المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تحقيق الكلام في حديث: "لا توتروا بثلاث - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ١٦

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

فهرس الكتاب

- ‌ قوله: "إذا أتى أحدكم الغائط" هل يفيد إخراج الأبنية

- ‌1 - حديث ابن عمر في الصحيحين

- ‌الباب الثاني في الرخصة

- ‌حكم القبلة وقضاء الحاجة

- ‌ فقه هذا الحديث

- ‌فصلهل يُعيد إمامًا

- ‌ أدلة المجيزين:

- ‌فصلوممن رواه عن جابر:

- ‌الدليل الثانيحديث جابر في صلاة الخوف

- ‌ فصلمما يُستدل به لصحة اقتداء المفترض بالمتنفِّل:

- ‌مقدمة في حقيقة الوتر

- ‌المقالة الأولىفي حقيقة الوتر

- ‌مبحث في الوتر [بواحدة]

- ‌بحث في حقيقة "الوتر" ومسمَّاه في الشرع

- ‌الفصل الثانيفي الاقتصار على ثلاث

- ‌تحقيق الكلام في حديث: "لا توتِروا بثلاثٍ

- ‌مجمل ما كان عليه قيام رمضان في العهد النبويوما صار إليه في عهد عمر

- ‌الاختلافُ في الأفضل: أفي البيت أم في المسجد؟فرادى أم جماعة

- ‌هل هناك مانعٌ

- ‌الفصل الأولما هو المقام

- ‌الفصل الثانيلماذا سُمّي "الحَجر" مقامَ إبراهيم

- ‌الفصل الثالثأين وضع إبراهيم المقامَ أخيرًا

- ‌الفصل الرابعأين كان موضعه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌القول الثاني:

- ‌القول الثالث:

- ‌تمحيص هذه الأقوال

- ‌الفصل الخامسلماذا حوّل عمر رضي الله عنه المقام

- ‌الفصل السادسمتى حوَّل عمر رضي الله عنه المقام؟ولماذا قدَّرَهُ المُطَّلِبُ، واحتاجَ عُمَرُ إلى تقديرِه

- ‌تلخيص وتوضيح

الفصل: ‌تحقيق الكلام في حديث: "لا توتروا بثلاث

بدون سَبْقِ غيرها، فافهمْ.

ثانيًا: هل فيما ذكره دليلٌ على أصحابنا؟

أقول: نعم.

ولنبدأ ب‌

‌تحقيق الكلام في حديث: "لا توتِروا بثلاثٍ

":

أولًا: حديث الدارقطني

(1)

عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لا تُوتِروا بثلاث، أوتروا بخمسٍ أو سبعٍ، ولا تُشبِّهوا بصلاة المغرب". قال: كلهم ثقات. ورواه من طريق أخرى بمثله إلّا أنه قال: "بسبع".

قال الشارح

(2)

على الرواية الأولى: وأخرجه الحاكم في "المستدرك"

(3)

بهذا الإسناد والمتن، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه. وكذا أخرجه البيهقي

(4)

. وأخرجه الحاكم

(5)

أيضًا من جهة أخرى بقوله: حدثنا، وساق السند إلى عِراك بن مالك عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تُوتروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بصلاة المغرب، ولكن أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرةَ أو بأكثر من ذلك". وأخرج محمد بن نصر المروزي في "قيام الليل"

(6)

له: حدثنا

(1)

في "سننه"(2/ 24، 25).

(2)

هو العلامة المحدث شمس الحق العظيم آبادي في "التعليق المغني على سنن الدارقطني"(2/ 24، 25).

(3)

(1/ 304).

(4)

في "السنن الكبرى"(3/ 31).

(5)

في "المستدرك"(1/ 304).

(6)

(ص 125).

ص: 301

إلخ، وساق السند إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحوه. وهكذا أخرجه ابن المنذر وابن حبان

(1)

، كما في "التلخيص"

(2)

.

وقال الحافظ في "فتح الباري"

(3)

: وقد صححه الحاكم من طريق عبد الله بن الفضل، وإسناده على شرط الشيخين، وقد صححه ابن حبان. انتهى.

وقال في "التلخيص"

(4)

: حديث أبي هريرة رجاله كلهم ثقات، ولا يضره وقفُ من أوقفَه. انتهى.

وقد صحح زين الدين العراقي إسنادَ طريقين: طريق عراك بن مالك، وطريق عبد الله بن الفضل، كما في "النيل"

(5)

. وصححه مجد الدين الفيروزابادي في "سفر السعادة"

(6)

، وكذا أقرَّ على صحته الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين عن ربّ العالمين"

(7)

(8)

.

أقول: أما الحديث فقد صحَّ، وقد مرَّ جمعُ الحافظ بينه وبين أحاديث الوتر بثلاث ركعات، وفي النفس من ذلك شيء. والتحقيق أن يقال: إن هذا

(1)

رقم (2429).

(2)

"التلخيص الحبير"(2/ 15).

(3)

(2/ 481).

(4)

(2/ 15).

(5)

"نيل الأوطار"(3/ 43).

(6)

(ص 64) ط. دار القلم بيروت.

(7)

(2/ 354).

(8)

إلى هنا انتهى النقل من "التعليق المغني" للعظيم آبادي.

ص: 302

الحديث ورد بمتنينِ: أحدهما هو قوله: "لا توتروا بثلاثٍ، أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ، ولا تُشبِّهوا بصلاة المغرب". والثاني قوله: "لا توتروا بثلاثٍ تُشبِّهوا بصلاة المغرب، ولكن أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرةَ أو بأكثر من ذلك". وظاهر المتن الأول أن قوله: "ولا تُشبِّهوا بصلاة المغرب" عطفُ تفسيرٍ لقوله: "لا تُوتِروا بثلاثٍ"، قيل لبيان علته، ويحتمل أن يكون نهيًا آخر. وأما المتن الثاني فإن "تُشبِّهوا" بدل من "لا تُوتِروا"، فلا يحتمل إلّا معناه.

وبيانه أن النهي عن التشبيه بصلاة المغرب هل هو فيما يتعلق بالكمّ وحده أو بالكيف وحده أو بهما معًا؟ فإن كان بالكمّ فقط امتنع أن يصلي في الليل ثنتين، ثم بعد وقتٍ يُصلِّي واحدة؛ لأن المجموع حينئذٍ ثلاث، وهي قدر المغرب. وإن كان بالكيف فقط امتنع أن يصلِّي ثلاثًا معًا وإن سبقَ قبلَها عددٌ من الشفع. وإن كان بهما معًا لم يمتنع إلا أن يُجمع بين الثلاث ويقتصر عليها.

فأقول: الحديث باللفظ الأول ظاهر في إرادة الكمّ محتملٌ للإطلاق، وباللفظ الثاني نصٌّ في إرادة الكمّ، فتعيَّن أن يكون الأول كذلك.

إذا تقرر هذا فالحديث نصٌّ في النهي عن التشبيه بالمغرب بالكمّ، ثم هذا الكمّ هل هو معتبر في الوتر بالإطلاق الأول أو بالإطلاق الثالث؟

أقول: الحديث باللفظ الأول محتملٌ للأمرين، وباللفظ الثاني متعين للإطلاق الأول كما مرَّ؛ لأن فيه:"أو بأحد عشر أو بأكثر من ذلك"، وغاية صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الليل ثلاثة عشر على نزاعٍ.

ص: 303

ثانيًا: لو كان من الإطلاق الثالث لاقتضى أن الأحد عشر تُصلَّى بتسليمةٍ واحدة، وكذا الأكثر من ذلك، وهو غريب.

ثالثًا: إن الوتر عند أصحابنا غايته أحد عشر، وهذا أربَى عليها، فثبتَ أن الوتر فيه من باب الإطلاق الأول، أي عبارة عن صلاة الليل يًصلِّيها صلى الله عليه وآله وسلم، مع قطع النظر عن النية وعن الوصل والفصل، وحينئذٍ فيتعين حمل اللفظ الأول عليه. فثبت أن مورد النهي عن التشبيه بالمغرب هو في الكمّ فقط، وفي مطلق صلاة الليل الذي كان يُصلِّيها صلى الله عليه وآله وسلم.

إذا تقرر ذلك فلو اقتصر في ليلةٍ على ثلاث ركعات عدا سنة العشاء والفجر فقد شبَّه، سواء وصلَها بتشهُّدٍ واحد أو تشهدين، أو فصلَها بزمن قصير أو طويل، مع اتحاد النية بأن نوى بها الوتر، أو تفريقها بأن نوى بالركعتين من قيام الليل ونوى بالركعة الوتر، وإذا صلَّى في ليلةٍ عدا سنة العشاء والفجر اثنتين وثلاثًا، أو أربعًا وثلاثًا، أو ستًّا وثلاثًا، أو ثمانيًا وثلاثًا، أو عشرًا وثلاثًا= لم يقع في التشبيه أصلًا، سواء وصلَ الثلاثَ بتشهد أو تشهدين، أو فصلَها بزمن قصير أو طويل، مع اتحاد النية أو تفريقها، وحينئذٍ فالجمع الصحيح بين هذا الحديث وبين ما ورد من الإيتار بثلاثٍ: أن ما ورد من إطلاق الإيتار بالثلاث فالمراد به جمعها بعد أن يسبقها عددٌ من الشفع، ومن استقرأ الآثار وجدها كذلك إلّا ما شذّ.

ويدلُّك على ذلك ظاهر وتر عمر أنه كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير، وما رُوِي عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاثٍ كالمغرب، وكفى بهؤلاء، ويبعد كل البعد أن لا يطلعوا على حديث النهي عن التشبيه بالمغرب، بل الظاهر أنهم كانوا أعلمَ به من غيرهم، حيث فهموا

ص: 304

أن مورده النهي عن التشبيه بالاقتصار على الثلاث في ليلة، لا التشبيه بالكيف، فكانوا رضي الله عنهم يُصلُّون ما شاء الله، ثم يُوتِرون بثلاثٍ كما عرفتَ.

نعم، قد يقال: إن التشبيه بالكيف يُحكَم بالنهي عنه قياسًا على التشبيه بالكمّ، ولاسيَّما وقد نصّ على العلة في نفس الحديث.

قلتُ: هذا قوي، ويدلُّ له أنَّ عامة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من وتر الثلاث ليس فيه النصُّ على شيء أنه بتشهدين، وأما بتشهدٍ واحدٍ فكثير كما مرَّ. وأما فعلُ ابن مسعود وأنس وأبي العالية وظاهر ما رُوي عن عمر فمحمولٌ على أنهم لم يعتبروا القياس المذكور، كأنهم رأوا أن تشبيه النفل بالفرض ليس علةً كاملةً، إذ قد ورد صلاةُ أربعٍ قبل الظهر لا يُسلِّم إلّا في آخرهن، وذلك يُشبه الظهر. وقد مرّ حديث عائشة "أربعًا وأربعًا وثلاثًا" وغير ذلك. ولكن ظاهر الحديث خلاف ذلك، فاعتبار القياس قوي، وعليه فيمتنع الوتر بثلاثٍ بتشهدين ولو كان قد صلَّى قبلها عددًا من الشفع، وعليه فالجمع الذي ذكره الحافظ يعتبر لاعتبار الكيف، والله أعلم.

تنبيه

قد مرَّ في الفصل الأول أنه لابدّ أن يتقدم الواحدةَ شَفْعٌ غير سنةِ العشاء، كما يدلُّ عليه سياقُ حديث "صلاة الليل مثنى

" إلى آخره، وتقرر في هذا الفصل أن الشفع الذي يتقدم الواحدة لابدَّ أن يكون أربعًا فأكثر، ولا يُعتَدُّ فيه بسنة العشاء لما قرَّرناه أن لفظ: "لا توتِروا بثلاثٍ، أوتروا بخمسٍ

" إلخ من الإطلاق الأول، أي أن الوتر عبارة عما يَشملُ صلاةَ الليل إلى ثلاث عشرة ركعة، وسنة العشاء ليست من ذلك.

ص: 305

فتقرر أنه لابدَّ أن يُصلِّي الإنسان بعد سنة العشاء وقبل سنة الصبح خمسًا على الأقل، فإنه أقلُّ ما تُؤدَّى به السنةُ خارجًا من النهي، ومن أراد أدنى الكمال فلابدَّ من سبعٍ، لحديث عائشة المتقدم:"ولم يكن يُوتِر بأنقصَ من سبعٍ". والله أعلم.

* * * *

ص: 306

اللفظ الثاني

(1)

: "ولم يكن يُوتر بأنقصَ من سبعٍ"، إن قلتم: حقيقة، قلنا لكم: فكيف بقولها: "ولا بأكثر من ثلاث عشرة"؟ وتقدير: "ولا يصلي بأكثر من ثلاث عشرة" من الحذف، وقد مرَّ ما فيه، على أن الباء تدفع ذلك. وتقدير: "ولا يُوتِر بأكثر

" إلخ، وإن دفع الباء فهو لا يُجدِيْ شيئًا. على أنه لا يضرُّنا القول بأنه حقيقة لاحتمال الوصل، وليس في قولها: "بأربع وثلاثٍ" أنه لم يكن يُصلِّي السبع إلّا كذلك. وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله وسلم وَصْلُ السبع من عدة روايات.

وإن قلتم: مجاز، فهو بجميع طرقه لا يدلُّ على ما قلتم كما مرَّ، بل غاية ما فيه أن يحتمل ذلك، فيُطلب دليلٌ غيره، والدليل بيدنا.

وإن قلتم: حقيقة باعتبار مجاز باعتبار، فقد مرَّ ما فيه، وغاية ما فيه الاحتمال أيضًا.

اللفظ الثالث: "يُوتر بثلاث عشرة"، إما أن تقولوا: مجاز، أو حقيقة ومجاز باعتبارين، وكلُّ ذلك بأنواعه لا يُجدِيكم شيئًا، بل غايته الاحتمال.

اللفظ الرابع: "أوترَ بسبعٍ". إن قلتم: حقيقة، فلا بأس، لاحتمال الوصل، ولكن جَعْله مقابلًا لما بعده يُنافي ذلك.

اللفظ الخامس: ["لا تُوتِروا بثلاثٍ"]، كالذي قبله.

اللفظ السادس: "أوتروا بخمسٍ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك". يأتي فيه ما مرَّ في اللفظ الأول. وقد سبق ما يؤكِّد مجازية هذا الحديث فراجعه.

(1)

الكلام من هنا غير متصل بما قبله، وهكذا وُجد في الأصل ناقصًا.

ص: 307

والحق في الألفاظ الستة من الأحاديث الثلاثة أنها كلَّها مجازاتٌ عن صلاة الليل، فمعنى الحديث الأول: كان يُصلِّي بالليل أربعًا وثلاثًا، وستًّا وثلاثًا، وثمانيًا وثلاثًا، وعشرًا وثلاثًا. ولم يكن يُصلِّي في ليلةٍ أقلَّ من سبعٍ ولا أكثر من ثلاث عشرة.

فقولها: "أربع وثلاث، وستّ وثلاث، وثمان وثلاث" كرواية مسروق عند البخاري قال: سألتُ عائشة رضي الله عنها عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل، فقالت:"سبع وتسع وإحدى عشرة سوى ركعتي الفجر". وقولها: "وعشر وثلاث" كرواية عروة عند البخاري عنها أيضًا قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعةً، ثم يُصلِّي إذا سمع النداء بالصبح ركعتين خفيفتين".

ومعنى الحديث الثاني: كان يصلي بالليل ثلاث عشرة ركعة، فلما كَبُرَ وضعُفَ صلَّى سبعًا. وهو شبيهٌ بحديث عائشة.

ومعنى الحديث الثالث: لا تُصلُّوا في الليل ثلاثًا مقتصرةً عليها، تُشبهوا المغرب، صلُّوا خمسًا أو سبعًا أو تسعًا أو إحدى عشرة أو أكثر من ذلك. وقد مرَّ شرحه مستوفًى.

* * * *

ص: 308

قال

(1)

شيخ الإسلام

(2)

: "واستشكل وجوب الثلاثة عليه لضعف الخبر، وبجَمْعِ العلماء بين أخبار الضحى المتعارضة في سنيتها بأنه كان لا يداوم عليها، مخافةَ أن تُفرَض على أمته فيَعْجِزوا عنها، ولأنه قد صحَّ عنه أنه كان يُوتِر على بَعيرِه، ولو كان واجبًا عليه لامتنعَ ذلك. وقد يُجاب عن الأول باحتمال أنه اعتضد بغيره. وعن الثاني بأن صلاة الضحى واجبةٌ عليه بالجملة. وعن الثالث باحتمال أنه صلاها على الراحلة وهي واقفة، على أن جواز أدائها على الراحلة من خصائصه أيضًا".

قلت: هذه الأجوبة لا تُجدي شيئًا.

أما الأول: فإن مجرد احتمال الاعتضاد ليس اعتضادًا.

وأما الثاني: فلا نعرف معنى الوجوب على الجملة، هل معناه أن ركعتي الضحى وجبتْ عليه في العمر مرةً أو غير ذلك؟

وأما الثالث فاحتمال وقوف الراحلة يُبعِده حديث سعيد بن يسار عند البخاري

(3)

قال: "كنتُ أسير مع عبد الله بن عمر بطريقِ مكة، فقال سعيد: فلما خشيتُ الصبحَ نزلتُ فأوترتُ ثم لحِقْتُه. فقال عبد الله بن عمر: أين كنتَ؟ فقلتُ: خشيتُ الصبحَ فنزلتُ فأوترتُ، فقال عبد الله: أما لك في رسول الله أسوةٌ حسنة؟ قلتُ: بلى والله! قال: فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يُوتِر على البعير".

(1)

لم نجد الكلام المتعلق به في النسخة، وأبقيناه كما هو.

(2)

أي زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب في شرح روض الطالب"(3/ 98) ط. دار الكتب العلمية.

(3)

رقم (999).

ص: 309

قلتُ: فواقعةُ سعيد بن يسار كانت في حالة السير، كما يدلُّ عليه قوله:"ثم لَحِقتُه"، وقوله:"فقال: أين كنت؟ "، وذلك يدلُّ أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوتر عليها في حالِ السير.

وأما قوله: "على أن جواز أدائها على الراحلة من خصائصه أيضًا"، فهو مردود بما قلنا، ولنا أدلة أخرى على عدم وجوب الوتر عليه صلى الله عليه وآله وسلم، ربما نُشير إليها في المقالة الثانية.

وأما ما رواه البخاري

(1)

عن نافع "أن ابن عمر كان يُسلِّم بين الركعة والركعتين في الوتر"، فإنه وإن كان ظاهره إيقاع الوتر على الثلاث المفصولة، فليس لكم فيه دليل:

أولًا: أنه أطلق ذلك؛ لأن الناس كانوا يُوترون بثلاث، كما في البخاري

(2)

: "قال القاسم: ورأينا أناسًا منذُ أدركنا يُوترون بثلاث". وحكاه مالك

(3)

عن عمل أهل المدينة وإن لم يأخذ به، فصار عندهم لكثرة فعل الوتر ثلاثًا يتبادر منه عند الإطلاق تلك الثلاث حتى كأنه خاص بها، فلذلك عبَّر به نافع مع وجود الفصل.

ثانيًا: أن قوله: "في الوتر" ليس معناه: في وتره، وإنما معناه: في الثلاث التي تُوتِر الناسُ بها.

