الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
داود.. وما خطيئته
؟
قلنا إن الله سبحانه وتعالى، حين دعا النبي- صلى الله عليه وسلم إلى الصبر، لفته- فى رفق ولطف- إلى ألا يكون كداود عليه السلام فيما ابتلى به، فلم يكن على المستوي المطلوب منه فى مواجهة هذا الابتلاء.. وقلنا إن ذلك لا ينقص من قدر هذا النبي الكريم، وإن كان يزيد فى قدر النبي محمد- صلوات الله وسلامه عليه- ويشير إلى المقام الذي يجب أن يرتفع إليه، متجاوزا مقام داود عليه السلام وإن كان مقاما رفيعا عظيما..
والذي نريد أن نقف عنده هنا، هو: ماذا كان من داود عليه السلام، فيما ابتلى به، مما لفت النبي- صلوات الله وسلامه عليه- إلى أن يذكره فى مقام الصبر، وأن يكون له من ذكره عبرة وعظة..؟
فماذا كان من داود عليه السلام؟
تحدّث الآيات السابقة عن قصة حدثت لداود عليه السلام، وتذكر أن خصمين دخلا عليه مجلسه فى صورة غير مألوفة، إذ تسورا عليه السور، ولم يدخلا من المدخل الطبيعي إليه.. ففزع منهما، وتوقع الشر من دخولهما على تلك الصورة، التي يقتحمان عليه فيها مجلسه اقتحاما، من غير استئذان، وهو
الملك، ذو البأس والسلطان، الذي تقوم على حراسته الجنود، والحجّاب..
فبأىّ سلطان دخل عليه هذان الخصمان؟ وكيف نفذا إليه؟ وأين عيون الجند والحرس؟ إن فى ملكه إذن لخللا، وإن فى سلطانه لثغرة يمكن أن ينفذ منها الشر إليه!! ولكن سرعان ما يكشف الخصمان عن شخصيتهما، فيهدئان من روعه، ويقولان له:«لا تخف» !! ومم يخاف وهو السلطان ذو البأس والقوة؟
وهل هما إلا بعض رعاياه؟ وهل يخاف الراعي من رعيته؟ وهو حصن أمنها، وموطن سكنها؟ وإذا كان ثمة خوف فهو خوف الرعية من سلطانها، لا خوف السلطان من رعيته!! إن فى الأمر إذن لشيئا. ويمضى الخصمان يعرضان أمرهما:«خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ» !! ويزداد داود عجبا إلى عجب، من هذا الأمر الصادر من المخصمين إليه:«فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ» هكذا بالأمر! وهل يحكم بغير الحق؟
وهل يتوقعان منه غير هذا؟ وإذا كانا يتوقعان غير ذلك، فهل لهما أن يصدرا إليه هذا الأمر؟ بل هل لهما أن يجهرا بما تحدثهما به نفسهما من جهته؟ إن فى الأمر لأكثر من شىء؟ .. ثم لا يقف أمر الخصمين عند هذا الأمر الصريح لداود بأن يكون عادلا فى حكمه بينهما، بل إنه ليحذّر منهما بألا يشتط فى الجور، إن كان لا يملك أن يعدل أو لا يحسن أن يقيم ميزان العدل مستقيما..
«ولا تشطط» !! تلك هى مقدمات القضية.. أما القضية، فلم يرض الخصمان أن يعرضاها إلا بعد أن اشترطا لنفسهما على داود، أن يكون عادلا فى الحكومة بينهما، وألا يجور فى الحكم.. فإن قبل منهما هذا الشرط، عرضا عليه أمرهما، ورضياه حكما بينهما، وإلا كان لهما شأن آخر معه..! إن الأمر فيما يبدو هو محاكمة لداود، أكثر منه احتكاما إليه؟.
