الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دلالة إضراب الجامعة
(*)
هناك عادات جميلة في بعض البلدان، يعاد إحياؤها بشكل دوري، وكأنها تعكس تراثها القومي، أو تعبر عن حضارتها وثقافتها.
في فرنسا مثلا يحتفل دوريا خلال أسبوعين بالثقافة الكاثوليكية التي عرفت عصرها الذهبي- وهو ليس بعيدا- في الفترة التي كان يحييها أمثال (أمانويل مونييه)، و (ماسينيون)، و (جيلسون)، وهوأكبر المتخصصين بفكر القديس توما الإكويني، وأشدهم حداثة وربما عمقا.
نحن كذلك، حصلنا للتو على أسبوعي الثقافة التي تمطت مثل تثاؤب لا نهاية له
…
فقد راق لطلابنا أن يفرضوها علينا وكأنها تكفير عن خطايانا الأولى، تلك التي ارتكبناها حين استعدنا، مصير بلادنا، في سنة 1962، من يد المحتل الأجنبي.
وأخيرا، انتهى التثاؤب
…
وعادت النعاج الضائعة إلى الحظيرة، وفتحت الجامعة أبوابها، ولكن العاصفة التي هبت ضمن أسوارها تركت وراءها عددا كبيرا من التساؤلات التي تستحق الانتباه الكبير، مثل الفضلات التي يجب إزالتها بعد هيجان الطبيعة. في سنة 1962، لم نفهم- بما فيه الكفاية- خطورة اللحظة التي كانت تختم وتكلل سبع سنين من الصراع البطولي للشعب الجزائري.
إن الفرح والاعتزاز- وكنا نستحقهما كل الاستحقاق- قد كتما بل خنقا فينا، معنى المسؤوليات الكبرى التي كنا نستلمها في تلك اللحظة.
ويجب أن نضيف إلى هذه الأسباب- وهي جد طبيعية- الأسباب التي ئشار إليها
(*)« Signification de la grève de l'Université» Révolution africaine، du 28 février au mars 1968.
الرئيس بومدين خلال جولته "الأوراسية"، في الواقع كان هناك أيضا شيء من الديماغوجية، ولكن إذا كان (الحكم هو التنبؤ) كما يقول (ميترنيك)، فإن الديماغوجية لا تترك مجالا للتنبؤات.
إن الحكام في تلك اللحظة كانوا يميلون إلى خداع الرأي العام المنتشي، أكثر مما يميلون إلى تنويره على صعوبات المرحلة الجديدة، لهذا البلد الذي كان عليه أن يبنى من الصفر، إلا أننا كنا في مرحلة حرجة، كتلك التي يضعها (أوجين سو) في نهاية مأساته (اليهودي الشارد) حين يختفي الشخص اليسوعي الذي يجسد (سياسة القوة) - بعد الفشل الذريع- ويخلي الممان في المرحلة اللاحقة ليسوعي آخر يجسد الحيلة.
والحقيقة أن أقل ما كنا نتعرض لخطره في سنة 1962، هو مشاهدة الاستعمار، يخرج من الباب، ليعود من النافذة.
ولكن على ما يبدو لم نكن نفكر بهذا الاحتمال حيث نجابهه باليقظة الضرورية والإجراءات السياسية المطلوبة، بكل بساطة، تركنا نوافذنا مفتوحة، بل إننا فتحنا نوافذ أخرى، وعلى الأخص، على الجبهة الأيديولوجية التي بقيت وحدتها وصلابتها غير منقوصة حتى ذلك الحين، بفضل تماسك موقفنا الدائم في وجه المحتل. ولكن التماسك زال بعد ذهاب المحتل، وزال معه نظام الدفاع الأيديولوجي، فبات قابلا لأن يخرق.
في تلك الحالة من التماسك المتلاشي، إذن، وفي جو مشحون بالديماغوجية، شرعنا في حل مشاكل الاستقلال. فلم نقدر بعضها حق قدرها، وبالغنا في تقدير البعض الآخر، حتى أهملنا بعضا منها.
وهكذا، كان على التعليم العالي عندنا أن يعاني على الأخد، من ذلك العجز، لقد طرحت مسألة التعليم العالي الواقع، ولكنها طرحت على مبدأ سليم جدا في الظاهر، وهو مبدأ (المحافظة على المستوى).
ليس من شيء أهم من ذلك في الظاهر، كان ذلك طموحا جميلا ومشروعا، شرط أن تتحول تلقائيا رغباتنا إلى وقائع (حقائق) وأن يصبح المبدأ ذاته أمرا واقعا (ملموسا) للأسف، شتان ما بين الرغبة والواقع.
