الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الْبَاب الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ فِي الْأُمَرَاء وَالْوُلَاة وَمَا يَتَعَلَّق بِهِمْ مِنْ أُمُور الْعِبَاد]
يَنْبَغِي لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَقْصِدَ مَجَالِسَ الْأُمَرَاءِ وَالْوُلَاةِ وَيَأْمُرَهُمْ بِالشَّفَقَةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَيَذْكُرَ لَهُمْ مَا وَرَدَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إلَّا لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ» وَفِي رِوَايَةٍ «لَمْ يَجِدْ رِيحَ الْجَنَّةِ» .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «مَا مِنْ أَمِيرٍ يُؤَمَّرُ عَلَى عَشْرَةٍ إلَّا وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولَةً يَدُهُ إلَى عُنُقِهِ حَتَّى يَكُونَ عَمَلُهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُ أَوْ يُوثِقُهُ» وَفِي الْحَدِيثِ «لَا تَسْأَلْ الْإِمْرَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا وَإِنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا» .
وَيُرْوَى «أَنَّ الْعَبَّاسَ عَمَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِّرْنِي إمَارَةً قَالَ يَا عَمِّ نَفْسٌ تُحْيِيهَا خَيْرٌ مِنْ إمَارَةٍ لَا تُحْصِيهَا» لِأَنَّ الْإِمَارَةَ حَسْرَةٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ لَا تَكُونَ أَمِيرًا فَافْعَلْ، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يَخْرُجُ كُلَّ لَيْلَةٍ يَطُوفُ مَعَ الْعَسَسِ حَتَّى يَرَى خَلَلًا يَتَدَارَكُهُ وَكَانَ يَقُولُ لَوْ ضَاعَتْ شَاةٌ بِالْقُرَاةِ لَخَشِيت أَنْ أُسْأَلَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَانْظُرْ أَيُّهَا الْأَمِيرُ الْمُتَوَلِّي أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ إلَى عُمَرَ مَعَ احْتِيَاطِهِ وَعَدْلِهِ وَمَا وَصَلَ أَحَدٌ إلَى قِرَاءَتِهِ وَصَلَاتِهِ كَيْفَ يَتَفَكَّرُ وَيَتَخَوَّفُ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالُوا كُنَّا نَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُرِينَا عُمَرُ فِي الْمَنَامِ فَرَأَيْته فِي النَّوْمِ بَعْدَ اثْنَيْ عَشْرَ سَنَةَ كَأَنَّهُ قَدْ اغْتَسَلَ وَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِإِزَارٍ فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَيْفَ وَجَدْت رَبَّك وَبِأَيِّ حَسَنَاتِك جَازَاك قَالَ عَبْدُ اللَّهِ كَمْ لِي مُنْذُ فَارَقْتُكُمْ فَقُلْت اثْنَا عَشَرَ سَنَةً قَالَ مُنْذُ فَارَقْتُكُمْ كُنْت فِي الْحِسَابِ وَخِفْت أَنْ أَهْلَكَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ جَوَادٌ كَرِيمٌ.
فَهَذِهِ حَالُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ دُنْيَاهُ شَيْءٌ مِنْ أَسْبَابِ الْوِلَايَةِ سِوَى دِرَّتِهِ، وَلَمَّا مَاتَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَدْخَلَهُ فِي قَبْرِهِ وَلَدُهُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَارْتَكَضَ وَاضْطَرَبَ عَلَى أَيْدِيهِمَا فَقَالَ وَلَدُهُ عَاشَ وَاَللَّهِ أَبِي فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بَلْ وَاَللَّهِ عُوجِلَ أَبُوك.
وَقَالَ مَكْحُولٌ الدِّمَشْقِيُّ رضي الله عنه يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَعْوَانُهُمْ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ مَدَّ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ إلَّا حَضَرُوا فَيُجْمَعُونَ فِي تَابُوتٍ مِنْ نَارٍ فَيُلْقَوْنَ فِي جَهَنَّمَ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «لَا يَقِفُ أَحَدُكُمْ مَوْقِفًا يُضْرَبُ فِيهِ رَجُلٌ مَظْلُومٌ فَإِنَّ اللَّعْنَةَ تَنْزِلُ عَلَى مَنْ حَضَرَ حَيْثُ لَمْ يَدْفَعْ عَنْهُ» .
