المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فلنتكلم عن العارضة - من أجل التغيير

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌فلنتكلم عن العارضة

‌فلنتكلم عن العارضة

(*)

يجب أن نغتبط للاهتمام الذي يوليه الرأي العام للمواضيع التي تناقش منذ الاعتداء الإسرائيلي. والدليل على هذا الاهتمام يظهر خاصة في أن المقالات التي تصدر باللغة الفرنسية تترجم غالبا، وتنشر في المجلات التي تصدر باللغة العربية.

هكذا نرى أن مقالي (لحظة التفكير) قد ترجم لأجل قراء العربية، أي لأجل السواد الأعظم من الرأي العام.

لقد قرأت هذه الترجمة، وانتابني شعور حقيقي بالإعجاب للمترجم. ولكن خطأ واحدا صدر عنه، وشوه تماما فكرتي حول نقطة أساسية، واستعجلني لأقول إنني لا أمارس هنا حتى ما بالتدقيق؛ إنما هو واجب بسيط يكتسب أهميته كما الظروف غير الاعتيادية التي نعيشها.

إن موضوع اليقظة الذي تذكرنا به في كل لحظة اليافطات المعلقة فوق شوارعنا، موضوع ذو أهمية عظيمة في هذه الظروف.

وأي خطأ في هذا الميدان إنما هو خطأ فظيع؛ خاصة إذا كان يتعلق بقطاع مهم من رأينا، وخاصة إذا كان يضع أمام أعيننا نوعا من التناقض مع مبدأ النقد الذاتي، وهو مبدأ لا ينفك يفرض نفسه في كل لحظة في البلد الثوري، ويتفوق في كل لحظة على كل المبادئ الأخرى.

وباختصار، أعيد وأترجم المقطع من جريدة الشعب: "ونحن إذ نحيي أصدقاءنا المتعاونين الذين يقدمون مساعدتهم القيمة، تقول (لهم) إن النظام يجب أن يستتب في البيت بادئ الأمر.

(*)« Parlons de la poutre» Révolution africaine، no 230، Semaine du 10 au 16 juillet 1967.

ص: 22

كل شياء في هذا المقطع، اللهم إلا كلمة (لهم) التي بين هلالين. لقد أضافها المترجم فغيرت تماما معنى الجملة، ونية الكاتب الذي جعلته الترجمة في موقف حوار مع المتعاونين، وكأنه يعطي لهم في نهاية الأمر، مسؤولية النظام في منزلنا.

إلا أن التحية التي أوجهها لهم هنا ليست سوى حيطة إضافية؛ أردت بها أن أعلم القارئ أنني لا أفكر بهم؛ وأن الأمر لا يتعلق بالضيوف المارين بالمنزل، بل بأولئك الذين يوجدون فيه للحياة وللموت، أي نحن بالذات.

ولا بد هنا من ملاحظة أن مجرد كلمة صغيرة تحمل أهمية كبيرة. فهي تستطيع أن تحور الفكرة، كما يستطيع القضيب الموضوع على سكة الحديد أن يحور القطار عن سكته.

والنتيجة أن هذا الخطأ في الترجمة ذو نفع من منظور آخر: لأنه يجبرنا على العودة على موضوع شائك وخطير. ويكفيه أنه ذكرنا بأننا لا نزال نميل أحيانا إلى الاهتمام بالقشة في عين جارنا، وننسى العارضة التي في أعيننا. إن نقدنا لذاتنا لا يبدأ بوعي الآخر بل بوعي الذات، وليس علينا أن نطلب تحمل مسؤولية بيتنا من الآخرين؛ بل من أنفسنا. إن الأجنبي- ولو كان مشبوها- لا يستطيع أن يفعل الضرر في بيتنا إلا إذا وجد فيه من يحابيه ويتآمر معه، كما جرى مع هذه الأدمغة (الجواسيس) الذين بفضلهم استطاع الطيران الإسرائيلي في الخامس من حزيران أن يصل إلى المطارات العربية خفية عن راداراتها.

تلك هي المشكلة! إنها مشكلة سياسية في بادئ الأمر. فعندما ألقى قادة هذا البلد شعار اليقظة، لم يستجيبوا لأسطورة ما، بل لضرورة لم تفقد يوما أهميتها، ولكنها باتت في هذه اللحظة الاستثنائية (الحرجة) أشد إلحاحا. ليس لي الأمر في أن أقول ما يتضمن هذا الشعار من المنظور العسكري.

ص: 23

ملف الإمبريالية

لكن الحرب لا ينتصر فيها بالأسلحة المادية فقط، كالبندقية والمدفع أو حتى الطائرة. وأحيانا حتى يسيء للانتصار العسكري الكبير تقصير (نقص) على الصعيدين الأخلاقي والسياسي. هذا أمر يشهد عليه التاريخ منذ القدم.

