الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَرِيضُ يَحْبُو حَتَّى أَخَذَ التَّوْرَاةَ وَقَالَ: ارْفَعْ يَدَكَ، فَقَرَأَ حَتَّى أَتَى عَلَى صِفَتِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ صِفَتُكَ وَصِفَةُ أُمَّتِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ مَاتَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لوا أَخَاكُمْ.
حَدِيثٌ آخَرُ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: وقف على مدارس اليهود فقال: يا معشر يهود أسلموا، فو الذي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، فَقَالُوا:
قَدْ بَلَّغْتَ يَا أبا القاسم، فقال: ذلك أريد.
تبشير الكتب السابقة به
فَالَّذِي يَقْطَعُ بِهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رسوله، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ بَشَّرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ، وَأَتْبَاعُ الْأَنْبِيَاءِ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يكتمون ذلك ويخفونه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)«1» وَقَالَ تَعَالَى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ «2» وَقَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)«3» وَقَالَ تَعَالَى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا
(1) سورة الأعراف، الآيتان: 157- 158.
(2)
سورة الأنعام، الآية:114.
(3)
سورة البقرة، الآية:146.
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ «1» وَقَالَ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ «2» وقال تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ «3» وَقَالَ تَعَالَى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ»
وَقَالَ تَعَالَى: لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ 70 «5» فذكر تعالى بِعْثَتِهِ إِلَى الْأُمِّيِّينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَسَائِرِ الْخَلْقِ مِنْ عَرِبِهِمْ وَعَجَمِهِمْ، فَكُلُّ مَنْ بَلَغَهُ الْقُرْآنُ فَهُوَ نَذِيرٌ لَهُ، قَالَ صلى الله عليه وسلم:
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٍّ وَلَا نَصْرَانِيٍّ وَلَا يُؤْمِنُ بِي إِلَّا دَخَلَ النَّارَ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي «نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَجُعِلَتْ لِيَ الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُعْطِيتُ السماحة «6» . وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ وَبُعِثْتُ إِلَى الناس عامة. وفيهما: بعثت إلى الحجر الْأَسْوَدِ وَالْأَحْمَرِ، قِيلَ: إِلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، وَقِيلَ: إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَالصَّحِيحُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْبِشَارَاتِ بِهِ صلى الله عليه وسلم موجودة فى الكتب الْمَوْرُوثَةِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ حَتَّى تَنَاهَتِ النُّبُوَّةُ إِلَى آخَرِ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ عِيسَى بن مريم، وَقَدْ قَامَ بِهَذِهِ الْبِشَارَةِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَقَصَّ اللَّهُ خَبَرَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «7» فَإِخْبَارُ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِأَنَّ ذكره موجود فى الكتب
(1) سورة آل عمران، الآية:20.
(2)
سورة إبراهيم، الآية:52.
(3)
سورة الأنعام، الآية:19.
(4)
سورة هود، الآية:17.
(5)
سورة يس، الآية:70.
(6)
البخاري: الشفاعة والحديث أخرجه البخاري في كتاب الصلاة (438)(2/ 283) .
(7)
سورة الصف، الآية:6.