(1)

رقم (991).

(2)

رقم (993).

(3)

في "الموطأ"(1/ 125).

ص: 310

ثالثًا: روى الطحاوي

(1)

من طريق سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يَفصِل بين شَفْعِه ووترِه بتسليمةٍ، ذكره في "الفتح"

(2)

. وعامة الأحاديث والآثار على هذا كما شرحنا، مع أن غاية ما في قول نافع أن يكون أثرًا عن تابعي، فلا حجة فيه على كل حال.

وأما جوابكم عن المبحث الثاني فلا كلامَ لنا معكم فيه هنا؛ لأنا نُوافقكم في أن الوتر ليس ثلاثَ عشرة. وأما كون ذلك صلاةَ ليلٍ فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.

وأما جوابكم عن المبحث الثالث، فقد مرَّ عند قولنا: "وأما حديث الشيخين عن عائشة: كان يُصلِّي من الليل عشرَ ركعاتٍ ويُوتِر بسجدةٍ

" إلخ. ومن أصحابنا من اختار أن أكثر الوتر ثلاث عشرة ركعةً، ووافق الأكثر في عدم اشتراط الوصل. وينحصر الجواب عليه بالوجه الثالث الذي ذكرناه عن حديث ابن أبي قيس، وهو أن عامة الأحاديث والآثار مُطبِقةٌ على إطلاق الوتر الشرعي على ما صُلِّي وترًا موصولًا دون غيره، وأن الوصل لم يثبت في أكثر من تسع.

وبذلك يتعيَّن كون إطلاق الوتر في هذه الثلاثة الأحاديث مجازًا عن صلاة الليل، كما أفاده الترمذي والنسائي في حديث أم سلمة، وأشار إليه أبو داود في حديث ابن أبي قيس، وظهر لنا رجحانُه في حديث أبي هريرة.

وهذا ما اقتضاه قولُ الحق الذي أوجبه الله على كلِّ مسلمٍ على مبلغِ

(1)

في "شرح معاني الآثار"(1/ 279).

(2)

(2/ 482).

ص: 311

علمه ومقدارِ فهمه. وليس فيما قلناه غضاضةٌ على أئمة مذهبنا، فإنهم حَفَظَةُ الدين وأئمة اليقين، وهم جبالُ العلم وبِحارُه، وشُموسُ الحقِّ وأقمارُه، وإنما معنا آثارُ فوائِدهم وأسْقاطُ موائدِهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ص: 312

الرسالة التاسعة

فرضية الجمعة وسبب تسميتها

ص: 313

بسم الله الرحمن الرحيم

[ص 1] فلمّا قرأ {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قال رجل: مَن هؤلاء؟

"

(1)

.

فهذا الحديث يدلُّ على أنّ السورة لم تنزل إلا بعد إسلام أبي هريرة، وكان أسلم سنة

(2)

، لكن قال في "الفتح":"قوله: فأُنزِلتْ عليه سورة الجمعة: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} " كأنّه يريد: أُنزِلت عليه هذه الآية من سورة الجمعة، وإلاّ فقد نَزلَ منها قبل إسلام أبي هريرة الأمرُ بالسعي. ووقع في رواية الدراوردي عند مسلم:"نزلت عليه سورة الجمعة، فلمّا قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} ". "فتح الباري"(ج 8 ص 453)

(3)

.

أقول: والدراوردي سيئ الحفظ، وإنّما أخرج له البخاري مقرونًا بغيره، وكان لحّانًا. فرواية سليمان أثبت. وعليها فقوله:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} بدلُ بعضٍ من سورة الجمعة، على وِزان قولهم:"أكلتُ الرغيفَ ثُلُثَه". فيتحصل من ذلك أنّ المراد: نزلت هذه الآية من هذه السورة؛ كما قال الحافظ.

وقول الحافظ: "فقد نزلَ قبل إسلام أبي هريرة الأمرُ بالسعي"؛ لم أقف

(1)

أخرجه البخاري (4897) ومسلم (2546) من حديث أبي هريرة قال: "كنّا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ نَزَلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ

".

(2)

هنا بياض في الأصل، وفي "الإصابة" (13/ 42): كان إسلامه بين الحديبية وخيبر.

(3)

(8/ 642) ط. السلفية.

ص: 315

على مستندٍ صريح له، وعلى تسليمه فلم تُحدَّد القبلية. ويمكن أن يكون استندَ إلى تقدُّم فرضية الجمعة، واستظهر أنّها إنما كانت بهذه الآية، وهو كما ترى.

واحتجاج الشافعي والبخاري وغيرهما بآية السعي على فرضية الجمعة لا يستلزم أنّهم يرون أنّ الجمعة لم تُفرَض إلاّ بها، إذ لا مانعَ من أن يُفرَض الشيء ثم بعد مدّةٍ يُنزِل الله تعالى في القرآن الأمرَ به، ولهذا نظائر. والقرآن نفسه فيه آيات مكية تأمر بالشيء، وآيات مدنية متأخرة تأمر بذلك الشيء نفسه. فلا دليلَ فيما ذكرنا على تقدُّم الآية ولا تأخُّرها.

وهكذا لا دليلَ فيما عُلِم من أنّ قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] الآية مدنية، على أنّ السورة كلها مدنية، ولا على أنّ قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9 - 10] الآيتين مدنية، ولا على أنّهما نزلتا معها في وقت واحد.

على أنّ من الناس من استشكل هذا الحديث لأمر آخر؛ وهو أنّه يظهر منه أنّ المراد بقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} فارس. وهذا بعيدٌ جدًّا من ظاهر القرآن؛ لأنّ الضمير في قوله: {مِنْهُمْ} يعود على الأمّيين حتمًا، والأمّيون هم العرب، باتفاق المفسّرين من السلف وأهل اللغة وغيرهم. فتقدير الآية:"وآخرين من العرب"، وفارس ليسوا من العرب.

وفي سند الحديث ثَور بن زيد عن سالم أبي الغيث؛ وقد تُكُلِّم في كلٍّ منهما

(1)

، وإن أخرج لهما الشيخان.

(1)

انظر "تهذيب التهذيب"(2/ 32 و 445).

ص: 316

وقد روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: "لما نزلت {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38] قالوا: يا رسول الله، مَن هؤلاء؟

وسلمانُ إلى جنبه، فقال: هم الفرس، هذا وقومه". "المستدرك" (ج 2 ص 458)، وقال: صحيح على شرط مسلم. وأخرجه ابن جرير في "تفسيره"

(1)

وغير واحد.

وهذه القصة تُشبِه تلك، ولا يبعد أن تكون واحدةً؛ فانتقل ذهن سالم أو ثور من آية القتال إلى آية الجمعة.

وقد روى الترمذي الحديثين

(2)

، وقال في كل منهما: غريب.

أمّا أنا فأرى أنّه لا مانع من صحتهما معًا؛ كما ذكره الحافظ في "الفتح"

(3)

.

والقصة التي ذكر فيها آية الجمعة ليس فيها تصريح بأنّ فارسًا هي المراد بقوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} ، وإنّما فيها:"قال: قلت: مَن هم يا رسول الله؟ فلم يراجعه حتى سأل ثلاثًا، ومعنا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده على سلمان، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجالٌ أو رجلٌ من هؤلاء".

(1)

(21/ 234). وأخرجه أيضًا ابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير"(7/ 306)، والطبراني في "الأوسط"(8838) والبيهقي في "دلائل النبوة"(6/ 334) وغيرهم.

(2)

رقم (3260، 3310).

(3)

(8/ 642).

ص: 317

إنّما أعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرّة بعد مرّة لأنّ في الآية نفسها البيان [

]. [ص 4] فإن كان السائل لم يفهم هذا فهو مقصِّر، يستحقُّ الإعراض عنه، ليردَّه الإعراضُ إلى التدبُّر. وإن فهم هذا وأراد تعيينَهم بقبائلهم أو بأسمائهم، فلا فائدةَ في بيان ذلك.

ثم نبَّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أنّه كان الأَولى بالسائل أن يسأل عن أمر آخر، وهو: هل التعليم والتزكية يختصُّ بالأمّيين أو لا يختصُّ؟ فأجاب عن هذا بقوله: "لو كان الإيمان

إلخ" أي: أنّه لا يختصُّ. وهذا هو الذي يُسمِّيه أهل المعاني: الأسلوب الحكيم، وذكروا له أمثلةً من القرآن وغيره. ولو كان المراد أنّ الآخرين هم فارس لكان السؤال في محلّه، فلا يكون وجهٌ للإعراض، كما لم يقع الإعراض في القصة الأخرى، ولكان الجواب مصرِّحًا بذلك؛ كأن يقول: هم الفرس، كما قال في القصة الأخرى، والله أعلم.

وهذا بحمد الله ظاهر جدًّا، وإن لم أرَ من نبَّه عليه.

وإذ لم نظفر بما نعلم منه تاريخ النزول فلننظر من جهة أخرى. فأقول: الاحتمال الثالث بعيد، لأنّ الآية عليه تكون مجملةً، وهو خلاف الظاهر الغالب. ويبقى النظر في الاحتمالين الأولين:

فإن كان نزول الآية متأخرًا، أي: بعد إسلام أبي هريرة أو قبله قريبًا منه تعيّن الاحتمال الأول؛ لأنّ الأحاديث كلها يُطلَق فيها "يوم الجمعة" على أنه عَلَم. ولو لم يكن جُعِل علمًا إلا أخيرًا لجاء في بعض الأحاديث ذكره باسمٍ آخر، أعني ببعضها ما كان قبل نزول الآية؛ إذ يبعد جدًّا أن تكون الأحاديث المروية في الجمعة إنّما سُمِعتْ وحُفِظَتْ بعد إسلام أبي هريرة أو قريبًا منه.

ص: 318

وإن كان نزول الآية بمكة أو أوائل قدوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينةَ فالاحتمال الثاني أقرب. وعلى كلا الاحتمالين فتسمية هذا اليوم "يوم الجمعة" تسمية شرعية؛ إمّا بالقرآن وإمّا بالسنة، متقدّمة على القرآن أو متأخرة عنه، والله أعلم.

فالشرع سمّاه يوم الجُمُعة بضمتين؛ كما في قراءة العامة، فأخذَه بنو تميم وخفّفوه بإسكان الميم، وقرأ به بعض الشواذّ، وسمعه بنو عقيل فحرَّفوه، مع ملاحظة المعنى؛ فقالوا: يوم الجُمَعة، بضمٍّ ففتحٍ، والله أعلم.

[ص 2] فصل

يَرِد في الأحاديث عند ذكر اليوم "يوم الجمعة"، ويَرِد فيها "الجمعة" مفردًا، ويجيء فيها عند ذكر الصلاة "صلاة الجمعة"، ويَرِد فيها "الجمعة" مفردًا؛ فأيُّ هذه الأصلُ؟

أقول: أما تسمية الصلاة أو اليوم ابتداءً بهذا المصدر الذي معناه الاجتماع فبعيد، فتبقى احتمالات:

الأول: أن يكون أول ما نظر الشرع إلى الصلاة فسمّاها "صلاة الجمعة"؛ أي: صلاة الاجتماع، ثم أتبعَها اليوم، فقال:"يوم الجمعة". وتقديره: يوم صلاة الاجتماع.

الثاني: عكسه.

الثالث: أن يكون نَظَر إليهما معًا؛ فسمّى الصلاة "صلاة الجمعة" واليوم "يوم الجمعة".

ص: 319

والأول أقوى؛ لأنّ الجمعة إذا أُطلِقَتْ في الشرع يتبادر منها إلى ذهن العارف به الصلاة، ولأنّ المعهود من الشارع وضع الأسماء للأحكام الشرعية، في أدلةٍ أخرى لا أُطيل بذكرها.

[ص 3] ففي هذه الآيات تسمية هذا اليوم "يوم الجمعة".

فهل سُمّي هذا اليوم "جمعة" من أول وهلة، ثم قالوا "يوم الجمعة" من باب إضافة العام إلى الخاص؟ أم الجمعة شيء أضيفَ إليه اليوم، فصار من باب العَلَم المضاف، ثم توسّعوا فأطلقوا على اليوم نفسه "جمعة"؛ كما قالوا في يوم السبت أنّ أصل السبت الراحة والقطع، فكأنّه قيل:"يوم الراحة"، ثم توسعوا فأطلقوا السبت على اليوم نفسه؟ ادّعى بعضهم الأول، وهو واهمٌ فيه؛ لما ستسمعه.

واختلفوا في أصل معنى "جمعة" الذي أُضِيف إليه هذا اليوم. فالقول الأول: إنّه بمعنى الاجتماع. قال الزمخشري في "الأساس"

(1)

: "وجمَّع القومُ: شهدوا الجمعة، وأدام الله جمعةَ ما بينكما؛ كما تقول: ألفةَ ما بينكما".

وفي "القاموس"

(2)

: "ويوم الجمعة

وأدام له جمعةَ ما بينكما: أُلفةَ ما بينكما". قال شارحه

(3)

: "قاله أبو سعيد".

أقول: وهذا تنبيهٌ على أنّ "جمعة" من قولهم: "جمعةَ ما بينكما" مصدرٌ كالألفة، وأنّ الجمعة في قولنا "يوم الجمعة" من هذا المعنى. وقد بيّن ذلك

(1)

(ص 100) ط. دار صادر.

(2)

(3/ 14) ط. بولاق.

(3)

"تاج العروس"(20/ 459) ط. الكويت.

ص: 320

المُطرِّزي في "المُغرِب"

(1)

؛ قال: "والجمعة من الاجتماع كالفرقة من الافتراق؛ أُضِيفَ إليها اليوم والصلاة، ثم كثر الاستعمال حتى حُذِف منها المضاف".

وصرّح أبو البقاء بالمصدرية؛ قال

(2)

: "الجمعة ــ بضمتين وبإسكان الميم ــ مصدرٌ بمعنى الاجتماع"، نقله في "روح المعاني"

(3)

.

فمن مثّله بـ "أُلْفة" مثّله بنظيره، ومن مثّله بـ "فُرقة" مثّله بضدِّه؛ لأنّ العرب كثيرًا ما تُسوِّي بين النظيرينِ وبين الضدّينِ؛ كما هو مقرر في محلّه.

أقول: وهذا القول هو الظاهر، بل الصواب.

وزاد أبو البقاء

(4)

: "وقيل في المُسَكَّن هو بمعنى المجتمَع فيه؛ كرجلٍ ضُحْكةٍ؛ أي: كثيرٌ الضحكُ منه".

أقول: إنما خصَّه بالمسكّن لأنه يكون حينئذٍ صفةً، والصفة تجيء على "فُعْلة" بضمٍّ فسكون، ولا تجيء بضمتين. والذين قالوا إنّ كلّ "فُعْلٍ" بضم فسكون يجوز أن يقال فيه "فُعُل" بضمّتين استثنوا الصفة؛ كما نصّ عليه الرضيُّ

(5)

وغيره.

وهذا يردُّ على الآلوسي فيما صدَّر به، وهو القول الثاني؛ قال

(6)

:

(1)

(1/ 158).

(2)

"الكليات"(ص 355).

(3)

(28/ 99).

(4)

لم أجد قوله في "الكليات".

(5)

انظر "شرح الرضي على الشافية"(1/ 46).

(6)

"روح المعاني"(28/ 99).

ص: 321

"وذكروا أنّ الجُمُعة بالضم مثل الجُمْعة بالإسكان؛ ومعناه: المجموع، أي: يوم الفوج المجموع؛ كقولهم "ضُحْكة" للمضحوك منه".

ويُردُّ عليه بأمور أخرى لا حاجة لبسطها؛ فإنّ هذا القول بعيدٌ على كل حال.

والأولى حملُ المسكَّن على الذي بضمّتين، وأن يكون المعنى واحدًا كما هو الظاهر، فالصواب أنّه على اللغتين مصدرٌ بمعنى الاجتماع.

وممّا يؤيِّد ذلك أن لغة الحجازيين بضمتين، وبها نزل القرآن، والتسكين لغة تميم، ولم يُقرأ بها إلا في الشواذّ. وفي "شرح القاموس" تخليطٌ سأنبِّه عليه فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

[ص 4] ثم اختلف أهل القول الأول في الاجتماع الذي أُضِيف إليه هذا اليوم. فالجمهور من أهل اللغة وغيرهم: أنّه اجتماع الناس. قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"

(1)

: "وسُمّي يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه؛ هذا هو الأشهر في اللغة، وقيل

"؛ فذكر القول الثالث.

وفي "النهاية"

(2)

: "ويوم الجمعة سُمّي لاجتماع الناس فيه".

واختُلِف في المراد باجتماع الناس، فالجمهور أنّ المراد اجتماعهم للصلاة؛ نصَّ عليه جماعة، منهم ابن دريد في "الجمهرة"

(3)

، ولفظه:"والجمعة مشتقّة من اجتماع الناس فيها للصلاة".

(1)

(2/ 1/54).

(2)

(1/ 297).

(3)

(1/ 484).

ص: 322

وقال الراغب

(1)

: "وقولهم: "يوم الجمعة"، لاجتماع الناس فيه للصلاة". واختاره ابن حزم

(2)

كما سيأتي.

قال في "الفتح"

(3)

: "وقيل لأنّ كعب بن لؤي كان يجمع قومه فيه، فيذكِّرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم، ويُخبرهم بأنه سيُبعَث منه نبي، روى ذلك الزبير في "كتاب النسب" عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف مقطوعًا، وبه جزم الفرّاء وغيره.

وقيل: إنّ قُصَيًّا هو الذي كان يجمعهم؛ ذكره ثعلب في "أماليه"

(4)

.

وقيل: سُمِّي بذلك لاجتماع الناس للصلاة فيه؛ وبهذا جزم ابن حزم فقال

(5)

: إنّه اسمٌ إسلاميٌّ لم يكن في الجاهلية، وإنّما كان يُسمَّى العَرُوبة. انتهى.

وفيه نظر، فقد قال أهل اللغة: إنّ العَروبة اسمٌ قديم كان للجاهلية، وقالوا في الجمعة: هو يوم العروبة. والظاهر أنّهم غيّروا أسماء الأيام السبعة بعد أن كانت تُسمَّى: أوَّل، أَهْون، جُبار، دُبار، مُؤنِس، عَرُوبة، شِيَار

(6)

.

(1)

في "مفردات القرآن"(ص 202).

(2)

في "المحلى"(5/ 45).

(3)

(2/ 353).

(4)

لم أجده في المطبوع، وهو ناقص.

(5)

في "المحلَّى"(5/ 45).

(6)

قال بعض شعراء الجاهلية، ويقال: إنه النابغة:

أُؤمِّل أن أعيشَ وأنَّ يومي

لأوَّلَ أو لأهْونَ أو جُبَارِ

أو التاليْ دُبارِ فإن أَفُتْه

فمُؤنِسَ أو عَروبةَ أو شيارِ

انظر: "الصحاح"(هون) و"صبح الأعشى"(2/ 365). وهما بلا نسبة في "اللسان"(عرب، جبر، دبر، شير، أنس، وأل، هون) و"التذكرة الحمدونية"(7/ 361).

ص: 323

وقال الجوهري

(1)

: كانت العرب تُسمِّي يوم الاثنين "أهون" في أسمائهم القديمة. وهذا يُشعِر بأنّهم أحدثوا لها أسماء، وهي هذه المتعارفة الآن؛ كالسبت والأحد إلى آخرها.