بعد أن انتصر هنيبعل في (كان)، وصل إلى أبواب روما، فصاح مجلس في الشيوخ وقد اعتراه الهلع، صيحة الخوف التي لا تزال مدونة في كتب التاريخ:"هنيبعل على أبواب روما! ". ولكن ملذات (كابوا)(كامبانيا) التي تراخى فيها ضباط هذا الاستراتيجي العظيم، وتقصيرات مجلس الشيوخ القرطاجي، أنقذت روما التي انتهت، بأن محت قرطاجة من خريطة (الوجود)، كما هو معروف. ولكن هذه العوامل النفسية والاجتماعية والسياسية، تقوم بدور أكبر بكثير، في عصرنا الذي لا يتعلق فيه مصير الحرب بالجبهة فحسب، بل بالخطوط الورائية أيضا.

إن مصير روسيا القياصرة ومصير ألمانيا الإمبراطورية لم يحسما في نهاية الأمر على المستوى العسكري؛ بل على الصعيد النفسي والسياسي. وهذه الحقيقة تصبح حقيقة وواقعا، على الأخص بالنسبة لبلد يجابه الإمبريالية التي آخر ما تستعين به السلاح العسكري. فسلاحها الأساسي في بلدان الشرق الأوسط هو ملفها، الذي تسحب منه في اللحظة المناسبة (حين يحين الزمن) اسما مثل (تشومي) أو آخر مثل (باودال).

بملفها تحكم الإمبريالية العالم. منذ بضع سنوات، عندما أممت إحدى الدول العربية شركة من شركات البترول في أراضيها، أثار الدهشة وجود ملف في وثائق الشركة، يضم كل أسماء الأشخاص، الذين يمكن أن يخدموا أو يؤمنوا مصالحها في البلد. لاشك أن ملف الإمبريالية يجب أن يكون أكبر أهمية لكي يستطيع أن يساعدها في كل العمليات؛ في زمن الحرب، كما في زمن السلم، على الجبهة، كما في الداخل.

ص: 24

فلو عدنا إلى تاريخ ثورتنا، لرأينا أنها في الأول من نوفبر- تشرين الثاني- باغتت لأول وهلة الاستعمار؛ لأن قادتها بالضبط لم يكونوا معروفين بعد لديها، ولم يكن الاستعمار يعرف بعد إن كانوا يحبون القهوة أو شراب اليانسون، على سبيل المثال.

بالطبع، إذا طلبنا منه أن يسمح لنا بإلقاء نظرة على صناديقه، فإن جوابه سيكون على الأرجح الرفض لطلبنا. هذا أمر مفروغ منه.

ماذا أقول؟ الإمبريالية لا تحب حتى أن نتكلم عنها. وإذا لم تخني الذاكرة، هناك شخص تكلم عنها منذ حوالي ثلاث سنوات في صحف هذا البلد. وعلى الفور انتصب قلم محرك من الخارج ليتهكم بقوله:"الملف؟ .. ها! ها! هي .. ".

لكن ضحكة الإمبريالية كانت ضحكة صفراء؛ ونحن نعرف لماذا

لأنها لا تحب أن يتكلم أحذ في العالم الثالث عن ملفها.

إنه من واجبنا نحن أن نحمي أنفسنا من تأثير هذا السلاح؛ وهذا يعني أنه لو سمح لنا- وإن كان ذلك أمرا غير معقول- أن نلقي نظرة على الملف الذي يسمح للإمبريالية أن تقوم بعملياتها الضرورية، في زمن الحرب، أو في زمن السلم، فإن ما سيهمني بادئ الأمر ليس في أسماء (السواح) الزائرين.

من التقصير

إلى التآمر

وليس اسم تشومبي حتى هو الذي سيسترعي انتباهي، في بادئ الأمر، وإنني أتساءل حتى إذا ما كانوا أرسلوه إلينا كهدية في هذه اللحظة بالذات للفت انتباهنا عن مسائل كبيرة تهمهم. إن ما يهمنا هو ما يبقى على احتكاك مستمر معنا. وهذا ما هو حري أن تستعمل ضد البلد، بواسطة التقصيرات، والإهمالات الفردية وحتى التآمرات.

ص: 25

انطلاقا من هنا يكتسب موضوع اليقظة كامل مغزاه، لأن كل سلبياتنا في الإطار الأخلاقي والاجتماعي، وفي الإطار الاقتصادي والفكري، تصب بفعل آلية المواقف التي يسيطر عليها مبدأ توازن القوى في مصلحة الإمبريالية.

وإذا كان من الصعب أن نتنبأ باحتمال صعب على الجبهة، أو أن نتوقع نتيجة الحرب، فإننا نستطيع مع ذلك أن نؤكد مسبقا تمام التأكيد، أن كل سلبيات البلد ستقوم بدور حاسم فيها.

وهكذا، فإن ما يهمنا أولا بأول هو الأسباب التي تخلق تلك السلبيات؛ والعوامل التي تزيدها؛ والعوامل التي تضعها في حساب الإمبريالية.

