الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أرغن الأمبريالية
(*)
إنني أدين بمعلوماتي عما أنشره لصديق أوتي نعمة الجلد على القراءة. وأنا مدين له على الأخص باطلاعي على الأحداث اليومية، فهو يقرأ الصحف أيضا بانتظام.
وإذ فتحت له الباب ذات صباح، رأيت على وجهه أمارات الاستياء. فأنا اعتدت أن أقرأ الأخبار أولا على قسمات وجهه، فأعرف إن كانت سيئة أو جيدة.
ولم تخطئني الفراسة هذه المرة. فقد كان يحمل لي نبأ سيئا لابد أن تكونوا قد قرأتموه في الصحف.
ففي تقرير للجنة الفرعية للمساعدات العسكرية (الخارجية) التابعة لمجلس النواب في الولايات المتحدة الأميركية، تكلم اللواء في البحرية (هاينز).
إن الوثيقة (السرية) لم تسرب إلا من أجل أن يأتي مفسروها الجزائريون فيوصونا مرة أخرى بالحذر- والكلمة بالفعل شائعة اليوم- وذلك باعلامنا أن اللواء الأميركي يحتفظ لنا بجرو من كلبته.
وأوجز صديقي ما أعلمني به مكررا علي بأن ذلك كان خطيرا جدا.
هذا أكيد. وأنا- فيما يخصني- لا أحتاج إلى يمين ليها أصدق أن ما يغالي في حلة الشيطان ليس ماء الحياة يريد به أن تستعيد شعوب العالم الثالث شبابها. ولا يدهشني البتة أن النابالم وما يشبهه هو من (المأكولات اللذيذة، مما ينتجه مطبخهم)، بل هو بالأحرى ما يقدم في هذه اللحظة لشعب فييتنام، وهو ما عرف العرب طعمه من قبل في سيناء.
(*)« L'Orgue de L'impérialisme» ، Révolution africaine، no 240 - Semaine du 18 au 24 septembre 1967
وأنا لست قليل الفهم كي أظن عكس ذلك. ولكنني- وهذا أمر عجيب- لم تشعر بشرة جلدي بخطورة هذه المعلومة بالدرجة ذاتها، التي بلغت عند صديقي.
ألأن بشرتي قد غلظت؟ ربما بفعل تقدم السن، وربما أيضا بسبب تجربتي التي تجعلني متشككا وباردا بعض الشيء في بعض المواقف .. كما وكأن قوى الاستعمار تريد أن تكبتنا بضربة جرس، مثلما يجري في تجربة بافلوف الشهيرة، التي كررها على الفئران.
إن الشيطان يريد أن يتسلى على حسابنا أحيانا، أن يرى كيف ندخل في جحورنا الصغيرة، عند أدنى ضربة جرس. أنا لا أقول إن لعبته- عندما يريد أن يلعب- بريئة براءة لعبة الأطفال. كلا، بالطبع
…
فلعبته ذاتها تكتيك، وتقنية، بل إنها سياسة عليا.
وإذا راقب أحد ما لبعض الوقت بانتباه، وبشيء من الحس السليم، فإنه سيكتشف أن الاستعمار يعزف في دول العالم الثالث، على أرغن ذي دعستين. (أنا لا أعرف إذا كان لهذه الآلة الموسيقية أكثر من دعستين، وأعتذر للقارئ. فأنا لست من الاختصاصيين في هذا الميدان).
كل ما أريد أن أقوله هو أن الاستعمار- عند صديقنا- يضع رجله على الدعسة التي توجه الضياع والتفكك والانحلال في الدول النامية، والتي تؤدي إلى فسادها وخمولها وتعفنها.
وإلى الأمام على هذه الدعسة! إنها موسيقى تسحر حتى البلاهة، حتى النشوة، حتى الفناء، حتى الحلم، وإلى غيبوبة الرادارات العربية صبيحة 5 حزيران.
وإذا لم تنسلخ نخبة هذه البلاد، ومسؤولوها، وشعبها، عن ذلك السحر، فإن تلك الموسيقى، وذلك الصوت العليل الرقيق، سيستمران حتى لا تعود كلمة (استقلال) تعني شيئا على الإطلاق، سوى تلك السخرية الشنيعة التي تهيمن على مصير أمة فائقة التخلف.
ومن ناحية أخرى، فإن هذه الدعسة لا تضرب على وتر واحد. بل إنها تعطي سلما كاملا من النغم. فلكل معزوفته الخاصة، حسب مزاجه، ووضعه الجغرافي، وحسب الظروف الدولية.