وقيل: إنّ أوّل من سمّى الجمعة "العَروبة" كعب بن لُؤي، وبهذا جزم الفرّاء وغيره. فيحتاج من قال إنّهم غيَّروها إلَّا

(2)

الجمعة، فأبقَوه على تسمية العروبة، إلى نقلٍ خاص". "فتح الباري" (ج 2 ص 239)

(3)

.

أقول: قوله: "وقيل: إنّ أوّل من سمّى الجمعة "العَروبة" كعب بن لؤي، وبهذا جزم الفرّاء وغيره" مخالفٌ لما تقدّم عن الفرّاء، وكأنّ العبارة انقلبت، والصواب:"إنّ أوّل من سمّى العَروبةَ الجمعةَ"، وهكذا قال غيره.

والنظر الذي أطال في بيانه لا طائلَ تحته، فإنّه إن لم يثبت أنّ العرب قبل الإسلام تكلّمت بالأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة والسبت، فيمكن أن تكون هذه الأسماء كلها إسلامية. وإن ثبت أنّهم تكلَّموا ببعضها كالسبت، ولم يثبت في بعضها كالجمعة، فلا مانعَ من أن يكونوا غيّروا بعضًا وأبقَوا بعضًا؛ فأبقَوا العَروبةَ باسمها، حتّى غُيِّرت في الإسلام، وما الذي يوجب أن يكون التغيير كلُّه وقع في وقت واحد؟

وقول أهل اللغة: "الأسماء القديمة" يحتمل أن يكون المراد بالقِدَم ما

(1)

في "الصحاح"(6/ 2218).

(2)

في الأصل "إلى"، وهو خطأ. والتصويب من "الفتح".

(3)

(2/ 353) ط. السلفية. هنا انتهى النقل الطويل من "الفتح".

ص: 324

قبل الإسلام، أو أنّ بعضها قديمٌ غُيِّر في الجاهلية، وبعضها قديمٌ غُيِّر في الإسلام.

وهذا ابن مُقْبِل وهو مخضرم، أدرك الجاهلية وعاش إلى زمن عمر، وخاصم إليه يقول:

وإذا رأى الوُرَّادَ ظلَّ بأَسْقُفٍ

يومًا كيوم عَرُوبةَ المتطاولِ

(1)

كذا أنشده ياقوت في "معجم البلدان"(أسقُف)

(2)

، وهذا القُطامي، وهو شاعر إسلامي، يقول:

نفسي الفداءُ لأقوامٍ هُمُ خَلَطوا

يومَ العَروبةِ أورادًا بأورادِ

(3)

ونقل المرزوقي في "الأزمنة والأمكنة"

(4)

كلامًا عن الخليل، استشهد فيه بهذين البيتين. واستشهد بهما ابن دريد في "الجمهرة"

(5)

، وزاد قوله:

يُوائِم رَهْطًا للعَروبة صُيَّما

وفي هذا أوضحُ دليل على أنّ تسمية هذا اليوم يومَ العروبة لم تنقطع قبل الإسلام؛ كما انقطع أوّلُ وأهونُ وبقية الستة.

وإنّما يُردُّ قولُ ابن حزم وموافِقيه

(6)

ــ وهم الجمهور ــ لو ورد بنقلٍ

(1)

انظر "ديوانه"(ص 221). وفيه: "الرُّوَّاد".

(2)

(1/ 181).

(3)

"ديوانه"(ص 88).

(4)

(1/ 271).

(5)

(1/ 319، 320).

(6)

في الأصل: "وموافقوه".

ص: 325

صحيح أنّ العرب قبل الإسلام كانوا يقولون يوم الجمعة. ولا سبيل إلى إثبات هذا، ولا إلى إثبات أنّ كعبًا أو قُصَيًّا سمّياه الجمعة، ولا أنّهما كانا يجمعان الناس فيه؛ وإنّما يوجد نقلُ ذلك في أخبار القُصّاص التي لا تَصلُح للاعتماد.

فالاجتماع المحقَّق في هذا اليوم هو اجتماع الناس للصلاة، وإنّما وقع ذلك في الإسلام، ولم يتحقّق أنّه قيل "يوم الجمعة" إلا في الإسلام.

على أنّه لو ثبت أنّ كعبًا أو قُصيًّا كان يجمع الناس فيه لم يلزم من ذلك تسميتُه يوم الجمعة. وقد قال السُهيلي: "وكعب بن لُؤي هذا أوّل من جمع يومَ العروبة، ولم تُسَمَّ العَروبةُ الجمعةَ إلا مُذْ جاء الإسلام في قول بعضهم. وقيل: هو أول من سمّاها الجمعة". "الروض الأُنف"(ج 1 ص 6).

[ص 5] أقول

(1)

: قد بسطتُ الكلام على الحديثين وعلى تاريخ نزول سورة الجمعة في مبحثٍ مستقلّ

(2)

، أفردتُه لبيان المراد بقوله:{وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} ، وبيّنتُ فيه أنّ الذي يظهر أنّ معظم سورة الجمعة نزل قبل إسلام أبي هريرة بمدةٍ قد لا تبلغ سنةً فيما يظهر، والله أعلم.

وعلى هذا فالّذي يظهر أن يكون التسمية وقعت بالسنة، ثم أقرّها القرآن.

(1)

يبدو أنه تتمة لكلام لا يوجد هنا.

(2)

هو الكلام الذي سبق.

ص: 326

فصل

ما وجه التسمية

المشهور بين أهل العلم أنّه سُمّي يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه.

قال النووي في "تهذيب الأسماء واللغات"

(1)

: "سُمِّيَ يوم الجمعة لاجتماع الناس فيه، هذا هو الأشهر في اللغة".

وفي "النهاية"

(2)

: "يوم الجمعة سُمّي لاجتماع الناس فيه".

ثم اختلفوا؛ فقال قائل: إنّ أوّل ذلك اجتماع الناس في الجاهلية عند كعب بن لُؤيّ، أو ابنه قُصَيّ. وقد تقدّم ردُّ ذلك

(3)

.

وقال ابن سيرين على ما في "مسند عبد بن حميد"

(4)

: إنّه اجتماع الأنصار عند أسعد بن زُرارة، كما تقدّم.

وقد قدّمنا ترجيحَ أنه لم يُسمَّ يومَ الجمعة يومئذٍ، وإنّما سمّاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والظاهر أنّ ذلك بعد الهجرة، حين خصَّه بإبقاء الصلاة فيه ركعتين مع الخطبتين، وأوجب الاجتماع فيه.

(1)

(2/ 1/54).

(2)

(1/ 297).

(3)

انظره فيما سبق.

(4)

قال الحافظ في "الفتح"(2/ 353): "أخرجه عبد بن حميد عن ابن سيرين بسند صحيح إليه

". والمقصود به "تفسيره" لا "المسند". وانظر "الدر المنثور" (14/ 469، 470).

ص: 327

وبهذا يترجح أنّه اجتماع الناس للصلاة بعد فرض الاجتماع؛ وهو المشهور.

وممّن صرّح به ابن حزم كما في "فتح الباري"

(1)

، وابن دريد في "الجمهرة"

(2)

، وعبارته:"والجمعة مشتقة من اجتماع الناس فيها للصلاة".

وقال الراغب

(3)

: "وقولهم: يوم الجمعة، لاجتماع الناس للصلاة".

القول الثاني: أنّه سُمّي بذلك لأنّ كمال الخلائق جُمِع فيه، قال في "الفتح":"ذكره أبوحذيفة البخاري في "المبتدأ" عن ابن عباس، وإسناده ضعيف". "فتح الباري"(ج 2 ص 39)

(4)

.

أقول: ورواه ابن جرير في "تاريخه"

(5)

، قال: [حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدّي في خبرٍ ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن عبد الله بن مسعود، وعن ناسٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

وإنما سمي يوم الجمعة لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض].

(1)

(2/ 353). وانظر "المحلَّى"(5/ 45).

(2)

"جمهرة اللغة"(1/ 484).

(3)

في "مفردات القرآن"(ص 202).

(4)

(2/ 353) ط. السلفية. قال الذهبي في "السِّير"(9/ 478): "كتاب المبتدأ كتاب مشهور في مجلدتين، ينقل منه ابن جرير فمَن دونه، حدَّث فيه ببلايا وموضوعات".

(5)

(1/ 59)، وترك المؤلف فراغًا بعد "قال" عدة أسطر، وقد أثبتُّ النصَّ نقلًا عن المصدر، فإن الكلام الآتي مبني عليه. وذكر ابن جرير في تفسيره (20/ 393) إسناده إلى السدّي.

ص: 328

أقول: أمّا أبو صالح فقد اتفقوا على ضعف ما يرويه عن ابن عباس؛ لأنّه لم يَلْقَه، وإنّما أصاب كتبًا فروى منها، وقد بان بنكارة ما يرويه أنّ تلك الكتب جمعَها من لا يُوثَق به. وأمّا أبو صالح في نفسه فصدوق، وإنّما ضعَّفه بعض الحفاظ لنكارة ما رواه، والحمل في النكارة على تلك الكتب. فأمّا زعْمُ الكلبي أنّ أبا صالح قال له:"كلُّ ما حدَّثتُك كذب"

(1)

، فالكلبي تالف، وفيما يرويه عن أبي صالح عجائب، فكأنّه حاول أن يُلقِي التَّبِعةَ على أبي صالح.

وأمّا أبو مالك فثقة، ومُرَّة من سادات التابعين.

ولكن في السُّدِّي ومن دونه كلام، فالسّدي مختلف فيه، وقد حُكِي عن الإمام أحمد توثيقُه، وحُكي عنه أنّه قال:"إنه ليُحسِن الحديث، إلاّ أنّ هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسنادًا واستكلفه"

(2)

.

وفي "الإتقان" في طريق السُّدي عن أبي مالك عن مُرّة عن ابن مسعود وناس من الصحابة: "لم يورد منه ابن أبي حاتم شيئًا؛ لأنّه التزم أن يُخرِج أصحَّ ما ورد، والحاكم يُخرِج منه في "مستدركه" أشياء ويصحّحه

وقد قال ابن كثير: إنّ هذا الإسناد يروي به السُّدي أشياء فيها غرابة". "الإتقان" (ج 2 ص 188)

(3)

.

(1)

انظر "تهذيب التهذيب"(9/ 179، 180).

(2)

انظر "تهذيب التهذيب"(1/ 314).

(3)

"الإتقان"(6/ 2334، 2335) طبعة المدينة.

ص: 329

أقول: وفي "تهذيب التهذيب"

(1)

في ترجمة إسماعيل بن عبدالرحمن القرشي: "قد أخرج الطبري وابن أبي حاتم وغيرهما في تفاسيرهم تفسير السُدّي مفرَّقًا في السُّور".

أقول: يؤخذ من هذا أنّ ابن أبي حاتم إنّما تجنَّب رواية السُّدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس. [ص 6] وعن مرّة عن ابن مسعود وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا يشهد لقول ابن كثير. ومع ذلك فإن كان هذا التفسير نسخة ذكر السُّدي هذا الإسناد في أولها، ثم ساق التفسير. فالذي يظهر بل يكاد يتيقّن أنّه لم يُرِد أنّ كل جملة من جمل التفسير محكية عن هؤلاء كلهم، وإنّما أراد أنّ منها ما هو عن أبي مالك من قوله، ومنها ما هو عن أبي صالح.

أقول: أسباط مُضعَّف، والسُّدّي فيه كلام، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس، وإنّما وجد كتبًا فروى منها. وقد دلّ نكارةُ ما يرويه على أنّ تلك الكتب لم تكن معتمدة؛ بل زعم الكلبي أنّ أبا صالح قال له:"كلُّ ما حدَّثُتك كذب"، ولكن الكلبي تالف.

واعلم أنّ هذا السند بهذا السياق رُوِيتْ به نسخةٌ من التفسير؛ فرَّقَها ابن جرير في مواضعها، وذكرها السيوطي في "الإتقان"، قال: "لم يُورِد منه ابن أبي حاتم شيئًا

(2)

؛ لأنه التزم أن يُخرِج أصحَّ ما ورد، والحاكم يُخرِج منه في "مستدركه" أشياء ويُصحِّحه؛ لكن من طريق مرّة عن ابن مسعود وناس

(1)

(1/ 315).

(2)

بل أخرج منه أشياء كما يظهر بمراجعة تفسيره.

ص: 330

فقط دون الطريق الأول. وقد قال ابن كثير: "إنّ هذا الإسناد يروي به السُّدّي أشياء فيها غرابة". "الإتقان"(ج 2 ص 188).

أقول: وكأنّ هذه النسخة هي المرادة بما حكاه السّاجي عن الإمام أحمد أنّه قال في السُّدّي: "إنّه ليُحسِن الحديث؛ إلاّ أنّ هذا التفسير الذي يجيء به قد جعل له إسنادًا واستكلفه"

(1)

.

والّذي يقع لي أنّ هذه كانت نسخةً عند السُّدّي لم يكن فيها إسناد، فأخذها أسباطٌ، وسأله عن إسنادها، فقال:"عن أبي مالك، وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مُرَّة عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ". يريد السُّدّي أنّ في النسخة ما سمعه من أبي مالك من قوله، وفيها ما سمعه من أبي صالح عن ابن عباس، وفيها ما سمعه من مرّة عن ابن مسعود، وفيها ما بلغَ السديَّ عن بعض الصحابة.

وقد روى السُّدّي عن أنس وابن عباس قليلًا، فالغالب أنَّ ما قال: إنّه "عن ناسٍ من الصحابة" إنّما بلغه.

والذي يدلّ على هذا اتفاقُ لفظ الإسناد في السياق في جميع المواضع، كما في "تفسير ابن جرير"، ولو كان السُّدّي هو الذي يذكر السند في أول كل أثرٍ لاختلف سياقه حتمًا؛ كما تقضي به العادة.

ثم لا أدري أسباطٌ أم مَن بعده مزجَ هذه النسخة ببقية تفسير السُّدّي، مما يقوله هو أو يرويه ممّا ليس في النسخة؛ فعَمَدَ إلى هذا السند فأثبته في أوّل كل أثر من الآثار التي كانت في النسخة. فقد يكون الأثر في الأصل عن

(1)

انظر "تهذيب التهذيب"(1/ 314).

ص: 331

أبي مالك من قوله فقط، وقد يكون عن أبي صالح فقط، وقد يكون ممّا بلغ السُّدّيَّ عن بعض الصحابة، وقد يكون مما سمعه من مُرّة عن ابن مسعود. فمن هنا جاء الضعف والنكارة فيما يُروَى بهذا السند، إذ لا [ .... في] نكارة ما يقوله [أو يرويه] من كتبه أو ممّا بلغه، وما يرويه أبو صالح من كتبه، وما بلغَ السُّديَّ ولا ندري ممن سمعه. فالسدي بريءٌ من نكارة ذلك، وإنّما يضرُّه لو جاء منكر يرويه عن مرّة عن ابن مسعود، وهذا لم يثبت، لأنّنا لا ندري أنّ تلك الآثار هي في نفس الأمر عن مرّة عن ابن مسعود.

وإذا كان الأمر هكذا فقد أخطأ الحاكم خطأً فاحشًا، إذ يُخرِج بهذا السند، فيختصر السند، يقول: عن أسباط عن السُّدّي عن مرّة عن ابن مسعود.

[ص 7] فصل

[ ....... ]

(1)

يحذف المضاف، ويقام المضاف إليه مقامه؛ فيقال: الجمعة، فهكذا يقال: صلاة الجمعة.

وكثيرًا ما يُحذَف المضاف، ويُقام المضاف إليه مقامه، فيقال: الجمعة، وفي ذلك احتمالات:

الأول: أن يكون الأصل الأول، ثم أُضيفتْ إليه الصلاة، على تقدير صلاة يوم الجمعة.

الثاني: عكسه، بأن يكون الأصل الثاني، ثم أضيف إليها اليوم، على تقدير صلاة يوم الجمعة.

(1)

هنا خرم في الركن الأيمن من الصفحة ذهب ببعض الكلمات.

ص: 332

الثالث

(1)

: أن يكون كلاهما أصلًا.

فقد يقال في الترجيح: إنّ الثالث مرجوح؛ لأنّ فيه ضربًا من الاشتراك، وقد تقرّر في الأصول أنّ المجاز والإضمار أولى منه؛ فيبقى النظر بين الأولَينِ، فيُرجَّح الأوّل بوروده في القرآن، والأصل عدم الإضمار. وبما تقدّم من احتمالِ أن لُوحِظ في التسمية مع اجتماع الناس للصلاة اجتماعُ كمال الخلائق، واجتماعُ خلق آدم، ويبعد ملاحظتهما في تسمية الصلاة بصلاة الجمعة ابتداءً، وإذا بَعُد فيه بَعُد في يوم الجمعة، على تقدير يوم صلاة الجمعة.

ويُرجَّح الثاني بأنّ الصلاة معنىً شرعي، والمعهود من الشارع تسمية المعاني الشرعية؛ فهي الأولى بأن يكون التفتَ إليها أولًا فسمّاها، ثم أضاف اليوم إليها. وبأنّ لفظ "الجمعة" إذا ورد في الشرع مطلقًا تبادر إلى ذهن العارف به الصلاة.

فقد يقال: إذا تعارض الترجيح وجب المصير إلى الاحتمال الثالث؛ وقد نصّ عليه المُطرِّزي في "المُغْرِب"؛ كما تقدّم من قوله: "الجمعة من الاجتماع كالفُرقة من الافتراق، أُضيفَ إليها اليوم والصلاة".

ويُجاب عن الاشتراك بأنّه ليس اشتراكًا حقيقيًّا؛ لأنّه لم يتَّحد الاسم، وإنّما الأصل يوم الجمعة وصلاة الجمعة.

وفي هذا نظر؛ لأنّ المضاف إليه واحد، ومعناه مختلف؛ لأنّ ملاحظة اجتماعِ كمالِ الخلائق واجتماعِ خَلْقِ آدم إنّما يَقرُب احتمالُه في "يوم الجمعة" إذا لم تُضمَر فيه "صلاة"، ويبعُد في "صلاة الجمعة" إذا لم تُضمَر

(1)

في الأصل: "الثاني" سهوًا.

ص: 333

فيه "يوم".

نعم، قد يقال: لا مفرَّ من هذا الاشتراك جمعًا بين الأدلة والأقوال، فعلى كلّ حالٍ الأقربُ أنّ كلًّا منهما أصلٌ لما ذكر، أو أنّ الأصلَ "صلاة الجمعة"؛ لقوة دلالة التبادر.

وعلى كلٍّ فقد دلّت هذه التسمية في الكتاب والسنة على أنّ هذه الصلاة من شأنها الاجتماع.

ص: 334

الرسالة العاشرة

سنة الجمعة القبلية

ص: 335

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وصلاته وسلامه على خير خلقه محمدٍ وآله وصحبه.

وبعد، فقد سألني بعضُ الإخوان: هل للجمعة سُنَّة قبليَّة؟

فأجبته: أنَّ المقرَّر في المذهب

(1)

أنّها كالظهر في ذلك.

فسألني النظرَ في ثبوت ذلك وعدمِه من حيث الدليل.

فأقول: الكلامُ في هذه المسألة يَستدعي تقديم البحث عن شيئين:

الأول: التنفُّل يوم الجمعة قبل الزوال.