يجب أن نتتبع تطوير تعليمنا العالي، منذ خمس سنوات، لنفهم أن المبدأ الذي سارت عليه كان خاطئا، وبهذه الطريقة أيضا نفهم كيف أن السنة التي أعلن بحسن نية- منذ بعضعة أشهر فقط- أنها ستكون سنة التنظيم، كانت بالضبط سنة الأزمات.
كيف سارت الأمور لتصل إلى هذه النتائج؟ لا شك يجب أن نتبع التطور الذي سارت فيه، وعلى الأخص التأثيرات التي خضع لها طلابنا حتى خلال السنوات السبع من الثورة.
ولكن لنعد المشكلة إلى عبارتها الأبسط، في سنة 1962 كانت المشكلة تكمن أساسا في خيار واحد: كان الأمر يقضي إما بتحويل تعليمنا العالي ليتلاءم مع حاجاتنا ومع وسائلنا، وإما بتركه كما هو.
ووقع الخيار على هذا الاحتمال الأخير على أن يتضمن (المحافظة على المستوى) بطريقة غير مباشرة. واليوم، وعلى ضوء الأزمة الأخيرة، نرى بشكل أفضل نتائج عبارة خلابة تخفي خيارا تعيسا، ومع ذلك لا يبدو أن هناك من يدركها كلها بوضوح.
إذن يجب إعادة طرح المشكلة من جديد، ومن المنظور الأبسط على الأقل.
ولنذكر بادئ الأمر المحاولات الشكلية التي كانت خلال السنوات الخمس الأخيرة مجرد مشاريع ولدت ميتة؛ لأنها لم تكن تعبر عن إرادة حقيقية بتغيير جهاز تخريج الكادرات في بلادنا، بل كانت مجرد تقليد لتغييرات حدثت في العالم.
إلا أن الأمر لم يكن يتعلق بإصلاح تعليمنا العالي، لحدوث إصلاح (فوشيه) في فرنسا، بل وبكل بساطة لوجود حاجة ملحة للإصلاح في الجزائر.
ولكن مبدأ (الحفاظ على المستوى) أصبح حاجزا، يقف في طريق كل محاولة من هذا النوع، ويمنع من التقدم خطوة نحو الأمام، لدرجة أن تعليمنا الجامعي بات بعد إصلاح (فوشيه) هجينا ممتازا: فهو لم يكن فرنسيا ولا جزائريا.
في تلك الأثناء، وفي حين كنا نراوح مكاننا أمام ذلك الحاجز، كان المبدأ الذي اتخذناه يسير طبيعيا نحو نتائجه المضرة بكاملها، ولكي نحافظ على المستوى، كان علينا على الأخص أن نترك كل نوافذنا مفتوحة، وأن نفتح نوافذ أخرى، أمام كل الرياح الأيديولوجية، أمام كل الرياح التي أثارت تلك العاصفة التي مرت بجامعتنا.
ويمكن هنا أن نذكر تفاصيل بناءة جدا، حول طريقة دفع العاصفة باتجاه شاطئ يخيم عليه الهدوء المناسب للدراسة وللتفكير. لكن، لنترك التفاصيل الروائية جانبا، فهذه الأسطر مخصصة بالأحرى لتبيان الآثار المشؤومة، لمبدأ هو في الظاهر قيم ومغر جدا، فالمبدأ الذي اتبع كان من المنطق أن يؤدي إلى مبدأ آخر، هو مبدأ (المعادلات)، وهذا الأخير أدى بدوره إلى نتيجتين: إحداهما تخص نتاجنا الجامعي، والأخرى استعماله. لابد أن نعطي هنا شواهد على ما نقول، إن مرحلة الطب، على سبيل المثال، كان من الواجب أن تحصر- من جيث المنهج - بفترة زمنية تتلاءم مع الحاجات الملحة لجهازنا الصحي، لكن ثم الإبقاء نظريا على الفترة الزمنية التي تتلاءم مع مبدأ المعادلات، أي ست سنوات.
رغم ذلك ومن المنظار العملي، أضحت هذه الفترة أطول، بسبب عاملين إضافيين مختلفين في طبيعتهما، ولكن كان لهما الأثر ذاته على مدة المرحلة.
وهناك أمر في نسبة السقوط المرتفعة، ألاحظه في الامتحانات الأخيرة، ارتفاعا غير طبيعي في إحدى سنوات الطب، ولا أقوم هنا بأي انتقاد لهذه النتيجة، إنما ألاحظ الأمر فسب، وأترك لمسؤولي التعليم العالي مهمة تحليله.