وأعجب ما فى الموقف هنا، أن الخصمين يتفقان على هذا الأمر، ويقفان موقفا واحدا فيه، حتى لكأن كلا منهما قد وقع فى نفسه، ما وقع فى نفس صاحبه، من اتهام لداود فى عدله! .. والقضية- كما سنرى- واضحة لا تحتاج إلى نظر دقيق فى التعرف على وجه الحق فيها.. إذ كان الظلم فيها صارخا، يكاد يمسك بتلابيب أحدهما.. فكيف يساغ لهذا الظالم ذلك الظلم الصارخ، أن يطلب العدل، وأن يتشدد فى طلبه؟ إن فى القضية لأشياء وأشياء، تخرج بها عن مألوف ما يجرى بين الناس من قضايا، وما يقع من خصومات.
فما القضية؟.
إنها قضية موجزة، واضحة، قد جمعها القرآن الكريم فى كلمات:
هذه هى القضية:
أخوان فى النسب، أو فى الإنسانية، لأحدهما تسع وتسعون نعجة، وللآخر نعجة واحدة.. وصاحب التسع والتسعين نعجة، لا يقنع بما فى يده، بل يمدّ عينه إلى أخيه صاحب النعجة الواحدة، ثم لا يزال به حتى يسلبه نعجته، ويخلى يديه من كل شىء، حتى يصبح هو صاحب مائة.. فيكمل بتلك النعجة ما يراه نقصا فى تمام العدد.. وإن تسعا وتسعين عدد ناقص، ومائة عدد كامل.. فلا بد إذن أن يكملّ هذا العدد، ولو كان بحرمان صاحب النعجة الواحدة، من نعجته..!
وماذا يفعل صاحب القليل بقليله هذا؟ إنه لا غناء له فيه، وإنه ليسدّ خللا فيما بين يدى صاحب الكثير، ويكمل نقصا واضحا فيه.. فماذا عليه
لو ضاع منه هذا القليل، ليوضع فى موضعه الذي ينتظره عند صاحب الكثير؟
هكذا قدّر صاحب الكثير، وهكذا أمضى حكمه فى صاحبه!.
والظلم واضح صريح فى هذه القضية.. ولهذا بادر داود ببيان وجه الحق فيها، على حسب ما سمع من المدعى: فقال- معلقا على دعواه:
«لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» ! إن الأمر- فيما يبدو- ظلم صارخ، وعدوان مبين.!
ولم يلتفت داود إلى الظالم، ولم يواجهه بالحكم الذي يقتضيه الموقف، بل عاش لحظاته تلك، مع هذا المظلوم، يواسيه، ويخفف عنه مرارة الظلم الذي تجرعه من يد أخيه.. فيقول له:«وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ.. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ» .. فلست أنت يا صاحبى أول من ظلم من معاشريه ومخالطيه.. فما أكثر بغى الخلطاء بعضهم على بعض، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات من هؤلاء الخلطاء.. وقليل هم أولئك الذين لا يظلمون!.
وهنا يبحث داود عن هؤلاء القليل فى الناس، ويتفرس فى وجوههم، ثم يلتفت إلى نفسه، وهل هو واحد من هؤلاء القليل؟ وهنا يطلع عليه من صفحة أعماله ما يراه غير قائم على ميزان العدل.. وسرعان ما يرى نفسه طرفا فى هذه القضية التي بين يديه، وأنه يأخذ موقف المدعى عليه فيها، وأن هذا المدعى إنما يقيم دعواه عليه هو، لا على هذا الشخص الذي جاء به إليه.. إن هذا الشخص ما هو إلا المرآة التي يرى فيها داود نفسه!.
ومن إعجاز القرآن فى هذا، أنه لم يضع هذا المدعى عليه موضع اتهام،
فلم يسأل فى هذا الادعاء المدعى عليه به، ولم يوجّه إليه أي حديث، بل كان الحديث كله بين داود وبين صاحب الدعوى.. إذ يقول له معلقا على دعواه:
«لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ» .. وكان الموقف يقتضى أن يقول للمدعى عليه «لقد ظلمته بسؤال نعجته إلى نعاجك» !. فما جوابك على هذا؟.