الْمُتَقَدِّمَةِ، فِيمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَفِيمَا وَرَدَ عَنْهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ مِنْ أَعْقَلِ الْخَلْقِ بِاتِّفَاقِ الْمُوَافِقِ وَالْمُفَارِقِ، يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِي ذَلِكَ قطعا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ وَاثِقًا بِمَا أَخْبَرَ به من ذلك، لكان مِنْ أَشَدِّ الْمُنَفِّرَاتِ عَنْهُ، وَلَا يُقْدِمُ عَلَى ذَلِكَ عَاقِلٌ، وَالْغَرَضُ أَنَّهُ مِنْ أَعْقَلِ الْخَلْقِ حَتَّى عِنْدَ مَنْ يُخَالِفُهُ، بَلْ هُوَ أَعْقَلُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، ثُمَّ إِنَّهُ قَدِ انْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَعَمَّتَ دَوْلَةُ أُمَّتِهِ فِي أَقْطَارِ الْآفَاقِ عُمُومًا لَمْ يَحْصُلْ لِأُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ قَبْلَهَا، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا، لَكَانَ ضَرَرُهُ أَعْظَمَ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَحَذَّرَ عَنْهُ الْأَنْبِيَاءُ أَشَدَّ التَّحْذِيرِ، وَلَنَفَّرُوا أُمَمَهُمْ مِنْهُ أَشَدَّ التَّنْفِيرِ، فَإِنَّهُمْ جَمِيعَهُمْ قَدْ حَذَّرُوا مِنْ دُعَاةِ الضَّلَالَةِ فِي كُتُبِهِمْ، وَنَهَوْا أُمَمَهُمْ عَنِ اتِّبَاعِهِمْ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ، وَنَصُّوا عَلَى الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، الْأَعْوَرِ الْكَذَّابِ، حَتَّى قَدْ أَنْذَرَ نُوحٌ- وَهُوَ أَوَّلُ الرُّسُلِ- قَوْمَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى التَّحْذِيرِ مَنْ محمد، ولا التنفير عنه، ولا الأخبار عنه بشئ خِلَافَ مَدْحِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، وَالْبِشَارَةِ بِوُجُودِهِ، وَالْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ، وَالنَّهْيِ عَنْ مُخَالَفَتِهِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ طَاعَتِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ 81 فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ 82 «1» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا أُخِذَ عَلَيْهِ الْمِيثَاقُ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ وَلِيَنْصُرُنَّهُ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عَلَى أُمَّتِهِ الْمِيثَاقَ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وَهْمُ أَحْيَاءٌ لِيُؤْمِنُنَّ به وَلَيَتَّبِعُنَّهُ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَدْ وُجِدَتِ الْبِشَارَاتِ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ أَشْهَرُ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ، وَأَكْثَرُ مِنْ أن تحصر، وَقَدْ وُجِدَتِ الْبِشَارَاتِ بِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَهِيَ أَشْهَرُ مِنْ أن
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 81- 82.
تُذْكَرَ، وَأَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَحْصُرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا قبل مولده عليه السلام طَرَفًا صَالِحًا مِنْ ذَلِكَ، وَقَرَّرْنَا فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ عِنْدَ الْآيَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِذَلِكَ آثَارًا كَثِيرَةً، ونحن نورد ههنا شَيْئًا مِمَّا وُجِدَ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي يَعْتَرِفُونَ بِصِحَّتِهَا، وَيَتَدَيَّنُونَ بِتِلَاوَتِهَا، مِمَّا جَمَعَهُ الْعُلَمَاءُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مِمَّنْ آمَنَ مِنْهُمْ، وَاطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كُتُبِهِمُ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ، فَفِي السِّفْرِ الْأَوَّلِ مِنَ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ فِي قِصَّةِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عليه السلام مَا مَضْمُونُهُ وَتَعْرِيبُهُ: أَنَّ الله أَوْحَى إِلَى إِبْرَاهِيمَ عليه السلام، بَعْدَ مَا سلمه من نار النمروذ: أَنْ قُمْ فَاسْلُكِ الْأَرْضَ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا لِوَلَدِكَ، فَلَمَّا قَصَّ ذَلِكَ عَلَى سَارَّةَ طَمِعَتْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِوَلَدِهَا مِنْهُ، وَحَرَصَتْ عَلَى إِبْعَادِ هَاجَرَ وَوَلَدِهَا، حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا الْخَلِيلُ إِلَى بَرِّيَّةِ الْحِجَازِ وَجِبَالِ فَارَانَ، وَظَنَّ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام أَنَّ هَذِهِ الْبِشَارَةَ تَكُونُ لِوَلَدِهِ إِسْحَاقَ، حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مَا مَضْمُونُهُ: أَمَّا وَلَدُكَ إِسْحَاقُ فَإِنَّهُ يُرْزَقُ ذُرِّيَّةً عَظِيمَةً، وَأَمَّا وَلَدُكَ إِسْمَاعِيلُ فَإِنِّي بَارَكْتُهُ وَعَظَّمْتُهُ، وَكَثَّرْتُ ذُرِّيَّتَهُ، وَجَعَلْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ مَاذَ مَاذَ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلْتُ فِي ذُرِّيَّتِهِ اثنا عَشَرَ إِمَامًا، وَتَكُونُ لَهُ أُمَّةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَذَلِكَ بُشِّرَتْ هَاجَرُ حِينَ وَضْعَهَا الْخَلِيلُ عِنْدَ الْبَيْتِ فَعَطِشَتْ وَحَزِنَتْ عَلَى وَلَدِهَا، وَجَاءَ الْمَلِكُ فَأَنْبَعَ زَمْزَمَ، وَأَمَرَهَا بِالِاحْتِفَاظِ بِهَذَا الْوَلَدِ، فَإِنَّهُ سَيُولَدُ لَهُ مِنْهُ عَظِيمٌ، لَهُ ذُرِّيَّةٌ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِسْمَاعِيلَ، بَلْ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ، أَعْظَمُ قَدْرًا وَلَا أَوْسَعُ جَاهًا، وَلَا أَعْلَى مَنْزِلَةً، وَلَا أَجَلُّ مَنْصِبًا، مِنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ الَّذِي اسْتَوْلَتْ دَوْلَةُ أُمَّتِهِ عَلَى الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، وَحَكَمُوا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ، وَهَكَذَا فِي قِصَّةِ إِسْمَاعِيلَ مِنَ السِّفْرِ الْأَوَّلِ: أَنَّ وَلَدَ إِسْمَاعِيلَ تَكُونُ يَدُهُ عَلَى كُلِّ الْأُمَمِ، وَكُلُّ الْأُمَمِ تَحْتَ يَدِهِ وَبِجَمِيعِ مَسَاكِنِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ يَصْدُقُ عَلَى الطَّائِفَةِ إِلَّا لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَأَيْضًا فِي السِّفْرِ الرَّابِعِ فِي قِصَّةِ مُوسَى، أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى مُوسَى عليه السلام: أَنْ قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: سَأُقِيمُ لَهُمْ نَبِيًّا مِنْ أَقَارِبِهِمْ مِثْلَكَ يَا مُوسَى، وَأَجْعَلُ وَحْيِي بفيه وإياه تسمعون، وَفِي السِّفْرِ الْخَامِسِ- وَهُوَ سَفَرُ الْمِيعَادِ- أَنَّ مُوسَى عليه السلام خَطَبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي
آخِرِ عُمُرِهِ- وَذَلِكَ فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ وَالثَّلَاثِينَ مِنْ سِنِي التِّيهِ- وَذَكَّرَهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَأَيَادِيهِ عَلَيْهِمْ، وَإِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ، وَقَالَ لَهُمْ. فِيمَا قَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُ لَكُمْ نَبِيًّا مَنْ أَقَارِبِكُمْ مِثْلَ مَا أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ، يَأْمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتِ، وَيَحْرِمُ عَلَيْكُمُ الْخَبَائِثَ، فَمَنْ عَصَاهُ فَلَهُ الْخِزْيُ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَيْضًا فِي آخِرِ السِّفْرِ الْخَامِسِ وَهُوَ آخِرُ التَّوْرَاةِ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ: جَاءَ اللَّهُ مَنْ طُورِ سَيْنَاءَ، وَأَشْرَقَ مِنْ سَاعِيرَ، وَاسْتَعْلَنَ مِنْ جِبَالِ فَارانَ: وَظَهَرَ مِنْ رَبَوَاتِ قُدْسِهِ، عَنْ يَمِينِهِ نُورٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ نار، عليه تَجْتَمِعُ الشُّعُوبُ. أَيْ جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَشَرْعُهُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ- وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى عليه السلام عِنْدَهُ- وَأَشْرَقَ مِنْ سَاعِيرَ وَهِيَ جِبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ- الْمَحِلَّةُ الَّتِي كَانَ بِهَا عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليه السلام وَاسْتَعْلَنَ أَيْ ظَهَرَ وَعَلَا أَمْرُهُ مِنْ جِبَالِ فَارَانَ، وَهِيَ جِبَالُ الْحِجَازِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ الْأَمَاكِنَ الثَّلَاثَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ الْوُقُوعِيَّ، ذَكَرَ مَحِلَّةَ مُوسَى، ثُمَّ عِيسَى، ثُمَّ بَلَدَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَلَمَّا أَقْسَمَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ ذَكَرَ الْفَاضِلَ أَوَّلًا، ثُمَّ الْأَفْضَلَ مِنْهُ، ثُمَّ الْأَفْضَلَ مِنْهُ، عَلَى قَاعِدَةِ الْقَسَمِ فَقَالَ تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1)«1» وَالْمُرَادُ بِهَا مَحِلَّةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَيْثُ كَانَ عيسى عليه السلام وَطُورِ سِينِينَ (2)«2» وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)«3» وهو البلد الذى ابتعث مِنْهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، قَالَهُ غير واحد من المفسرين فى تفسيره هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ. وَفِي زَبُورِ دَاوُدَ عليه السلام صِفَةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالْجِهَادِ وَالْعِبَادَةِ، وَفِيهِ مَثَلٌ ضَرْبَهُ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، بِأَنَّهُ خِتَامُ الْقُبَّةِ الْمَبْنِيَّةِ.
كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي كمثل
(1) سورة التين، الآية:1.
(2)
سورة التين، الآية:2.
(3)
سورة التين، الآية:3.
رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَكْمَلَهَا إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يُطِيفُونَ بِهَا وَيَقُولُونَ:
هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟» «1» وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ تعالى: وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ «2» وَفِي الزَّبُورِ صِفَةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّهُ سَتَنْبَسِطُ نُبُوَّتُهُ وَدَعْوَتُهُ وَتَنْفُذُ كَلِمَتُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، وَتَأْتِيهِ الْمُلُوكُ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ طَائِعِينَ بِالْقَرَابِينِ وَالْهَدَايَا، وَأَنَّهُ يُخَلِّصُ الْمُضْطَرَّ، وَيَكْشِفُ الضُّرَّ عَنِ الْأُمَمِ، وَيُنْقِذُ الضَّعِيفَ الَّذِي لَا نَاصِرَ لَهُ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَيُبَارِكُ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمَ، وَيَدُومُ ذِكْرُهُ إِلَى الْأَبَدِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَنْطَبِقُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَفِي صُحُفِ شَعِيَا فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ فِيهِ مُعَاتَبَةٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَفِيهِ فَإِنِّي أَبْعَثُ إِلَيْكُمْ وَإِلَى الْأُمَمِ نَبِيًّا أُمِّيًّا لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظِ الْقَلْبِ وَلَا سِخَابٍ فِي الْأَسْوَاقِ، أُسَدِّدُهُ لِكُلِّ جَمِيلٍ، وَأَهَبَ لَهُ كُلَّ خُلُقٍ كَرِيمٍ، ثُمَّ أَجْعَلُ السَّكِينَةَ لِبَاسَهُ، وَالْبَرَّ شِعَارَهُ، وَالتَّقْوَى فِي ضَمِيرَهُ، وَالْحِكْمَةَ مَعْقُولَهُ، وَالْوَفَاءَ طَبِيعَتَهُ، وَالْعَدْلَ سِيرَتَهُ، وَالْحَقَّ شَرِيعَتَهُ، وَالْهُدَى مِلَّتَهُ، وَالْإِسْلَامَ دِينَهُ، وَالْقُرْآنَ كِتَابَهُ، أَحْمَدُ اسْمُهُ، أَهْدِي بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَأَرْفَعُ بِهِ بَعْدَ الْخَمَالَةِ، وَأَجْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ، وَأُؤَلِّفُ بِهِ بَيْنَ الْقُلُوبِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَأَجْعَلُ أُمَّتَهُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قَرَابِينُهُمْ دِمَاؤُهُمْ، أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ، رُهْبَانًا بِاللَّيْلِ، لُيُوثًا بِالنَّهَارِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) * «3» وفى الفصل الخامس مِنْ كَلَامِ شَعْيَا: يَدُوسُ الْأُمَمَ كَدَوْسِ الْبَيَادِرِ، وَيُنْزِلُ الْبَلَاءَ بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَيَنْهَزِمُونَ قُدَّامَهُ، وَفِي الْفَصْلِ السَّادِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْهُ: لِيُفْرِحَ أَرْضَ الْبَادِيَةِ الْعَطْشَى، وَيُعْطَى أَحْمَدُ مَحَاسِنَ لُبْنَانَ، وَيَرَوْنَ جَلَالَ اللَّهِ بِمُهْجَتِهِ، وَفِي صُحُفِ إِلْيَاسَ عليه السلام: أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ سَائِحًا، فَلَمَّا رَأَى الْعَرَبَ بِأَرْضِ الْحِجَازِ قَالَ لِمَنْ معه: انظروا إلى
(1) أخرجه أحمد في مسنده (3/ 361) ، والبخاري في كتاب المناقب (3534)(10/ 381) .
(2)
سورة الأحزاب، الآية:40.
(3)
سورة الحديد، الآية:21.
هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَمْلِكُونَ حُصُونَكُمُ الْعَظِيمَةَ، فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَمَا الَّذِي يَكُونُ مَعْبُودَهُمْ؟ فَقَالَ: يُعَظِّمُونَ رَبَّ الْعِزَّةِ فَوْقَ كُلِّ رَابِيَةٍ عَالِيَةٍ، وَمِنْ صُحُفٍ حِزْقِيلَ: إِنَّ عَبْدَيْ خِيرَتِي أُنْزِلُ عَلَيْهِ وَحْيِي، يُظْهِرُ فِي الْأُمَمِ عَدْلِي، اخْتَرْتُهُ وَاصْطَفَيْتُهُ لِنَفْسِي، وَأَرْسَلْتُهُ إِلَى الْأُمَمِ بِأَحْكَامٍ صَادِقَةٍ، وَمِنْ كِتَابِ النُّبُوَّاتِ: أَنَّ نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَرَّ بِالْمَدِينَةِ فَأَضَافَهُ بَنُو قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، فَلَمَّا رَآهُمْ بَكَى، فَقَالُوا لَهُ: مَا الَّذِي يُبْكِيكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَبِيٌّ يَبْعَثُهُ اللَّهُ مِنَ الْحَرَّةِ، يُخَرِّبُ دِيَارَكُمْ وَيَسْبِي حَرِيمَكُمْ، قَالَ: فَأَرَادَ الْيَهُودُ قَتْلَهُ فَهَرَبَ مِنْهُمْ، وَمِنْ كَلَامِ حِزْقِيلَ عليه السلام: يَقُولُ اللَّهُ: مِنْ قَبْلِ أَنْ صَوَّرْتُكَ فِي الْأَحْشَاءِ قَدَّسْتُكَ وجعلتك نبيا، وأرسلتك إلى سائر الأمم، وفى صُحُفِ شَعْيَا أَيْضًا، مَثْلٌ مَضْرُوبٌ لِمَكَّةَ شَرَّفَهَا اللَّهُ: افْرَحِي يَا عَاقِرُ بِهَذَا الْوَلَدِ الَّذِي يَهَبُهُ لَكِ رَبُّكِ، فَإِنَّ بِبَرَكَتِهِ تَتَّسِعُ لَكِ الْأَمَاكِنُ، وَتَثْبُتُ أَوْتَادُكِ فِي الْأَرْضِ وَتَعْلُو أَبْوَابُ مَسَاكِنِكَ، وَيَأْتِيكِ مُلُوكُ الْأَرْضِ عَنْ يَمِينِكِ وَشِمَالِكِ بِالْهَدَايَا وَالتَّقَادُمِ، وَوَلَدُكُ هَذَا يَرِثُ جَمِيعَ الْأُمَمِ، وَيَمْلِكُ سَائِرَ الْمُدُنِ وَالْأَقَالِيمِ، وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي فَمَا بَقِيَ يَلْحَقُكِ ضَيْمٌ مِنْ عَدْوٍ أَبَدًا، وَجَمِيعُ أَيَّامِ تَرَمُّلِكِ تَنْسِيهَا، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا حَصَلَ عَلَى يَدَيْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهَذِهِ الْعَاقِرِ مَكَّةُ، ثُمَّ صَارَتْ كَمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْكَلَامِ لَا مَحَالَةَ، وَمَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْ يَصْرِفَ هَذَا وَيَتَأَوَّلَهُ عَلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وهذا لَا يُنَاسِبُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَفِي صُحُفِ أَرْمِيَا: كَوْكَبٌ ظَهَرَ مِنَ الْجَنُوبِ، أَشِعَّتُهُ صَوَاعِقُ، سِهَامُهُ خَوَارِقُ، دُكَّتْ لَهُ الْجِبَالُ، وَهَذَا الْمُرَادُ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَفِي الْإِنْجِيلِ يَقُولُ عِيسَى عليه السلام: إِنِّي مُرْتَقٍ إِلَى جَنَّاتِ الْعُلَى، وَمُرْسِلٌ إِلَيْكُمُ الفار قليط روح الحق يعلمكم كل شئ، وَلَمْ يَقِلْ شَيْئًا مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ. وَالْمُرَادُ بالفار قليط مُحَمَّدٌ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وَهَذَا كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عِيسَى أَنَّهُ قَالَ: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ «1» ، وهذا باب متسع، ولو تقصينا جميع
(1) سورة الصف، الآية:6.