والثاني: تحقيق وقت الجمعة.

فأما الأول: فقد ثبت في «صحيح البخاري»

(2)

عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يغتسلُ رجلٌ يومَ الجمعة ويتطهَّرُ ما استطاع من طهرٍ ويدَّهنُ من دهنه أو يمسُّ من طيبِ بيته، ثم يخرج فلا يفرِّق بين اثنين، ثم يصلِّي ما كُتِب له، ثم يُنصِت إذا تكلّم الإمام، إلا غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى» .

وفي «صحيح مسلم»

(3)

عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من اغتسلَ ثم أتى الجمعةَ، فصلّى ما قُدِّر له، ثم أنصتَ حتى يفرغ من خطبته، ثم يصلِّي معه، غُفِر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضْلَ ثلاثة أيام» .

(1)

أي: الشافعي، وكان الشيخ قد كتب:«عند أصحابنا الشافعية» ، ثم ضرب عليها.

(2)

رقم (883).

(3)

رقم (857).

ص: 337

فدلَّ هذان الحديثان على فضيلة التنفُّل يوم الجمعة قبل الزوال، ودخل في إطلاقها حالُ الاستواء يوم الجمعة، ولكنه معارض بعموم أحاديث النهي.

وقد يُرجَّحُ الجواز بحديثين ضعيفين، روى أحدَهما الشافعيُّ

(1)

عن أبي هريرة، ولفظه:«أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن الصلاةِ نصفَ النهار حتى تزول الشمسُ إلا يومَ الجمعة» .

وأخرجَ الآخرَ أبو داود

(2)

بإسناده إلى أبي الخليل عن أبي قتادة عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنّه كَرِه الصلاةَ نصفَ النّهار إلَّا يومَ الجمعة، وقال:«إنَّ جهنّم تُسْجَرُ إلا يومَ الجمعة» .

قال أبو داود: وهو مرسل، مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة.

وفي إسناده: ليث بن أبي سليم، ضعيفٌ لا يُحتجُّ به.

[ص 2] وأنت خبيرٌ أنَّ كِلا الحديثين لا يُحتجُّ به.

وقد ذكر الإمام الشافعيُّ كما في «الأم» الحديثَ المذكور، ثم أعقبَه بآثارٍ عن عمل الصحابة في زمن عمر رضي الله عنه، ثم قال

(3)

: «فإذا رَاحَ النَّاسُ للجمعة صَلَّوا حتى يصير الإمام على المنبر، فإذا صَارَ على المنبرِ كفَّ

(1)

في كتاب «الأم» (2/ 397). وفي إسناده إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، وقد اتفقوا على ضعفه. وشيخ الشافعي إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى متروك.

(2)

رقم (1083).

(3)

(2/ 398).

ص: 338

منهم مَنْ كان صلَّى ركعتين فأكثر، تكلَّم حتى يأخذ في الخطبة، فإذا أخذ فيها أنصتَ، استدلالًا بما حكيتُ، ولا يُنهى عن الصلاة نصفَ النهار مَن حضر الجمعة» اهـ.

والظاهر أنَّ الإمام اعتبر ما دلّت عليه الآثار إجماعًا، وذكر الحديث المذكور استئناسًا؛ إذ لعلَّه إن كان إسناده ضعيفًا يكون صحيحًا في نفس الأمر، ويكون هو مستند الإجماع.

وأمَّا الإمام مالك فإنَّ عمل أهل المدينة حُجَّةٌ عنده.

وإذا تقرَّر ما ذُكِرَ عرفتَ أنَّ التنفُّل يوم الجمعة قبل الاستواء مُرغَّب فيه، وكذا عنده؛ لأنَّ فِعْلَ الصَّحابة ــ الذي رواه الشافعي وغيره ــ لا أقلَّ من أن يكون مرجِّحًا لإطلاق الحديثين السابقَيْن وغيرهما، مع ما انضمَّ إلى ذلك مما مرَّ.

والصلاة في ذلك نفْلٌ مطلق قطعًا؛ لكونها واقعةً قبل دخول وقت الجمعة على ما عليه الجمهور.

[ص 3] الأمر الثاني: تحقيق وقت الجمعة.

ذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه إلى أنَّ وقت الجمعة يدخل قبل الزوال، واسْتُدِلَّ لهما بحديث «الصحيحين»

(1)

عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: «ما كنَّا نَقِيلُ ولا نتغدَّى إلا بعد الجمعة» ، هذا لفظ مسلم

(2)

.

(1)

البخاري (939) ومسلم (859).

(2)

وهو لفظ البخاري أيضًا.

ص: 339

وفي رواية

(1)

: «في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» .

وفي «الصحيحين»

(2)

أيضًا عن سلمة بن الأكوع قال: «كنا نصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظِلٌّ يُستَظَلُّ به» ، هذا لفظ البخاري.

وفي لفظٍ لمسلم: «كُنَّا نُجَمِّعُ معه إذا زالت الشمس، ثم نرجعُ نتتبَّعُ الفَيء» .

وفي «صحيح مسلم»

(3)

عن جابر: «كُنَّا نصلِّي مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم نرجع فنُريحُ نَواضِحَنا» . قال حسن ــ يعني أحد الرواة ــ: قلت لجعفرٍ ــ يعني شيخَ حسنٍ ــ: في أيِّ ساعةٍ تلك؟ قال: زوالَ الشمسِ. انتهى.

ثم قال

(4)

: وحدثني القاسم بن زكريا، نا خالد بن مخلد، ح وثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي نا يحيى بن حسّان، قالا جميعًا: نا سليمان عن جعفر عن أبيه: أنه سأل جابر بن عبد الله: متى كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يُصلِّي الجمعة؟ قال: «كان يُصلِّي، ثم نذهب إلى جِمَالنا فنُرِيحها» . زاد عبد الله في حديثه: «حين تزول الشمس» . يعني: النواضحَ.

وقد وردت آثار عن عمل الخلفاء الأربعة ومعاوية وابن مسعود وجابر وسعيد بن زيد وسعد بن أبي وقاص، لا يصحّ منها شيءٌ فلا نُطيل بذكرها.

(1)

لمسلم.

(2)

البخاري (4168) ومسلم (860).

(3)

رقم (858).

(4)

أي مسلم (858/ 29).

ص: 340

وأما الأحاديث المارَّة، فكُلُّها لا تخلو عن نظر.

أما حديث سهل: «ما كنا نَقِيل ولا نتغدّى إلا بعد الجمعة» ، فالجواب عنه: أنَّهم كانوا يُبكِّرون إلى الجامع؛ امتثالًا للأمر، وطلبًا لعِظَم الأجر، فكانوا يشتغلون عن القيلولة والغداء بالمُكْثِ في المسجد والصلاة، فإذا خرجوا ناموا وتغدَّوا.

وأطْلَق «نَقِيل» على النوم بعد الظهر؛ لأنه عِوَض عن القيلولة التي هي نوم نصف النهار.

[ص 4] وأما حديث سلمة؛ فقد فسَّرتْه رواية مسلم: «كنا نُجمِّع معه إذا زالت الشمس» ، ومع ذلك فالنفي منصبٌّ على القيد، أي: ليس هناك من الظلِّ ما يُستظلُّ به، كما تدل عليه الرواية الأخرى «نتتبَّعُ الفيءَ» .

فإن قيل: فقد كان النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يُطيل الخطبة، كما يدلُّ عليه حديث مسلم

(1)

عن أم هشام قالت: ما حفظتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلَّا من فِي رسولِ الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقرؤها على المنبر كلَّ جمعة.

ويُطيل الصلاة، فيصلِّيها بالجمعة والمنافقين، كما في «صحيح مسلم»

(2)

عن علي وابن عباس وأبي هريرة.

وهذا يدلّ أنه كان يشرع في الخطبة قبل الزوال، إذ لو كان بعده لما فرغ إلا وقد صار للحيطان ظلٌّ يُستظَلُّ به، وقد نفاه سلمة في حديثه الثابت في «الصحيحين» .

(1)

رقم (873).

(2)

رقم (877، 879).

ص: 341

وأما رواية مسلم: «كنا نُجمِّع معه إذا زالت الشمس، ثم نرجع نتتبَّعُ الفيء» ، فذلك في بعض الحالات، فإن قوله:«نتتبَّعُ الفيء» يدلُّ على أنّه قد صار للحيطان ظلٌّ يُستَظلُّ به.

فالجواب: أن هذا تَمحُّلٌ، والظاهر أن أحاديث سلمة متفقة غير مفترقة، وقد كانت حيطان بيوت الصحابة قصيرةً جدًّا، فلا يبعد أن لا يكون لها ظلٌّ يُستظلُّ به إذا وقعت الخطبة والصلاة عقبَ الزوال على الفور، ودلالة رواية مسلم على ذلك ظاهرة.

وأما حديث سهل؛ فالظاهر أن قوله: «حين تزول الشمس» في رواية عبد الله مدرج من قول جعفر، بدليل أنه في رواية حسن روى له الحديث بدونها، فسأله حسن: أي ساعة تلك؟ ــ أي: ساعة وقوع الصلاة فيما يظهر ــ قال: زوال الشمس.

وفي رواية القاسم بن زكريّا خاليًا عنها.

وفي رواية عبد الله ذكرها.

وعلى فرضِ صحتها عن جابر فيكون الظرف متعلقًا بـ «يُصلِّي» وإن بعُد، والله أعلم.

وذلك أنه ثبت في «صحيح البخاري»

(1)

وغيره عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصلِّي الجمعة حين تميل الشمس» . و (كان) تُشعِر بالدوام.

نعم، الأحاديث متضافرة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يَخرج أولَ ما تميلُ

(1)

رقم (904).

ص: 342

الشمسُ، وهذا شيءٌ متعيِّن. [ص 5] ومما هو صريحٌ فيه

(1)

: أن أذان الجمعة كان في عهده صلى الله عليه وآله وسلم عقبَ خروجه وسلامه على الناس وجلوسه على المنبر. فلو كان يكون خروجه صلى الله عليه وآله وسلم متأخِّرًا عن دخول الوقت لشَرع ــ والله أعلم ــ الأذان حينئذٍ كسائر الصلوات.

وأمَّا حديث البخاري

(2)

عن أنسٍ: كان النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا اشتدَّ البردُ بكَّر بالصلاة، وإذا اشتدَّ الحرُّ أبردَ بالصلاة، يعني: الجمعة.

فقوله: «يعني الجمعة» لا يُدْرَى مِن قَولِ مَن هي؟ ولهذا قال ابن المنيِّر ــ كما نقله عنه الشُّرَّاح

(3)

ــ: إنَّما قيل ذلك قياسًا على الظهر لا بالنَّصِّ؛ لأنَّ أكثر الأحاديث تدلُّ على التفرقة في الظُّهر، وعلى التبكير في الجمعة مطلقًا من غير تفصيل.

قال

(4)

: والذي نحَا إليه المؤلِّف مشروعيَّة الإبراد بالجمعة، ولم يَبُتَّ الحكم بذلك؛ لأنَّ قوله:«يعني: الجمعة» يحتمل أن يكون قول التابعيِّ ممَّا فهمه، وأن يكون من نقله، فرجح عنده إلحاقها بالظُّهر؛ لأنَّها إمَّا ظهرٌ وزيادة، أو بدلٌّ عن الظُّهر. اهـ.

قلتُ: أمَّا قوله: «يعني الجمعة» ، فهو من لفظ التابعيِّ، كما يدلُّ عليه قول البخاري

(5)

بعد ذلك: قال يونس بن بُكَير: أخبرنا أبو خَلْدة، وقال:

(1)

هذه العبارة تكررت عند المؤلف.

(2)

رقم (906).

(3)

انظر «فتح الباري» (2/ 389).

(4)

المصدر نفسه.

(5)

عقب الحديث (906).

ص: 343

«بالصَّلاة» ، ولم يذكر الجمعة.

وأبو خلدة هو التابعيُّ الرَّاوي عن أنس.

نعم، قال القسطلَّاني

(1)

: أخرجه الإسماعيلي من وجهٍ آخر عن يونس، وزاد:«يعني الظُّهر» .

وأقول: لا يخفى أنَّ التبكير إلى المسجد يوم الجمعة مشروعٌ مطلقًا، فيكون الاجتماع في المسجد قبل الزَّوال، فلم يُشرع الإبراد؛ لأنَّ الإبراد إنَّما شُرِعَ ــ كما قال العلماء ــ تخفيفًا على المُصَلِّين، حتى لا يخرجوا من بيوتهم إلَّا وقد بَرَدَ النَّهار.

وقد يُجابُ عن هذا بجوابين:

الأول: أنَّه لا مانعَ أن يكون التبكير في شِدَّة الحرِّ خِلافَ التبكير في غيره.

والثاني: بمنع كون العِلَّة هي كراهة المشقَّة؛ بل العِلَّة هي كون جهنَّم تفوح حينئذٍ. وحديث «الصحيحين»

(2)

: «إذا اشتدَّ الحَرُّ فأَبرِدُوا، فإنَّ شِدَّة الحرِّ من فَيْحِ جهنَّم» نصٌّ على هذه العِلَّة.

وهي نفسُها العلَّة في النهي عن الصَّلاة عند الاستواء، ففي حديث عمرو بن عَبَسَة: «ثمَّ صَلِّ فإنَّ الصَّلاة مشهودةٌ محضورةٌ، حتى يَستقِلَّ الظلُّ بالرُّمح، [ص 6] ثم أَقْصِرْ عن الصَّلاة فإنَّ حينئذٍ تُسْجَرُ جهنَّم

» الحديث، وهو في «صحيح مسلم»

(3)

.

(1)

«إرشاد الساري» (2/ 174)، وقد ذكره الحافظ في «الفتح» (2/ 389).

(2)

أخرجه البخاري (533) ومسلم (615) من حديث أبي هريرة.

(3)

رقم (832).

ص: 344

والأحاديث تدلُّ على أنَّ جهنَّم تُسْجَر عند الاستواء

(1)

، وتتنفَّس في الصَّيف

(2)

، أي: ما بعد ذلك حتى يُقبِل الفيءُ.

وإذا تقرَّر ذلك فحضورُ المُصَلِّين في المسجد لا يمنع من الإبْراد.

وقد يُجاب عن هذا بالحديث الذي رواه أبو داود

(3)

، وفيه:«إنَّ جهنَّم تُسجَرُ إلَّا يوم الجمعة» ؛ [ص 7] وكأنَّ الفرق ــ والله أعلم ــ أنَّ السَّجرَ أي: الإيقاد من فعل الملائكة عن أمر الله تعالى، فهو ظاهرٌ في تجلّي العَذَاب، بخِلاف التنفُّس فإنَّه من جِهة النَّار، فكان عدم السَّجر في يوم الجُمعة أنسب من عدم التنفُّس.

ويؤيِّده قيام الدَّليل على عدم كراهية الصَّلاة يوم الجمعة عند الاستواء. وهو يدلُّ على انتفاء العِلَّة أو معارضتها بأقوى منها، كعِظَم تجلِّي الرَّحمة يوم الجمعة على المجمِّعين.

والجواب: أنَّنا نُسلِّمُ عدمَ السَّجْر يوم الجمعة لما ذكرتم، وأمَّا التنفُّس فالظَّاهر أنَّها تتنفَّس يوم الجمعة كتنفُّسها في سائر الأيام، لأن في حديث «الصحيحين»:«فإنَّ شِدَّة الحَرِّ من فَيحِ جهنَّم» الحديث.

ومن المحسوس أنَّ الحَرَّ في يوم الجمعة لا يَخِفُّ عن الأيَّام التي قبله وبعده، بل هو موجودٌ فيه كما فيها، وهو من فَيْحِ جهنَّم بالنَّصِّ.

(1)

كما في حديث عمرو بن عبسة المذكور، وفي حديث أبي هريرة الذي أخرجه ابن ماجه (1252). قال البوصيري: إسناده حسن.

(2)

كما في حديث أبي هريرة الذي أخرجه الترمذي (2592) وصححه.

(3)

رقم (1083). قال أبو داود: هو مرسل؛ مجاهد أكبر من أبي الخليل، وأبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة.

ص: 345

فإن قيل: فإن مشروعيَّة التنفُّل حينئذٍ تُنافي وجود فيحِ جهنَّم في ذلك الوقت في يوم الجمعة، وكونُه هو العِلَّة في الأمر بالإبراد، ولاسيَّما عند مَن حمل الأمر بالإبراد على ظاهره من الوجوب.

فالجواب: أنَّنا نختار مذهب الجمهور أنَّ الأمر بالإبراد إنَّما هو للنَّدب؛ لما هو مقرَّرٌ في محلِّه. والفرق بينَه وبين السَّجْر ما تقدَّم، فتكون مخالفته خلافَ الأولى فقط.

ثم نقول: إنَّ العِلَّة التي هي تنفُّس جهنَّم حينئذٍ عارضها يوم الجمعه ما هو أقوى منها، وهو عِظَم تجلِّي الرَّحمة. فانتفت خلافيَّة الأولى، وثبَت الندب بدليله المتقدِّم.

فإن قلت: فقد ثبت بهذا مقصودنا من عدم مشروعيَّة الإبراد بالجُمعة.

فالجواب: أنَّنا نقول: إنَّ إبراده صلى الله عليه وآله وسلم بالجمعة لم يكن لهذه العِلَّة، وإنَّما هو لعِلَّة أخرى؛ وهي: كراهيةُ أن يشقَّ على أصحابه؛ باجتماعهم، وتزاحمهم، وتضايقهم في ذلك العريش في وقت شِدَّة الحَرِّ.

فإنْ قلْتَ: فإنَّ مشروعيَّة التبكير يوم الجمعة تنافي ذلك.

فالجواب: ما مرَّ من أنَّ التبكير يختلف باختلاف الأوقات، ففي وقت البرد يكون آخر الساعات حين الاستواء، وفي أوقات الحرِّ يكون آخر السَّاعات حين إقبال الفيءِ.

سلَّمنا أنَّ التبكير لا يختلف، بل هو على القسم الأوَّل مطلقًا؛ ولكنَّا نقول: فههنا عِلَّةٌ أخرى، وهي حرصُه صلى الله عليه وآله وسلم على أنْ يَعِيَ أصحابُه موعظتَه، ويكون خشوعهم في الفريضة على أتمِّ الأحوال. وهذا ممَّا يمنع عنه اشتدادُ الحرِّ، فلذلك أبرد.

ص: 346

إذا تأمَّلتَ ما ذُكِرَ علمتَ أنَّ الظَّاهِرَ [ص 8] أنَّ الإبراد بالجمعة سُنَّة، وأنَّه لا يُنافي ندبَ التنفُّل قبلها إلى أن يخرج الإمام، وحينئذٍ فيكون تأخير الأذان مع الإبراد بالجمعة إلى خروج الإمام كتأخيره في الظُهر إلى البرد، فقد ثبت الأمرُ بذلك في «الصحيحين»

(1)

عن أبي ذرّ قال: «أذن مؤذّن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر، فقال: أبرِدْ أبرِدْ، أو قال: انتظِرْ انتظِرْ

» الحديث.

