المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌العبرة من جريمة - من أجل التغيير

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌العبرة من جريمة

‌العبرة من جريمة

(*)

هكذا، يقدم لنا (متعدد الأطراف) هذه المرة أيضا الدليل القاسي على وجوده. على الأقل لأولئك الذين كانوا لا يزالون يحتاجون لهذا الدليل. أي تقريبا على طريقة الشيطان (مفيستو) (في مسرحية شكسبير) الذي ينادي (فوست) قائلت: ها أنذا.

الواقع أنني تحدثت عنه في مقالي ما قبل الأخير. وقد شددت فيه على الأخص على (أطرافه المحلية) في بلدان العالم الثالث. ولابد من لمحة بسيطة عن رأسه.

إن العمل الإجرامي الذي تعرض له للتو رئيس في مجلس الثورة ونجا منه بأعجوبة خارقة، إنما هو بالفعل من صنع قاتل يلبس ثوب فرقة من الفرق المحلية.

ويجدر بنا، في ما يتعلق بموضوع الفرق، أن نبين فقط أنها لا تعبر عن أي شكل من أشكال المعارضة السياسية. إنها ببساطة أشكال مختلفة من الخيانة. بالمعنى الأكثر خسة والأكثر خزيا للكلمة.

ويبقى إذن أن العمل الإجرامي هو، من الناحية الأخلاقية والسياسية والتقنية، من فعل (متعدد الأطراف): إنه فكرة انبثقت من رأسه. ويجب علينا إذن أن نقول كلمة عن هذه الفكرة.

ويفرض علينا الظرف الحالي، بالتالي، أن نقول بضع كلمات عن مضمون هذه الفكرة. فهذا يجعلنا نعي وعيا أفضل معنى العمل الإجرامي الذي حدث أمس الأول.

لكي نعطي صورة ولو كانت موجزة عن هذه الفكرة الشيطانية، يتوجب علينا أن نتخيل صيغة تستوعب مبادئ الدستور الاستعماري من جهة، وبروتوكولات حكماء صهيون، من جهة أخرى.

(*)« La Leçon d'un crime» Révolution africaine، no 272، Semaine du 2 au 8 mai 1968.

ص: 120

وهي ستكون الصيغة السحرية التي ستعرف إلى حد ما محتواها الثنائي. وهذا ما سيسمح لنا من خلال المادية البسيطة للعمل الإجرامي أن ندرك نواياها على ماهي عليه من تعقيد.

إن كل جريمة تصنف وفق هذا المعيار. وبالنسبة للمحكة مثلا، تكون الجريمة متعمدة أو غير متعمدة بناء على النية التي كانت وراءها.

وفي مجال السياسة، ليس هناك من وجود لجرائم غير متعمدة. إنها تكون دائما متعمدة. وفي جريمة أمس الأول. كان اختيار الظروف الوطنية واختيار الهدف كافيين لإثبات ذلك. ولابد أن نضيف في الحال أننا نحن أنفسنا ليس لدينا عن هذه الظروف سوى معلومات جزئية.

ولابد أن (متعدد الأطراف) يعرف بالتأكيد أكثر مما نعرف. هذا أمر بديهي على الصعيد الدولي. أما على الصعيد الوطني نفسه، فإنه يعرف كذلك الشيء الكثير، وذلك بفضل شبكة الأطراف التي تشكل في البلد مناطق مراقبة لا نعي تمام الوعي حقيقتها ولا مدى انتشارها.

إنني متأكدة من ذلك منذ أكثر من أربع سنوات.

ومهما يكن من أمر، ورغم أن معلوماتنا جزئية، فإنه باستطاعتنا أن ندرك، ولو جزئيا، الدوافع التي أدت فجأة بمتعدد الأطراف إلى الضغط لتعجيل الأمور ومباشرة الاعتداء، الذي فشل لحسن الحظ.

إننا نترك جانبا- مراعاة للمنهجية- الاعتبارات الخاصة بالوضع الدولي. فالوضع الوطني، كما يبدو لنا، هو الذي دفع إلى كل هذه العجلة.

باستهداف رئيس مجلس الثورة يستهدفون دون شك وبصورة عامه مكاسب هذه الثورة. إنهم يستهدفون على الأخص القرارات التي صدرت مؤخرا، ونحن واثقون من

ص: 121

أنهم يستهدفون أيضا القرارات التي كانت ما تزال قيد الدرس والتي لا نملك نحن أنفسنا أية فكرة عنها.

