المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نداء قسطنطةمشكلة الثقافة - من أجل التغيير

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌نداء قسطنطةمشكلة الثقافة

‌نداء قسطنطة

مشكلة الثقافة

(*)

لقد افتتحت قسطنطة أسبوعها الثقافي الذي أراد القيمون على تنظيمه أن يكون على أشد ما يمكن من الرونق والبهاء. وأعتقد أنهم قد نجحوا في ذلك.

لقد كاد هذا الاحتفال أن يحتفظ بطابعه المحلي، وهذا الطابع بحد ذاته ذو قيمة كبيرة، لما يتمتع به أهل قسطنطة من ذوق رفيع وتقاليد قديمة غنية. ولكن الرئيس (بومدين) هو الذي دشنه، وهذا أمر يضفي على الاحتفال الطابع القومي.

وعلى هذا المستوى، يجعلنا الاحتفال نفكر عرضا بمسألة الثقافة.

أضف إلى ذلك أن الرئيس ذاته هو الذي عرض علينا هذه المسألة في شكل مشروع، أعلن عنه خلال زيارته لقسطنطة، ويتعلق الأمر بتكوين لجنة في القريب العاجل في الجزائر، تكون مهمتها وضع برنامج إنماء ثقافي على مستوى الوطن.

هذا مشروع يجب أن نصفق له بكلتا يدينا.

إلا أن التفكير لا يكون مجرد راحة عضلية، وهو ليس مجرد تصفيق باليدين نعبر به عن حماسنا، كالولد الذي ينظر بعينين يملؤهما السحر والاستغراب إلى عصفور أزرق جميل ينطلق من أمامه، إن تحقيق المشروع أو عدم تحقيقه قضية أخرى. وهي تعني المثقفين المدعوين إلى البدء بالعمل الجاد. وهم يرتكبون خطأ جسيما، إذا ضيعوا الفرصمة التي يحملها هذا المشروع الذي وعدنا به.

(*)" L'Appel de Constantine: Le Problème de la culture "Révolution africaine، NO 268، du 4 au 10 avril 1968.

قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: جاء هنا: (نداء قسطنطة)«واسم المدينة الجزائرية: قسنطينة» ]

ص: 51

إن المشروع يتناول على الأخص مسألة، يتوجب على المثقفين أن يبحثوا فيها، طالما أن الفرصة قد سنحت لهم بذلك، أعني أن توضع للمرة الأولى كل الالتباسات الفولكلورية والسوسيولوجية التي تحيط بمفهوم (الثقافة). إن هذا المفهوم يكون في الواقع المقياس الصحيح للمستوى الحضاري في بلد معين، وللطاقة الكامنة في المجتمع، أكثر مما يقدمه مقياس الآلات وعددها.

لم تكن ألمانيا تملك سنة 1945 الآلات ولا الماركاتا ولا الدولارات. ولا حتى السيادة القومية. لم تكن تملك سوى رأسمال واحد، لا يمكن تدميره. الحقيقة أنه لم يكن للقنابل الفوسفيرية ولا للدبابات القدرة على أن تدمر ثقافة ألمانيا، وأنا لا أقول (علمها (ولا (تقنيتها) وهما التباسان آخران يشوشان كذلك معنى الثقافة، لأنهما يضعان هذه الأخيرة تحت سلطة المدرسة أو المصنع.

ذلك أن من أعاد بناء ألمانيا بعد سنة 1945 ليس العالم ولا التقني، فضلا عن أن معظم العلماء والتقنيين مثل (فون براوق) كان قد استولى عليهم الأميركيون أو السوفيات وعدوهم غنائم حرب. إن من أعاد بناء ألمانيا هو الروح الألمانية، روح الراعي والفلاح والعامل والحمال والموظف والصيدلي والطبيب والفنان والأستاذ.

وبكلمة واحدة، إن الثقافة الألمانية- دون التباس، ودون تضييق اجتماعي أو فكري لمعناها- هي التي أعادت بناء بلد (غوته) و (بسمارك).

إن رجل (المعجزة الألمانية) بعد الحرب ليس (إيرهارد) كما تدعي الصحف والإعلام. فقبل الحرب وقبل (إيرهارد) هناك (شاخت) وهناك (معجزة ألمانية)، وهذه الأخيرة ستتكرر طالما بقي هناك ثقافة ألمانية.