فالسُنَّة في الظهر أن يؤذَّن لها إذا أُريد حضورُ المُصَلِّين، وهو يختلف باختلاف الحر والبرد. والسُنَّة في الجُمعة أن يؤذَّن لها إذا خرج الخطيب، وهو يختلف باختلاف الحر والبرد أيضًا.

إذا تقرَّر ما ذُكِر فاعلم أنَّ تأخير أذان الجُمعة إلى خروج الخطيب دليلٌ ظاهرٌ على أنَّه ليس للجُمعة سُنَّة قبلية؛ لأنَّ صلاتها بعد خروج الخطيب ممنوع.

فلو كانت ثابتةً لسُنَّ الأذان قبل خروج الخطيب حتى يتمكَّن النّاس من فعلها بعد الأذان؛ عملًا بحديث «الصحيحين»

(2)

وغيرهما عن عبدالله بن مغفَّل المُزَني رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «بين كلِّ أذانينِ صلاة، ثلاثًا، لمن شاء» .

وقد حمل الأئمة هذه الصلاة على الرَّواتب القبليَّة. وعليه، فيكون وقتها ــ أي الرَّواتب القبليَّة ــ بين الأذان والإقامة، فلو قُدِّمَت لم تقع الموقع.

فتأمَّل هذا تَجِدْهُ ظاهرًا في نفي أنْ تكون للجُمعة سُنَّة قبلِيَّةٌ.

(1)

البخاري (535) ومسلم (616).

(2)

البخاري (624) ومسلم (838).

ص: 347

ويؤيِّدُه حديث البخاري

(1)

عن ابن عمر رضي الله عنهما، من رواية مالكٍ عن نافعٍ عنه، قال:«صَلَّيتُ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كان يصلِّي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلِّي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلِّي ركعتين» .

وهذا في «صحيح مسلم»

(2)

مختصرًا.

وأخرجاه

(3)

في التطوُّع، من رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، بلفظ:«سجدتين، سجدتين» .

[ص 9] وإفراده للجمعة ههنا يردُّ على من زعم أنَّ حكمها حكم الظُّهر، وذكرُه الرَّكعتين بعدها فقط يدلُّ على أنَّه لا قبليَّة لها.

ومن الباطل جواب ابن بطَّال

(4)

عن هذا بأنَّ ابن عمر إنَّما أعاد ذكر الجمعة بعد ذكر الظُّهر من أجل أنَّه كان صلى الله عليه وآله وسلم يصلِّي سُنَّة الجمعة في بيته بخِلافِ الظُّهر. فَمِن أين له أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي قبلية الظهر أبدًا في بيته وبعدِيَّتَّها في المسجد أبدًا، حتى تَثبت مخالفتُها للجمعة في الثانية وموافقتها لها في الأولى، فيقال: ذَكَر ابنُ عمر ما خالفت فيه الجمعةُ الظهرَ وما وافقتها فيه؟

على أنَّ قضيَّة جوابه أنَّ الجمعة تسمَّى ظهرًا، وهذا واضحُ البطلان.

(1)

رقم (937).

(2)

رقم (882/ 71).

(3)

البخاري (1172) ومسلم (729).

(4)

في شرحه على «صحيح البخاري» (2/ 526).

ص: 348

فتبيَّن أنَّ حديث ابن عمر يردُّ على مَن زعم أنَّ حُكْم الجمعة حُكْم الظُّهر، ويدلُّ على أنَّه لا قبليَّة للجمعة، فتأمَّل.

وممَّا يؤيِّد ذلك: ورود الأمر بالصلاة بعد الجُمعة، وهو حديث أبي هريرة ــ عند مسلم

(1)

ــ قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذَّا صلَّى أحدكم الجُمعةَ فليُصَلِّ بعدها أربعًا» ، وفي رواية:«فإن عَجِلَ بك شيءٌ فصلِّ ركعتين في المسجد وركعتين إذا رجعت» .

فقد فُهِم من هذا الحديث نفيُ قبليَّة الجُمعة، إذ لو كانت لذُكِرَتْ، وليس هذا عمدتنا في ذلك.

وظاهر من هذا الحديث أن هذه الأربع مؤكدة، بل ظاهره كما قال بعضُهم الوجوب، لولا أن في الرواية الأُخرى

(2)

: «من كان منكم مصلّيًا بعد الجمعة فليصلِّ أربعًا» .

وهذا بخلاف بعديَّة الظهر، فإنَّ المؤكَّد منها ركعتان فقط. ولا ينافي تَأَكُّدَ الأربعِ حديثُ ابن عمر السابق في اقتصاره صلى الله عليه وآله وسلم على ركعتين؛ إذ قد يُقال: إنَّ الأربع تتأكَّد في حق المأمومين كما يقتضيه الأمر، ولا تتأكَّد في حق الإمام، لأنَّه قد حصل له مزيد الأجر بنصبه في الخطبة بخلافهم.

وليس لقبليتها حديث صحيح، بل الأحاديث تُفيد عكسَ ذلك كما مرَّ. وبهذه الدلائل يُخصَّص عموم حديث ابن حبان

(3)

: «ما من صلاةٍ مفروضةٍ إلَّا وبين يديها ركعتانِ» ، كما سيأتي إن شاء الله.

(1)

رقم (881).

(2)

«صحيح مسلم» (881/ 69).

(3)

في «صحيحه» (2455، 2488) من حديث عبد الله بن الزبير. وإسناده قوي.

ص: 349

[ص 10] وقد استدلَّ من يقول بأن لها سُنَّة قبليَّة بأمور:

أحدها: القياس على الظهر. وهو ــ وإن ذكره النووي ــ بعيد، كما ذكره العراقي

(1)

وغيره. وما قيل: إنَّ البخاري أَوْمَأَ إليه بقوله في ترجمته: «باب الصلاة بعد الجُمعة وقبلها» فيه نظر. بل قد يُدَّعَى العكس؛ لأنَّ الحديث الذي أَوْردَه يدلُّ على أنَّه ليس للجُمعة سُنَّة قبليَّة، ويدل على أنَّها مخالِفة للظهر، وهو حديث ابن عمر الذي مرَّ قريبًا.

ومن تراجم البخاري: «باب الصلاة قبل العيد وبعده»

(2)

. ومراده أنها غير مشروعة، كما تدل عليه الأحاديث التي أوردها. فيكون مراده هنا أن الصلاة بعد الجُمعة مشروعة وقبلها غير مشروعة، فقدَّم المثبَت وأخّر المنفيَّ. والمراد بالصلاة قبل الجُمعة أي: الراتبة، فأما النفل المطلق فهو مشروع قطعًا كما مر.

ومع ذلك فالقياس إنما يُعمَل به في إثبات الأحكام لا في إثبات عبادة مستقلّة.

وقد أجاب بعضُ العلماء أن القول بالقياس هنا إنما هو بناءً على أن الجُمعة ظهرٌ مقصورة.

وهذا باطل، والصحيح أن الجمعة صلاة مستقلّة.

وزعم بعضهم أن الجمعة هي الظهر، وإنما أُقيمت الخطبتان مقام

(1)

انظر: «طرح التثريب» (3/ 41).

(2)

«الصحيح مع الفتح» (2/ 476).

ص: 350

ركعتين، وكأنَّ هذا القائل غرَّه اتفاق العدد بين الركعتين والخطبتين، ولا أدري ماذا يقول في خُطبتي العيدين والكسوفين والاستسقاء عِوَض عن ماذا؟

والاستدلال بنحو هذا محض التكلُّف والتمحُّل الذي لا حاجةَ بطالب الحق إليه، والله أعلم.

واستدلُّوا بحديث «الصحيحين» المتقدم: «بين كل أذانينِ صلاة» . وهذا غفلة، فإنّ الأذانين في الحديث إنما أُريد بهما الأذان المشروع والإقامة اتفاقًا، والأذان المشروع في الجمعة هو الذي عند خروج الإمام، والصلاةُ بينه وبين الإقامة حرام إجماعًا، إلا ما سيأتي في ركعتي التحيَّة. ولو كان المراد أي أذانين كان؛ لكان الأحرى بذلك أذانا الصبح، ولم يقل أحد بأنه يُسَنُّ بينهما صلاة.

أما سُنَّة الصبح فليست بينهما، وإنما هي بعدهما بين الأذان والإقامة.

[ص 11] واستدلُّوا بأحاديث أُخرى ذكرها الحافظ في «الفتح» مع أجوبتها، وهذه عبارته

(1)

: وورد في سُنَّة الجمعة التي قبلها أحاديث أخرى ضعيفة.

منها: عن أبي هريرة، رواه البزار

(2)

بلفظ: «كان يصلي قبل الجمعة ركعتين وبعدها أربعًا» . وفي إسناده ضعف.

(1)

«فتح الباري» (2/ 426).

(2)

أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 365) من طريقه، وفيه: «

وبعدها ركعتين».

ص: 351

وعن علي، رواه الأثرم والطبراني في «الأوسط»

(1)

بلفظ: «كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا» ، وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي، وهو ضعيف عند البخاري وغيره، وقال الأثرم: إنه حديث واهٍ.

ومنها: عن ابن عباس مثله، وزاد:«لا يفصل في شيءٍ منهنّ» ، أخرجه ابن ماجه

(2)

بسند واهٍ.

قال النووي في «الخلاصة»

(3)

: «إنّه حديث باطل» .

وعن ابن مسعود عند الطبراني

(4)

أيضًا مثله، وفي إسناده ضعف وانقطاع.

ورواه عبد الرزاق

(5)

عن ابن مسعود موقوفًا، وهو الصواب.

وروى ابن سعد

(6)

عن صفيّة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم موقوفًا نحو حديث أبي هريرة. إلخ.

قلت: والموقوف عن ابن مسعود ذكره الترمذي

(7)

بقوله: ورُوي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يصلي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا.

(1)

(2/ 172).

(2)

رقم (1129). قال البوصيري في «الزوائد» : إسناده مسلسل بالضعفاء، عطية متفق على ضعفه، وحجاج مدلس، ومبشر بن عبيد كذاب، وبقية هو ابن الوليد مدلّس.

(3)

(2/ 813).

(4)

في «الأوسط» (4/ 196).

(5)

في «المصنّف» (3/ 247).

(6)

في «الطبقات» (8/ 491).

(7)

في «الجامع» عقب الحديث رقم (523).

ص: 352

وقد استدلُّوا به على وقفه، قالوا: لأن الظاهر أنه توقيف.

والجواب: أنه إن صحَّ فلا حُجَّة فيه، وقولهم: إن الظاهر أنه توقيف ممنوع، بل الظاهر أن المراد بذلك النفل المطلق الذي يصلِّيه الإنسان ما بين دخوله الجامع وخروج الإمام؛ كما مَرَّ بيانُه، بل هذا هو المتعين، لما مرّ أن السُنَّة في خروج الإمام أول الوقت وقبلَ الأذان، وأنَّ ذلك صريح في نفي مشروعية سنةٍ قَبْليّة للجمعة، والله أعلم.

واستدلُّوا بما قاله العراقي في «شرح سنن الترمذي» ؛ بعد ذكر حديث ابن ماجه المتقدم في عبارة «الفتح» قال: «وقد وقع لنا بإسنادٍ جيد من طريق القاضي أبي الحسن الخلعي من رواية ابن إسحاق عن عاصم بن عثمان عن علي» .

كذا وجدت نقل عبارته، ولتراجع

(1)

.

والجواب: أنَّ ابن إسحاق مختلفٌ فيه، وهو بَعْدُ مُدَلِّس، وقد عَنْعَنَ، ولم أقف على الإسناد بطوله حتى أعرفَ حاله، وفيما ذكرتُ كفاية.

وهَبْ أنَّه صحَّ فالمراد النَّفْل المطلق؛ لما مرَّ، والله أعلم.

واستدلُّوا بأحاديث: «أربع بعد الزوال» .

والجواب: أنَّ في بعضها التقييد بقبل الظهر، والمطلقُ يُحمَل على المقيَّد. وعلى فَرْضِ عدم الحمل فيكون عامًّا مخصوصًا بالجمعة؛ لما مرَّ أن السُنَّة خروج الإمام عقب الزوال، وبخروجه تمتنع الصلاة إلَّا ركعتي التحية، والله أعلم.

(1)

في «طرح التثريب» (3/ 42): «من طريق أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي» . وهو الصواب، و «ابن إسحاق» و «عثمان» تحريف.

ص: 353

واستدلَّ بعضهم بحديث أبي داود والترمذي

(1)

، عن عطاء قال: «كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا صلَّى الجمعة بمكة تقدَّم فصلَّى ركعتين، ثم يتقدَّم فيصلِّي أربعًا

»، الحديث.

والجواب: أنَّ الاستدلال به غفلة؛ لأنَّ الكلام في الصلاة بعد الجمعة.

وقوله «تقدم» أي: من موقفه الذي صلَّى فيه الجمعة، يتقدَّم عنه فيصلِّي ركعتين، ثم يتقدَّم فيصلِّي أربعًا، وهذا لفظ الترمذي:[ص 13]«وابن عمر بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلَّى في المسجد بعد الجمعة ركعتين، وصلَّى بعد الركعتين أربعًا» . حدثنا بذلك ابن أبي عمر حدثنا سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء، قال:«رأيتُ ابن عمر صلَّى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلَّى بعد ذلك أربعًا» .

ولفظ أبي داود في باب الصلاة بعد الجمعة: عن عطاء عن ابن عمر قال: «كان إذا كان بمكة فصلَّى الجمعة تقدم فصلَّى ركعتين، ثم تقدم فصلّى أربعًا، وإذا كان بالمدينة صلّى الجمعة ثم رجع إلى بيته فصلَّى ركعتين، ولم يصلِّ في المسجد» . فقيل له، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل ذلك.

وكلاهما صريح أنَّ هذه إنَّما هي الصَّلاة بعد الجمعة.

وفي رواية أُخرى

(2)

: عن عطاء أنَّه رأى ابن عمر يُصَلِّي بعد الجمعة، فينماز عن مصلَّاه الذي صلَّى فيه الجمعة قليلًا غير كثير، قال: فيركع ركعتين. قال: ثم يمشي أنفسَ من ذلك، فيركع أربع ركعات. قلت ــ القائل ابن جريج الراوي عن عطاء ــ لعطاء: كم رأيتَ ابن عمر يصنع ذلك؟ قال: مرارًا.

(1)

أبو داود (1130) والترمذي (2/ 401، 402).

(2)

عند أبي داود (1133).

ص: 354

وهذا الحديث ممَّا يدلُّ على الفَرْق بين الجمعة والظهر، والله أعلم.

واستدلُّوا بما رواه الطبراني في «الأوسط»

(1)

بسنده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ شَهِدَ منكم الجمعة فليُصَلِّ أربعًا قبلها وبعدها أربعًا» .

والجواب: أنَّه حديثٌ ضعيفٌ، فيه محمد بن عبد الرحمن السهمي، كما في «شرح البخاري»

(2)

، وقد ضعَّفه البخاري وغيره كما مرَّ، والله أعلم.

واستدلُّوا بحديث أبي داود وابن حبان

(3)

من طريق أيوب عن نافع قال: «كان ابن عمر يُطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلِّي بعدها ركعتين في بيته، ويُحدِّث أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان يفعلُه» .

والجواب: قال الحافظ

(4)

: وتُعُقِّب بأن قوله: «كان يفعل ذلك» عائد على قوله: «ويصلِّي بعد الجمعة ركعتين في بيته» .

ويدلُّ له رواية الليث عن نافع عن عبد الله: أنَّه كان إذا صلَّى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته، ثم قال:«كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصنع ذلك» ، رواه مسلم

(5)

.

وأما قوله: «كان يطيل الصلاة قبل الجمعة» فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون [ص 14] مرفوعًا؛ لأنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إذا زالت

(1)

(2/ 172)، ولفظه: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي قبل الجمعة أربعًا وبعدها أربعًا

».

(2)

«فتح الباري» (2/ 426).

(3)

أبو داود (1128) وابن حبان (2476).

(4)

«فتح الباري» (2/ 426).

(5)

رقم (882).

ص: 355

الشمس فيَشْتَغِل بالخطبة، ثمَّ بصلاة الجمعة.

وإن كان المراد قبل دخول الوقت فذاك مطلقُ نافلةٍ لا صلاةٌ راتبةٌ، فلا حجَّة فيه لسُنَّة الجمعة التي قبلها، بل هي تنفُّل مطلقٌ، والله أعلم.

واستدلُّوا بحديث ابن حبان في «صحيحه»

(1)

: «ما من صلاةٍ مفروضةٍ إلَّا وبين يديها ركعتان» .

والجواب: أنَّه عام مخصوص بالجمعة كما مرَّ بيانُه، مع أنَّه مُقيَّدٌ بحديث «الصحيحين»:«بين كلِّ أذانينِ صلاةٌ» ، وقد مرَّ الكلام عليه.

مع أنَّ ابن حبان يُطلِق الصحيح على الحَسَن، وربَّما يُصحِّح ويُحسِّن ما لا يُوافَق عليه، والله أعلم.

واستدلُّوا بحديث ابن ماجه

(2)

بسند صحيح عن أبي هريرة وجابر قالا: «جاء سُلَيْك الغَطَفاني والنَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب، فقال له النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أصلَّيْتَ ركعتين قبل أن تجيء؟ » قال: لا، قال:«فصلِّ ركعتين وتَجوَّزْ فيهما» .

قال في التحفة

(3)

: وقوله: «أصلّيتَ» إلى آخره يمنع حملَه على تَحيَّة المسجد ــ أي: وحدها ــ حتى لا ينافي الاستدلال به لندبها للداخل حال الخطبة، فينويها مع سُنَّة الجمعة القبليَّة إن لم يكن صلَاّها قبل .. إلخ [ص 15]، إذ المعروف في هذا الحديث الاقتصار على «أصليت» ونحوه، وهو كذلك في «الصحيحين» وغيرهما. ولم تجئ هذه الزيادة ــ أي قوله:

(1)

رقم (2455)، وقد سبق ذكره.

(2)

رقم (1114).

(3)

«تحفة المحتاج» (2/ 224).

ص: 356

«قبل أن تجيء» ــ إلَّا في هذه الرواية التي أخرجها ابن ماجه.

والجواب عنها من وجوه:

الأوَّل: أنَّ حفص بن غياث قال عنه يعقوب: ثقة ثبت إذا حدَّث من كتابه ويُتَّقى بعض حفظه.

وقال ابن عمار: كان لا يحفظ حسنًا، وكان عَسِرًا.

فأطلق هذان وصفَهُ بسوء الحفظ.

وقال أبو عُبيد الآجرِّي عن أبي داود: كان حفص بأَخَرةٍ دَخَله نسيان. فقيَّد أبو داود سوء الحفظ بأَخَرَة.

وقال أبو زُرعة: ساءَ حفظُه بعدما استُقْضي، فمَن كَتب عنه من كتابه فهو صالح، وإلَّا فهو كذا.

قلت: وهو كما في «تهذيب التهذيب»

(1)

: كوفيّ استُقْضي بها وببغداد.

وقال ابن معين: جميع ما حدَّث به ببغداد من حفظه.

قلت: فحديثه ببغداد كان بأَخَرةٍ، وكان بعدما استُقْضي، وكان من حفظه. وداود بن رُشَيد بغداديٌّ كما في ترجمته

(2)

، فحديثه عنه بأخرةٍ بعدما استُقْضي، من حفظه.

