المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المذهب الاقتصادي الاجتماعي المنتظر - من أجل التغيير

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌المذهب الاقتصادي الاجتماعي المنتظر

‌المذهب الاقتصادي الاجتماعي المنتظر

(*)

فلنركز على نقاط ضعفنا كي نحضر أسس ثورتنا بشكل أفضل.

لقد كانت الصحف التي صدرت في الأول من نوفبر الماضي محقة، حين أشارت إلى أن عيد الاستقلال هذا كان مختلفا عن سائر الأعياد التي سبقته.

في الحقيقة، وقف شعبنا هذه المرة أيضا خاشعا لذكرى شهدائه، وشيع- في موكب مهيب- رفات أبنائه الذين استشهدوا خارج أرض الوطن، إلى مثواهم الأخير.

لكن المناسبة ترتبط فوق ذلك بحدث دولي ووطني ذي طابع خاص جدا.

ونحن إذ نترك لمحررينا في السياسة الخارجية الاهتمام بالتعليق على الأمر الدولي، فإننا- على الصعيد الوطني- نستطيع أن نقول دون مبالغة منا: إن عيدنا الوطني الأخير هذا يتطابق مع انعطافة حاسمة في سياستنا الإنمائية.

وربما سيأتي من يقول في المستقبل: إن الأسبوع أو الأيام العشرة من خطوة (إلى الأمام) هي على وجه الدقة أسبوع أو أيام هذا العيد.

لقد دخلت البلاد في مرحلة جديدة مع الخطابات الأربعة الأخيرة التي ألقاها رئيس الدولة في نادي الصنوبر.

كان الخطاب الأول، كما نتذكره، بمناسبة اجتماع كادراتنا الإدارية عشية الأعياد.

وكان الثاني في الغداة موجها لكادرات العمال. أما الثالث والرابع فقد توجه فيهما الرئيس غداة هذه الأعياد إلى كادرات القضاء والكادرات الاقتصادية- الاجتماعية.

ص: 17

بذلك أصبحت الخطب الأربع هذه بمجملها وبالإضافة إلى خطاب السيد شريف بلقاسم، وزير الدولة للشؤون المالية والتخطيط، تشكل الهيكل الأساسي والضروري لصياغة وتدقيق وجمع الأفكار الرئيسة في قطاعات أساسية من سياستنا الداخلية.

وحتى لو كانت هذه الأفكار موجودة من قبل، فإنها لم تكن تستطيع في حال التشتت والضياع الذي توجد فيه، أن تؤثر ديناميكيا وتصحيحيا على أسلوب الإنماء في بلدنا. إنها اليوم متحدة في قالب متكامل لابد وأن يعمل على تكوين نظام سياستنا الداخلية.

وإذا وضعنا جانبا القيمة الخاصة لهذه الأفكار على الصعيد التقني، يتوجب علينا بادئ ذي بدء أن نشير إلى أنها تحمل على الصعيد الأخلاقي صدمة نفسية من شأنها أن تزيد التزام الشعب الجزائري بثورته.

والواقع أن اللهجة المؤثرة التي عبر بها الرئيس بومدين عن هذه الأفكار، منحتها قيمة ثورية أورثت اندفاعا أيديولوجيا جديدا يهب على البلاد.

فعلى المستوى العقائدي، هناك مفاهيم أساسية، لا يمكن لأي تقدم اقتصادي واجتماعي أن يتحقق بدونها، قد أعيد تقويمها أمام أبصارنا بل أمام أبصار كل مواطن جزائري.

فقد كان ولا شك من الضروري أن يعاد تقويم مفاهيم المسؤولية، والعدالة، والاقتصاد، والنظام، في معانيها المألوفة والأخلاقية الأقرب للحس الفطري عند الشعب. ذلك أن هذه المفاهيم- كما أشار الرئيس إلى ذلك- فعلا قد قلل من شأنها التضخم والمزايدات الفوضوية.

لقد كان هذا التوضيح ضروريا، على الأخص، فيما يتعلق بنظامنا القضائي. فالعدالة أصبحت- كما يعول بحق الرئيس- بضاعة يتعذر على الشعب الوصول إليها:

ص: 18

إنها بضاعة باهظة الثمن، وفي الوقت ذاته متقلبة في منحاها. فقد غدت قاعات المحاكم عندنا مسرحا للمناظرات الخطابية بين المرافعين الذين باتوا يصدرون الأحكام، ويمنعون القضاة من إعطاء الحكم بأنفسهم.

كذلك، كان من الضروري توضيح ما يتعلق بالتنظيم النقابي. فالمسؤول عن الحزب قايد أحمد قد أدخل البهجة على صدورنا حين قدم توضيحات تضع هذا التنظيم في اتجاه وديناميكية جديدين.

لقد تم بذلك تحقيق عمل ضخم على الصعيدين الأخلاقي والعقائدي. فنحن الآن بتنا نملك العقيدة الكاملة لتطورنا.

وفي الواقع يجب علينا في الوقت الحاضر أن نجسد هذا التوضيح العقائدي على المستوى التقني، ونتطرق هنا إلى المرحلة الأصعب من عملية إعادة تنظيم هذه القطاعات: جهازنا الإداري والقضائي، وبنياتنا الاقتصادية والاجتماعية والضريبية.

