الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس
متى حوَّل عمر رضي الله عنه المقام؟
ولماذا قدَّرَهُ المُطَّلِبُ، واحتاجَ عُمَرُ إلى تقديرِه
؟
لم أَقِفْ على ما يُعلَمُ به تاريخُ التحويلِ، غيرَ أَنّه قد يُظَنُّ أَنّه حوَّلَهُ عند زيادتهِ في المسجدِ الحرامِ؛ لأَنَّ السببَ واحدٌ وهو كثرةُ النَّاسِ؛ ولأَنَّ تأخيرَ المقامِ يستدعي توسعةَ المسجدِ خلفَه.
وقد زعم الواقديُّ ــ كما حكاهُ ابن جرير في "تاريخه"
(1)
ــ أَنَّ الزيادةَ كانت سنةَ سبعَ عشرةَ، وأَنَّ عمرَ رضي الله عنه اعتمرَ في رَجَب، ومَكَثَ بمكّةَ عشرينَ يوماً لأَجلِ الزيادة وغيرِها.
وحالُ الواقديِّ معروفةٌ.
وفي خبرِ الأَزرقيّ المُتَقدّم في الفصل الرابع: "أَنّه لمّا ذهبَ السيلُ بالمقامِ أَرسلوا إلى عمر، فجاءَ مسرعًا وقدم بعُمرةٍ في رمضان".
ورأيتُ بعضَهم ذَكَر "أَنَّ ذلك كانَ سَنَةَ سَبعَ عشرةَ" والعلمُ عندَ الله تعالى.
ومرَّ في خبرِ الأزرقيِّ: "كانت السيولُ تدخلُ المسجدَ الحرام، فربّما رفعتِ المقامَ من موضعِهِ، وربّما نحَّتْهُ إلى وجهِ الكعبةِ، حتّى جاءَ سيلٌ في خلافةِ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه".
فعلى فَرْضِ صحّةِ هذا يلزمُ أَنْ يكونَ التحويلُ قبلَ مدّةٍ أَقلّها ثلاثُ سنين
(1)
(4/ 68) ط. دار المعارف.
أَو نحوُها.
وقد تقدّمَ النَّظرُ في حالِ هذا الخبرِ.
وأَمّا ما تقدَّمَ عن مجاهدٍ: "كانَ المَقامُ إِلى جَنْبِ البيتِ، وكانوا يخافونَ عليه من السيولِ، وكانَ النَّاسُ يصلّونَ خلفَه"، ثمَّ ذكرَ قصّةَ عمر والمطَّلب، ولم يَسُقِ الفاسيُّ لفظَها، ــ كما تقدّمَ ــ: فالجمعُ بينَ هذا وبينَ ما صحَّ عن مجاهدٍ ــ ونَقَلَهُ ابنُ كثيرٍ وابنُ حجرٍ عن "مصنّفِ عبد الرازق" ــ وبقيّة الأَدلّةِ وطُرُقِ القصَّةِ: أَنَّ المَقامَ كانَ إِلى جَنْبِ البيتِ، فأَخَّرَهُ عمرُ، فخافوا عليه من السيولِ، فقدَّرَهُ المُطَّلِبُ.
وهذا هو المفهومُ من روايةِ ابن أبي حاتمٍ
(1)
، عن ابن أَبي عمر، عن ابن عُيينةَ.
والذي يظهرُ: أَنَّ المَقامَ لمّا كانَ بجنبِ الكعبةِ أَوَّلًا كانَ بمأْمَنٍ من السيلِ؛ إِمّا لأَنّه كانَ قد نَشِبَ في الأرضِ إِذ لم تكنْ مُبلَّطةً، وإمّا لغيرِ ذلك، فلمّا حوَّلَه عمرُ رضي الله عنه رأى المُطَّلِبُ أَنّه أَصبحَ عُرضةً للسيلِ.
قد تقدَّمَ في الفصلِ السابقِ بيانُ ارتباطِهِ بالسَّمْتِ الخاصِّ الذي كانَ عليهِ وهو عندَ الكعبةِ، وأُبقي عليه عندَ تحويلِهِ.
وتقدَّمَ بيانُ مزيّةِ ذاك السَّمْتِ وسببِها، وهو يَقْتَضي أَنْ يكونَ قَدْرُ ذاكَ السَّمْتِ موقفَ رجلٍ واحدٍ، وهو مقدارُ طولِ المَقام.
