الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَقَدْ نَهَى الشَّرْعُ عَنْ ذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ بِلُحُونِ الْعَرَبِ وَأَصْوَاتِهَا وَإِيَّاكُمْ وَلُحُونِ أَهْلِ الْعِشْقِ وَلُحُونِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَسَيَجِيءُ بَعْدِي قَوْمٌ يُرَجِّعُونَ الْقُرْآنَ تَرْجِيعَ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ، لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ مَفْتُونَةٌ قُلُوبُهُمْ وَقُلُوبُ الَّذِينَ يُعْجِبُهُمْ شَأْنُهُمْ» ، وَلَا يَأْتُونَ إلَى جِنَازَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَدْعِيَهُمْ وَلِيُّ الْمَيِّتِ، وَإِذَا أُعْطُوا شَيْئًا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ جَازَ لَهُمْ أَخْذُهُ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[الْبَاب الثَّامِن وَالْأَرْبَعُونَ فِي الْحَسَبَة عَلَى الْوُعَّاظ]
يَجِبُ عَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ الْوُعَّاظِ، وَلَا يُمَكِّنُ أَحَدًا يَتَصَدَّى لِهَذَا الْفَنِّ إلَّا مَنْ اُشْتُهِرَ بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّينِ وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ وَأَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ وَعِلْمِ الْأَدَبِ حَافِظًا الْكِتَابَ الْعَزِيزَ وَلِأَحَادِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَخْبَارِ الصَّالِحِينَ وَحِكَايَاتِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَيُمْتَحَنُ بِمَسَائِلَ يُسْأَلُ عَنْهَا مِنْ هَذِهِ الْفُنُونِ، فَإِنْ أَجَابَ وَإِلَّا مُنِعَ كَمَا اخْتَبَرَ الْإِمَامُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لَهُ: مَا عِمَادُ الدِّينِ؟ قَالَ: الْوَرَعُ، قَالَ: فَمَا آفَتُهُ؟ قَالَ: الطَّمَعُ، قَالَ: تَكَلَّمَ الْآنَ إنْ شِئْتَ.
وَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِيهِ مُكِّنَ مِنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ فِي أَيِّ بُقْعَةٍ أَحَبَّ، وَمَنْ لَا يَدْرِي ذَلِكَ وَكَانَ جَاهِلًا بِذَلِكَ مُنِعَ مِنْ الْكَلَامِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَنِعْ وَدَامَ عَلَى كَلَامِهِ عُزِرَ، وَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ كَلَامِ الْوُعَّاظِ
وَحَفِظَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَأَخْبَارِ الصَّالِحِينَ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَصَدَ الْكَلَامَ يَسْتَرْزِقُ بِهِ وَيَسْتَعِينُ عَلَى قُوَّتِهِ فَيُبِيحُ لَهُ بِشَرْطِ أَلَّا يَصْعَدَ عَلَى مِنْبَرٍ بَلْ يَقِفُ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَإِنَّ رُتْبَةَ صُعُودِ الْمِنْبَرِ رُتْبَةٌ شَرِيفَةٌ لَا يَلِيقُ أَنْ يَصْعَدَ عَلَيْهِ إلَّا مَنْ اُشْتُهِرَ بِمَا وَصَفْنَاهُ وَكَفَى بِهِ عُلُوًّا سُمُوًّا، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَعِدَ عَلَيْهِ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ مِنْ بَعْدِهِ وَالْأَئِمَّةُ وَكَانَ الْعَصْرُ الْأَوَّلُ لَا يَصْعَدُ فِيهِمْ الْمِنْبَرَ أَلَّا أَحَدُ رَجُلَيْنِ خَطِيبٌ فِي جَامِعٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَ الْعِيدِ أَوْ رَجُلٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ يَعِظُ النَّاسَ وَيُذَكِّرُهُمْ الْآخِرَةَ وَيُنْذَرُهُمْ وَيُحَذِّرُهُمْ وَيُخَوِّفُهُمْ وَيَحُثُّهُمْ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ وَكَانَ لِلنَّاسِ بِذَلِكَ نَفْعٌ عَظِيمٌ، وَفِي زَمَانِنَا هَذَا لَا يُطْلَبُ الْوَاعِظُ إلَّا لِتَمَامِ شَهْرِ مَيِّتُ أَوْ لَعَقَدَ نِكَاح أَوْ لِاجْتِمَاعِ هَذَيَانٍ، وَلَا يَجْتَمِعُونَ النَّاسُ عِنْده لِسَمَاعِ مَوْعِظَةٍ وَلَا لِفَائِدَةٍ، وَإِنَّمَا صَارَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْفَرَحِ وَاللَّعِبِ وَالِاجْتِمَاعِ وَيَجْرِي فِي الْمَجْلِسِ أُمُورٌ لَا تَلِيقُ مِنْ اجْتِمَاعِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَرُؤْيَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ وَأَشْيَاءُ لَا يَلِيقُ ذَكَرُهَا وَهَذَا مِنْ الْبِدَعِ الْمُضِلَّةِ وَكَانَ الْأَوْلَى حَسْمُ الْبَابِ فِي ذَلِكَ وَالْمَنْعُ مِنْهُ، وَإِنْ تَعَذَّرَ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجُلٌ مَشْهُورٌ بِالدِّينِ وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لِلَّهِ مُجْتَهِدًا قَوَّالًا فَعَّالًا، قَالَ اللَّهُ سبحانه وتعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] .
