المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌التخطيط والتخطيط الدقيق - من أجل التغيير

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌التخطيط والتخطيط الدقيق

‌التخطيط والتخطيط الدقيق

(*)

كان من الأسهل أن ننعت القرن التاسع عشر بعصر البخار.

فبالنسبة للمؤرخ أو عالم الاقتصاد أو عالم الاجتماع، كان البخار فعلا سمة هذا العصر الأساسية.

فالكهرباء نفسها لم تكن قد وصلت بعد إلى كامل التطورات التي توصلت إليها مؤخرا. وكان الناس لا يزالون في مرحلة التيار المتواصل، مع حلقة (غرام) البلجيكي. وكانت الإضماءة بالكهرباء قد ظهرت، بتواضع شديد، في العواصم فقط مع مصباح (أديسون).

وكان عمال الإنارة لا يزالون يقومون بجولتهم اليومية، عند هبوط الظلام، ليشعلوا من جديد المصابيح في شوارع لندن وباريس.

وكانت أولى شركات تكساس البترولية مضطرة- لعدم توافر الأفضل- أن توزع المصابيح البترولية على الصينيين مجانا بواسطة عملائها في الصين، كي يستهلك هؤلاء إنتاجها الذي لم يكن قد عرف بعد سوق المحركات الانفجارية.

لكن عصرنا- على ما يبدو- سيجعل المهمة أصعب على المؤرخين.

فالقرن العشروق هو، في الواقع، عصر الكهرباء، والطاقة الذرية، والفضاء، وأشياء أخرى كثيرة مثل (علم التوجيه)( cybernétique) .

(*)«Planification et Micro-planification» Révolution Africaine، no 265، du 14 au 20 mars 1968.

ص: 29

لندع المؤرخين في حيرتهم هنا

ولنختر بأنفسنا واحدة من خصائص عصرنا الأساسية التي تهمنا بصورة خاصة.

فالقرن العشرون هو فعلا عصر المساحات الكبرى المخططة أيضا. ولنقل بطريقة مباشرة: إن البشرية قد دخلت في عصر التخطيط ب بعض الأمثلة المدهشة. وهذه إحدى نتائج تسارع خطا التاريخ. وليست هناك أي حاجة إلى مدى أو أيديولوجية الاتحاد السوفياتي أو الصين (اللذين يقدمان أمثلة تزيدنا دهشة بأبعادها ونجاحها)، لكي تقوم بعمل ما حتى في بلد ذي أبعاد متواضعة.

فالظاهرة عامة. والاستثناءات حالات مرضية ترتبط بالمعالجة الاجتماعية.

حتى السويد، فقد حققت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية تحولا جذريا في بنيتها الزراعية بالتخطيط المناسب. إذ حلت منتجات الأشجار مكان سائر الزراعات الغذائية. وتحولت كل أراضيها الصالحة للزراعة إلى غابات، جعلت من هذا البلد واحدا من أوائل المنتجين لمادة (السليلوز) في السوق العالمية. ومن الطبيعي أن أي امرىء يفكر أن المزارعين السويديين ما كانوا يقومون بمثل هذا العمل؛ لو لم يروه أوفر ربحا.

هنا، نقع بطريق المصادفة على واحد من جوانب التخطيط غير المتوقعة، وليس الأشد إهمالا: إنه الجانب النفسي.

ذلك أنه ينبغي على الخطة، أن تتوقع في إطارها المفاهيمي كما في إطارها التنفيذي كل الشروط المعنوية والمادية لنجاحها؛ وهي مجموعة شروط، تحدد تماما التقنية المعقدة للخطة. ولكن واحدا من هذه الشروط التي تمس مباشرة الجانب التقني للخطة هو وحدة المفهوم. ففي بلد يسير في طور النمو- مثلما كان الاتحاد السوفياتي في سنة 1918 والصين في سنة 1948 - يجب على الخطة أن تكون على الأخص (موحدة) وليست

ص: 30

فسيفساء تجمع مشاريع صمم كل منها تصميما منفصلا عن المشاريع الأخرى، وهي قد تتلاءم فيما بينها أو لا تتلاءم.

وإذا اتبعنا سبيل الاستنتاج المنطقي، رأينا أن التطور لا يمكن أن يعد جمعا من العناصر المنفصلة، تم ربطها فيما بينها بعد فوات الأوان. ويمكن في هذه الحالة أن نقع على مفاجآت غير سارة، كأن نلاحظ أن بعض العناصر تزيد عن الحد، وأن أخرى تنقص عنه، أو أن بعض ها أيضا لا يتلاءم مع المقياس المشترك للمجموعة، لكونها أصغر أو أكبر مما يجب. ويقدم لنا علم الميكانيكا مثلا بينا. فالتوازن الديناميكي للآلة يضطرب- إذا لم يدمر- ما إن نضيف إليها قطعة أو ننقصها منها.