باختصار وبشكل إجمالي، كان الهدف مبدأ التطهير الذي بدأ يرى النور. كان الهدف كبح هذا المسار. هذا هو المعنى السياسي للاعتداء. وهذا ما يفسر العجلة في التنفيذ والهدف الذي اختاروه. لماذا العجلة؟ لكي لا يعطى التطهير الوقت الكافي للوصول إلى نتائجه التي يخافون منها.

ولماذا اختيار هذا الهدف؟ لأن نتائج التطهير لا يمكن الوصول إليها إلا بدفع من صاحب هذه القرارات التي كان يحملها.

وهذا ما يتناسب مع الدستور الاستعماري ومع بروتوكولات حكماء صهيون. ففي المرحلة الاستعمارية، كان (متعدد الأطراف) يحكم الشعوب المستعمرة بأساليب قاسية ليس من الضروري أن نذكرها هاهنا. أما في مرحلة التحرر من الاستعمار، فإن متعدد الأطراف غير أساليبه. إنه يريد أن يبقي الاستقلال، الذي دفع ثمنه غاليا والذي أعطي للبلد اسميا، في فوضى دائمة تغذيها وسائل مدروسة من الفساد وتحافظ علمها حكومات من الدمى المتحركة.

تلك هي القاعدة. ولكن قد ترغب دولة ما، أو حكومة، في الخروج على هذه القاعدة. وبالتحديد بأن تأخذ الخطوات اللازمة ضد عدم الفاعلية، وانعدام المسؤولية، بل وضد التخريب والخيانة، وقد وضعا في مراكز أساسية من القيادة ..

عندها، ليس هناك من مجال لتضييع أية دقيقة أن يغير (متعدد الأطراف) أسلوبه. يحرك الأيادي التي تتولى الانقلابات، أو الانفصالات، مثلما جرى في الكنغو وفي بيافرا.

وإذا أراد بلد ما أن يتخلص من حال الفوضى الخاملة والراكدة والمتوانية التي يجد

ص: 122

نفسه فيها، فإنه ما يلبث أن يقع في حال من الفوضى العنيفة. لقد كاد بلدنا أمس في الأول أن يجد نفسه منزلقا في مثل هذه الحال.

وقد شاء الله أن يجنب الشعب الجزائري هذه المحنة الدامية.

ومرة أخرى، تتحقق الآية الكريمة:{ويمكرون ويمكر الله} .

ذلك أنه لدينا ما يكفي من التجارب مع الطرق المدروسة جيدا لمتعدد الأطراف كي نتصور أنه لم يترك أي تفصيل للصدفة في التحضير للجريمة، قبل أن يوكل أمر تنفيذها إلى فدائي خائن. وحتى الظروف النفسية، أخذت بعين الاعتبار في التخطيط لتوقيت الجريمة.

وحتى الطفل (أو الذي يدعى بأنه طفل) الذي أوقف الموكب الرسمي، قدر له أن يكون من بين هذه الظروف لكي يجعل الهدف أقرب منالا. قد يكون هذا الطفل (هذا إذا كان طفلا) بريئا من الدور المشؤوم الذي أعطي له. ولكن إدخاله في مخطط الاعتداء ينم عن تفكير منظم تنظيما عاليا، وعن تقنية عالية جدا في التحضير للجرائم من هذا النوع. هيا

ليس هذا نتاج تفكير طرف واحد من (متعددة الأطراف) ولا من كل الأطراف.

إننا نجهل بالتأكيد، ولنقص في المعلومات، تفاصيل أخرى تدل بدقة على الفاعل الحقيقي.

كان يجب على عملية الاعتداء أن تنجح مئة في المئة.

فكل احتمالات الفشل كانت، ويجب أن تكون، قد استبعدت مسبقا، لأن العقل الذي دبر كل التفاصيل ونظمها كان يعرف تمام المعرفة النتائج المترتبة على الفشل.

في الأصل، كانت الجريمة تبغي منع البلد، ومنع أي مسؤول فيه، من إمكانية إلقاء نظرة على وضع يعيش فيه (متعدد الأطراف) مثل (السمكة في الماء)، كما تقول

ص: 123

العبارة الشهيرة. وكذلك منعه حتى من إمكانية إعادة النظر في الظروف التي خلقت في البلد، أو على الأقل في العاصمة، هذه الأوضاع التي يبرز فيها يوما ما القاتلون الخونة. على الصعيد السياسي، فإن الأمر يتعلق بالدفاع عن هذه الظروف ضد كل محاولات التغيير. عندها يحصل الاعتداء.

