المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التفكر وردات الفعل - من أجل التغيير

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌التفكر وردات الفعل

‌التفكر وردات الفعل

(*)

يلاحظ المراقبون المهتمون بالتطور الاقتصادي في العالم من خلال عواطفهم المختلفة التي نقدر وجودها وفقا لانتماءاتهم الجغرافية والسياسية، يلاحظون أن هذا التطور لم يكن قط ملائما للدول المتخلفة.

ففي خلال العشرين سنة التي تلت الحرب العالمية الثانية، لم يستطع هذا التطور أن يبدد تخلف تلك البلاد الاقتصادي أو على الأقل أن يخفف من غلواء هذا التخلف. ويبدو، على العكس من ذلك، أنه عمل على زيادة حدة هذا التخلف في تلك الحقبة التي تتطابق، فيما يخص مجمل هذه البلاد، مع وصوالها إلى الاستقلال السياسي.

ومن جهة أخرى، لا يبوح هؤلاء المراقبون بكل نتائج هذا التخلف؛ ولا يرونها، بل إنهم يحرصون على البقاء (موضوعيين) أمام تلك الظاهرة.

ولكن من الأصح أن دوي هذا التخلف يتجاوز الميدان الاقتصادي تجاوزا بعيدا، فلهذه الظاهرة- على الأخص- نتائج نفسية غير متوقعة، وهي لم تفلت من مراقب متنبه لأمور العالم الثالث، وهو (تيبور ماند)( Tibor Mende) ، فقد سجل في إحدى دراساته المشهورة التي خصصها للهند ملاحظات مثيرة جدا وذاتية، وهي ملاحظات دونها مباشرة من خلال أحاديثه مع أناس من العامة مثل (بواب الفندق) أو (حامل الحقائب في إحدى المحطات).

(*)« réflexes et réflexions» REVOLUTION AFRICANE. No 251، du 7 au 13 décembre 1967.

ص: 63

لقد عبر له هؤلاء الناس بوضوح، قد يكون كبيرا أو صغيرا عن نوع من الأسف لرحيل المحتل البريطاني الذي برحيله ذهب البقشيش الذي كانوا يعتاشون منه.

هذا يعني- إجمالا- أن الحرية ليست مربحة بالنسبة لهؤلاء الناس. فهل هم خونة إذن؟ كلا، إطلاقا. إن أمور النفس البشرية ليست بمثل هذه البساطة، فهذا (البواب) وهذا (الحمال) إذا رأيا المحتل البريطاني يعود إليهم فإنهم سيحملون السلاح ضده أو إنهم سيشهرون بوجهه سلاح المقاومة السلبية كما في أيام (غاندي).

هنا تكن الحقيقة المرعبة، وحسب. إن الحرية عبء ثقيل على الشعوب التي لم تحضرها نخبتها لتحمل مسؤوليات استقلالها.

كان من السهل جدا أن نشتم الاستعمار أثناء فترة ما قبل الثورة، لقد اتبعنا هذه الطريق دون أن نتناول- ودون أن نطرح- أي مشكلة من مشاكل الاستقلال قبل استحقاقها المرعب، هذا الاستحقاق الذي يزرع اليوم القلق في نفوس عامة الشعب، ويزرع الركود الاقتصادي، وأحيانا الفوضى السياسية في معظم بلدان العالم الثالث. ما هو الحل إذن في هذه الحالة؟ للجواب على هذا السؤال، عاد بعضم بكل بساطة إلى ركوب حماره العتيق، وصرخ: فليسقط الاستعمار، ولكي يكون أشد حداثة أخذ يصرخ: فليسقط الاستعمار الجديد.

ومما يزيد الطين بلة أن الحوادث المأساوية التي تحدث في فيتنام، تعطيهم الحجة فيما يقولون.

ونحن نتساءل رغم ذلك عن المدى الذي تذهب فيه حجة ظروف حرب فيتنام؟

إنها لن تذهب بعيدا كما هو واضح ..

ثم ماذا بعد ذلك؟ الاستقلال هنا، ومشاكله هنا أيضا، وهي تلغ أكثر من أي وقت مضى. إن الآلام التي تثقل كاهل شعوب العالم، باتت أشد ما يمكن من الإقلاق.

ص: 64

يجب وضع حد لكل ذلك، وأن نجد هذا الحد بهدوء، ودون ضوضاء.

لقد كدنا نجده في مؤتمر (باندونغ) الذي ألقى عليه (جان روسي) لقب (مؤتمر الشرف)، لما كان فيه من تنظيم عال، ولأننا لم نكتف فيه بالصراخ والتعبير بالحركات الكثيرة وحسب. لقد كان ذلك انتصارا معنويا للشعوب الإفريقية والآسيوية: إنه انتصار التفكير على ردات الفعل.