فكأنَّ المَقامَ ــ مع مزيّتِهِ ــ علامةٌ محدَّدةٌ لذاكَ السَّمْتِ، عَلَّمَ المطّلبُ هذا، أَو رأى احتياطَ عمرَ رضي الله عنه عند تحويله المقامَ للمحافظةِ على
(1)
ط: "أبي حاتم".
السَّمْتِ، ورأى أَنَّ المَقامَ لمّا كانَ عندَ البيتِ كانَ السَّمْتُ معلومًا على التحديدِ بالمقامِ نفسِهِ.
وكذلك لمّا حوَّلَ المَقامَ على السَّمْتِ، بقيَ السَّمتُ معلومًا على التحديدِ بالمقامِ نفسِهِ، لكنْ إِذا جَرَفَ السيلُ المقامَ، وعَفَّى موضعَه، ولم يكنْ هناك تقديرٌ محفوظٌ: أَشكلَ تحديدُ السَّمْتِ. وكثرةُ رؤيةِ النَّاسِ للمَقامِ في الموضعين لا تضمنُ معرفةَ التحديدِ يقينًا.
واعتبِرْ ذلك إِنْ شئتَ في منزلِك: اعْمِدْ إِلى صندوقٍ مثلًا باقٍ منذُ مدّةٍ في موضعٍ واحدٍ إِلى جنبِ جدارٍ مع خُلُوِّ ما عن يمينِه ويسارِهِ، قد شاهدَهُ عيالُك مرارًا لا تُحصى، فَقَدِّرْ في غَيْبَتهم موضعَه بخيطٍ مثلًا، ثمَّ حوِّلْه إلى موضعٍ آخرَ غيرِ مُسامِتٍ للأَوَّلِ، واكْنِسْ موضعَه، ثمَّ ادْعُهُم واطْلُبْ منهم تحديدَ موضعِه الأَوَّلَ، وانظر النتيجةَ.
من الجائزِ أَنْ يكونَ قد اتفقَ لبعضِهم الانتباهُ لعلامةٍ خاصّةٍ تبقى في الأرضِ أَو الجدارِ، لكنْ هذا احتمالٌ فقط.
لهذا ــ واللهُ أَعلمُ ــ قدَّرَ المطَّلِبُ موضعَ المَقامِ.
ولهذا سألَ عمرُ رضي الله عنه النَّاسَ وأَخذَ بتقديرِ المُطَّلِبِ.
هذا ما ظهرَ لي في توجيهِ ما اتَّفَقَتْ عليه رواياتُ قصّةِ المُطَّلِبِ على وجهٍ يوافقُ حديثَ عائشةَ رضي الله عنها، وقولَ أَئمّةِ مكّةَ، مع بُعْدِ أَنْ يكونَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هو الذي حوَّلَهُ ولم يُنقَل ذلك، ولا عرفه أئمةُ مكة.
على أنه لو ترجَّح أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حوَّله لكانت الحجّةُ لاختيارِ تأخيرِهِ الآنَ بحالها، بل أَقوى.
فأَمّا القولُ بأَنَّ موضعَه الآنَ هو موضعُهُ الأَصليّ، فهو مِنَ الضَّعفِ بحيثُ لا يحتاجُ إِلى فرضِ صحّتِهِ وما يتبعُ ذلك. واللهُ أَعلمُ.
المُعارَضةُ الثانية:
قد يُقالُ: ثَبَتَ عن عائشةَ رضي الله عنها أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لها: "ألم تَرَيْ أنّ قومكِ حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ " قالت: فقلت: يا رسول الله! ألا تردُّها على قواعد إبراهيم؟ قال: "لولا حَدَثانُ قومك بالكفر لفعلتُ". لفظ البخاري
(1)
.
وفي رواية له
(2)
: "لولا أنّ قومكِ حديثٌ عهدُهم بجاهليّة، فأخاف أن تنكر قلوبهم
…
".
وتأخير المقام عن موضعه ممّا تنكره قلوب الناس، فينبغي اجتنابه.
والجواب من أوجهٍ:
الأول: أنّ بقاء الكعبة على بناء قريش لم يترتّب عليه ــ فيما يتعلق بالعبادات ــ خللٌ ولا حرج، ولذلك لم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كبار أصحابه ببنائها حين يبعد العهد بالجاهلية، وإنّما أخبر عائشة رضي الله عنها؛ لأنّها رغبَتْ في دخول الكعبة، فأرشدها إلى أن تصلّي في الحِجْر، وبيّن لها أنّ بعضه أو كلّه من الكعبة، قصّرت قريش دونه.