أما على صعيد الأفكار، فالأمر يتعلق بمنع كل محاولة لفحص، أو تحليل، أو شرح، هذه الظروف. وعلى هذا الصعيد، هيء الاعتداء ليكون تأثيره بمثابة تخويف للناس.

لم يكن احتمال الفشل إذن مقبولا في التخطيط الذي كان يهدف إلى المحافظة على الوضع السابق مهما كلف الأمر. لأن نتائج الفشل ستكون أشد خطورة لكونه سيجعل السلطة السياسية تأخذ حذرها، في جميع الميادين، وسيكون بمقدور الجهد الفكري أن يقوم بمهمته على أحسن وجه انطلاقا من معطيات لا يمكن نسبتها البتة إلى الخيال.

هذا هو الشكل الجديد للمشكلة عند (متعدد الأطراف). وعندنا نحن؟ من البديهي أننا لا نزال في الوضع الذي انفجرت فيه المأساة. إن الظروف التي ولدته لم توقفها، بضربة ساحر، تلك الرشقات التي كادت أن تغرق البلد في فوضى دامية.

بالنسبة لمتعدد الأطراف، كما بالنسبة لنا نحن، لا يزال الوضع إذن قائما على ما كان عليه. وواجبنا الوطني يحتم علينا أن نفكر بذلك.

ومن البديهي أن متعدد الأطراف لم يضع فقط خطة التنفيذ المادي للأعتداء. علينا أن نفترض أنه فكر كذلك بوضع خطة استغلاله السياسي.

إذن، يفترض علينا أن نفكر أنه، بالإضافة إلى القتلة المأجورين الذين كانوا موجودين في مكان الاعتداء، كان يوجد هناك قاتل سياسي ينتظر الإشارة ليبدأ عمله، هنا بالذات، في الجزائر.

ص: 124

هذا الجهاز الأخير هو الذي يجب، بنظري، أن نتفحصه عن كثب، لكي نعيد تقويمنا للوضع السابق، وكذلك لكي نتخذ الاحتياطات اللازمة في الظروف القادمة، أي فيما يتعلق بمشاريع (متعدد الأطراف). ولكن هاتين الحالتين مرتبطان: لا يمكن لنا أن نتخذ احتياطاتنا في المستقبل إذا لم نكن نعرف معرفة تامة ظروف الأوضاع الماضية.

لدينا ولاشك من المعلومات حول بيتنا نحن أقل مما لدى (متعدد الأطراف). فبالنسبة له، بيتنا من زجاج، ولا يخفى عليه أي أمر فيه. هناك أمور عديدة تجعلنا نؤمن بذلك، وخاصة منذ وقوع الاعتداء الغاشم.

إلا أننا نعرف أمرا محددا بدقة: وهو أن بيتنا يحتاج بجدية إلى إعادة ترتيبه.

وفي كل الأحوال، يجب أولا التفكير بالإعداد للحاضر. في الوقت الحاضر، هناك قبل أي شيء آخر، ضرورة الوصول بالتحقيق إلى نتائج جيدة. ليس علينا بالطبع أن نعطي النصائح للمحقيقين في هذا المجال. جل ما نبغيه هو التعبير عن أمنية بسيطة. إننا نتمنى أن لا تطغى الوقائع المادية وحدها على مسار التحقيق.

يجب بالتأكيد إزالة القاتل الذي نفذ الخطط بسلاحه، مهما كان الأمر. لقد كان الجمهور نفسه قادرا على ذلك لو أن الأمور وضحت له بشكل جيد.

إننا نعرف أنه يجب على كل تحقيق أن يبقى سرا الأمور التي تساعده في عمله. أما الأمور التي يمكن أن تخدم المجرمين بإبقائهم في الكتمان، فإنه من الواجب، على العكس من ذلك، إشاعتها بين الناس.

ومهما يكن من أمر، فإن الوضع لا يتعلق في هذه الحالة بمجرد وقائع مادية بسيطة، كما هو الوضع في الحالات العادية. ولكن في الظروف الدولية الراهنة، لا يمكن للتحقيق، وللأسف، أن يطال (متعدد الأطراف) نفسه. إلا أننا نستطيع أن نطال أطرافه. هناك قاتل مسلح، هذا أمر طبيعي. ولكن هناك أيضا وبالتأكيد قتلة سياسيون.

ص: 125