومسلم (749) عن ابن عمر.

(3)

(2/ 481).

ص: 294

قلت: أما الحمل على ما هو أعمُّ من النفل والفرض فيُبطِله السياق، بل المتعين:"تُوتِر له ما قد صلَّى" أي من صلاة الليل التي الكلام فيها.

وأما تأييده بحديث أبي أيوب فقد علمتَ ما في حديث أبي أيوب، وكذا ما رُوي عن بعض الصحابة كما مرَّ آنفًا.

وقد ورد النهيُ عن البُتَيراء كما أشار إليه في "الفتح"

(1)

. وفيه: أن الطحاوي

(2)

حملَ البتيراء على إفراد ركعةٍ واحدةٍ وإن سبقها شَفْعٌ. قال الحافظ

(3)

: مع احتمال أن يكون المراد بالبتيراء أن يُوتِر بواحدةٍ فردةٍ ليس قبلها شيء.

وقد يطلق الوتر على صلاة الليل، كما نقله بعضهم عن الطيبي

(4)

. ومن ذلك حديث أحمد وأبي داود

(5)

عن عائشة، وقد سبق، وإسناده صحيح كما مرّ. وفيه:"ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ، ولا بأكثر من ثلاثَ عشرةَ". والمراد بالوتر في هذا الحديث مطلق صلاة الليل كما مرَّ في الإطلاق الأول، فلا ينافي ما ثبتَ أنه كان يُوتِر بواحدةٍ وبثلاثٍ وبخمسٍ، إذ هذا من الإطلاق الثالث، فالمراد بالسبع إلى الثلاث عشرة صلاة الليل، مع قطع النظر عن الوصل والفصل، والمراد بالواحدة واحدةٌ سبَقَها شَفْعٌ سِتٌّ فأكثر، وبالثلاث ثلاثٌ سبقها شَفْعٌ أربعٌ فأكثر، وبالخمس خمسٌ سَبقَها شَفْعٌ

(1)

(2/ 486).

(2)

في "شرح معاني الآثار"(1/ 279).

(3)

في "الفتح"(2/ 486).

(4)

بعده بياض في الصفحة.

(5)

"المسند"(25159) وأبو داود (1362).

ص: 295

ركعتانِ فأكثر، جمعًا بين الأحاديث.

وبما ذُكر تقرر اشتراط الشفع قبل الواحدة، ولا يكفي في ذلك سنة العشاء، لما مرَّ أن سياقَ حديث "صلاة الليل مثنى مثنى" يُبيِّن أن قوله:"تُوتِر له ما قد صلَّى" أي من صلاة الليل التي الكلام فيها. وكذا حديث "ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ" إذ الوترُ فيه من الإطلاق الأول كما علمتَ، وهو وإن شملَ صلاةَ الليل مطلقًا فليس منه بَعديَّةُ العشاء.

* * * *

ص: 296