ولا أرى عائشة رضي الله عنها كانت ترى إعادة بنائها على القواعد أمرًا ذا بال؛ فإنّه لم يُنقَل أنّها أرسلت إلى عمر أو عثمان رضي الله عنهم تخبرهم
(1)
رقم (1583).
(2)
رقم (1584).
بما سمعَتْ.
وفي "صحيح مسلم"
(1)
عنها أنّه صلى الله عليه وسلم قال لها: "فإن بدا لقومكِ أن يَبنُوها بعدي فهَلُمِّي لأُرِيَكِ ما تركوا منه" أي: من الحِجْر.
وصرّح بعض أهل العلم بأنّ إعادة بنائها على القواعد كان هو الأولى فقط.
وترجم البخاري في كتاب العلم
(2)
لهذا الحديث: "باب من ترك بعضَ الاختيار مخافةَ أن يقصُرَ فهمُ بعض الناس عنه، فيقعوا في أشدَّ منه".
وإبقاء المقام في موضعه ــ بعد كثرة الناس هذه الكثرة التي عرفناها، ويُنتظر ازديادها ــ يترتّب عليه الخلل والحرج، كما تقدّم.
الوجه الثاني: أنّ الإنكار الذي خشيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسدةٌ عظيمة؛ إذ هو إنكار قلوب بعض من دخل في الإسلام، ولمّا يؤمنْ قلبه.
وإنكار هؤلاء هو ــ والله أعلم ــ ارتيابهم في صدق قوله؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم لهم: "إنّ البناء الموجود يومئذٍ ليس على قواعد إبراهيم".
يقولون: لا نعرف قواعد إبراهيم إلا ما عليه البناء الآن، ولم يكن أسلافنا ليغيّروا بناء إبراهيم.
فيؤدي ذلك إلى تمكن الكفر في قلوبهم. ولهذا ــ والله أعلم ــ لم يعلن النبي صلى الله عليه وسلم القول، إنّما أخبر به أمّ المؤمنين.
(1)
رقم (1333/ 403).
(2)
(1/ 224 مع الفتح).
وإلى هذا ــ والله أعلم ــ تشير ترجمة البخاري في كتاب العلم كما مرّ آنفًا.
فأما تفسير بعض الشرَّاح
(1)
إنكار قلوبهم بأن ينسبوه إلى الفخر دونهم، فلا يخفى ضعفه، وأيُّ مفسدةٍ في هذا؟ وقد كان ميسورًا أن يشركهم في البناء، أو يَكِلَه إليهم، ويَدَعَ الفخر لهم.
والحامل لهذا القائل على ما قاله: ظنُّه أن المراد بقومها الذين قصَّروا هم الذين بنوه البناء الأخير الذي حضره النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان قبل البعثة بخمس سنين فيما قيل، فرأى ذاك القائل أنه لا مجال للارتياب في صدق القول؛ لأن العهد قريب، وأكثرهم شاهدوا ذلك.
والظاهر أن التقصير كان قديمًا، وقد ورد أن قريشًا بَنَتِ الكعبة في عهد قُصيّ، فلعل التقصير وقع حينئذٍ، وإنما بنوها أخيرًا على ما كانت عليه من عهد قصي، وجهل التقصير لطول المدة.
والمقصود: أن الإنكار الذي خَشِيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسدة عظيمة لا يقاربها إنكار بعض الناس تأخير المقام. والعالم تُعرض عليه الحجة فيزول إنكاره، والجاهل تبعٌ له.
وقد جرت العادة بأن الناس يستنكرون خلاف ما ألِفُوه، ولكنه إذا عُمِل به وظهرت مصلحته انقلب الإنكار رضًا وشكرًا.
الوجه الثالث: أن المقام نفسه أُخِّر في صدر الإسلام عن موضعه الأصلي بجنب الكعبة للعلة الداعية إلى تأخيره الآن نفسها، وكان من
(1)
نقله ابن بطال في شرح البخاري (1/ 205) عن أبي الزناد.
المحتمل قبل تأخيره أن تنكره قلوب بعض الناس. فلم يُلتفت إلى ذلك.