وَرُوِيَ أَنَّهُ مَاتَ رَجُلٌ مِنْ الْحَوَارِيِّينَ فَوَجَدَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ وَجْدًا شَدِيدًا وَسَأَلُوا عِيسَى عليه السلام أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ عز وجل أَنْ يُحْيِيَهُ لَهُمْ فَوَقَفَ عَلَى قَبْرِهِ وَدَعَا اللَّهَ سبحانه وتعالى فَأَحْيَاهُ لَهُمْ وَإِذَا بِرِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ نَارٍ فَسَأَلَهُ عِيسَى عليه السلام عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ وَاَللَّهِ مَا عَصَيْت بِهِمَا قَطُّ غَيْرَ أَنِّي مَرَرْت بِمَظْلُومٍ فَلَمْ أَنْصُرْهُ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «يُؤْتَى بِالْوُلَاةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عز وجل أَنْتُمْ كُنْتُمْ رُعَاةَ خَلِيقَتِي وَخَزَنَةَ مُلْكِي فِي أَرْضِي ثُمَّ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ لِمَ ضَرَبْت عِبَادِي فَوْقَ الْحَدِّ
الَّذِي أَمَرْت بِهِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لِأَنَّهُمْ عَصَوْك وَخَالَفُوك فَيَقُولُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْبِقَ غَضَبُك غَضَبِي ثُمَّ يَقُولُ لِأَحَدِهِمْ لِمَ عَاقَبْت عِبَادِي أَقَلَّ مِنْ الْحَدِّ الَّذِي أَمَرْت بِهِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ إنِّي رَحِمْتهمْ فَيَقُولُ تَعَالَى كَيْفَ تَكُونُ أَرْحَمَ مِنِّي خُذُوا الَّذِي زَادَ وَاَلَّذِي نَقَصَ فَاحْشُوا بِهِمَا زَوَايَا جَهَنَّمَ» .
فَيَجِبُ عَلَيْك يَا أَيُّهَا الْمُتَوَلِّي لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَحْتَرِزَ عَلَى نَفْسِك مِنْ مِثْلِ هَذَا وَأَنْ تَقِفَ عِنْدَ أَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الظُّلْمَ مِنْ الْوُلَاةِ عَظِيمٌ لِأَنَّهُمْ يُجْرُونَ الْبَاطِلَ مَجْرَى الْحَقِّ وَيُخْرِجُونَ الْجَوْرَ مَخْرَجَ الْعَدْلِ وَيَقُولُونَ إنَّنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ أَمَاتُوهُ قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ رَأَيْت بِالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ بِالْخَلِيجِ سَمَكًا كَثِيرًا مُطْلَقًا لِلْعَامَّةِ فَاحْتَجَرَ عَلَيْهِ الْوَالِي وَمَنَعَ النَّاسَ مِنْهُ فَذَهَبَ مِنْ الْخَلِيجِ السَّمَكُ إلَّا الْوَاحِدَةُ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ.
وَخَطَرُ الْوِلَايَةِ عَظِيمٌ وَخَطْبُهَا جَسِيمٌ وَلَا يَسْلَمُ الْوَالِي إلَّا بِمُخَالَطَةِ الْعُلَمَاءِ وَالصُّلَحَاءِ وَفُضَلَاءِ الدِّينِ لِيُعَلِّمُوهُ طَرِيقَ الْعَدْلِ وَيُسَهِّلُوا عَلَيْهِ خَطَرَ هَذَا الْأَمْرِ وَمِنْ أَعْظَمِ خِصَالِ الْوَالِي وَأَحْمَدِهَا تَوَقُّعًا فِي نُفُوسِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ إنْصَافُهُ مِنْ خَاصَّتِهِ وَحَاشِيَتِهِ وَأَعْوَانِهِ وَتَفَقُّدُهُمْ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا مِنْ الْغُرَمَاءِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، وَفِي هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ كِفَايَةٌ وَلْيَكُنْ فِي وَعْظِهِ وَقَوْلِهِ فِي رَدْعِهِمْ عَنْ الظُّلْمِ لَطِيفًا ظَرِيفًا لَيِّنَ الْقَوْلِ بَشُوشًا غَيْرَ جَبَّارٍ وَلَا عَبُوسٍ.
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] وَقَدْ تَقَدَّمَتْ الْحِكَايَةُ عَنْ الْمَأْمُونِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَنْ وَلِيَ مِنْ أُمُورِ أُمَّتِي شَيْئًا وَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ وَمَنْ شَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ» فَقَدْ سَبَقَتْ دَعْوَتُهُ صلى الله عليه وسلم وَفِي ذَلِكَ كِفَايَةٌ لِمَنْ يَتَدَبَّرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.