كان ذلك مهما جدا، ولكنه لم يكن كافيا، بل كان يجب أن ينبثق من هذا التفكير سلسلة تغييرات حقيقية وثورية، في العلاقات بين البلدان المعنية، وفي العلاقات المشتركة مع عالم الاستعمار والتطور، أو عالم الاستعمار الجديد، كما تشاء، وللأسف، ظل مؤتمر (باندوغ) دون نتيجة، فقد تم وبكل بساطة الاكتفاء بتكرار الصيغة: فليسقط الاستعمار، والاستعمار الجديد، والإمبريالية ..

وباشر شارحون ملهمون- نعرف هويتهم- بالعمل على دراسة كلمة (الإمبريالية)، وكان في نظرهم إمبرياليتان: إمبريالية (اليمين) وإمبريالية (اليسار).

قد يكون المصطلح السياسي في الدول المتخلفة ربح مفردة جديدة، ولكن تخلف تلك الدول ربح كذلك قليلا، ماذا أقول؟ لقد تفاقم وتقدم خطوات وخطوات.

وحقا (تلاميذهم) الأطباء والمهندسون والأساتذة إلخ

الذين دربوا على نفقتهم، رحلوا وسلكوا الطريق ذاتها التي تسلكها المواد الأولية (بترول- مطاط- إلخ)، واستقروا في البلاد المتقدمة.

ولكي نفهم خطورة تلك المشكلة، يترتب علينا أن نقرأ حول هذا الموضوع من منظمة الأمم المتحدة، فعالم الاجتماع الإيراني الذي أوكل إليه وضع هذا التقرير، يبين كيف أن الدول الصناعية تضخ بكل ما في الكلمة من معنى أدمغة العالم الثالث، كما تفعل بالنسبة لموادها الأولية. هناك رقم لم يذكر في التقرير، ولكنه يعطي فكرة عن

ص: 65

خطورة هذا الوضع: هناك أطباء جزائريون يعملون في فرنسا (حوالي 400) عددهم أكبر من عدد الأطباء العاملين في الجزائر، هذا موجب للعبرة!

ولكن في بلد مصاب بمثل هذا النزف، لا نفكر حتى في طرح المشكلة.

وهذا أيضا موجب للعبرة!

هذا حدث عنيف كان الأجدر به أن يثير جوابا ملائما، أي علية تفكير، لكنه يثير ردات فعل: فليسقط الاستعمار، وليسقط الاستعمار الجديد، ولتسقط الإمبريالية، إمبريالية (اليمين)(وإمبريالية)(اليسار) طبعا.

ها .. ! إلى الأمام يا حماري! ولكن ظهر المحار قد وهن، ولا يمكن أن نمارس فوقه كل هذه البهلوانيات المعتادة، بل يجب أن نجد حمارا يحمل خطايا تخلف العالم الثالث.

لقد فكرنا بذلك في جو الوجوم الذي أصاب العالم العربي غداة الخامس من حزيران الماضي. نصرخ ضد العدوان وحسب

عدوان إسرائيل وعدوان صديقها (جونسون).

لقد حدث أمر جديد في تلك المناسبة، لقد صرخنا ضد الخيانة.

ولكن إلى أي خائنين كان يشير هذا الشعار الجديد؟ أيشير إلينا نحن- أنفسنا- حين نخون واجباتنا؛ وندق بأيدينا إسفينا في نظام دفاعنا السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي ضد الإمبريالية؟ كلا إنه يشير إلى كل الناس: على يميننا وعلى يسارنا، أمامنا ووراءنا.

لابد أن (هنيبعل الصغير)(موشيه دايان) قد ابتسم من الرضى يوم سمع شعارنا ضد موسكو. ولحسن الحظ أن القادة العرب، على الأقل القادة في القاهرة، وفي الجزائر، وضعوا حدا لتلك الأشياء.

ص: 66

وعلى أي حال، لم يكن لكل هذا الأمر أهمية في جو الرعب، في جو الجنون الجماعي، كل الشعوب تتفوه بالحماقات في لحظة الأزمات، وحتى رجال الدولة كذلك، كما فعل (بول رينو)( Paul Reynaud) في إحدى أمسيات حزيران من العام 1940.

ليس هناك إذن من داع لأن نلوم أنفسنا إذا قلنا بعض الحماقات في لحظات الرعب، فهذا إنساني.

ولكن لابد من التييز، فالمحاقة التي (تقال) تذهب مع الريح، أما الحماقة التي (تكتب) فهي لا تمر سريعا، بل من الممكن أن تتحد مح التفكير، وأن تصبح مسلمة، فتعرقل لاحقا التفكير والعمل في آن معا. ويمكن في ما بعد أن تتخذ صلابة العقيدة في الأطروحات الجديدة لبعض الشارحين، وهذا ما بدأ يحدث في هذه اللحظة في بعض الدراسات التي تتم حول المشاكل الاقتصادية للعالم الثالث.