إن إخواننا في الكونغو، وإخواننا في كل مكان، وكل الهالكين (الذين نزلت عليهم اللعنة) على الأرض الإفريقية الآسيوية، منغمسون في هذه النشوة الساحرة. بعضهم في (نيرفانا) جزيرة الأحلام واللذائذ، والبعض الآخر في كابوس طبول يقرعها إبليس.
ولكن إذا كانت حكومة ما، أو نخبة ما، أو شعب ما، أو شخصية فريدة ما، أو إنسان ما كمصدق، إذا كان من الجرأة والصلف حيث يعكر حلم هؤلاء، وكابوس أولئك، ماذا يجري عندئذ في قاعة الاستماع؟
فيما يتعلق بمصدق، أنتم تعلمون ما جرى؟
ولكن، وبشكل عام، ماذا سيجري لآولئك الذين لا يريدون أن يعيروا آذانم لتلك الموسيقى؟ ولأولئك الذين يستمعون إلى أغانيهم الخاصة؟ ولأولئك الذين بدؤوا يتكلمون عن التغييرات، وعن التطورات، وعن الإصلاحات في معنييها- إصلاح ما بات لا يستعمل وإصلاح ما يجب أن يكيف بشكل أفضل للاستعمال- ولأولئك الذين شرعوا في المطالبه بأشكال جديدة، وبنيات جديدة، وخطى نحو الأمام؟
آه. هكذا إذن! أنتم لم تعودوا تريدود اأن تبقوا في ذلك الفساد!! ولا ذلك المستنقع الآسن!! ولا النيرفانا والتام- تام!! أنتم تريدودا، على حد قولكم، الطهارة!! والاستقامة!! والنظام! والحركة! والعمل! إذن، انتظروا!
ويضع الموسيقي الماهر رجله على الدعسة الأخرى. لهذا التغيير دلالة! إنه سلم نغم التهديد، والوعيد، والابتزاز .. هذا يعني في لغة (جان غابين Jean Gabin):
"لا تلمس المال". هذه العبارة تقال لك فقط بلغة موسيقية سريعة، وأسرع، وخفيضة .. حسب لهجة بعض أميرالات البحرية، أو أحد مفسريه.
و (المال) هنا هو سائر ما تريد التغلب عليه، وتجاوزه، ونسيانه: الفساد، الانحلال، الإخلال بالواجب، الفضيحة، النصب، وما عداه.
إن الاستعمار يقول لك بكل بساطة "لا تلمس" كل ذلك، كل هذا الرأسمال الذي يمثل استثماره الأهم والوحيد في مدينتك، في بلدك، في سائر دول العالم الثالث. إنه أكثر من إسو، وستاندرد، وأرامكو، والنابالم مجتمعة.
إنه لا يريد لنا من الشر أكثر من ذلك. إنه يقول لنا فقط: تعفنوا بهدوء! لا تسمعونا أصواتكم، ولا احتجاجاتكم، في القاعة التي تصدح فيها موسيقى النيرفانا، والتام- تام، والأحلام، والكوابيس! وعلى حكومتكم أن لا تزعج الناس الذين يتمتعون بالحياة الناعمة في الداخل، أو في الخارج، ببضع مشاريع تحسن بها الجو الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي! ولتغمد إرادتها الضعيفة في جيبها، أو في رأسها، أو حيث تشاء!
هذا ما تعنيه لعبة الدعسة الجديدة. بالطبع، إذا أصررتم، وإذا أرادت حكومتكم أن تدخل مرحلة التنفيذ، عندها يمكن للموسيقي الماهر الذي يدوس على هذه الدعسة، أن ينتقل إلى (نوتة) النابالم، وإلى سلم (مشاكل على الحدود). هذا ممكن!
ولكن! لنفترض أن هذا أكيد.
هل ينبغي أن نبقى (مستمعين) لموسيقى الدعسة الأولى؟ أن نبقى في قاعة الاستماع، بانتظار الخطر الخارجي من النيرفانا والتام- تام والفساد والتأملات والفناء في مكاننا، كما جرى لطائراتنا العربية صبيحة الخامس من حزيران؟
ها هي المشكلة قد طرحت، أخيرا.
في الواقع، عند الاستعمار معلومات عنا، أكثر بكثير مما عندنا عنه. إنه يكيف بكل بساطة موسيقاه وفقا لانفعالاتنا، ولعقدنا، ولنفسيتنا. إنه يعرف مثلا أننا تجاهه لا نفعل، وإنما ننفعل. وهو عندما يكون قد دخل مرحلة التفكير في مشاكل الغد، في الحفر الموحلة، التي يريد أن يوقعنا فيها، نكون نحن لا نزال نفكر في مشاكل الأمس، في التخلص من الحفر الموحلة التي أوقعنا فيها فعلا.