المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأسباب الصغرى والمسببات الكبرى - من أجل التغيير

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌الأسباب الصغرى والمسببات الكبرى

‌الأسباب الصغرى والمسببات الكبرى

(*)

أسباب صغرى لنتائج كبرى.

إن الاستعمار مضطر لأن يعمل باسترار، على ضبط ملف يسمح له بمراقبة الوضع السياسي في العالم، ورصده في كل لحظة.

قد لا تظهر هذه الضرورة واضحة في أعين أولئك الذين لا يملكون فكرة واضحة، عما يسمى اليوم (تقنية العمل) حتى ولو كانوا أنفسهم منغمسين في عمل تقني. ذلك لأن هذه التقنية حصيلة تقليد طويل، يمتد عبر القرون، أكثر مما هي ثمرة علم، يكتسب على مقاعد الدراسة في الجامعة.

ولكن، إذا كان من المحتمل ألا نجد في الاستعمار الكثير من الفضائل- وعلى الأخص فيما يتعلق بالفضائل الأخلاقية- فإننا لا نستطيع أن ننكر عليه، رغم ذلك، فضيلة التنظيم، والمنهجية، وبكلمة أخرى فضيلة تنظيم العمل تنظيما تقنيا.

ولا بد أن نقول إنه أستاذ في هذا المجال. بالتالي، فإن ضبط (ملف) لرصد الوضع السياسي في العالم أمر طبيعي جدا في نشاط هذا الأستاذ.

ولكن يبقى علينا أن نفكر- وهذا ما يهمنا على وجه الخصوص- في المكان المخصص من ذلك الملف للدول الإفريقية الآسيوية التي نالت استقلالها منذ نهاية الحرب العالمية.

إننا أنفسنا ننتمي إلى العالم الثالث. فلنحاول إذن، أن نفكر بتقويم المكان المخصص

(*)« Petites Causes et grands effets» ، Révolution africaine، no =136، 3 septembre، 1965.

ص: 106

لنا. لابد من أن نعود أدراجنا إلى الوراء، إلى عهد المرحوم (فوستر دالس) الذي جسد في الواقع كل طموحات الاستعمار الجديد واهتمامات سلطته المدنية: أي الجيش.

كان الأمر يتعلق عندئذ، كما نذكر، بسياسة المحاور والتبعية التي بشر بها المرحوم سكرتير الدولة في سياسته الإفريقية الآسيوية.

نقول هذا دون أن ننسى، رغم ذلك، سياسة أخرى من سياسات المحاور (1).

ولكن هذه الأخيرة لم تكن ترتبط مباشرة بالعالم الثالث قدر ارتباط السياسة الأولى به. فالأولى كانت تهتم فعلا وعلى الأخص بتياراته السياسية. وذلك بتصنيفها -كما ينبغي- في تيارات موتية، أخرى غير مواتية، وفقا للمقاييس التي يضعها سكرتير الدولة.

بناء على هذا التصنيف المبدئي كانت الدولة الإفريقية الآسيوية تسجل في ملف المراقبة كدولة (خطيرة) أو (فاترة) أو (متحمسة).

إلا أن الناس الذين يقومون يوميا بهذا العمل، ليسوا هواة يملؤون أوقاتهم بإلصاق العناوين المصنفة على الدول الإفريقية الآسيوية، أو على رؤسائها. إنهم يقومون بعمل التصنيف هذا في إطار هدف سياسي ليس إلا.

ولنأخذ على سبيل المثال شخصا مثل (مصدق)، يصبح وقحا، ويخلق في وقت ما مشكلة خطيرة في طهران.

في الحال، يعطي الملف الحل: يخرج أبطال الأولمب من حلباتهم، ومن ملاعبهم، ويدخلون المسرح السياسي.

(1) يستتبع سياسة المحاور هذه الظاهرة الانعزالية. فالاستراتيجية العامة إذ تقوم بمراجعات مفتتة يمكن أن تخبئ المفاجآت. وعلى الدول (غير الكبرى)، قبل أي شيء، أن تعتمد على نفسها لكي تتجنب الفراغ والضياع.

ص: 107

فيحطم مصدق ووزير خارجيته، ويقتل فاطمي. وفي واشنطن، يخرج السيد فوستر دالس، وهو المضحك الذي لا يضحك، ليقول للصحافة إنه، في الواقع، هناك أمر ما يجري

في طهران. هذا ما يفعله التصنيف العالمي. إنه إذن ليس أداة تسلية أو لعبة، بل هو أداة عمل.