إن التخلف لا يتعلق بالإنسان المتخلف فحسب ولا ببعض الدول المتطورة التي تضخ أدمغته القليلة كما تضخ مواده الأولية الثمينة.

لقد اكتسب التخلف بعدا جديدا في بعض الدراسات التي تتضن أيضا (بكين) و (موسكو) هذا هو (الحمار) الجديد الذي نوشك أن نمتطيه في حال اتباعنا تفسيرات هؤلاء الاقتصاديين العابرين.

إننا نجد نموذجا من هذا الشرح الجديد في مجلة متخصصة بمشاكل العالم الثالث، وهي تصدر في (روما) تحت عنوان (القارات الثلاث)، فهذه المجلة تخصص في عددها الأخير (العدد الثالث) دراسة شاملة لمشكلة المواد الأولية، والمقصود هنا (معركة المواد الأولية). يبدأ كاتب المقال بملاحظة عامة تبين كيف أن العالم الثالث يتلق أي مساعدة من دول المعسكر الشرقي، الذي أغدق عليه الكلمات المعسولة.

ص: 67

ثم تتحدد التهمة، يضيف صاحب المقال:"ولكن يليق أن ننبه إلى أن الاتحاد السوفياتي والديموقراطيات الشعبية والصين يعملون بصفة عامة وكأنهم مشترون تقليديون تماما".

ولكن هذا الانتقاد بحد ذاته أليس هو تقليدا كذلك؟ من الواضح أنه يطرح المشكلة بأسلوب تقليدي، وذلك حين يضع كامل تبعات تقهقر عناصر التبادل في أسواق المواد الأولية، على التفكير الشيطاني (للمستغلين)، وذلك دون أن يأخذ بالاعتبار ردات الفعل الفوضوية للذين يخضعون للاستغلال.

أيضا، هذه الطريقة في رؤية المشكلة تقليدية، كذلك: إنها حمار عتيق، ذلك لأن ما ينظم التبادل في الأسواق ليس روابط الصداقة، بل الروابط الاقتصادية، فالعواطف النبيلة والنوايا الحسنة لا تستطيع شيئا، حيال القانون الصارم للعرض والطلب.

وإذا كانت بكين وموسكو في إطار اقتصادي وسياسيها معين، تستفيدان من هذا القانون في الأسواق كما تستفيد سائر دول المعسكر الصناعي، فذلك ربح يعود إلى الروابط العامة التي ترتبطان بها نفسهما من خلال اقتصاد العرض والطلب.

ذلك أن تلك الدول ملزمة في الأسواق بتأمين وجود مزدوح، من حيث هي بلاد تستورد المواد الأولية مثل أميركا، ومن حيث هي بلاد تصدر هذه المواد الأولية محولة مثل ألمانيا إذا أردت. ويستقر إذن ميزانهم الاقتصادي لعلاقاتهم مع العالم الثالث من جهة ومع العالم المتطور من جهة أخرى، لدرجة أن كل تغيير أحادي الجانب، يطرأ من جهتهم على علاقاتهم مع العالم الثالث، يخل بالتوازن، ويسيء إلى علاقاتهم التنافسية بعضهم مع البعض الآخر.

فتحديدهم لأسعار المواد الأولية لا يمكن إلا أن ينظم بتلك المقاييس التقليدية، تماما كتحديد المواد الصناعية.

ص: 68

ولا يمكن إذن أن يأتي تغيير (للعلاقات التقليدية) من قرار حر تتخذه موسكو أو بكين.

وبكلمة أخرى، لا يمكن أن يأتي التغيير من (الطلب) الذي ليس له أي فائدة في ذلك التغيير، والذي ليس له- في آخر الأمر- أي سلطة على التغيير في السياق الاقتصادي والسياسي الحالي. لا يمكن للتغيير إلا أن يأتي من (العرض)، أولا، لأن من صالحه أن تتغير تلك العلاقات التقليدية، ولأنه يملك المقدرة على فعل هذا التغيير بواسطة تنظيم ملائم لإنتاج المواد الأولية وطرحها في الأسواق.

ليس المقصود أن نذهب إلى (نيودلهي) مزودين بأمنيات حارة، بل بقرارات ناضجة فكريا، وجاهزة للتنفيذ داخل حدود الدول المعنية بالأمر، وذلك لكي نحصل في الخارج على أقصى مستوى من التأثير في الأسواق.

دون تفاؤل ودون تشاؤم، أقول بأن ذلك لا يحتمل البتة أن ينفذ في الظروف الراهنة. ففي الجزائر، وضع (ال 77) أقدامهم على مدرج مطار آخر.

ص: 69