المعارضة الثالثة:
قد يقال: استقرّ المقامُ في هذا الموضع قرابة أربعة عشر قرنًا، ولا شكّ أنّ الحجاج كثروا في بعض السنين، وازدحموا في المطاف، ولم يخطر ببالِ أحدٍ تأخيرُ المقام. وفي ذلك دلالة واضحة على اختصاصه بموضعه الذي استمرّ فيه، إن لم يكن على وجه الوجوب فعلى وجه الاستحباب؛ لأنّ تأخيره لو كان جائزًا لما غفل عنه الناس طول هذه المدة، مع وجود الكثرة والزحام في كثير من الأعوام.
أقول: قد تقدّم بيان العلة التي اقتضت تأخير الصحابة رضي الله عنهم للمقام من موضعه الأصليّ، وهي أنّ الطائفين والمصلّين خلف المقام كثروا في عهدهم، وكان ينتظر أن يستمرَّ ذلك ويزدادوا في مستقبلهم إلى ما شاء الله، ورأوا أنّ بقاء المقام بجنب البيت يؤدي ــ مع تلك الكثرة ــ إلى دخول الخلل والحرج على الفريقين والعبادتين، ويستمرّ ذلك إلى ما شاء الله، وذلك مخالفٌ للتهيئة المأمور بها.
وأرى هذه العلة متحقّقةً الآن على وجه لم يتحقق منذ تأخير الصحابة رضي الله عنهم للمقام إلى هذا العهد الأغرّ.
ويمكن استثبات هذا بسؤال الخبراء بالتاريخ.
فإذا ثبت هذا؛ فإعراضُ مَن بيننا وبين الصحابة عن تأخير المقام مرّة ثانية محمولٌ على أنّه لعدم تحقّق العلة.
وكما أنّ إعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن تأخير المقام لمّا تبين أنّه لعدم تحقّق
العلة في عهده، لم يمنع الصحابة من تأخيره عند تحقّق العلّة من بعده، فهكذا هذا، ولا يختلف الحال بقصر المدّة وطولها.
على أنّه لو فرض أنّ هذه العلّة تحقّقت بتمامها فيما بين عصر الصحابة وعصرنا، ففي أيّ عصر؟
وهل استكملت بالسكوتِ حينئذٍ شرائط الإجماع؟
وقد ذكر ابن حجر الهيتمي في "تحفته"
(1)
: أنّ الحاكم النيسابوري ــ وهو من أكابر القرن الرابع، ولد سنة 321 ــ قال عند ذكر الحديث في النهي عن الكتابة على القبور:"ليس العمل عليه؛ فإنّ أئمة المسلمين من المشرق إلى المغرب مكتوبٌ على قبورهم، فهو عملٌ أخذ به الخلف عن السّلف".
فردّه ابن حجر وقال: "ويُرَدُّ بمنع هذه الكلية وبفرضها، فالبناء على قبورهم أكثر من الكتابة عليها في المقابر المسبّلة، كما هو مشاهد، لا سيّما بالحرمين ومصر، وقد علموا بالنهي عنه، فكذا هي.
فإن
(2)
قلت: هو إجماع فعليّ، وهو حجة، كما صرّحوا به.
قلت: ممنوع، بل هو أكثريٌّ فقط، إذ لم يُحفَظ ذلك حتّى عن العلماء الذين يرون منعه.
وبفرض كونه إجماعًا فعليًّا، فمحلُّ حجيته ــ كما هو ظاهر ــ إنّما هو عند صلاح الأزمنة، بحيث ينفذ فيها الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر،
(1)
"تحفة المحتاج"(3/ 197). وقول الحاكم في "المستدرك"(1/ 370). وانظر ردّ الذهبي عليه في تلخيصه.
(2)
ط: "قال"، خطأ مطبعي.
وقد تعطّل ذلك منذ أزمنة".
ويقول ابن حجر الهيتمي هذا في الكتابة والبناء على القبور، وذلك شائع ذائع، لا يخفى على عالم، وكذلك النهي عنه.
فأمّا تحقّق العلة حول الكعبة، فإن فُرِض وقوعه فيما مضى فلم يعلم به من علماء ذاك العصر إلا القليل، ومن الممتنع أن يقوم إجماعٌ صحيحٌ يمنع من العمل بما يأمر به القرآن، أو ممّا أجمع على مثله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
* * * *