الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه هى القصة أو القضية.. وقد أدين فيها داود، أدان نفسه وحكم عليها بهذا اللوم الصارخ، وهذا الاستغفار الدائب، والضراعة السابحة فى دموع الندم.. ولعل هذا الصوت الشجى، المحمّل بزفرات الحسرة، ونشبج الحرقة، الذي كان يسبّح به داود، ويتلو به آيات الزبور، على أنغام مزاميره، فتهتز له الجبال، وتصغى إليه الطير- لعل هذا الصوت كان من مواليد هذه المحنة، التي ولدت لداود أكثر من مولود، ورفدته بأكثر من عطاء من عطايا الله ومننه..
أمّا ما تقول به التوراة، وما تلقاه عنهم المفسّرون، ودعموه بالأحاديث من أن داود قد وقع فى حب امرأة قائد من قواد جبشه اسمه «أوريا» وأنه أراد أن يستخلص المرأة لنفسه، بعد أن رآها من قصره وهى تستحم فى فى دارها القائمة تحت قصره، أو وهى تمشط شعرها- فكان من تدبيره لهذا أن بعث بهذا القائد فى مهمة حربية، وجعله فى مواجهة الموت الراصد له هناك.. فلما قتل فى المعركة تزوج داود امرأته- فهذا قول فيه جرأة على مقام هذا النبي، الأمر الذي كان لا يتورع عنه اليهود مع أنبياء الله، أحياء وأمواتا، أو قتلى بأيديهم، فضلا عن أن هذا العمل المشين مدفوع بأكثر من دفع، على حسب ما جاء فى القرآن الكريم، منطوقا ومفهوما، كما رأينا..
الآيات: (27- 29)[سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
التفسير:
قوله تعالى:
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، قد ذكرت داود عليه السلام، وأشارت إلى أن شيئا ما، من العدوان على غيره، قد وقع منه..
وأنه- وقد كان خليفة الله فى الأرض- فإن الله سبحانه لم يدعه يذهب بما فعل، بل أوقفه موقف الحساب والمساءلة، وبعث إليه من يهجم عليه وهو فى محراب ملكه، وعلى كرسى سلطانه، وأن يجد نفسه بين هذين الخصمين اللذين تسوّرا عليه محرابه، وآتياه من عل، وهو فى قبضة الفزع والاضطراب، لا يجد من قوة سلطانه شيئا يردّ عنه ما حلّ به. إنه قصاص للرعية، وبيد الرعية، من هذا الراعي.. وهذا حسابه مع الناس. أما حسابه مع الله، فقد أدى ثمن هذا العدوان، بكاء وعويلا، وسهرا طويلا..
هكذا سنة الله فى خلقه، وحكمه بين عباده، فكما لا يظلمهم ربّهم شيئا، كذلك جعل الظلم محرّما بينهم، فمن ظلم اقتصّ الله له من ظالمه، فى الدنيا وفى الآخرة. وفى الحديث القدسي:«يا عبادى حرّمت الظلم على نفسى، وقد حرمته عليكم.. فلا تظالموا»
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» (60: الحج) ..
وعلى هذا نجد الصلة وثيقة بين قوله تعالى: «وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» وبين الآيات السابقة عليها، التي تضمنت هذه القضية التي وضع فيها نبىّ من أنبياء الله موضع المحاسبة والمساءلة على ما كان منه من عدوان على أحد رعاياه.. فالله سبحانه وتعالى خلق السموات والأرض وما بينهما بالحق، وأقامهما على ميزاته، ولم يخلقهما باطلا، حتى يسمح للباطل أن يسكن إليهما، ويعيش فيهما.. بل إن الحق ليمسك بكل ذرة من ذرات هذا الوجود، وإنه ليس فى كائنات الوجود من ينحرف عن طريق الحق إلّا الإنسان، لماله من إرادة، تصدر عن تفكير وتقدير.
وهذا الانحراف، لا يدوم أبدا.. فما هى إلا لحظة عابرة من لحظات الزمن الأبدى، يضطرب فيها ميزان العدل بين الناس، ثم يعود هذا الميزان إلى توازنه، فيوفّى كلّ إنسان جزاء عمله يوم الجزاء:«لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ» (17: غافر) .
وقوله تعالى: «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا» الإشارة هنا إلى خلق السموات والأرض وما بينهما، أي أن الله سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما باطلا، ولكن الذين كفروا لا يؤمنون بهذه الحقيقة، بل يعيشون فى أوهام وظنون وراء هذا الحق الذي تنطق به آيات الله.. فلو كانوا يؤمنون بالله لآمنوا بهذه الحقيقة، ولا ستيقنوا أن الله هو الحق، وأن الحق لا يكون من صنعته إلا ما هو حق، وأنهم إذا ظلموا لن يتركوا وشأنهم، بل سيحاسبون ويعاقبون، وفى كفرهم بالله ظلم عظيم، يلقون عليه أشد
العذاب.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ» .
قوله تعالى:
«أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ» أي أحسب الذين كفروا أننا نسوى بين الأخيار والأشرار، وأن نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كالمفسدين فى الأرض، الذين كفروا بالله، وعصوا رسله، وآذوا خلقه؟ ذلك ما لا يتفق مع الحق الذي أقام الله عليه خلقه، والذي به خلق السموات والأرض.
قوله تعالى:
«كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» أي هذا كتاب أنزلناه إليك «مبارك» أي فيه البركة التي تنال كل من يلقاه، ويتلقى منه الحكمة والموعظة الحسنة، فيتدبر آياته، ويستضىء بأضوائه ويهتدى بهديه.. ومناسبة هذه الآية لما قبلها.. أن الآيتين السابقتين عليها كانتا بيانا لحقيقة هذا الوجود، وأنه قائم على ميزان الحق والعدل، وأن الذين ينحرفون عن طريق الحق والعدل سيلقون سوء العذاب.. وهذه الآية، هى دعوة إلى كل من يلتمس طريق الحق، ويطلب النجاة لنفسه من عذاب الله..
وليس غير كتاب الله هاديا يهدى إلى الحق.. فمن التمس الهدى فى غيره ضلّ، ومن جاوز حدوده هلك..