إنه يستطيع بتصنيفه الدول أن يعطيها السياسة التي تناسبها.

أن تكون هناك (سياسة) ما تجاه بلد مثل الجزائر، الذي يطالب بالتعريب والإسلام والإفريقية والاشتراكية، فهذا أمر طبيعي جدا.

وأن يكون الملف الذي يملي هذه السياسة موجودا في هذه العاصمة الكبرى أو تلك، فهذا أمر لا يهم.

المهم أن نفهم هذه (السياسة) وأهدافها ووسائلها.

لقد عرفت الجزائر شيئا منها على شكل ضغوطات خارجية، ومحاولات زعزعة الصف الداخلي ووحدته.

وليس في مثال (زهوان) مجرد حادثة، حصلت في لعبة آلهة الأولمب، بل هو (قضية) أمسك الملف زمام أمورها.

لم تنجح! .. جيد، لكن بالإمكان المتابعة بحلول أخرى.

وكأن الملف يستطيع أن يعطي حلولا أخرى. ماذا أقول؟ إنه يعطيها الآن.

هناك إذن حقيقة تفرض نفسها: لابد من سياسة يقظة، في بلد كالجزائر من واجبه حماية نفسه من المفاجآت.

من هنا في الواقع تبدأ مشكلتنا. قد يكون سهلا بعض الشيء أن نقدر الوسائل ونحدد العدو. بالرغم من أن هذا ليس أكيدا دائما

ولكن أن نقوم بتقدير وسائلنا الخاصة، فهذا أمر أصعب.

ص: 108

ذلك لأن هذا القدير يتم انطلاقا من بعض الثوابت في ذهننا التي قد تخفي علينا العيب في الدرع، أكان الأمر يتعلق بالسياسة أو الاقتصاد أو حتى الأدب.

إلا أن جهاز المراقبة عندنا - أعني في بنيتنا الذهنية الحالية- مصاب في هذا المجال بنقص نتقاسمه مع سائر الدول الإسلامية، لأننا، وإياهم في مرحلة من مراحل الانعطاف في تطورنا النفسي.

ولا بد من الاعتراف بأن فكرنا في هذا المنعطف يميل إلى إصدار أحكم كمية. فالميل إلى التضخيم يغلب على أحكامنا.

وبطريقة أكثر دقة، يجب أن نعترف بأن فكرنا - أي الفكر الإسلامي عامة في القرن العشرين- يعيبه خطأ في المقاييس: نحن نميل إلى المبالغة في تقدير نتائج (الأسباب الكبرى) وإلى الانتقاص من نتائج (الأسباب الصغرى)، بل وإهمالها.

إذا وضع أمام أعيننا فجأة قنبلة ذرية وحبة رمل، فإن أصابعنا تتجه ولا شك، إلى القنبلة الذرية وترد إلى أذهاننا الفكرة نفسها: هذا هو سلاح عدونا.

ولكن مصدق لم يحطم بقنبلة ذرية، بل ببضعة حبات من الرمل كانت في راحة يد (دالس).

إذن لا نحتاج لبذل أي مجهود تربوي، في سبيل إقناعنا بنتائج القنبلة اليدوية. فميلنا إلى التضخيم يحملنا بالطبع إلى المبالغة في تقديرها.

أما فيما يخص بإقناعنا بتأثير حبة الرمل، فيجب القيام ببرنامج تربية كامل. من سيعلمنا أن الانزلاق بقشرة موزة وضعت بمهارة تحت رجل شعب ما أشد خطرا من رؤية قنبلة ذرية تنجر فوق رأسه، كما جرى للشعب الياباني؟

إن ذهننا يجمع أمام الأحكام ذات البعد الميكروسكوبي؛ ولا بد أن نضيف هنا،

ص: 109

أن هذا الأمر لا يتفرد به الفكر الإسلامي. فالطبيب الألماني (كوخ) قاد صراعا امتد سنوات طويلة في القرن الماضي ليجعل جامعة برلين تقبل بوجود ميكروب السل.