وَقَالَ: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور: 17] ، وَالْفُقَهَاءُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ وَالْأُدَبَاءُ وَالنُّحَاةُ يُسَمُّونَ أَهْلَ الذَّكَرِ وَالْوَعْظِ قُصَّاصًا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مَجَالِسُ الْوَعْظِ خَيْرُ الْمَجَالِسِ وَمَلَابِسُهَا أَفْخَرُ الْمَلَابِسِ فِيهَا تَرِقُّ قَسْوَةُ الْقُلُوبِ، وَفِيهَا يُتَابُ مِنْ الذُّنُوبِ وَيُعْتَرَفُ بِالْعُيُوبِ
وَعِنْدَ الْوَاعِظِ تَتَرَقْرَقُ الْعُيُونُ بِالدُّمُوعِ عَلَى الْخُدُودِ وَبِبَرَكَتِهِ يُزْدَادُ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ.
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا رَأَيْتُمْ رِيَاضَ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا فِيهَا قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: مَجَالِسُ الذِّكْرِ» .
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: إنَّ اللَّهَ عز وجل أَوْحَى إلَى مُوسَى عليه السلام أَنْ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ رِيَاضًا تُنْبِتُ الْمَغْفِرَةَ قَالَ مُوسَى وَمَا هِيَ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ فِيهَا دُعَاةٌ يَدْعُونَ إلَيَّ وَأَلْوِيَتُهُمْ مِثْلُ أَلْوِيَةِ الْأَنْبِيَاءِ يَحُثُّونَ عِبَادِي عَلَى الْخَيْرِ فَيُبْكُونَهُمْ وَيُزَهِّدُونَهُمْ وَيُرَغِّبُونَهُمْ وَيُحَبِّبُونَهُمْ إلَى عِبَادِي، أُولَئِكَ لَهُمْ الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ وَالرِّضْوَانُ الْأَكْبَرُ.
وَلِلْوَاعِظِ شُرُوطٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ مُسْتَقِيمَ اللِّسَانِ حَسَنَ الْبَيَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] ، وَمِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ إشَارَةٍ وَرُمُوزٍ، فَقَدْ قِيلَ رُبَّ إشَارَةٍ أَبْلَغُ مِنْ عِبَارَةٍ وَرُبَّ لَحْظٍ أَبْلَغُ مِنْ لَفْظٍ وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: الْوَاعِظُ الَّذِي إذَا دَخَلْتَ بَيْتَهُ تَعِظُكَ آلَةُ بَيْتِهِ فَتَرَى إنَاءَ الْوُضُوءِ وَسَجَّادَةَ الصَّلَاةِ.
وَمِنْ الْمَكْرُوهَاتِ كَلَامُ الْقُصَّاصِ وَالْوُعَّاظِ الَّذِينَ يَمْزُجُونَ بِكَلَامِهِمْ الْبِدَعَ فَالْقَاصُّ إنْ كَانَ يَكْذِبُ فِي أَخْبَارِهِ فَهُوَ فِسْقٌ وَالْإِنْكَارُ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَكَذَا الْوَاعِظُ الْمُبْتَدِعُ يَجِبُ مَنْعُهُ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُ مَجْلِسِهِ إلَّا عَلَى قَصْدِ إظْهَارِ الرَّدِّ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَلَا يَجُوزُ حُضُورُ سَمَاعِ الْبِدْعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ:{فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] وَمَهْمَا كَانَ الْوَاعِظُ شَابًّا مُتَزَيِّنًا لِلنِّسَاءِ فِي ثِيَابِهِ وَهَيْئَتِهِ كَثِيرَ الْأَشْعَارِ وَالْإِشَارَاتِ وَالْحَرَكَاتِ، وَقَدْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ النِّسَاءُ فَهَذَا مُنْكَرٌ يَجِبُ الْمَنْعُ مِنْهُ، فَإِنَّ الْفَسَادَ أَكْثَرُ مِنْ الصَّلَاحِ وَيَبِينُ ذَلِكَ مِنْهُ بِقَرَائِنِ أَحْوَالِهِ بَلْ