أضف إلى ذلك أن حدود (المعجزة) هي حدود ثقافية لا يمكن للمعجزة أن توجد خارجها. لقد اتضح لنا هذا الأمر مع الدكتور (شاخت)، فهو لم يستطع البتة أن يكرر هذه المعجزة التي أنتجتها- ولا تزال تنتجها- بلاده، في بعض الدول الآسيوية

ص: 52

التي استقلت حديثا، والتي استدعته لهذا الصدد، لقد بذل جهدا كبيرا، وشمر عن ساعديه، وضرب بعصاه السحرية، ولكن شيئا لم يخرج من علبة هذا الساحر، اللهم سوى بعض الخيبة.

ولنقل على هامش حديثنا لهؤلاء الناس الذين ينطقون بأصوات أناس آخرين، لا يريدون أن يعرف أنهم مصدر تلك الأصوات، لنقل للذين يظنون أن المشكلة الاقتصادية هي قضية لغة أو كلام محرف، لنقل لهم إن القضية ليست حتى قضية أرقام، وإلا لما كان ساحر أرقام مثل (شاخت) ليفشل في مهماته الآسيوية.

ولكن، لنتجاوز هذا الأمر

ولنلاحظ رغم ذلك هذا التأثير غير المتوقع للثقافة، حتى في الميدان الاقتصادي، غير أنني لا أعتقد أن الأسبوع الثقافي الباهر الذي تم افتتاحه مؤخرا في قسطنطة، يعكس مثل هذا التأثير في نظر الزائر أو المشاهد الذي يشارك في مسيرة هذا الاحتفال، بانتباه قد يكون شديدا، وقد لا يكون.

هنا، تبدأ المشكلة فعلا بإثارة اهتمامنا، ونحن- في الواقع- في مرحلة تحجب فيها الظاهرة الخارجية نوعا ما الطبيعة العميقة.

وهذا أمر يعرفه علماء الطبيعة منذ أمد بعيد: إن بعض الظواهر العرضية تضلل الأفكار حين تحجب- بشكل تام، أو تقريبي - الظواهر التي تكون موضوع الدراسة.

إن مفهوم الثقافة أيضا محجوب اليوم بعض الشيء بالإنتاجات الثقافية التي تعرض أمام أعيننا في أشكال فولكلورية وحرفية، وذلك أثناء هذه الاحتفالات المثيرة للاهتمام، والتي علينا أن نشجعها.

إننا نجد - في بعض الأحيان، على مقربة من مصنع للمعادن- أكواما من المناشير، أو بقايا المعادن، أو حتى صفائح جميلة من الفولاذ، تأتي كلها من آلات الصقل أو التلميع أو من آلات التركيب. ونجد ضمن هذا المصنع كذلك آلات جميلة جدا.

ص: 53

كل هذا يكون- في الحقيقة- جزءا من الإطار العام، وهو لا يشوهه في شيء، بل إنه لا ينفصل عن طبيعة التعدين ذاتها أو عن الصناعة بشكل عام، إلا أن كل هذا في نهاية الأمر لا يكون التعدين ولا الصناعة، فهذا ليس هدفها ولا مضمونها.

كذلك أمر النتاجات الفرعية أو النتاجات المباشرة للثقافة، إنها ليست سوى الثقافة ولا تقدم أي فكرة عن أوائليتها ولا عن دورها في المجتمع.

يترتب علينا إذن، أن نعرض للمشكلة بطريقة منهجية، علينا أولا أن نحكم بالعدل على بعض الخلط وعلى بعض الاستعمال المفرط للكلمات، مما يجعل مفهوم الثقافة أمرا غريبا، لا أصل دقيقا له ولا معنى واضحا.

علينا أولا أن ننتهي من البلبلة الفكرية المضرة جدا، والتي تجعل من كلمة ثقافة مرادفا لكلمة (علم).

هناك كلمة ل (رابليه) تبت في هذه القضية بتا قاطعا. يقول هذا الأب الروحي (للأنسية) الفرنسية: "العلم بلا ضمير مفسدة للروح).

إن العلم يعطي المعرفة، إنه يعطي اللباقة والمهارة، وفقا للمستوى الاجتماعي الذي يتم عليه البحث العلمي، والعلم يعطي امتلاك القيم التقنية التي تولد الأشياء.

والثقافة تعطي العلم، إنها تعطي السلوك والغنى الذاتي الذي يتواجد على كل مستويات المجتمع؛ والثقافة تعطي امتلاك القيم الإنسانية التي تخلق الحضارة.

الثقافة والعلم ليسا مترادفين.