ورغم ذلك، نحن نعلم مدى الضرر الذي يقوم به اليوم هذا الكائن الصغير في جسم الإنسان، وعلى الأخص بين الطبقات العاملة في المدن الصناعية. ولم يتعلم الهولنديون تقدير فظاعة الأضرار التي تحدثها الكائنات الصغيرة إلا بعد أن حلت بهم كارثة وطنية، عندما أتلف نوع من عثث الغابات جهازهم الدفاعي المنيع في الأراضي التي استصلحوها من البحر.

إذا كان إصبعنا يشير بشكل آلي إلى القنبلة الذرية، وإذا كان بصرنا لا يدرك حتى حبة الرمل، فهذا أمر بشري.

ولكن، هل علينا أن نبقى هكذا؟

إن ما يخيف على الأخص من عمل الاستعمار هو المستوى الميكروسكوبي. إذ يجب أن نخشاه حين يستعمل حبة الرمل أكثر مما نخشاه حين يستعمل القنبلة الذرية. لأن عمله حينئذ يفلت تماما من إطار مراقبتنا.

إن عمله حين يصبح صامتا، وخافتا، وغامضا، حينئذ تكون نتائجه أكبر لأنه يكون قد طغى على تيقظنا وجهاز دفاعاتنا على حين غرة.

إن الجسد الاجتماعي أشد عرضة لنتائج هذا العمل، مثلما يكون جسد الطفل أشد عرضة للتأثر بالميكروبات، لأنه لم يكتسب بعد المناعة الضرورية.

في الطب، ترتبط هذه الحالة بمقياسين، على المعالج أن يأخذهما بعين الاعتبار: التشخيص والعلاج، اكتشاف المرض وطريقة مداواته.

وفي علاج المجتمع، هناك أيضا مقياسان: يجب معرفة الداء ثم تحديد علاجه تحديدا دقيقا.

ص: 110

في هذه الآونة، الداء الذي تجدر الخشية منه في الجزائر هو تخريب جهاز الدولة. وقد واجهت روسيا هذا الخطر في الفترة الممتدة بين 1927 - 1939.

إنه أسوأ من الهجوم العسكري، لأنه يسمح بقضم جهاز الدولة بصمت وغموض إلى أن يسقط أشلاء ودون أن تسمع آذاننا شيئا مما يجري، ولا أن ترى أعيننا شيئا من هذا العمل.

ولن ينتهي هذا العمل قبل أن يتآكل جسد المجتمع، وتدمر نوابضه، وتختفي مفاصله.

ولكن العنصر المسبب للمرض في هذا الميدان- المخرب- ينتمي إلى صنفين: الصنف الحاد (الفيروسي) والصنف الخامل.

فالمخرب الحاد هو ذاك الذي يعمل من خلال علاقاته مع فئات أخرى من صنفه، وبوعي لأهداف عمله: فهو يعرف أنه يقوم بتدمير المجتمع، والدولة، والنظام. ولا تحتاج البتة للبحث عنه بواسطة مجسم، بل يكفي أن تفتح نافذتك، أو بصيرتك، لكي تدرك ماهية عمله.

وبالإضافة إلى ذلك، من الممكن أن يجهل هذا النوع من الميكروب الاجتماعي الأعضاء الآخرون في عائلته المسببة للمرض- وحتى هذه تقنية ضرورية عند أولئك الذين يمسكون بالملف- ولكنه لا يمكن أن يجهل طبيعة عمله، ولا الراتب الذي يتقاضاه من أجله.

إنه يعلم بشكل عام، أنه يعمل بناء على تصميم وضع في الخارج في إطار استراتيجية كونية تطبق سائر وسائل العمل الميكروسكوبي، في الأماكن التي يكون استعمال القنبلة الذرية فيها غير ضروري أو غير ممكن.

أما الميكروب الآخر- المخرب الخامل- فإنه ذلك الشخص الطيب المتسامح،

ص: 111

الذي وجد نفسه منقادا في حركة لا يستطيع السير فيها، يزرع فيها الخلل بخموله، ويعيق فيها منهاج النشاط العام.

هكذا، وبفضل خموله، يتقهقر ترام البلد، في حين أن ترام الاستعمار يتقدم باستمرار إلى الأمام.

بالإضافة إلى ذلك، قد يكون هذا الميكروب مضرا بطريقة أخرى، أي عندما يضيف إلى خموله شيئا من اللاأخلاقية، قد يؤدي عمله بذلك إلى النتيجة ذاتها، التي وصل إليها عمل الميكروب الحاد، أي تدمير الدولة، وتفتيت المجتمع، رغم أنهما لا يملكان الهدف ذاته بشكل واع.