لم يكن شىء من هذا.. بل لقد ذهب الخصمان، دون أن يفصل بينهما فيما اختصما فيه.. ويخليان مكانهما للخصمين اللذين هما أولى منهما بهذا الموقف:
داود وخصمه، الذي تمثّل له فى خطيئته..
وهنا يدرك داود أن هذين الخصمين، إنما هما ابتلاء من الله سبحانه وتعالى له، ليكشفا له عن أمر كان منه، فيه مشابه كثيرة من هذه القضية التي بين يديه، فيذكر هذا الأمر، ويكون له من ذكره امتحان وابتلاء، حيث يلتمس السبل فى تخليص نفسه مما وقع فيه، فلا يجد إلا التوبة إلى الله، والاستغفار لذنبه، وهو فى ذلك المقام يتقلب على جمر من الحسرة والندم، قد كربه الكرب واستبد به الجزع على ما فرّط فى جنب الله.. إنه أعرف بربه، وبجلاله وعظمته، وقدرته، وبالنعم السابغة التي أضفاها عليه، ثم هو أعرف بما لله من غيرة على حرماته، كما هو أعرف بما لله من حساب لأوليائه على صغائرهم، وهم فى هذا المقام الكريم الذي أنزلهم فيه..
ومن هنا كان داود فى فتنة قاسية، وابتلاء عظيم، بعد أن كشفت له تلك القضية عن حال من أحواله، لا يرضاه عنه ربه، فغامت نفسه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت.. وقد ظل هكذا فى كرب وبلاء عظيمين، يستغفر ربه، ويذرف دموع الندم، إلى أن تلقى إشارة السماء بمغفرة الله سبحانه وتعالى له، ورضوانه عنه، وإحسانه إليه!!
إنها هفوة من هفوات النفس البشرية، وهى فى حساب الناس لا تكاد تعدّ شيئا، بل حتى لا تحسب من اللمم المعفو عنه، ولكنها فى مقام الأنبياء والرسل شىء عظيم، وذنب كبير..!
ونكاد نقف عند هذا الحد من هذه القضية، أو القصة. فهذا ما نأخذه من آيات الله، ودلالاتها القريبة، دون تعسف فى التأويل، ودون استجلاب للمقولات الغريبة، التي تحمل عليها آيات الله حملا..
نقول، نكاد نقف عند هذا الحدّ من تلك القضية، وحسبنا أن نعرف مما تحدثنا به آيات الله، أنه كان من نبى من أنبياء الله الكرام هفوة، ثم كان له من الله سبحانه ألطاف، فتاب إلى الله واستغفر لذنبه، فغفر الله له، وزاد مقامه عنده رفعة- نقول- مرة ثالثة- كنا نريد أن نقف عند هذا الحد لا نتجاوزه، ولكنا نجد بين أيدينا، كتب التفاسير كلها، قد جاءت بمقولات من وراء دلالات الآيات القرآنية، وأكثرها مأخوذ عن روايات إسرائيلية يرويها اليهود عن كتابهم الذي حرّفوه، وألقوا فيه بأهوائهم الفاسدة، ومنازعهم الخبيثة..
ثم توسّع الرواة والنقلة فى هذه المقولات، وتصرفوا فيها كيف شاءوا، ومن وراء ذلك اليهود، يدسّون على المسلمين أحاديث عن الرسول، يضعون لها سلسلة من الرواة الذين اشتهر عنهم الحديث عن رسول الله، فتقع هذه الأحاديث المكذوبة من قلوب المسلمين موقعا، لا يجدون معه سبيلا إلى دفعها، وإذا حصيلة هذه الأحاديث المكذوبة، مجموعة من المتناقضات، يدفع بعضها بعضا، ويكذّب بعضها بعضا، فلا يدرى المرء ماذا يأخذ منها وماذا يدع. وفى أكثر الأحوال ينتهى الأمر إلى الشك فيها جملة.. إذ كانت لا تتصل بالعقيدة أو الشريعة..