الثقافة تولد العلم دائما، والعلم لا يولد الثقافة دوما، ولا يمكن استبدال أحد هذين المفهومين بالآخر. إن هذا التمييز أساسي، أولا لدى وضع برنامج يهدف إلى الارتفاع بثقافة بلد ما إلى أعلى مستوى من مستويات الحضارة، وثانيا في فهم الظواهر الاجتماعية والسياسية ذات الأهمية الأساسية.

ص: 54

إن فيتنام لم تستطع أن تجابه الإمبريالية بالعلم الذي لا ينال في مراحله الأولى، وإنما بإدراك يجسده زارع الأرز كما يجسده صاحب أعلى رتبة، أو المفكر الأشد اطلاعا.

كذلك، لم يستطع الشعب الجزائري أن ينتزع استقلاله بالمعرفة التي تتمتع بها النخبة فيه، بل بالإدراك الذي وجد على المستوى الشعبي في وجه الاستعمار. هناك مشكلة تطرحها النخبة، خاصمة إذا أخذنا بعين الاعتبار تلك النخبة التي استقلت في الخارج (هناك 300 طبيب مقيم في منطقة باريس ليس في إلا).

وأخيرا، لم يحصل فشل عسكري في سيناء، كما يقول أحد علماء الاجتماع الفرنسيين، بل ظهر (فشل ثقافي) في حزيران الماضي. لم تكن القضية قضية إخفاق العلم العسكري بل إخفاق الثقافة وحسب.

هكذا هو الأمر، في كل الأوقات الصعبة في التاريخ: الثقافة هي التي تكون طوق النجاة للمجتمع، حين يتعرض لخطر الغرق.

أضف إلى ذلك أن العلم غير شخصي (موضوعي)، بمعنى أن رجل العلم يكون دائما إنسانا يراقب الأشياء، ليسيطر عليها، وليحسنها، تلك هي النظرة المنهجية (الديكارتية) لعالم الظواهر.

ولكن الثقافة أكثر من ذلك، إنها تخلق الإنسان الذي يراقب، ويراقب ذاته في بادئ الأمر. تلك هي نظرة الغزالي أو (باسكال) اللذين كانا يبحثان عن تناسق بين عالم الظواهر وعالم الداخل، تلك هي النظرة التي تسمح للإنسان أن يسيطر على ذاته، وأن يسيطر على الأشياء التي ابتدعتها عبقريته، أي بكلمة مختصرة أن يتحضر.

ومن المؤكد أن للثقافة نتاجاتها، كما للصناعة نتاجات (كصناعة المعادن، مثلا)، حتى إن لها نتاجات ثانوية.

ص: 55

ولكننا نعلم أن النتاج إنما هو تمثيل لمن ينتجه، إنه رمز بليغ ومؤقت، فالصاروخ الذي ينطلق باتجاه كوكب بعيد، ليس سوى رمز للحضارة التي ابتدعته؛ وبالأحرى عندما يتعلق الأمر بالنتاجات الثانوية، يمكن لهذه الأخيرة أن تكون العديد من الأشياء التي تلفت انتباه السائح المتلهف لكل ما هو غريب.

قس- على ذلك- المستوى الذي يهمنا هنا. هناك ثقافة، وهناك نتاجات هذه الثقافة، وهناك حتى نتاجاتها الثانوية.

إن هذه الأفكار تخطر في بالنا غداة رحلة الرئيس بومدين إلى قسطنطة، وعلى الأخص حين أعلن عن تكوين لجنة تهتم بوضع برنامج تثقيفي، ونحن نعتقد أن الأمر سيتعلق- خاصة وقبل كل شيء- بمسألة الثقافة القادرة على خلق الإنسان الجديد في الجزائر وتصعيده.

ولنضف إلى ذلك أن هذه المسألة تطرح حتى على الوجه السياسي، كما تطرح في هذه اللحظة في الصين في شكل ثورة ثقافية.

ونحن نكون بسطاء جدا لو ظننا يوما ما أن الاستعمار عندما يعد حقائبه ويرحل عن بلد يستعمره، يترك المكان وراءه وبكل بساطة نقيا سليما.

ونكون كذلك أشد بساطة إذا ظننا أن الاستعمار يخلي وراءه فقط وفي بعض الأحيان الفيتنام هنا والكونغو هناك والبيافرا بعيدا، إنه لا يترك دائما كل هذا وراءه بالتأكيد، وهذا أمر معروف من الجميع، ولكنه على الدوام ودون أي استثناء، يترك وراءه الطابور الخامس، طابور خدامه القدامى، أو كما قال الرئيس بومدين، طابور بقايا الحركيين.

