الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
لماذا حوّل عمر رضي الله عنه المقام
؟
قد تقدّم أوّل الرّسالة ما تقدّم.
عَلم عمر رضي الله عنه أنّ أئمة المسلمين مأمورون بتهيئة ما حول البيت للطائفين والعاكفين والمصلّين؛ ليتمكنوا من أداء عبادتهم على الوجه المطلوب بدون خلل ولا حرج.
وعلم أنّ هذه التهيئة تختلف باختلاف عدد هؤلاء.
وعلم أنّهم قد كثروا في عهده، وينتظر أن يزدادوا كثرةً، فلم تبقَ التهيئة التي كانت كافيةً قبل ذلك كافيةً في عهده.
ورأى أنّ عليه أن يجعلها كافية، فإن كان ذلك لا يتمّ إلا بتغيير يتمُّ به المقصود الشرعي، ولا يفوت به مقصودٌ شرعيّ آخر، فقد علم أنّ الشريعة تقتضي مثل هذا التغيير، فليس ذلك بمخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو عين الموافقة، وشواهد هذا كثيرة، وأمثلته من عمل عمر رضي الله عنه وغيره من أئمة الصحابة رضي الله عنهم معروفة.
فهذه حجّة بيّنة لعمر رضي الله عنه. هذه الحجة لا تُبِيح له من التغيير إلا ما لا بدّ منه.
وللمقام حقوق:
الأول: القرب من الكعبة.
الثاني: البقاء في المسجد الذي حولها
(1)
.
الثالث: البقاء على سمت الموضع الذي هو عليه.
فقد تقدّم في حديث ابن عباس وأسامة رضي الله عنهم قولُ النبي صلى الله عليه وسلم بعد صلاته إلى المقام: "هذه القبلة".
قال ابن حجر في "الفتح"
(2)
: "الإشارة إلى الكعبة
…
أو الإشارة إلى وجه الكعبة، أي: هذا موقف الإمام
…
".
وفي "المسند"(ج 5 ص 209) في حديث أسامة: "ثمّ خرج، فأقبل على القبلة، وهو على الباب، فقال: "هذه القبلة، هذه القبلة" مرّتين أو ثلاثًا".
فقد يُجمَع بين الرّوايتين بأنّه قال هذه الكلمة "هذه القبلة" عند خروجه، ثم قالها عقب صلاته.
فتكون الأولى إشارة إلى الكعبة، والثانية إشارةً إلى موقف الإمام.
وهذا الثاني محمولٌ على الندب كما في "الفتح"
(3)
، وهو ظاهر.
وجرى العمل على اختيار وقوف الإمام على ذاك السَّمت: إمّا خلف المقام، وإمّا أمامه.
وبعد كثرة الناس وتضايق ما خلف المقام، بقي العمل على اختيار وقوف الإمام قُدّام المقام.
(1)
ما زيد في المسجد القديم فله حكمه، كما يصح فيه الطواف وغير ذلك. [المؤلف].
(2)
(1/ 501).
(3)
(1/ 502).
وفي "المسند"(ج 6 ص 14) في ذكر موضع صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الكعبة: "وجعل المقام خلف ظهره".
وذكر المحب الطبري في "القِرَى"(ص 312 وما بعدها)، والفاسيّ في "شفاء الغرام"(ج 1 ص 219) أخبارًا وآثارًا تتعلّق بذاك الموضع، منها: من "سنن سعيد بن منصور" عن ابن عبّاس أنّه قال ــ وهو قاعدٌ قبالةَ البيتِ والمقام ــ: "البيت كلُّه قبلة، وهذه قبلته".
وقد تقدّم في الفصلين الثاني والثالث ما يدلّ على أنّ إبراهيم عليه السلام انتهى إلى ذلك الموضع في قيامه على المقام لبناء البيت، وقام عليه وهو فيه للأذان بالحجّ.
فالبيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام قبلة، والجانب الذي كان القيام فيه ــ وهو ما بين الحِجْر والحَجَر ــ خاصٌّ في ذلك. والموضع الذي كان القيام عنده أخصّ.
وشُرعت الصلاة إلى المقام؛ لأنّ عليه كان القيام.
فارتباطه بذاك الموضع من جدار الكعبة واضحٌ، وتعلُّق الصلاة بأن تكون إلى القبلة أبلغُ وأهمُّ من تعلُّقها بأن تكون قربَ القبلة.
التغيير الذي لا بدّ منه يقتصر على التخفيف من الحق الأوّل للمقام ــ وهو القرب من الكعبة ــ ولعلّه أخفُّ حقوقه، وبذلك عمل عمر؛ أخّر المقام بقدر الحاجة محافظًا على الحقّين الأخيرين: بقاء المقام في المسجد، على السّمت الخاص.