وأدون هنا إحدى نتائجه: إن الجزائر، البلد النامي الذي يحتاج إلى تسريع
نتاجه في شتى الميادين، سيخزج على- هذا المنوال- الطبيب في ثماني سنوات، أو حتى في عشر، وبالإضافة إلى ذلك أترك لمسؤولي التصميم النظر في تطور هذا الإنتاج البطيء، هذا فيما يتعلق بالإنتاج.
ولا أقول أي كلمة عن هذا الإنتاج بالنسبة لمقاييس الاختيار التي تستحق رغم ذلك كل الانتباه، فإذا انتقلنا الآن إلى الاستعمال، وجدنا أن مبدأ المعادلات كان له أثر أشد ضررا، وأريد أن أقول أكثر فضحا.
الحقيقة أن 50 بالمئة من أطبائنا حاليا في الخارج، لقد فتح لهم مبدأ المعادلة، الباب أمام هذا الفرار، بمساعدة معادلتهم الشخصية، وبكلمة أخرى، فإن جامعتنا تخرج ببطء طلابا قد يجذبون إلى الخارج.
هذه النتيجة الأخيرة استقيناها مع شيء من السخرية المبكية من تقرير- تكلمت عنه في إحدى مقالاتي السابقة- قدمه عالم اجتماع إيراني، كان الأونيسكو قد كلفه بالتحقيق في كيفية استخدام نخبة العالم الثالث، وعندما ذكرت بنفسي هذا الواقع في شكله العام، أرفقته عمدا بتعليق، قلت فيه إن العالم المتقدم لا يكتفي بالاستحواذ على المواد الأولية الثمينة من العالم الثالث بأرخص الأسعار، بل يستحوذ كذلك على المادة السنجابية الضعيفة والتي تكلفه غاليا.
وأضيف هنا أننا أنفسنا، على صعيد الجزائر، نستجيب بشكل رائع لذلك الشكل من أشكال الاستغلال، فالحقيقة أن عجزنا التام عن القيام بإصلاح تعليمنا العالي في الوقت المناسب هو الذي يجعل بالإمكان حصول هذا الاستغلال.
لقد ذكرنا للتو النتائج فحسب التي تقع في أساس بنيات التعليم العالي. ويجب أن نضيف الآن أن كل هذه النتائج تصبح أشد خطورة، بسبب الرياح الأيديولوجية التي تدخل مندفعة في نظامنا الجامعي من كل أبوابه ونوافذه، لأننا لم نتخذ أي إجراء احتياطي في هذا الميدان.
يقال إن "من يزرع الهواء يحصد الرياح"، لقد حصدنا لتونا مجانا عاصفة نفخ فيها الآخرون، أي السحرة مشعوذو الصراع الأيديولوجي.
لقد ملك هؤلاء السحرة أيضا فن (التنويم المغناطيسي)، فقد كفاهم بضع كلمات خفية وبضع حركات سحرية حتى يغرقوا طلابنا في حالة نوم مغناطيسي، وذلك بوساطة- أو بالأحرى بتواطؤ- بعض (الوسطاء) المنتمين بعناية من بين صفوفهم.
ويكفينا أن نقول هنا إن الأزمة التي مرت بها الجامعة حديث تبين أن سلوك الطالب يضيف عامل إعاقة آخر على تلك التي ذكرناها منذ لحظة، فبدلا من تخريج طبيب بعد ثماني سنوات، من المحتمل ألا نراه تخرج قبل مرور عشر سنوات.
وبالطبع سيتطلب تخريج الصيدلي والمهندس والقاضي والأستاذ مبالغ أكبر، في حال لم يتغير شيء في هذه الحالة التي لا تقدر- على ما يبدو- أسبابها ونتائجها حق قدرها، رغم ذلك، هناك شيء واضح، تلك الأزمة التي مرت مؤخرا ليست سوى علامة نذير، إننا نجابه الآن أعلى الموجة، فإذا لم يتغير شيء من الآن وحتى أربع سنوات، فإننا سنواجه موجة القهر التي تتهيأ الآن في الصفوف الثانوية.
لم نبلغ هذا الحد بعد، والحمد لله، إن الطلاب الذين تصرفوا بتعقل وعادوا إلى قاعات الدراسة قلبوا بذلك صفحة مؤلمة.
إنما نريد أن نأمل بأنهم سيفكرون فيها بأنفسهم، لكي لا تسجل كوصمة عار في تاريخهم فيهزأ الناس من هذين الأسبوعين الثقافيين، ويسخرون قائلين بأنهما (أسبوعا اللاثقافة).