وهنا تبدأ وتستعاد مأساة البلاد التي غادرها الاستعمار ظاهريا. ذلك أن بقايا العهد الاستعماري لا تبقى مجرد (كومة) يمحوها مرور الوقت ويفتتها شيئا فشيئا.

ص: 56

نكون ساذجين حتى إذا ظننا ذلك، إن هذه (الكومة) المتروكة في المكان المغادر ستعود إليه لتصبح بسرعة (كلا منظما)، وذلك بتأثير إرادة منطمة لا تضيع أبدا وجهتها. وهي ستصبح ثانية أخطبوطا متعدد الأرجل، يملك أرجلا محلية، ورأسا مفكرا في الخارج.

ولا بد عندئذ منا كارثة، كتلك التي حصلت في سيناء لكشفه، ولا بد من ثورة ثقافية تفصل أرجله الرخوة عن رأسه المتين الذي يفكر.

إن الثورة التي حصلت في الصين ظاهرة من الظواهر الأساسية لثقافة الصين الجديدة على الصعيد السياسي. فقد فككت هذا الأخطبوط الذي كان يكون الطليعة، والآلة المحلية للهجمات الاستعمارية المقبلة.

ولكن الزوبعة الثورية الجديدة في الصين فككت تلك الآلة. ولم تعد الأرجل المتعددة تستطيع منذ ذلك الوقت أن تقوم بوظيفتها المعتادة حين ترسل الرأس المفكرة إليها أوامر، من خلال شبكه الأرجل التي فقدت سيطرتها عليها، إنما الثقافة تتضمن كل ذلك، وعلى الأخص في بلد ثوري مثل الجزائر.

إن النداء الذي وجه في قسطنطة إلى الطاقات الفكرية في هذا البلد سيكون له بالتأكيد صدى عميق في صفوف النخبة.

يترتب على هذه النخبة أن تقوم بدورها في بناء المجتمع الجزائري الجديد، إن عالم الأفكار لدينا يجب أن تبنيه تلك النخبة، تلك هي مهمتها الأساسية، وعليها- في هذا المجال كذلك، ودون شك- أن تحرر أذهاننا من بعض البلبلة التي فيها. والعالم ليس مجرد (تكوين) للأشياء وللأفكار، على الأخص، فيما يتعلق بالأفكار التي يعني تكوينها الاختلال والفوضى والتوفيقية والمواطنية العالمية، أي كل ما يجعل الفكرة تفقد أصالتها وقيمتها البناءة.

ص: 57

ليس هذا وقت الكلام عن الأسلوب. ولكن لنقل بكل بساطة إن الأنبياء اعتمدوا الأسلوب الأشد بساطة في كلامهم إلى الجمهور. وكبار الثوريين مثل (ابن تومرت) و (لينين) و (ماوتسي تونغ) استعملوا كذلك تلك اللغة. كذلك اعتمد المفكر (نيتشه) تلك اللغة حين وضع في أسلوبه طراوة الأسلوب التوراتي التي لا توجد في أسلوب أي فيلسوف غيره.

إن مسألة الثقافة يجب أن تطرح، وأن تقوم فكريا، وفقا للنظام الهرمي للحضارة.

فالحضارة ليست (كومة) من الأشياء والأفكار ولكنها بناء يعكس عبقرية البلد وشخصيته، ولا بد أن نتمنى من جهة أخرى أن تعمل اللجنة أو المجلس المخولين بوضع برنامج العمل وعرضه على نخبة بلدنا، أن تعمل على تذكر شروط هذا العمل، بما في ذلك شروط توزيع الكتاب، وعلى الأخص ثمنه.

وهنا تطرح مسألة ال ( SNED) برمتها ولن نضيف أكثر من ذلك، ونحن لا نقوم أكثر من أن نقيس أهمية هذه المسألة حين نقول إن ميدان الأفكار اليوم هو الميدان الأشد تجمدا في بلدنا.

إن مفكرينا أو أغلبيتهم لجؤوا إلى جبل جليدي بعيد. ولا بد من نفس ثوري جديد لكي يذوب هذا الجليد، ولكي نجعل تلك البطارقة الحردانة تأخذ اندفاعا جديدا.

هذا النفس جاء على ما أظن من قسطنطة.

ص: 58