إذا كان لكلمة اليقظة معنى، فإن معناها في بادئ الأمر إدراكنا لهذه السلبيات. فإذا كانت قطاراتنا لا تصل في أوقاتها المحددة، وإذا كانت مركباتها لا تخضع لصيانة جيدة، فهذا أمر سلبي، وإذا لم تسلم حتى الآن قطعة منذ سنة، فهذا أمر سلبي آخر، وإذا اتحل مشكلة كان يجب أن تحل منذ شهرين مضيا، ربما بحجة أننا في حالة حرب، فإن هذا أمر سلبي يدخل في حساب العدو.

ونزف الكادرات الذي تكلم عنه الرئيس بومدين في (نادي الصنوبر) هو أيضا أمر سلبي.

وبشكل عام، إذا أدركنا الانحطاط في عاداتنا، إذا تحدينا قوانيننا، إذا أفسدنا إطارنا الثقافي، وعلى الأخص بالتضحية بجمال مدننا وهدوئها، إذا لم نعرف كيف نحتفظ بالمحصول الممتاز للزمن الصعب، كما كان محصول سنة 1963 ومحاصيل غيرها من السنوات أيضا، كل هذا يدخل مسبقا في حساب وضع صعب محتمل تستفيد منه الإمبريالية.

بناء عليه، فإن ما يهمنا هو معرفة أسباب كل هذه السلبيات من جهة، ومن

ص: 26

جهة أخرى: الوسيلة التي تسمح بالتغلب عليها، وهذه الأسباب تكمن بادئ الأمر فينا نحن، في وعينا أو في من حولنا من الجهة هذه من المتراس.

وليس هذا بالتفتيش في وعي الأجنبي الذي يأتي إلى بلادنا لنعرف تلك الأسباب، بل بالتفتيش في وعينا نحن. إذ لا يتعلق الأمر بالقشة التي في عين جارنا، بل بالعارضة التي في عيننا.

من المشجع أن نلاحظ أن موقفا جديدا في هذا الصدد قد بدأ يظهر.

الفاعلية والعمل

لقد تناول حسنين هيكل هذه المسألة بشجاعة في افتتاحيته الأخيرة. فهو يعطي في عدة أسطر غاية في الصراحة مثال الاعتراف بالذنب الذي وإن كان لا يصرح بكل شيء، فإنه يعطي النقاط الرئيسة، فهو يقول:"يجب على كل من أن يقدم حساباته، يجب علينا أيضا أن نفهم بعض الدروس".

من جهة أخرى، يندد رئيس تحرير الأهرام باستعمالنا المفرط للكلمات، وهذا لا يمثل في الواقع خطأنا الوحيد، ولا، وللأسف، سلبيتنا الوحيدة، ولكن مع ذلك هذا دليل وعي جدي سيقلق الإمبريالية بالتأكيد، وهي ستكون خاسرة بالتأكيد على المدى الطويل، وإن كانت تبدو على المدى القصير منتصرة في سيناء.

منذ الآن، يجب على الإمبريالية أن تأخذ بالاعتبار أن العالم العربي بدأ ثورته الثقافية كما يدل على ذلك "الاعتراف بالذنب" الذي أشرنا إليه والذي يستحق أن يتكرر كثيرا في أبعد أعماق وعينا.

ولكن يوجد على ما ييدو، وكما يفترضه النموشي في آخر مقالاته، أناسا يخافون الاعتراف بالحقائق المكبوتة في أعماق كيانهم. الزمن وحده سيتكفل بحملهم على الاعتراف.

ص: 27

وأخيرا، لكي تعرف الإمبريالية سلبياتنا وأحيانا لكي تزيد في عددها، تملك بالتأكيد في كل بلد من بلاد العالم الثالث جهازا يتألف من مخبرين يستطيعون، إذا اقتضت الحاجة، أن يتحولوا إلى عملاء منفذين، وإلا، فإن الإمبريالية ليست سوى طفل بريء نحمل عليه بخبث.

عندما لا نملك تجربة عملية في هذا الميدان، يجب علينا على الأقل أن نتحلى بالفطرة السليمة، إن مجرمي طهران الذين عزلوا مصدق عن الحكم في سنة 1953، لم يخرجوا من العدم في خلال ثلاثة أيام، وإنما جاؤوا من جهاز كون في البلد تحسبا للأحداث.

انطلاقا من هنا، تصبح المسألة مسألة عملية [عملاتية]، لن تكون اليقظة بذات نفع إذا كانت تؤدي إلى العدم، إذا وجد الإهمال والمحاباة في هذه الجهة من السواتر، فإنها ستكون غير مجدية.

وإذا كنا نريد أن نترجم تجربتنا في الأفكار بالعمل، فإنه من الواجب أن نحترم أصول الفعالية في هذا العمل.

ص: 28