وهذه قضية قد عرضنا لها فى أكثر من موضع، وربما عرضنا لها فى دراسة خاصة- إذا شاء الله- بعد أن يعيننا الله سبحانه، على أداء هذه المهمة التي نقوم بها فى خدمة كتابه الكريم،. فإن مثل هذه الأحاديث التي تنسب إلى الرسول الكريم، وإن لم تكن ذات أثر فى العقيدة أو الشريعة، فإنها تسبب إزعاجا، وخلخلة فى نفس المسلم إزاء الأحاديث النبوية الشريفة، وتقيمه منها على مقام بين الشك واليقين، فى كل ما يعرض له من أحاديث تنسب إلى الرسول.. وتلك هى جناية الأحاديث المكذوبة والملفقة على السنّة، التي هى المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم.
ونعود فنقول:
إن الذي يدعونا إذن إلى الوقوف عند هذه القصة- قصة داود عليه السلام هو تلك المقولات الكثيرة المتناقضة المتضاربة، التي قيلت عن الهفوة التي كانت من هذا النبي الكريم.. ولا نريد أن نعرض هذه المقولات، ونناقشها، ونعدّل أو نجرّح فيها، فهذا يحتاج إلى بحث طويل، يستنفد منا جهدا نحن حريصون على ألا يكون لغير كتاب الله..
وإذن فلن نقول هنا فى هذه الهفوة، وفى الكشف عن وجهها إلا قولا واحدا، نختاره من بين هذه المقولات، لأنه أقرب شىء إلى مفهوم تلك الإشارة الخصية التي يراها الناظر بقلبه وبعقله فى الآيات الكريمة التي نحدثت عن تلك القصة.
فالآيات القرآنية، تحدث عن أن داود عليه السلام، قد آتاه الله سبحانه ملكا، وقد مكّن له فى هذا الملك- إلى جانب النبوة التي اختصه الله سبحانه بها، فجمع لله سبحانه بهذا بين يديه السلطة الدينية والدنيوية معا..
هذه واحدة..
وأخرى، هى أن هذا النبي الكريم، وإن لم تكن له رسالة خاصة فى قومه، فإن رسالته فيهم، كانت امتدادا لرسالة موسى. فهو- والأمر كذلك- لم يكن فى رسالته إليهم إلا أن يقيمهم على الشريعة التي فى أيديهم، وأن يحقق العدل الذي اختلت موازينه فى أيديهم..
وهذه ثانية..
وثالثة، هى أن معركة هذا النبىّ وميدانها، هو فى هذا الصراع الذي يقوم بين السلطتين اللتين فى يديه.. سلطة الدين الذي يمثل سلطان الله الذي وضعه فى يده بمنصب النبوة، وسلطة الدنيا التي تتمثل فى هذا الملك الذي يقوم عليه..
ومن هنا كان على داود- عليه السلام أن يمسك ميزان العدل فى يديه، وأن يقيمه بالقسط، فلا يميل ولا ينحرف.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ» الآية..
ورابعة.. وهى أن إقامة هذا الميزان على حال سوى متوازن دائما، أمر لا تكاد تحتمله طاقة البشر، فقد يكون فى طاقة الإنسان أن يعمل للملك وحده، فلا يعطى للدين ولا للآخرة شيئا.. وقد يكون فى طاقته أن يعمل للدين وحده، فلا يعطى الدنيا من نفسه شيئا.. هذا وذاك أمران ممكنان.. وممكن كذلك، أن يجمع الإنسان بين السلطان فى الدنيا، والعمل للآخرة.. وذلك بأن يعمل للآخرة، وأن يمسك بطرف من السلطان الدنيوي أو أن يعمل للدنيا، ويمسك بطرف من الآخرة.. أما أن يجمع بين الدين والدنيا هذا الجمع المتوازن، المستقيم على خط هندسى.. فهذا هو لذى لا يمكن أبدا..