نفهم من ذلك، أن الاهتمام بهذا التوازن هو الذي يحكم تصور أدنى جزء من الآلة، في سبيل الوصول في نهاية الأمر إلى تأمين وحدة الآلة. هذه الوحدة التي هي الشرط الأساسي لأداء عملها بنجاح.

إذن فالتخطيط في بلد في طور النمو، يهدف أساسا إلى تحريك كامل طاقاته وموارده البشرية والمادية تحريكا يؤدي إلى خلق ديناميكية اجتماعية.

وبابتعاد أحد عناصر هذا التخطيط، مهما كان ضئيلا، عن المقياس العام للمجموع، أو عن القواعد الأخلاقية الملازمة للعمل الجماعي لا يمكن بالنتيجة، إلا أن يؤثر تأثيرا سلبيا على توازن الديناميكية التي يراد خلقها.

فبرنامج التنمية لبلد ما، كالجزائر مثلا، تكون سائر فرص النجاح لديه مسجلة مسبقا في منهجيته التخطيطية، وفي نوعية خطته التقنية والأخلاقية.

ولكن أولا، هل توجد في الجزائر خطة؟

نظريا، الجواب نعم، هذا الجهاز موجود على ما يبدو في وزارة المال. وإن كان هنا أو هناك، فليس لمكان وجوده أثر كبير.

ص: 31

ولكننا اليوم- ول بعض الوقت أيضا- بلد ذو مقدرات زراعية على الأخص أكثر من السويد الذي يمر حاليا في مرحلة ما بعد الصناعة، والذي قام، منذ فترة- ورغم ذلك- بإصلاح زراعي له تأثير هائل على كامل الحياة الاقتصادية، كما قلنا.

هكذا إذن، يجب أن يكون المنظور الزراعي المعيار الذي نقيس به فرص (خطتنا) بالنجاح. ودون أن ننسى أن الانطلاقة الاقتصادية لبلد كبلدنا يجب أن تعمل على إطعام كل الأفواه وتشغيل كل السواعد.

فللسويد حق إنتاج السليلوز بإفراط. وعلى الجزائر أن تنتج الخبز لتؤمن الظرف الرئيسي للإنتاجات الأخرى.

ولا بد هنا من الاعتراف حتى بالجهود التشجيعية، وبالمساعدات التي بذلتها الحكومة الجزائرية تجاه الفلاح هذه السنة.

ولكننا هنا لسنا من يحكم على هذه السياسة، التي استوحت قرارا جيدا بالعمل في سبيل العدالة الاجتماعية، من اهتمامها بتحقيق الوفاق بين أعمالها وأيديولوجيتها المعلنة.

إن ما نهدف إليه هنا هو التقنية، خلق جهاز التخطيط وسيرورة عمله، فعالية (خطته).

إننا مجبرون في على إعادة طرح السؤال: هل توجد (خطة) في الجزائر؟ فالأمر يتعلق بمعرفة ما إذا كان كل عمل من أعمال الدولة، يأتي بالضرورة كنتيجة لتوقعاتها، وما إذا كان كل نشاط في البلد ينمو بانتظام وفي اتجاه محددين مسبقا. بحيث يزول كل ما يخرج على تطور المجموعة، وبحيث تختفي كل (النقاط الميتة) في ديناميكية البلد الاجتماعية.

وعلينا بالأخص معرفة المكانة التي أعطيت إلى أولويات الإنتاج الغذائي في

ص: 32

المرحلة الحالية من انطلاقة البلد. والواقع أنه يجب استقبال مشروع استصلاح 200000 هكتار من أراضي الكرمة استقبالا ملؤه الرضى.

إنه قرار غاية في الحكمة، وأن الخمر الذي لم يجد من يشتريه في الخارج يرتد ليسيل بغزارة في حلقوم الجزائريين، على ما يبدو.

ونترك إلى الذين يهتمون بالإحصائيات أمر الاعتناء، مثلا، بوضع النسبة الحسابية بين عدد البارات الجديدة التي فتحت أبوابها في الجزائر، ومعدل حوادث السيارات، وحالات الطلاق.

ونذكر فقط أن عدد الحوادث هبط في سنة 1967 بنسبة 33% في إنكلترا بعد أن اتخذت عدة إجراءات ضد تعاطي الكحول.

فالقرار بتقليص مساحة الأراضي المزروعة بالكرمة قرار حكيم جدا إذن. ولكنه لا يمكن أن يكون معيارا نقيس به جهازنا التخطيطي، لأنه جاء نوعا ما تحت ضغط ظروف خارجية هي تقلبات الأسعار.