وقد قال داود بن رشيد نفسه ــ كما في «تهذيب التهذيب»

(3)

ــ: حفصٌ كثير الغلط.

(1)

(2/ 415 وما بعدها). وفيه أقوال النقاد.

(2)

«تهذيب التهذيب» (3/ 184).

(3)

(2/ 416).

ص: 357

وأمَّا رواية الشيخين عنه فهي محمولة على ما ثبت عندهما أنَّه حدَّث من كتابه، وليس هذا لأحدٍ غيرهما؛ لالتزامهما الصحيحَ وتحرِّيهما وتيقُّظهما.

وفي «تدريب الراوي»

(1)

للسيوطي عن ابن الصلاح قال: من حكم لشخصٍ بمجرَّد رواية مسلمٍ عنه في «صحيحه» بأنَّه من شرط مسلم، فقد غفل وأخطأ، بل ذلك متوقِّفٌ على النَّظَر في كيفيَّة رواية مسلمٍ عنه، وعلى أيِّ وجهٍ اعتمد عليه.

الوجه الثاني: قال في «تهذيب التهذيب»

(2)

: وذكر الأثرم عن أحمد بن حنبل أنَّ حفصًا كان يدلِّس. وقال ابن سعد: كان ثقة مأمونًا، كثير الحديث يُدلّس.

والمدلِّس لا يكون حجَّةً إلَّا فيما صرَّح فيه بالسَّماع، وقد عَنْعن في هذا الحديث.

الوجه الثالث: أنَّ الأعمش على جلالة قدره معدودٌ في المدلِّسين، والمدلِّس لا يكون حجَّة إلَّا فيما صرَّح فيه بالسَّماع، وقد عَنْعن في هذا الحديث.

نعم، قال الحافظ في «المقدمة»

(3)

في ترجمة حفص بن غياث: «اعتمد البخاري على حفص هذا في حديث الأعمش؛ لأنَّه كان يُميِّز بين ما

(1)

(1/ 129).

(2)

(2/ 417).

(3)

«هدى الساري» (ص 398).

ص: 358

صرَّح به الأعمش بالسماع، وبين ما دلَّسه، نبَّه على ذلك أبو الفضل ابن طاهر، وهو كما قال».

وهذا لا يردُّ ما ذكرناه؛ لأنَّه لم يميِّز هنا، مع أنَّه في نفسِهِ مدلِّسٌ أيضًا كما مَرَّ عن الإمام أحمد وابن سعد.

الوجه الرابع: أبو صالح شيخ الأعمش، هل هو ذكوان المدني السَّمَّان، أو باذام مولى أم هانئ؟ فإنَّ كلاًّ منهما كنيته أبو صالح، عن أبي هريرة وعنه الأعمش.

فإن كان الثاني، فهو مُضعَّف، ورواية الأعمش عنه منقطعة.

[ص 16] ففي «تهذيب التهذيب»

(1)

: «أنَّ أبا حاتم قال: لم يسمع ــ يعني: الأعمش ــ عن أبي صالح مولى أُم هانئ، هو يدلِّس عن الكلبي» .

قال

(2)

: «وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: الأعمش عن أبي صالح ــ يعني: مولى أم هانئ ــ منقطع» .

والذي يظهر أنَّ أبا صالح الذي روى عنه الأعمش هذا الحديث هو الأول: ذكوان المدني السَّمان؛ لأنَّ الثاني قال عنه ابن عدي ــ كما في «تهذيب التهذيب»

(3)

ــ: عامة ما يرويه تفسير، وما أقلَّ مَا لَهُ من المسند.

(1)

(4/ 224).

(2)

المصدر السابق (4/ 225).

(3)

(1/ 417).

ص: 359

الطريق الأخرى: الأعمش عن أبي سفيان عن جابر.

وفيها نَظَرٌ من وجوه:

الأوَّل ــ وهو الخامس من أوجه الجواب ــ: رواية الأعمش عن أبي سفيان.

قال في «تهذيب التهذيب»

(1)

في ترجمة الأعمش: «وقال أبو بكر البزَّار: لم يسمع من أبي سفيان شيئًا، وقد روى عنه نحو مئة حديث، وإنَّما هي صحيفة عرفت» .

وقد يجاب عن هذا بأنَّ غاية ما فيه أنْ يكون روى عنه بالوجادة، وهي طريق من طرق الرواية.

الثاني ــ وهو السادس من أوجه الجواب ــ: حال أبي سفيان في نفسه.

قال في «تهذيب التهذيب»

(2)

: قال أحمد: ليس به بأس

إلى أن قال: وقال ابن أبي خيثمة عن ابن مَعِين: لاشيء، ثم ذكر أقوال الأئمة فيه، وأكثرهم على توثيقه، وقد روى له الشيخان والجماعة.

الوجه الثالث ــ وهو السابع من أوجه الجواب ــ: رواية أبي سفيان عن جابر.

في «تهذيب التهذيب»

(3)

: وقال أبو خيثمة عن ابن عُيينة: حديث أبي سفيان عن جابر إنما هي صحيفة، وكذا قال وكيع عن شعبة

إلى أن قال:

(1)

(4/ 224).

(2)

(5/ 27).

(3)

(5/ 27).

ص: 360

وفي «العلل الكبير» لعلي بن المديني: أبو سفيان لم يسمع من جابر إلَّا أربعة أحاديث. وقال فيها

(1)

: أبو سفيان يُكتب حديثه وليس بالقويِّ، وقال أبو حاتم عن شعبة: لم يسمع أبو سفيان من جابر إلَّا أربعة أحاديث.

قال الحافظ

(2)

: قلتُ: لم يخرج البخاري له إلَّا أربعة أحاديث عن جابر، وأظنُّها التي عناها شيخه علي بن المديني، منها حديثان في الأشربة قَرنه بأبي صالح، وفي الفضائل حديث:«اهتز العرش» كذلك، والرابع في تفسير سورة الجمعة، قَرَنه بسالم بن أبي الجَعْد.

[ص 17] فتبَيّن أنَّ هذا الحديث ممَّا لم يسمعه أبو سفيان عن جابر.

وقد يُجاب عن هذا بأنَّ غاية ما فيه أنَّه من الصَّحيفة، ولعلَّها كانت صحيحة، فيكون مناولةً أو وجادةً، وأبو سفيان ثقةٌ عند الأكثر.

الوجه الثامن: قال أبو داود

(3)

: حدَّثنا محمد بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم، المعنى، قالا: ثنا حفص بن غياث، وساق الإسناد كإسناد ابن ماجه

(4)

بطريقيه، وذكر الحديث، وآخره: فقال له: «أصليتَ شيئًا؟ قال: لا» .

ومحمد بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم أرجح من داود بن رُشَيد.

[ص 18] الوجه التاسع: أنَّه قد روى حديثَ سُلَيك عن الأعمش

(1)

أي في «العلل الكبير» . والنصّ في «التهذيب» الموضع السابق.

(2)

بعدما سرد الأقوال السابقة في المصدر السابق. وانظر «هدي الساري» (ص 431).

(3)

في «سننه» (1116).

(4)

رقم (1114).

ص: 361

عيسى بن يونس، وحديثه عند مسلم

(1)

، وأبومعاوية، وحديثه عند أحمد والدارقطني

(2)

، وسفيان، وحديثه عند أحمد والدارقطني

(3)

أيضًا. وخالفوا حفص بن غياث سنَدًا ومتنًا.

أمَّا في السند: فلم يذكر أحد منهم الرواية الأخرى عن أبي صالح عن أبي هريرة، بل كلُّهم اقتصروا عن أبي سفيان عن جابر.

وإنَّما قال الحافظ في «الإصابة»

(4)

في ترجمة سُلَيك وذكر هذا الحديث: «وروى ابن ماجه وأبو يعلى من طريق الأعمش [عن أبي صالح]

(5)

عن أبي هريرة

» إلخ.

ولا أدري كيف روايةُ أبي يعلى؟ فلْتُرَاجع

(6)

، إن لم يكن ذِكر أبي يعلى خطأ، والأصل «أبي داود» .

وأمَّا في المتن، فكلُّهم لم يذكروا تلك الزيادة.

الوجه العاشر: أنَّه قد روى حديث سُليك عن أبي سفيان: الوليدُ أبو بشر، وهو الوليد بن مسلم بن شهاب التميمي العنبري. وحديثه عند أبي

(1)

رقم (875/ 59).

(2)

«المسند» (3/ 316، 317) و «سنن الدارقطني» (2/ 13).

(3)

«المسند» (3/ 389) و «سنن الدارقطني» (2/ 14).

(4)

(4/ 442).

(5)

ليست في الأصل، وزيدت من «الإصابة» .

(6)

الحديث عند أبي يعلى (2272) من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، دون الطريق الثاني.

ص: 362

داود وأحمد والدارقطني

(1)

، ولم يذكر في حديثه تلك الزيادة.

الوجه الحادي عشر: أنَّه قد روى حديثَ سُليك عن جابر: عمرو بن دينار، وحديثه في الصحيحين

(2)

وغيرهما. وأبو الزبير، وحديثه عند مسلم والشافعي وابن ماجه

(3)

، ولم يذكرا في حديثهما تلك الزيادة.

الوجه الثاني عشر: أنَّه قد روى حديثَ سُليك: أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديثه عند الترمذي وأحمد والشَّافعيِّ وابن ماجه

(4)

، ولم يذكر تلك الزِّيادة.

والحاصل: أنَّ إسناد الحديث عن أبي هريرة انفرَد به حفصُ بن غياث عن الأعمش، وانفرَد به الأعمش عن أبي صالح، وانفرَد به أبوصالح عن أبي هريرة، وانفرَد بإدخال هذه الزِّيادة فيه داود بن رُشَيد عن حفص بن غياث.

وانفرَد بإدخال الزِّيادة في حديث جابر: داود بن رُشَيد عن حفص، وحفص عن الأعمش، والأعمش عن أبي سفيان، وأبوسفيان عن جابر.

وقد روى الحديثَ عن حفصٍ محمدُ بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم، فلم يذكراها.

ورواه عن الأعمش عيسى بن يونس وأبو معاوية وسفيان، فلم يذكروها.

(1)

أبو داود (1117) وأحمد (3/ 297) والدارقطني (2/ 13).

(2)

البخاري (930) ومسلم (875/ 54).

(3)

مسلم (875/ 58) و «الأم» للشافعي (2/ 399) وابن ماجه (1112).

(4)

الترمذي (511) و «المسند» (3/ 25) و «الأم» (2/ 399) وابن ماجه (1113).

ص: 363

ورواه عن أبي سفيان الوليدُ ين مسلم بن شهاب التميمي العنبري فلم يذكرها.

ورواه عن جابر عَمْرو بن دينار وأبو الزُّبير فلم يذكراها.

ورواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو سعيد الخدري فلم يذكرها.

[ص 19] والظاهر ــ والله أعلم ــ أنَّ داود بن رُشيد أو حفص بن غِياث فَهِم من قوله في عامة الروايات: «أصليت» أنَّ المراد: «أصليتَ قبل أن تجيء» ، فأدرج هذه الزيادة تفسيرًا أو غلطًا.

وسبب الفهم أنَّ أكثر الروايات تُشعِر أنَّ سبب خطاب النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم لسُليك هو أنَّه رآه دخل المسجد ولم يُصلِّ، فلمَّا قال له:«أصلَّيْتَ؟ » لم يمكن أن يكون المراد: أصليتَ في المسجد؟ فلم يبقَ إلَّا أن يكون المراد: أصليتَ قبل أن تجيء؟

وهذا الفهم فيه نَظَرٌ من وجوه:

الأول: أنَّ الذي يدلُّ عليه حديث أبي سعيد رضي الله عنه أنَّ سبب خطاب النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم لسُلَيك هو أنَّه رآه بهيئة بذَّةٍ، فدعاه رجاءَ أنْ يراه الناس بتلك الهيئة فيتصدَّقوا عليه، ثم سأله:«أصلَّيت؟ » لاحتمال أنْ يكون صلَّى قبل أن يدعوه، فقال: لا، فأمره بالصلاة.

وهذا لفظ الحديث عن الإمام أحمد

(1)

: عن أبي سعيد قال: «دخل رجلٌ المسجدَ يومَ الجمعة والنَّبي صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فدعاه فأمره أن يُصلِّي

(1)

في «المسند» (3/ 25).

ص: 364

ركعتين. ثم دخل الجمعةَ الثانية ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المنبر، فدعاه، فأمره. ثم دخل الجمعةَ الثالثة، فأمره أن يصلِّي ركعتين، ثم قال:«تصدقوا» ففعلوا، فأعطاه ثوبين ممَّا تصدَّقوا، ثم قال:«تصدَّقوا» ، فألقى أحد ثوبَيْهِ، فانتهره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكرِهَ ما صَنَع. ثم قال:«انظروا إلى هذا! فإنَّه دخل المسجد في هيئةٍ بذَّةٍ، فدعوتُه، فرجوتُ أن تُعطوا له، فتصدَّقوا عليه وتَكْسُوه، فلم تفعلوا، فقُلت: تصدَّقوا فتصدَّقوا، فأعطيتُه ثوبين ممَّا تصدَّقوا، ثم قلت: تصدَّقوا، فألقى أحدَ ثوبيه. خُذْ ثوبك» ، وانتهره.

وظاهره: أنَّ الأمرَ بالصدقة وإعطاء سُليك الثَوْبَيْن وإلقاءه أحدهما كان في المرَّة الثالثة. ورواية الشافعي

(1)

تُخالف ذلك، فراجِعْها.

والمقصود بيان خطأ من ظنَّ أنَّ المراد: أصلَّيتَ قبل أنْ تجيء.

[ص 20] الوجه الثاني: أنَّه قد يقال: سلَّمنا أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم رآه حين دخل المسجد، ولكن جوَّز أن يكون قد جاء قبل ذلك، وإنَّما خرج إلى باب المسجد لحاجةٍ كأن يتنخَّم، ثم عاد. فبناءً على ذلك التجويز سأله هل صلَّى؟

الوجه الثالث: أن يُقَال: سَلَّمْنا أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم رآه حين دخل المسجد، وأنَّه لم يُجوِّز أن يكون قد جاء قبل ذلك، ولكنَّا نقول: إن قوله: «أصَلَّيْتَ» ليس للاستفهام الحقيقي، وإنَّما هو بمعنى الأمر، كما في قوله سبحانه وتعالى:{وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا} [آل عمران: 20]. والمعنى: وقل للَّذين أوتوا الكتاب والأميين:

(1)

في «الأم» (2/ 400)، فسياقها يدل على أن ذلك في المرة الثانية.

ص: 365

أسْلِموا، ذكره في «المغني»

(1)

.

فإن قيل: فما تصنعون بجواب سُلَيْك بقوله: لا؟

فالجواب: أنَّه فهم أنَّ الاستفهام على بابه، ولذلك أعاد النَّبي صلى عليه وآلِهِ وسلَّم الأمر صريحًا، فتأمّل.

فإنْ أبيت إلَّا أنْ تجعل المعنى: أصَلَّيت قبل أن تجيء، فقد حمله أبو شامة على أن المراد: قبل أن تجيء إلى هنا من مؤخر المسجد. ومع هذا فقد قال الحافظ المزي وابن تيمية: إن هذه الكلمة «تجيء» تصحفت في «سنن أبي داود» ، والصواب:«قبل أن تجلس» . وردَّه بعض المعاصرين، فإن بعض المتقدمين إسحاق بن راهويه أو غيره بنى عليها مذهبه، فقال في تحية المسجد: إن كان الرجل قد صلَّى في بيته فلا يُصلِّها، وإلَّا فليصلِّها.

وهذا الجواب قوي إن صحَّ النقلُ، ولكن ذلك لا يفيد القائلين بقبلية الجمعة شيئًا، لما مرَّ إيضاحه، ولله الحمد.

وعلى كل حالٍ فلا يمكن أن يكون المراد قبليَّة للجمعة؛ لأنَّ الأدلَّة الصريحة قد قامت على أنَّ الجمعة لا قبليَّة لها؛ لما مرَّ آنفًا من أنَّ محلَّ القبليَّة بعد دخول الوقت، وبين الأذان والإقامة. وقد عُلِمَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج أوَّل دخول الوقت ــ إن لم يكن قبله ــ عامدًا إلى المنبر، فيؤذِّن المؤذِّنُ، فيقوم النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم للخطبة. وليس بين خروجه صلى الله عليه وآله وسلم وبين فريضة الجمعة إلَّا الخطبتان، والصَّلاة حينئذٍ حرامٌ إلَّا ركعَتَي التَّحيَّة.

فكيف تكون للجمعة قبليَّة ويكون أداؤها في وقتها الذي هو أول الوقت

(1)

«مغني اللبيب» (1/ 13).

ص: 366

وبين الأذان والإقامة حرامًا، ولو أُدِّيَت فيه لم تنعقد؟! هذا محالٌ.

وأيضًا، قد دلَّ حديث ابن عمر وغيره على عدمها كما مرَّ، فتعيَّن الجمع بين الأدلَّة بما ذكرناه، والله الموفِّقُ، لا ربَّ غيرُه.

[ص 21] وقال بعضهم: إنَّ هذه الأدلَّة التي استدلَّ بها المثبتون وإن كان بعضها غير صحيحٍ، وبعضها غير صريحٍ= فلا أقلَّ من أنْ تفيد بمجموعها المطلوب؛ لِما صرَّحوا به أنَّ الضَّعيف إذا تعدَّدتْ طرقُهُ بَلَغَ رتبة الحَسَن، فيحتجُّ به. وهَبْ أنَّه لا يكون كذلك، فقد صرَّحوا أنَّ الضَّعيف يُعمَلُ به في فضائل الأعمال.

وأقول: الجواب أنَّ بلوغ الضَّعيف رتبةَ الحسن له شروطٌ لم توجد هنا.

وكذلك العمل بالحديث الضَّعيف في فضائل الأعمال له شروطٌ لم تُوجد هنا.

مع أنَّ تلك الأحاديث جميعها غير صريحة في إثبات صلاةٍ قبل الجمعة، بنيَّة راتبةٍ قبليةٍ للجمعة، لِما قدَّمْنَاهُ. وأنَّ ما صحَّ منها فهو محمولٌ على النَّفْلِ المطلق الذي يُصلِّيه الإنسان ما بين دخوله الجامع وخروج الإمام، ولاسيَّما وقد قام الدَّليل على نفي أن تكون للجمعة راتبةٌ قبلية؛ كما مرَّ بيانه.

وفي الختام نقول للمثبتين: مَن كان منكم يُحِبُّ ثبوت راتبةٍ قبليَّةٍ للجمعة ليصلِّيها هو والمسلمون، فيَحُوزوا الفضيلة، فما عليه إلَّا أن يُبكِّرَ إلى الجامع فيصلِّي النَّفل المطلق إلى خروج الإمام، فيحوز فضيلةً أعظم ممَّا طلَبَ.

ص: 367

بل إنَّ الانكفاف عن صلاةٍ راتبةٍ قبليَّةٍ للجمعة امتثالًا للسُنَّة، يُحصِّل له فضيلةً لا تقِلُّ عمَّا طلَبَ.