وننظر إلى داود- عليه السلام فى موقفه هذا:
إنه سلطان، يملك دنيا عريضة.. ولهذه الدنيا إغراؤها، وشهواتها..
وإنه نبى كريم. وللنبوة خطرها، وجلالها، وسموّها..
والمطلوب منه هنا، هو أن يجمع بين السماء والأرض.. أن يلبس الملك والنبوة معا.. فلا يرى فى حال من أحواله إلا ملكا نبيّا، أو نبيّا ملكا..
إنه ملك من عند الله، ونبىّ من عند الله، يسوس الملك بالنبوة، ويؤيد النبوة بالملك! ..
ولا شك أن هذا فضل عظيم، ولكنه ابتلاء عظيم أيضا، ولهذا كان هذا الإلفات السماوىّ لداود، أن يأخذ حذره، إذ يقول له الحق جل وعلا:«يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ» . ولهذا أيضا كان تقبل الله سبحانه لداود، وتجاوزه عن ذنبه، إذ كان إنما حمل أمرا عظيما، تغتفر له فيه الهنات، وتقال فيه العثرات! فما هى هفوة هذا النبىّ الكريم، وما هى عثرته؟
إنها- والله أعلم- ملففة فى ستر من ألطاف الله ورحمته، فيما كان من تلك القضية التي عرضها عليه الخصمان:«خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» إن القضية تمثل صراعا بين قوىّ وضعيف.. بين من يملك الكثير الكثير، ومن لا يملك إلا القليل القليل.. بين صاحب سلطان يعتز بسلطانه، ويمضى الأمور بكلمة تصدر من فمه، وبين من لا يملك الكلمة بقولها أمام هذا السلطان! ..
وداود- عليه السلام يمثّل السلطان فى أعزّ مكان، وأقوى سلطان..
وبكلمة منه إلى أحد رعاياه نزل له هذا الرعية عن شىء- هو أعز ما يملك- كانت نفس داود قد مالت إليه، ورغبت فيه.. ولم يستطع هذا «الرعية» أن يقول: لا.. توقيرا وهيبة، أو خوفا وإشفاقا..
وفى قوله تعالى: «وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ» - إشارة إلى أن كلمة «داود» كانت حكما قاطعا، وقضاء نازلا، لم يستطع له هذا «الرعية» ردّا.
يقال: عز فلان، أي صار ذا عزة، وعز فلان فلانا، أي غلبه.
وفى المثل: «من عزّ بزّ» أي من قوى، غلب وسلب! وماذا أخذ «داود» من هذا الإنسان؟
إنه شىء ما، عزيز على هذا الإنسان، مستغن به.. قد يكون فرسا، يضمه داود إلى مقتنياته من جياد الخيل.. وقد يكون مزرعة بين مزارع داود.. وليس من الحتم أن يكون امرأة، كما ذهب إلى ذلك أكثر المفسرين، مستندين فى هذا إلى ما جاء فى قضية الخصمين، وإلى أن النزاع كان بينهما على «نعجة» .. والنعجة تطلق فى لسان العرب على المرأة!! ولو سلمنا بهذا، لكان لنا أن نقول، إن هذا مثل، تراد دلالته، ولا تراد صورته..
فلو ذهبنا نأخذ صورة المثل هنا، لكان من الحتم أن يكون لداود تسع وتسعون امرأة.. وهذه الكثرة فى النساء، إن فرض التسليم بها، فلم يوقف بها عند هذا العدد بالذات؟. ولم لا تزيد أو تنقص؟
إن دلالة التسع والتسعين- كما قلنا- هى دلالة على أمرين:
أولا: كثرة الشيء ووفرته..
وثانيا: نقص هذه الكثرة، وحاجتها لشىء يبلغ به تمامها، حتى تكون مائة!.