إلا أن التخطيط يفقد كل معناه التقني ابتداء من اللحظة التي تكون فيها فكرته الرائدة مستوحاة من الخارج. فهذا لا يكون تخطيطا، وإنما مجرد مهارة، كمهارة البقال الذي يملأ رفوفه بما تمليه متطلبات زبائنه وأهواؤهم. وجلي أننا نريد بادئ ذي بدء أن نمنع بلدنا من أن يكون خمارة معطلة، تحولت إلى حانوت لبيع أشياء أخرى، لأنها فقدت زبائنها العاديين. وعلى الخطة أن تواجه الإصلاح الزراعي من زاوية أخرى، أو بالأصح من زاويتين:

أ) يجب أن تخصص الأراضي لمهمة الإنتاج وفقا لمعطيات اقتصاد القوت من ناحية، واقتصاد التنمية من ناحية أخرى كما حاولنا أن نحددها في مقال سابق.

ب) يجب وضع جهاز فعالا يحمي المساحات المنتجة من ظاهرة التصحر التي تهدد

ص: 33

جنوب البلاد بأكمله. ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نقول إن الصحراء تتوسع كل عام على حساب الأراضي (المفيدة للتغذية). والواقع أن هذه الظاهرة الأخيرة مشكلة مغاربية تتطلب التعاون الأخوي بين حكومات إفريقيا الشمالية الثلاثة لكي تصد تقدم الصحراء باتجاه الشمال في الدول الشقيقة الثلاثة. ولا يمكننا في هذا المجال، إلا أن ننوه بأهمية المعالم التي بدأ المغرب والجزائر بوضعها في هذا السبيل، من خلال الاتفاقية التي عقداها مؤخرا حول المناجم. إنه معلم هام في اقتصادها التنموي، ولا بد من معالم مماثلة أخرى في اقتصاد القوت عندها، وذلك بالاتفاف مع تونس.

من قابس، إلى أغادير، يجب أن يسد التحريج الطريق أمام الرمل الذي يرتفع.

نحن نعلم أن هذه المهمة ليست سهلة، وأنها قد تستدعي وصل بعض المنخفضات في الجنوب الجزائري بالبحر المتوسط من خلال غوطات الجريد.

ولكن عهد التخطيط الذي رأى صحراء (كارا كوروم) في جنوب الاتحاد السوفياتي تتحول إلى حديقة غناء؛ لا يستطيع أن يرى هذه المهمة أمرا مستحيلا.

ولا بد- رغم ذلك- من أن نضيف، لكي نبقى في موضوعنا، أن مشروع (كارا كوروم) لم ير النور مصادفة. فحتى قبل أن توضع خطوطه الأولى على الورق، كانت فكرته موجودة في العقيدة العامة التي أنجبت الـ ( NEP) ووسعت فيما بعد تحت إدارة (الخطة العامة) التي استحدثت لتنفيذها وزارة في موسكو، وكان لينين نفسه لا يزال حيا.

إن فكرة الخطة العامة تلك، هي التي تكون- في نهاية الأمر- الاختيار التقني للتخطيط، وهي التي تحافظ على فعاليته في السنوات اللاحقة، وذلك بتجنب التردد أقصى ما يمكن، أي بتوفير الوقت والطاقة اللذين يجب عدم إهدارهما.

ص: 34

هذا هو حتى الاختبار الذي يجيب على سؤالنا المطروح: هل توجد خطة في الجزائر؟

هنا يصبح من الصعب الإجابة بوضوح. لأن هناك مخططين في كل مكان تقريبا. وهم يعملون غالبا مع أدمغة المستشارين الأجانب، الذين يميلون أحيانا إلى الإعجاب ببلدنا، بسمائه الزرقاء، أو كثبانه، أو سهوله العالية، أكثر مما يميلون إلى اكتشاف، بل وتحسس وزن واقعه الاقتصادي.

وتمر بذاكرتي بعض الأسماء التي تدل على أننا نملك مجموعة من المؤسسات المخططة.

وهي أحيانا تتقارب في الأسماء مثل ( BERI، BERIM، SONAREM) لأنها تملك أهدافا متقاربة أيضا.

ولكن هذه الفسيفساء التي يكون فيها لكل من (سيدي الرئيس والمدير العام) ميدانه الخاص به، وموظفوه، وحتى طلابه الممنوحون للقيام بدراسات غير دقيقة، ومن أجل أهداف غير أكيدة، وأخيرا مستشاروه، هل تملك القيمة التقنية للمؤسسة التي تتلأءم مع متطلبات الخطة؟ هنا يكمن السؤال.

ولنقل كل فكرتنا بوضوح: لا يخلق كائنا حي يمشي ويعمل، بتجميع أربعة أطراف وجذع ورأس، جلبت من المشرحة.

كذلك لا تستطيع مجموعة متباينة من المخططات الصغيرة أن تكون مخططا عاما.

والواقع أن القضية تتعلق بألا تصبح الجزائر ميدانا للبيوقراطية، في اللحظة التي تدخل فيها البشرية عصر التخطيط. وعلى كل، حتى كلمة (بيروقياطية) غير كافية. فالأمر يتعلق فقط بواجهة محلية يفكر من ورائها بعض المستشارين (السائحين) الذين يعللون قبض رواتبهم بقولهم لنا من وقت لآخر: إن سماء الجزائر خالابة.

ص: 35