يجب وضع حد ل بعض العادات السيئة، وعلى الأخص فيما يتعلق بالعادات البيروقراطية التي تضع أعباء إضافية لا فائدة منها في مناهج التفكير (التخطيط) والتنفيذ عندنا، أو في إدارتنا للقطاع العام.

وعلينا أن نفهم هنا أن كل ثغرة من ثغراتنا تحدث في جهازنا وفي مجتمعنا فراغا لابد أن يملأه شيء ما. والشعب يسد حتما هذا الفراغ، إما على حساب ضميره، أو على حساب ماله. ولكي نفهم ذلك، يجب اللجوء إلى الأمثلة الدامغة التي استخدمها الرئيس نفسه.

فعلا صعيد الضرائب، تأتي صورة (المواطن الذي يلاحقه الشرطي) فتعطي مثالا ليس على حدث مادي فحسب، بل على حدث أخلاقي كذلك. فالمواطن الملاحق ليس مصابا في جيبه فقط، بل هو مصاب في وعيه لمواطنيته كذلك.

ص: 19

وعلى صعيد آخر، سعت البلاد أنها ورثت 20505،000 هكتار من الأراضي التي كانت تكون أملاك المستعمرين الأغنياء. ما الربح الذي يمكنا أن تجنيه منها؟

لقد أعطى الرئيس التقديرات الدنيا. لو كانت هذه المساحة التي تكون اليوم أملاكا مسيرة ذاتيا قد أجرت بقنطارين فقط للهكتار الواحد، لدخل كل سنة إلى صندوق الدولة مبلغ 25 مليار فرنك قديم. ولكانت الأعباء الضريبية المخصصة لبرنامج التنمية قد خففت بما يعادل هذا المبلغ.

ولقد استخلص الرئيس النتيجة المعبرة التالية: "إذا لم تعلل فكرة ما وجودها على الصعيد الوطني بالربح الذي تجنيه، فإنها لا يمكن أن تكون معصومة وكأنها آية قرآنية منزلة". هذا الكلام يجب أن يفهم كإشارة إلى الإدارة الذاتية. وهنا ندرك مدى أهمية مثل هذا التوضيح في أفكارنا الرئيسة.

ولكن، إذا كان هناك من ميدان يجب أن تطبق فيه هذه المتطلبات بحزم، فإنه ولا شك ميدان المؤسسة الوطنية ذات الطابع الصناعي، أو نوعا ما التجاري.

لقد أشرنا في حينه إلى أن تزايد الرموز يعكس في الواقع ظاهرة تشتت في وسائلنا- على صعيد الفكرة (التخطيط) كما على صعيد التنفيذ. وقلنا كذلك إن تكاثر الخطط الصغيرة لا يكون إطلاقا خطة وطنية. هذا على صعيد الفكرة (التخطيط).

أما على صعيد التنفيذ، فإن تكثر الخطط يعني على الأقل التبذير والاستعمال المزدوج لعاملين تقنيين، هم بشكل عام أجانب، يقبضون رواتبهم بالعملة الصعبة.

والأمر أشد سوءا على صعيد أوائلية العمل. في بادئ الأمر وعلى الصعيد الإداري، يفتح تكوين هذه الوحدات المتبعثرة الباب أمام احتكار مراكز الوظيفة والمراكز الاقتصادية. ويخلق هذا الاحتكار جوا يحصل فيه، كما يقول وزير المال، (صعود هائل وسقوط عنيف).

ص: 20

أخيرا، وعلى الصعيد العام، معظم هذه المؤسسات الوطنية التي تغطيها هذه الرموز تنمو لذاتها، وكأنها لا تكون جزءا لا يتجزأ من الجزائر. ويوجد ل بعض ها حتى (مجسات) في الخارج. ونحن نود لو نعرف ماذا تكلف البلاد هذه السفارات الفريدة من نوعها. فهي كلها تنمو مثل أقمار صناعية لا تمت بصلة لأرض الوطن، إلا حين تهبط لتتزود بالوقود.

إننا نعتقد أنه آن الأوان لاستعادة هذه الأقمار إلى الأرض الجزائرية ولاستردادها - إلى وزارة التخطيط ربما- كي تصهر في الخطة الوطنية. وسيكون النفع كبيرا، معنويا وماديا، بالنسبة للشعب الجزائري، إذا وضع حد لهذا التبديد، وهذا التبذير.

وأعتقد أنه ليس من العسف أن نستخلص هذه النتيجة من الخطاب الأخير للرئيس ومن خطاب وزير المال. إن ما نقوله هنا ليس سوى ملاحظات بديهية. وربما يفكر بعض هم أن كل الأمور سيئة في بلد تولد فيه التحولات والاضطرابات حتما نواقص ونقاط ضعف.

إننا نؤكد على نقاط الضعف عندنا كي نحضر أسس ثورتنا بوجه أفضل.

لأن طموحاتنا لبلدنا كبيرة، نحن متشددوت مع أنفسنا.

لأن من طبيعة ثورتنا مشاركة الشعب كذلك، لا يريد الحكام أن يخفوا عنه الحقيقة، مهما كانت مزعجة. وبالنسبة للجميع، ربما كانوا يحتاجون إلى مزيد من التوضيح في التعريفات والتوجيه. وهذا الأمر قد قضي. يجب السير الآن بتناغم مع الإرادة العامة ومع عزم وتصميم السلطة الثورية.

ص: 21