ذلك هو جملة التشخيص الذي يلائم بلدا مثل الجزائر، استعاد حريته منذ زمن قصير.

والآن، ما العلاج المناسب لمثل هذه الحالة؟ من الواضح أنه لا بد من القيام ببعض التمييز على الصعيد الأخلاقي: فالميكروب الحاد يعد خائنا، والميكروب الخامل يعد عاجزا، أو في الأكثر غير شريف.

أما من المنظور العملي، فلا يوجد أي فارق بينهما: تكون الأسباب واحدة بنتائجها. فالميكروبان يدمران الجسد الاجتماعي سوية.

ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار، أن الجسد الذي يتلقى نتائج عملهما، لا يقوم، ولا يستطيع أن يقوم بأي تمييز.

ولنفترض أن هناك مواطنا أمام نافذة إحدى الإدارات. إنه يستطيع أن يعي العسف أو الابتزاز الذي يصيبه من قبل الموظف القابع أمامه. ولكن عمليا، وفي سيرورة التفكير التي تحصل في داخله، لا يجد نفسه أمام شخص (عامل أم موظف)، بل أمام نظام، أمام دولة.

ص: 112

كل ردات فعله الدفينة، وكل الكلمات التي يمسكها على شفتيه- وهو يزدرد ريقه- موجهة ضد النظام وضد الدولة.

فهو، لا يستطيع أن يقوم بالتمييز بين الميكروب الحاد والميكروب الخامل.

والمسألة لا تلامس حتى ذهنه. لذلك، لابد للعلاج الاجماعي من أن يكون شاملا، لأن عليه أن يجابه فعلا مرضا شاملا، أي أوضاعا تؤدي فيها أسباب مرضية مختلفة إلى النتائج ذاتها.

وعلى المعالج الاجتماعي أن يتبنى تجاه الأخطار التي تهدد المجتمع موقفا عمليا يحكم على الأسباب من خلال نتائجها، وعلى الشجرة من خلال ثمارها.

زد على ذلك، أنه يجب على المعالجة الاجماعية، في نقطة محددة، أن تستوحي خبرتها العلمية من المعالجة الطبية.

ففي الطب، عندنا يكتشف في الكلية ميكروب ما لا يطرد منها ليوضع في الرئة.

فالطب يعمل على طرد الميكروب من الجسم كله. والعمل بغير ذلك تجاه الميكروبات يعد ضربا من الهرطقة، ولا نقول من الغباء التام.

ومن المؤكد أن يكون الميكروب في الإطار الاجتماعي رجلا يخالف قاعدة، أو واجبا، ولكنه رغم كل هذا كائن بشري.

ولا يمكن أن نخضعه ببساطة لمفعول مضاد الحيويات.

عندها تجد المعالجة الاجتماعية نفسها بين حدين، أو بين شرطين: يترتب عليها، من جهة، أن تطرد الميكروب من الجسد الاجماعي، ومن جهة أخرى، أن تبقي في الإنسان ما بقي فيه من إنسانية.

ص: 113

ولكن، مهما تكن الاعتبارات البشرية التي يجب أن يعتد بها، يبق هناك ضرورة ملحة هي: يجب التخلص من المرض. وعلى الأخص، في بلد فتي لا يملك المدخرات الحيوية التي يمكن أن تحميه آليا من محاولات التفتيت.

ومن المؤكد أن كل مخالفة إدارية لا تلقى عقوبة الاستنكار الرسمي، تصبح جرحا متقيحا، ييزف في الجسد الاجتماعي.

ويمكن الآن أن نطرح حلا وسطا يجنبنا التطرف. وهو أن نضع الموظف أو العامل الذي يقصر في أداء واجبه وجها لوجه أمام خطئه ونتائج خطئه، وذلك أمام الجمهور.

وفي النهاية، يجب أن نذكر أن حبة الرمل تكون، فعلا، أشد أسلحة الاستعمار فتكا. فهو يسمح لأولئك الذين يعملون على الملف العالمي أن يشلوا الجهاز الإداري، وأن يعيقوا حركته، وبالتالي أن يقتلوا الدولة.

تلك هي التقنية التي استطاع بدوي عربي معاصر أن يلخصها للورنس بكلمة واحدة:

- يا لله! هؤلاء الإنكليز يعرفون كيف يحفرون بئرا بواسطة دبوس!

ص: 114