بل إنَّ الإقدام على صلاة راتبةٍ قبليَّةٍ للجمعة بعد العلم بقيام الدَّليل على عدم مشروعيِّتها معصية كما لا يخفى. ومن بقي في قلبه ريبٌ في بطلانها، فما عليه إلَّا أن يصلي ركعتين أو أربعًا من جملة النفل المطلق الذي قبله، وينوي في قلبه أنه إذا كان في مشيئة الله تعالى للجمعة راتبة قبلية، فهي هذه، وإلَّا فهي نفل مطلق. والتردد في النية مغتفر في مثل هذا.

[ص 22] ومن كان منكم يحبُّ ثبوتها انتصارًا لمَنْ أثبتها من العلماء فهذا غرضٌ آخر، ليس من الدِّين في شيءٍ. والعلماء رضي الله عنهم مأجورون على كُلِّ حال، وليس في المخالفة لهم تبعًا للدَّليل غضاضةٌ عليهم؛ إذ ليس منهم من يُبرِّئُ نفسَه عن الخطأ ويدَّعي لنفسه العِصْمة.

وأيُّهما أسهل؟ مخالفة الله ورسوله، أو مخالفة عالمٍ من العلماء؟

مع أنَّ مخالفة العالم لا تستلزم نقصَه ولا الحط منه؛ فقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ربَّما خالفوه في الآراء التي ليست من قبيل الوحي. ولم يُعَدَّ ذلك استنقاصًا منهم له صلى الله عليه وآله وسلم، وإلَّا لكَفرُوا. بل كان صلى الله عليه وآله وسلم ربَّما رَجَعَ إلى قولهم في ذلك.

ومن كان منكم يحبُّ ثبوتها لكونه من المقلِّدين للمذهب القائل بثبوتها= فهذا لا ينبغي له أن يُعوِّل على ثبوتها من حيث الدَّليل وعدمه؛ لأنَّه مقلِّدٌ لا يَسأَلُ عن حُجَّة، ولا يُسأَل عن حُجَّة، فهو ملتزمٌ لقول من قلَّده، ولو ثبتت الحُجج القطعيَّة بخلافه. فالواجب عليه أن يقول: أنا مقلِّدٌ لفلان، وفلانٌ قال بثبوتها، ويقف عند ذلك.

ص: 368

فإن تاقت نفسُه إلى الاحتجاج فليُوَطِّن نفسَهُ على قبول الحُجَّة، ولو على خلاف قول إمامه، وإلَّا وَقَعَ في الخطَر من تقديم هواه على ما جاء به الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم، وجعلِ كلام مقلَّدهِ أصلًا يُردُّ إليه ما خالَفَه من كلام الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

والله يهدي من يشاء إلى سراطٍ

(1)

مستقيمٍ.

(1)

كذا بالسين، وهي لغة فصيحة. والصاد أعلى وإن كانت السين هي الأصل. قال الفراء: الصاد لغة قريش الأولين التي جاء بها الكتاب، وعامة العرب يجعلها سينًا. انظر «تاج العروس» (سرط).

ص: 369

الرسالة الحادية عشرة

بحث في وقت تشريع ونزول آية صلاة الخوف

ص: 371

فصل

قد علمتَ من رواية قتادة عن سليمان بن قيس

(1)

والكلام عليها أن ظاهرها أن ذلك أول ما نزلت الآية، أعني قوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101].

وقد عارض هذا حديث آخر.

أخرج أبو داود

(2)

عن سعيد بن منصور عن جرير بن عبد الحميد عن منصور عن مجاهد عن أبي عياش الزرقي قال: «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غِرَّةً، لقد أصبنا غفلة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة! فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر، فلما حضرت العصر قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مستقبلَ القبلة، والمشركون أمامه، فصفَّ خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفٌّ، وصفَّ بعد ذلك الصفِّ صفٌّ آخر، فركع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وركعوا جميعًا

» فذكر الصفة التي تقدمت [في] رواية عطاء عن جابر، ثم قال:«فصلَّاها بعُسْفان، وصلَّاها يوم بني سُلَيم» .

وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 334) من طريق ابن منصور، وقال:«صحيح على شرط الشيخين» وأقره الذهبي.

(1)

أخرجها الطبري في «تفسيره» (7/ 414) من حديث جابر بن عبد الله في قصة قصر الصلاة في الخوف.

(2)

رقم (1236).

ص: 373

وأخرجه البيهقي في «السنن» (3/ 256) من طريق يحيى بن يحيى وسعيد بن منصور كلاهما عن جرير.

وأخرجه النسائي

(1)

عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار عن محمد (غندر) قال: حدثنا شعبة عن منصور، قال: سمعت مجاهدًا يحدث عن أبي عيَّاش الزُّرقي ــ قال شعبة: كتب به إليَّ وقرأتُه عليه وسمعتُه منه يحدِّث، ولكني حفظته. قال ابن بشار في حديثه: حفظي من الكتاب ــ، فذكره وليس فيه:«فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر» .

وهكذا رواه أحمد أيضًا عن غندر. «المسند» (4/ 60)

(2)

.

وأخرجه النسائي

(3)

أيضًا عن عمرو بن علي عن عبد العزيز بن عبد الصمد ثنا منصور، فذكره. وفيه:«فنزلت ــ يعني صلاة الخوف ــ بين الظهر والعصر» .

ورواه أحمد

(4)

أيضًا: «ثنا عبد الرزاق ثنا الثوري عن منصور

»، وفيه: «فنزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات بين الظهر والعصر: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء: 102].

ورواه أبو داود الطيالسي

(5)

عن ورقاء عن منصور، وفيه: «فنزل جبريل

(1)

(3/ 176).

(2)

رقم (16581).

(3)

(3/ 177).

(4)

رقم (16580).

(5)

في «مسنده» (1347).

ص: 374

عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر، فأخبره، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ

}.

وأخرج الحاكم في «المستدرك» (3/ 30) قصة شبيهةً بهذه من طريق النضر أبي عمر عن عكرمة عن ابن عباس، وقال:«صحيح على شرط البخاري» ، وأقره الذهبي.

والنضر أبو عمر هو النضر بن عبد الرحمن الخزاز، مجمع على ضعفه.

وأخرج النسائي

(1)

وغيره من طريق سعيد بن عبيد الهُنائي ثنا عبد الله بن شقيق ثنا أبو هريرة قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نازلاً بين ضَجْنانَ وعُسْفانَ محاصرًا المشركين، فقال المشركون: إنّ لهؤلاء صلاةً هي أحبُّ إليهم من أبنائهم وأبكارهم، أجْمِعوا أمركم، ثم مِيلُوا عليهم ميلةً واحدة، فجاء جبريل عليه السلام فأمره أن يقسم أصحابه نصفين، فيصلي بطائفة منهم، وطائفة مقبلون على عدوِّهم

فيصلِّي بهم ركعة، ثم يتأخر هؤلاء ويتقدم أولئك، فيصلي بهم ركعة تكون لهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعة ركعة، وللنبي صلى الله عليه وآله وسلم ركعتان».

سعيد بن عبيد، قال أبو حاتم:«شيخ» ، وذكره ابن حبان في «الثقات»

(2)

وقد عُلِم شرطه.

(1)

(3/ 174). وأخرجه أيضًا أحمد في «المسند» (10765) والترمذي (3035) وابن حبان (2872)، وحسَّنه الترمذي.

(2)

(6/ 352). وانظر «تهذيب التهذيب» (4/ 62).

ص: 375

وقد روى أبو داود

(1)

وغيره من طريق أبي الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدِّث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة: هل صلَّيتَ مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلاة الخوف؟ قال أبو هريرة: نعم، فقال مروان: متى؟ قال أبو هريرة: عامَ غزوة [نجد]

(2)

، قام رسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى صلاة العصر، فقامت معه طائفة، وطائفة أخرى مقابلَ العدو وظهورُهم إلى [القبلة، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكبروا جميعًا: الذين معه والذين مقابلي العدو، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعة واحدة، وركعت الطائفة التي معه]، ثم سجد فسجدت الطائفة التي تليها، والآخرون قيامٌ مقابلي العدو، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، [وقامت] الطائفة التي معه، فذهبوا إلى العدو فقابلوهم. وأقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو [فركعوا وسجدوا ورسول الله]صلى الله عليه وآله وسلم قائم كما هو، ثم قاموا فركع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ركعة أخرى وركعوا [معه]، وسجد وسجدوا معه. ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو، فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قاعدٌ ومن معه، ثم كان السلام، فسلَّم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[وسلَّموا جميعًا، فكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم] ركعتين

(3)

، ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة».

وعلَّق البخاري في غزوة ذات الرقاع في «الصحيح»

(4)

طرفًا منه.

وهذه الصفة يمكن موافقتها للصفة التي رواها سعيد بن عبيد عن ابن

(1)

رقم (1240).

(2)

مخروم في الأصل، وكذا ما يأتي بين المعكوفتين فيما بعد، واستدركتها من سنن أبي داود.

(3)

كذا كتبها المؤلف. والجادة ورواية السنن: «ركعتان» بالرفع.

(4)

رقم (4137).

ص: 376

شقيق عن أبي هريرة، كما مرَّ. فإن كانت قصة واحدة فهي مخالفة للصفة التي في حديث مجاهد عن ابن عباس.

وفي «فتح الباري»

(1)

أن الواقدي روى بسنده إلى خالد بن الوليد قال: «لما خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الحديبية [لقيتُه]

(2)

بعُسْفان، فوقفتُ بإزائه، وتعرَّضتُ له، فصلَّى بأصحابه الظهر، فهممنا أن نُغِيرَ عليهم فلم يعزم لنا، فأطلعَ الله نبيَّه على ذلك، فصلَّى بأصحابه العصرَ صلاةَ الخوف» الحديث.

أقول: والواقدي لا يُفرح به.

(1)

(7/ 423).

(2)

مخروم في الأصل، واستدركته من «الفتح» .

ص: 377

الرسالة الثانية عشرة

قيام رمضان

ص: 379

بسم الله الرحمن الرحيم

قيام رمضان

وردت عدة نصوص في الترغيب في القيام مطلقًا، كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان: 64]، وغيرها. ونصوصٌ تؤكّد قيام رمضان، وخاصةً ليلةَ القدر، كحديث "الصحيحين"

(1)

: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه". وفي حديث آخر

(2)

: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه".

وثبتت نصوص أخرى تبيِّن عدة صفاتٍ إذا اتصف بها قيام الليل عَظُم أجرُه، وكبُر فضلُه، وإن خلا عن بعضها أو عنها كلّها لم يمنع ذلك من حصول أصل قيام الليل. فلنسمِّها "مكمِّلات"، وهي:

1 ــ أن يكون تهجّدًا، أي بعد النوم.

ومن أدلّة ذلك حديث "الصحيحين"

(3)

وغيرهما عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا، وفيه:"وأحبُّ الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود، كان ينام نصفَ الليل ويقوم ثُلثَه وينام سُدسَه".

وفي "صحيح مسلم"

(4)

عن جابر مرفوعًا: "من خاف أن لا يقوم من

(1)

البخاري (37) ومسلم (759) من حديث أبي هريرة.

(2)

أخرجه البخاري (1901) ومسلم (760) من حديث أبي هريرة.

(3)

البخاري (1131) ومسلم (1159/ 189).

(4)

رقم (755).

ص: 381

آخر الليل فليُوتِرْ أوّلَه، ثم ليرقُدْ، ومن طَمِعَ أن يقوم من آخر الليل فإن صلاة آخر الليل مشهودةٌ محضورةٌ، وذلك أفضل".

2 ــ أن يكون بعد نصف الليل.

ومن أدلّته ما تقدم.

3 ــ أن يستغرق ثلث الليل.

ومن أدلّته: حديث عبد الله بن عمرو المتقدم.

وقد قال الله عز وجل في آخر سورة المزمل: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20]. يريد به: ما تيسَّر من قيام الليل.

4 ــ أن يُكثِر فيه من قراءة القرآن. وهو مِن لازم الثالث؛ لما عُرِف من نظام الصلاة.

5 ــ أن يكون مثنى مثنى، ثم يوتر بركعة.

هذا هو الأكثر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وبه أمر مَن سأله عن قيام الليل.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم صُوَرٌ أخرى، منها: مثنى مثنى ويوتر بثلاث.

6 ــ أن لا يزيد عن إحدى عشرة ركعة.

كما ثبت من حديث عائشة في "الصحيحين"

(1)

وغيرهما، قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضانَ ولا غيرِه على إحدى عشرة ركعةً

". أجابت بهذا مَنْ سألها عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل في رمضان. وذلك

(1)

البخاري (1147، 2013) ومسلم (738).

ص: 382

صريح في أن المشروع في قيام رمضان هو المشروع في غيره، إلَّا أنه آكدُ

(1)

فيه.

وقد جاء عنها أنه صلَّى في بعض الليالي ثلاث عشرة ركعة

(2)

.

وفي "المستدرك" وغيره

(3)

عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تُوتِروا بثلاثٍ تَشبَّهوا بالمغرب، ولكنْ أوتروا بخمسِ أو بسبعٍ أو بتسعٍ أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك".

والمراد ــ والله أعلم ــ بالوتر في هذا الحديث: قيام الليل، كأنه كره الاقتصار على ثلاثٍ وأمرَ بالزيادة عليها. وأكثرُ ما جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينه بتكبيرةٍ واحدةٍ تسع ركعات. فهو ــ والله أعلم ــ أكثر الوتر الحقيقي، فأمَّا الوتر بمعنى قيام الليل المشتمل على الوتر فلا مانعَ من الزيادة فيه، والأفضلُ ما تقدّم.

7 ــ أن يكون فُرادى. كما هو الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو كاللازم للأمر الآتي.

(1)

في النسخة اليمنية: "يتأكد".

(2)

أخرجه البخاري (1170) ومسلم (737).

(3)

أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 304) والبيهقي في "السنن الكبرى"(3/ 31، 32) من طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عراك بن مالك عن أبي هريرة. وإسناده صحيح. وأخرجه بنحوه ابنُ حبان (2429) والدارقطني (2/ 24، 25) والحاكم (1/ 304) والبيهقي (3/ 31) من طريق سليمان بن بلال عن صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة. وصححه الحاكم.

ص: 383

ومع ذلك، فقد ثبت عن ابن مسعود اقتداؤه بالنبي صلى الله عليه وسلم في بعض قيام الليل. وكذلك عن [ص 2] ابن عباسٍ لمّا بات في بيت النبي صلى الله عليه وسلم . وسيأتي ما يشهد لذلك.

8 ــ أن يكون في البيت.

ومن أدلته: حديث "الصحيحين"

(1)

وغيرهما عن زيد بن ثابت قال: "احتجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم حُجَيرةً بخَصَفةٍ أو حصيرٍ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي فيها، قال: فتتبَّع إليه رجالٌ وجاءوا يُصلُّون بصلاته، قال: ثم جاءوا ليلةً فحضروا، وأبطأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، قال: فلم يخرج إليهم، فرفعوا أصواتهم وحَصَبُوا الباب، فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مُغضَبًا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما زال بكم صنيعُكم حتى ظننتُ أنه سيُكْتَب عليكم، فعليكم بالصلاة في بيوتكم، فإن خير صلاة المرء في بيته إلا الصلاة المكتوبة".

هذا لفظ مسلمٍ في الصلاة، باب "استحباب صلاة النافلة في البيت"، ونحوه للبخاري في "صحيحه"، في كتاب الأدب، "باب ما يجوز من الغضب".

والحديث وارد في قيام رمضان كما يأتي، وذلك قاضٍ بشمول الحكم له نصًّا، فلا يُقبَل أن يُخرَج منه بتخصيص

(2)

.

(1)

البخاري (6113) ومسلم (781).

(2)

أتعجّب مما وقع في "فتح الباري" في باب التراويح: "وعن مالك

وأبي يوسف وبعض الشافعية: الصلاةُ في البيوت أفضل، عملًا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم :"أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". وهو حديث صحيح أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة" [المؤلف].

راجع "الفتح"(4/ 252)، والصواب أنه متفق عليه من حديث زيد بن ثابت، كما ذكره المؤلف.

ص: 384

وذكر مسلم رواية أخرى

(1)

قال في متنها: "إن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ حُجْرةً في المسجد من حصيرٍ، فصلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها لياليَ حتى اجتمع إليه ناسٌ، فذكر نحوه وزاد فيه: "ولو كُتِبَ عليكم ما قمتم به".

وهذه الرواية في "صحيح البخاري"

(2)

في كتاب الاعتصام، "باب ما يُكْره من كثرة السؤال، ومن تكلُّفِ ما لا يعنيه"، وقوله تعالى:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، وفيها بعد قوله:"ليالي": "حتى اجتمع إليه ناسٌ، ففقدوا صوتَه ليلةً، فظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنح ليخرج إليهم، فقال: "ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم حتى خشيتُ أن يُكْتَب عليكم، ولو كُتِب عليكم ما قمتم به، فصلُّوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

وفي رواية للبخاري

(3)

في كتاب الصلاة، في "باب صلاة الليل" قُبيلَ "أبواب صفة الصلاة": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ حجرةً ــ قال: حسبتُ أنه قال: من حصيرٍ ــ في رمضان، فصلَّى فيها لياليَ، فصلَّى بصلاته ناسٌ من أصحابه، فلما علم بهم جعل يقعد

".

علَّل أمرهم بالصلاة في البيوت بأنها في غير المكتوبة خير وأفضل،

(1)

رقم (781/ 214)

(2)

رقم (7290).

(3)

رقم (731).

ص: 385

فثبت أنه إنما أمرَهم أمرَ إرشادٍ لتحصيل زيادة الفضل، وأن الصلاة في المسجد فيها خيرٌ في الجملة وفضلٌ، وذلك شامل لقيام رمضان.

والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان تلك الليالي معتكفًا، والمسجد بيت المعتكف، فلا يكون في صلاته فيه ما ينافي منطوق الحديث.

وكأنه كان يقتدي به أولًا المعتكفون، ومَنْ في معناهم من أهل الصُّفَّة الذين لا بيتَ لهم إلَّا المسجد، فلم ينكر عليهم. ثم حضر غيرهُم، ولم يشعُرْ صلى الله عليه وسلم، فلمَّا شَعَرَ قعد.

وما يقع في بعض روايات حديث عائشة ممّا قد خالف ما هنا: الظاهرُ أنه من تصرُّفِ بعض الرواة، من باب الرواية بالمعنى على حسب ما فهم، والله أعلم.

مقارنة بين حديث زيدٍ وحديث عائشة

قد وردت القصة من حديث عائشة، ولكن في حديث زيدٍ زيادتان:

الأولى: ما فيه مِنْ ذكر [ص 3] تنحنُحِ القوم، ورفْعِهم أصواتَهم، وحَصْبِهم البابَ، وغضَبِ النبي صلى الله عليه وسلم.

الثانية: ما فيه مرفوعًا: "فعليكم بالصلاة في بيوتكم؛ فإن خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة".

والزيادة الأولى تُفْهِم أن صنيعهم ذاك هو الذي خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يُعاقَبوا عليه بفرضِ قيام الليل في المسجد عليهم.

وأشار إلى ذلك البخاريُّ؛ إذ ذكر الحديث في كتاب الاعتصام "باب ما

ص: 386

يُكْرَه من كثرة السؤال، ومن تكلُّفِ ما لا يعنيه"، وقوله تعالى: {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، وذكر معه حديث: "إنَّ أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يُحرَّم فحُرِّم من أجْلِ مسألته"

(1)

.