تقدّم في قول ابن عيينة الثابت عنه: "فحوّله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم ،
وبعد قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} ".
لماذا زاد ابن عيينة: "وبعد قوله تعالى .... " مع أنّ ذلك معلومٌ قطعًا ممّا قبله؟
لا يبعدُ أن يكون ابن عيينة أومأ إلى سبب تأخير عمر للمقام؛ لأنّ الآية أمرت بالصلاة خلفه، وبقاؤه بجانب الكعبة ــ والنّاس بين مصلٍّ خلفه وطائفٍ ــ يلزمه عند كثرة الناس أن يقع الخلل والحرج في العبادتين كما مرّ.
وأخرج الفاكهيّ
(1)
بسندٍ ضعيف عن سعيد بن جبير: "كان المقام في وجه الكعبة .. فلمّا كثر الناس خشي عمر بن الخطاب أن يطأوه بأقدامهم، فأخّره إلى موضعه الذي هو به اليوم، حِذاءَ موضعه الذي كان قُدّام الكعبة". نقله الفاسيّ في "شفاء الغرام"(ج 1 ص 207) بسنده.
وقال الفاسيّ
(2)
: ذكر الفقيه محمد بن سُراقة العامري في كتابه "دلائل القِبلة": "وهناك بجنب الكعبة كان موضع مقام إبراهيم عليه السلام، وصلّى النبي صلى الله عليه وسلم عنده حين فرغ من طوافه ركعتين
…
ثم نقله صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو فيه الآن
…
لئلا ينقطع الطواف بالمصلين خلفه، أو يترك الناس الصلاة خلفه لأجل الطواف حين كثر الناس، وليدور الصّف حول الكعبة، ويروا الإمام من كلّ وجه".
وذكر ابن فضل الله العمري في "مسالك الأبصار"(ج 1 ص 103) مثل هذا الكلام.
(1)
في "أخبار مكة"(1/ 454).
(2)
في "شفاء الغرام"(1/ 207).
والمقصود منه ذكر العلّة، وإنّما كثر الناس في عهد عمر.
وقوله: "وليدور الصفّ
…
" مبنيٌّ على ما كان عليه العمل من وقوف الإمام خلف المقام.
وقال ابن حجر في "الفتح"(ج 8 ص 119)
(1)
في الكلام على قول البخاري في تفسير البقرة: باب {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} بعد تثبيت تحويل عمر رضي الله عنه للمقام: "ولم تنكر الصحابة فعل عمر، ولا مَن بعدهم، فصار إجماعًا، وكأنّ عمر رأى أن إبقاءه يلزم منه التضييق على الطائفين أو على المصلين، فوضعه في مكان يرتفع به الحرج، وتهيأ له ذلك؛ لأنّه
(2)
الذي كان أشار با تخاذه مصلّى. [وأوّل من عمل عليه المقصورة الآن]
(3)
".
قوله: "فصار إجماعًا"، قد عرفتَ مستنده.
وكلٌّ من المستند والإجماع يدلُّ على أنّه إذا وُجِد مثل ذلك المقتضي اقتضى فعلَ مثلِ ما فعل عمر رضي الله عنه.
وقوله: "وتهيأ له ذلك
…
"، لعلّ الإشارة إلى عدم الإنكار، أي: إنّه قد يكون في الصحابة ومَن بعدهم مَن يخفى عليه المقتضي، ولكن منعَه من
(1)
(8/ 169) ط. السلفية.
(2)
ط: "لأن".
(3)
هذه العبارة التي وضعتُ عليها الحاجزين وقعت في نسخة "الفتح" المطبوعة متصلة بما قبلها كأنها تتمة له، وإنما هي ابتداء كلام لا أشك أن ابن حجر ترك بعده بياضًا، لأنه لم يعرف من أول من عمل المقصورة. وإنما عملت بعد عمر بنحو ست مئة سنة. راجع "شفاء الغرام" وغيره. [المؤلف].
الإنكار عِلمُه بأنّ عمر رضي الله عنه ــ مع مكانته في العلم والدّين ــ هو الذي أشار باتخاذ المقام مصلّى، فله فضل علم بالمقام وحكمه، فهذا قريبٌ.
فأما ما يتوهم أنّ مشورة عمر تُعطيه دون غيره حقًّا بأن يغير بدون حجة، أو بحجة غير تامّة، فهذا باطل قطعًا.
وحُجة عمر رضي الله عنه بحمد الله تعالى تامّة عامّة.
* * * *