والزيادة الثانية تُفْهِم أن سبب احتباس النبي صلى الله عليه وسلم عنهم هو إرادة صَرْفِهم إلى الصلاة في بيوتهم؛ لأنها أفضل.

ولو خلا الحديث عن هاتين الزيادتين لكان ظاهره أن الصنيع الذي خشي أن يترتَّبَ عليه الفرض هو مثابرة القوم على الحضور، وأن سبب احتباس النبي صلى الله عليه وسلم هو إرادة قطع المثابرة قبل أن يترتّب عليها الفرض.

والظاهر أن خلوَّ حديث عائشة عن هاتين الزيادتين سببه أنها كانت في بيتها إذْ كان زيدٌ في المسجد شريكًا في القصة، وأن ذلك أدّى إلى هذا الفهم على ما فيه، ففي "الصحيحين"

(2)

من طريق مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، قالت:"إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيدَعُ العملَ وهو يُحِبُّ أن يعملَ به، خشيةَ أن يعملَ به الناس فيُفْرَضَ عليهم".

لا أرى مأخذ هذا المعنى إلّا ما فُهِم من تلك القصة، بسبب خلوِّها عن تَيْنِكَ الزيادتين.

قد يقال: إنّ هذا وإن استقام بالنظر إلى بعض روايات حديث عائشة، فلا يستقيم بالنظر إلى بعضها.

(1)

البخاري (7289) من حديث سعد بن أبي وقاص.

(2)

البخاري (1128) ومسلم (718).

ص: 387

فأمّا الأول: فرواية عمرة عن عائشة، وأكثر الروايات عن أبي سلمة عن عائشة.

ولفظ البخاري

(1)

عن عمرة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُصلِّي من الليل في حُجرته، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناسُ شخصَ النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام ناسٌ يصلُّون بصلاته، فأصبحوا فتحدثوا بذلك، فقام ليلةَ الثانية

(2)

، فقام معه ناس يصلُّون بصلاته، صنعوا ذلك ليلتين أو ثلاثًا، حتى إذا كان بعد ذلك جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يخرج، فلما أصبح ذكر ذلك الناس، فقال:"إني خَشِيتُ أن تُكتَبَ عليكم صلاةُ الليل".

ذكره البخاري قبل أبواب صفة الصلاة، في "باب إذا كان بين الإمام وبين القوم حائط أو سترة". ثم قال بعده:"باب صلاة الليل"، فأخرج

(3)

من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له حصيرٌ يَبْسُطه بالنهار، ويَحتجِرُه بالليل، فثاب إليه ناسٌ فصلَّوا وراءه". [ص 4] كذا أخرجه مختصرًا.

وقد أخرجه مسلم

(4)

، ولفظه:"كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرٌ، وكان يُحَجِّرُه من الليل، فيصلّي فيه، فجعل الناس يصلّون بصلاته، وَيْبسُطُه بالنهار. فثابوا ذاتَ ليلةٍ، فقال: "يا أيها الناس، عليكم من الأعمال ما تُطِيقون؛ فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا، وإن أحبَّ الأعمالِ إلى الله ما دُووِمَ عليه

(1)

رقم (729).

(2)

كذا الرواية عند الأكثر، وانظر توجيهها في "الفتح"(2/ 214).

(3)

رقم (730).

(4)

رقم (782).

ص: 388

وإنْ قَلّ". وكان آل محمد صلى الله عليه وسلم إذا عملوا عملًا أثبتوه".

وفي "فتح الباري"

(1)

في "باب تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على قيام الليل" ما لفظه: "في رواية أبي سلمة المذكورة قبيل صفة الصلاة: "خشيتُ أن تُكْتَب عليكم صلاة الليل".

كذا قال، وتبعه العينيّ

(2)

! وإنما هذا في رواية عمرة، كما مرّ.

وأمّا الثاني: فما في "الصحيحين"

(3)

وغيرهما من رواية مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى ذاتَ ليلة في المسجد، فصلَّى بصلاته ناس، ثم صلَّى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة ــ أو الرابعة ــ فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما أصبح قال: "قد رأيتُ الذي صنعتم، ولم يمنعني من الخروج إليكم إلا أني خشيتُ أن تُفْرَضَ عليكم" وذلك في رمضان".

ففي هذه الرواية جاء هذا التعليل من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، فكيف يستقيم أن يقال: إنه إنما فُهِم من حديث عائشة لخلوِّه عن الزيادتين الثابتتين في حديث زيد؟ !

أقول: في "فتح الباري"

(4)

في الكلام على رواية عروة: "ظاهر هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم توقَّعَ ترتُّبَ افتراضِ الصلاة بالليل جماعةً على وجود

(1)

(3/ 13).

(2)

في "عمدة القاري"(7/ 177).

(3)

البخاري (1129) ومسلم (761).

(4)

(3/ 13).

ص: 389

المواظبة عليها، وفي ذلك إشكال

".

[ص 5] وحاصِلُ الإشكال موضَّحًا: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا قد عرفوا فضل قيام رمضان، ولم يكونوا يعلمون أنه في البيوت أفضل، فلمّا سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يصلِّيه

(1)

في مسجده، ويأتمُّ به مَنْ حضر؛ ظنّوا معذورين أن حضورهم للصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد أفضل، والمداومةُ التي كانت قد وقعت منهم قبل أن يذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصةَ الفرض= كان الظاهر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّهم عليها، فتأكّد العذر، ولو كان العمل مشروعًا ولم يقطعه النبي صلى الله عليه وسلم لكان عملًا كلّه خير.

والفرضُ الذي خشيه النبي صلى الله عليه وسلم

(2)

كان عقوبةً، بدليل قوله:"ولو كُتِب عليكم ما قمتم به".

وقد فهم البخاري ذلك، فأخرج الحديث في باب ما يُكرَه من السؤال

(3)

، وذكر معه آية:{لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} ، وحديث:"إن أعظمَ المسلمين جرمًا مَن سأل عن شيء لم يُحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته". وقد قال الله عز وجل: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 ــ 161]. فكيف تكون المداومة على عملٍ

(1)

في النسخة اليمنية: "يصلي".

(2)

هنا كلمتان بين السطرين لم أستطع قراءتهما، وليس هناك إشارة لحق، والكلام متصل بدونهما.

(3)

"الصحيح" مع الفتح (13/ 264).

ص: 390

مشروعٍ فاضلٍ سببًا لمثل هذا الفرض؟

وقد أجيب عن هذا الإشكال أجوبة لا تُسْمِن ولا تُغنِي من جوع، وفيه إشكال آخر، بناءً على فرضِ أن أصل ذلك العمل مشروع، وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لمانعٍ، وهو الخشية؛ فإنه لو صحَّ هذا لكان على الخلفاء الراشدين أن يعملوا بهذا عند زوال المانع بوفاته صلى الله عليه وسلم ، فيؤمُّوا الناسَ في قيام رمضان في المساجد. فلماذا تركوه؟

أجاب بعضهم: أن الصحابة كانوا في زمن أبي بكر مشغولين بحروب الردّة، ولهذا لمّا استقرّ الأمر عمل به عمر.

وفي هذا أوّلًا: أنّ تضايق المدينة في قصة الردّة لم يَطُلْ، وبقي أبو بكر بعد ذلك مدةً متمكِّنًا كلَّ التمكُّن من القيام بالناس في المسجد لو أراد، وأن عمر لم يَقُم بالناس في المسجد قطّ، وإنّما أمر بما أمر به في آخر خلافته، فإنه استُشهِد آخرَ سنة 23.

وقد روى عبد الرحمن بن عبد القاريُّ القصةَ كما في "صحيح البخاري"

(1)

أنه شهدها، وفي القصة ما يقتضي أن يكون عبد الرحمن حينئذٍ من أصحاب عمر، يدخل بدخوله ويخرج بخروجه، مع أن عُمره لوفاة عمر كان تقريبًا عشرين سنة، وعلى ما رجحه ابن حجر في "الإصابة"

(2)

أربع عشرة سنة.

ورواها أيضًا روايةً واعيةً نوفلُ بن إياس الهذلي كما يأتي، مع أنهم لم يذكروه فيمن وُلِد في العهد النبوي، فعُمْرُه لوفاة عمر نحو ثلاث عشرة سنة.

(1)

رقم (2010).

(2)

(8/ 62) حيث رجَّح أنه وُلد في آخر عُمْر النبي صلى الله عليه وسلم .

ص: 391

فهذا ممّا يدلُّك أنّ ما وقع من عمر رضي الله عنه من جَمْعِهم على أُبي بن كعب إنما كان في آخر خلافته. وهذا كلُّه يُثبِت أن الصواب ما دلَّ عليه حديث زيد.

فأمّا ما في رواية عروة [ص 4] فقد فتح الله عليّ بجوابين:

الأول: أن يقال: إن هذا اللفظ الذي وقع في رواية عروة منسوبًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليس هو عين اللفظ النبوي، بل قد يكون اللفظ النبوي هو الذي وقع في حديث زيد أو في رواية عمرة. فأما ما في رواية عروة فتصرَّف فيه الراوي على وجه الرواية بالمعنى، على حسب فهمه.

الجواب الثاني: أنه على فرض أن ما وقع في رواية عروة هو عين لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فالتوفيق بينه وبين حديث زيد ــ مع تجنُّب الإشكالين ــ متيسِّر بحمد الله، بأن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم احتبس عنهم أوّلًا؛ ليصرِفَهم إلى الصلاة في البيوت، لمزيد فضلها، كما في حديث زيد، ثم كأنهم لمّا صنعوا ما صنعوا من التنحنُح ورفْع الأصوات وحَصْب الباب هَمَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يستجيب لإلحاحهم، فيخرج فيصلِّي بهم، لكنه خشي أن يكون في ذلك ما يؤكّد شناعةَ صنيعهم؛ لأنه يثبت بذلك [ص 6] أنهم اضطروا النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى فعل ما يكرهه، ولعلّ هذا يوجب أن يُعاقَبوا بأن يُفرض عليهم ذلك العمل. فلم يخشَ ترتُّبَ الفرض على المواظبة، بل على إلحاحهم إذا تأكّدت شناعتُه باستجابته لهم. فتدبَّرْ.

ولم أرَ مَنْ نحا هذا المنحى مع ظهوره، ومع استشكالهم ظاهرَ ما وقع في رواية عروة. فكأنهم احتاجوا إلى المحافظة على ظاهر ما في رواية عروة

ص: 392

ليدفعوا أن يكون ما أمر به عمر بدعةً، كما يدلُّ عليه قول كثيرٍ منهم: إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاستمرار على إقامتها جماعةً في المسجد لمانعٍ، وهو خشية أن تُفْرضَ، وبموته صلى الله عليه وسلم زال هذا المانع.

وإذا ثبت أن الحكم مشروعٌ، وتُرِك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لمانعٍ؛ فإنه إذا زال المانع بعده لم يكن العمل بذلك الحكم بدعة.

وستعلم قريبًا ــ إن شاء الله تعالى ــ ما يغني عنه في دفع البدعة.

وقد أخرج الإمام أحمد في "مسنده"

(1)

رواية أبي سلمة من طرقٍ، ثم أخرج

(2)

من طريق ابن إسحاق: "حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان الناسُ يصلّون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان بالليل أوزاعًا، يكون مع الرجل شيء من القرآن فيكون معه النفرُ الخمسةُ أو الستة، أو أقلُّ من ذلك أو أكثر، فيصلُّون بصلاته. قالت: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من ذلك أن أَنصِبَ له حصيرًا على باب حجرتي، ففعلتُ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن صلَّى العشاء الآخرة. قالت: فاجتمع إليه مَن في المسجد، فصلَّى بهم

فقال: "أيّها الناس! أما والله ما بِتُّ ــ والحمد لله ــ ليلتي هذه غافلًا، وما خفي عليّ مكانكم، ولكني تخوَّفْتُ أن يُفتَرض عليكم، فاكْلَفُوا من الأعمال ما تُطِيقون

".

في النفس شيء من هذه الرواية؛ قصةُ الأوزاع لم أجدها في شيء من

(1)

(6/ 61، 241، 36، 73، 104).

(2)

(6/ 267).

ص: 393

الروايات الأخرى، وإنَّما المحفوظ أن ذلك كان في عهد عمر، كما في "الموطأ"

(1)

وغيره عن ابن شهاب عن عروة عن عبد الرحمن بن عبدٍ القاريِّ أنه قال: "خرجتُ مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناسُ أوزاعٌ متفرقون، يُصلّي الرجل لنفسه، ويُصلّي الرجل فيصلي بصلاته الرهْطُ".

وبقيةُ الكلام في رواية ابن إسحاق، كأنه ضمَّ رواية عروة إلى رواية أبي سلمة، مع زيادة تطويل.

وابن إسحاق صدوق، وثَّقه جماعة

(2)

، وأثنى عليه الإمام أحمد وغيرُه، لكنْ قال أيوب بن إسحاق بن سافري ــ وهو صدوق ــ: سألت أحمد، فقلت له: يا أبا عبد الله! إذا انفرد ابن إسحاق بحديثٍ تقبله؟ قال: "لا والله؛ إني رأيته يُحدِّث عن جماعةٍ بالحديث الواحد، ولا يَفصِل كلامَ ذا من كلامِ ذا".

وقد تابعه محمد بن عمرو بن علقمة

(3)

في "سنن أبي داود"

(4)

، ولكنه مختصر.

ومحمد بن إبراهيم التيمي: وثَّقه جماعةٌ، واحتجَّ به الشيخان وغيرهما،

(1)

"الموطأ"(1/ 114) والبخاري (2010).

(2)

انظر "تهذيب التهذيب"(9/ 39 وما بعدها) وفيه قول الإمام أحمد المذكور (9/ 43).

(3)

كانت غير واضحة في الأصل، فوضع المصنف بجوارها علامة، وكتب في الحاشية:"بيانه: محمد بن عمرو بن علقمة".

(4)

رقم (1374).

ص: 394

وقال الإمام أحمد: "في حديثه شيء، يروي أحاديث مناكير، أو منكرة"

(1)

.

والخطبُ سهلٌ هنا، فقصةُ الأوزاع لها شواهد في الجملة، وبقيةُ الزيادة في رواية أبي سلمة إن لم تصحّ عنه فقد صحَّ أكثرها من رواية عروة.

أمّا شواهد قصة الأوزاع ففي "سنن البيهقي"

(2)

بسندٍ صحيح عن ثعلبة بن أبي مالك القُرَظي قال: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ في رمضان، فرأى ناسًا في ناحية المسجد يصلّون، فقال: "ما يصنع هؤلاء؟ ". قال قائل: يا رسول الله، هؤلاء ناسٌ ليس معهم قرآن، وأُبي بن كعب يقرأ، وهم معه يصلّون بصلاته. قال: "قد أحسنوا، أو قد أصابوا". [ص 7] ولم يكره ذلك لهم".

قال البيهقي: "هذا مرسل حسن، ثعلبة بن أبي مالك القرظي من الطبقة الأولى من تابعي أهل المدينة، وقد أخرجه ابن منده في "الصحابة"، وقيل: له رؤية، وقيل: سِنُّه سنُّ عطية القرظي، أُسِرا يوم قريظة ولم يُقْتَلا، وليست له صحبة".

وفي "الإصابة"

(3)

: "لا يمتنع أن يصح سماعُه".

ثم قال البيهقي: "وقد رُوي بإسنادٍ موصول إلّا أنه ضعيف". فذكر ما رواه أبو داود في "السنن"

(4)

من طريق مسلم بن خالد عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة، بنحو حديث ثعلبة.

(1)

"تهذيب التهذيب"(9/ 6).

(2)

(ج 2 ص 495)[المؤلف].

(3)

(2/ 78).

(4)

رقم (1377).

ص: 395

قال أبو داود: "هذا الحديث ليس بالقويّ، مسلم بن خالد ضعيف".

أقول: مسلم بن خالد ضعَّفه جماعةٌ من جهة حفظه، وقد وثَّقه ابن معين

(1)

.

وقد كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل الصّفة كانوا ملازمين المسجدَ، وكان مِنْ غيرهم مَنْ ينام في المسجد، كابن عمر، فهؤلاء كانوا يصلّون في المسجد حتمًا.

وقد عُلِم ممّا تقدم أنه ليس هناك دليلٌ يمنع الاقتداءَ في قيام الليل، بل قد ثبت اقتداء ابن مسعود بالنبي صلى الله عليه وسلم

(2)

، وكذلك اقتداء ابن عباس

(3)

. وثبت في قصة عمر أن الناس كانوا قبل ذلك يصلّون أوزاعًا في المسجد، ولم ينكر عليهم أحد صلاتهم تلك، حتى جمعهم عمر على إمام واحد.

هذا، وقد جاء من حديث أنس

(4)

وجابر

(5)

ما يوافقُ في الجملة حديثَي زيد وعائشة.

وفي "مسند أحمد" و"السنن"

(6)

من حديث أبي ذر: "صُمنا مع

(1)

انظر "تهذيب التهذيب"(10/ 129).

(2)

أخرجه البخاري (1135) ومسلم (773) عن ابن مسعود.

(3)

أخرجه البخاري (726) ومسلم (763) عن ابن عباس.

(4)

أخرجه مسلم (1104).

(5)

أخرجه ابن خزيمة (1070) وابن حبان (2409، 2415)، وفي إسناده عيسى بن جارية، وهو ضعيف.

(6)

أخرجه أحمد (5/ 163) وأبو داود (1375) والترمذي (806) والنسائي (3/ 83، 84)، وابن ماجه (1327). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ص: 396

رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يُصلِّ بنا حتى بقي سبعٌ من الشّهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في التالية

(1)

، وقام في الخامسة حتى ذهب شطر الليل. فقلنا: يا رسول الله! لو نفَّلْتَنا بقيةَ ليلتنا هذه، فقال:"إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كُتِب له قيامُ ليلة". ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلاث من الشهر، فصلى بنا في الثالثة ودعا أهله ونساءه، فقام بنا حتى تخوَّفْنا الفلاح". قيل لأبي ذرّ: وما الفلاح؟ قال: السحور.

قد عُرِف من عادة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، ويعتكف معه بعض أصحابه، فلعل المعتكفين هم الذين صلَّوا معه، وقد يكون معهم غيرهم ممّن هو في حكم المعتكف، فقد كان أهل الصّفّة لا مأوى لهم إلا المسجد.

نعم، قوله في الثالثة:"ودعا أهله ونساءه" يدلُّ على أنه يُشْرَع للإمام إذا كان معتكفًا أن يدعو أهله للقيام معه في المسجد في مثل تلك الليلة.

وفي "مختصر كتاب قيام الليل" لمحمد بن نصر (ص 96): "قال مالك: كان عمر بن حسين من أهل الفضل والفقه، وكان عابدًا

وكان في رمضان إذا صلَّى العشاء انصرف، فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين قامها مع الناس، ولم يكن يقومُ معهم غيرَها.

وقد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما دعا من خَشِيَ أن يَغفُلَ في بيته، وفي قصته لمّا أيقظ عليًّا وفاطمة ما يدفع استبعاد هذا. والله أعلم.

* * * *

(1)

في الأصل: "الثالثة" سبق قلم.

ص: 397