المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تأملات على قبر دينيه في بوسعادة - من أجل التغيير

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌تأملات على قبر دينيه في بوسعادة

‌تأملات على قبر دينيه في بوسعادة

(*)

كان ذلك على قبر "دينيه"، البارحة، حينما عادت بي تلك الفكرة القائمة إلى الذاكرة. لقد وجدتها، إلى ربع قرن مضى، على شفاه امرأة عجوز من تبسة، كانت تشعر لثقل أيامها الموحشة.

فقد ضربت عائلتها بغير ما شفقة، لأسباب لم تبح بها تلك العجوز؛ لعله العنفوان أو التجمل. كل ما عرفته أنه لم يكن من الممكن الحديث عن نجدتها من تلك التعاسة الإنسانية.

حقا فإنه حينما يقرر الاستعمار النيل من شخص ما، فإنه يتركه خيالا ووهما دون حياة، والويل حينئذ لمن يأتي إليه مسعفا أو مخففا من بلوائه، الويل لمن يمد إليه يد إخاء تخفف من غلواء بؤسه.

في بداية هذا القرن، عاش الشعب الجزائري أحلك أيامه. فبعد الانتفاضات الأخيرة لمقاومته البطولية، لم يعد وجوده سوى وهم وخيال، يأخذ طورا شكل الخضوع الكامل (الحتمية كما سيقول ممتهنوه ومذلوه)، وطورا آخر يأخذ شكل الإغراق في الأسطورة.

لكن إيمانه قد ساعده على تجاوز ضعفه، ومعاداة الأيام له، لا بل زانه بشيء من الأصالة، وشعاع ساحر غامض يلفت الانتباه، وقد يغري تعاطف الحس الرهيف، إذ جاء من بلاد بعيدة.

هكذا وقعت دي كاسترز في سحر من الأغواط.

(*)« Réflexions de Bou Saada» ، Révolution africaine، no 269 Semaine du 11 au 17 avril 1968.

ص: 70

وإيزابيل إيبرهارد، سوف تعيش تحت تأثيره في تلك المغامرة المجنونة، التي ستنتهي بالمأساة في عين الصفرا، ثم ذلك الضابط الشاب الشهير، والذي سيصبح الأب فوكود، إذ تتلقاه عمته العجوز بحبور، وتقيم حفلة استقبال على شرف عودته من الجزائر، لكنه يطلق أمامها تنهيدة:

آه! يا عمتي لم لم أولد مسالما؟

فالشعب الجزائري المحطم، المعرى، المسلوب، الأمي، المستذل، يلهم مع ذلك تلكم الأرواح المختارة، اتجاهات سامية فيها المخاطر كلها.

ففي ذلك العصر عاش الشعب الجزائري أيامه الأكثر ظلمة بلغت مداها في هوان لا إنسانية فيه، ولا رحمة.

وفي ذلك العصر اكتشف الرسام الشاب إتيين دينيه الجزائر، لكن فنه لم يكن بعد قد سلك رسالة ما.

لقد حالفه الحظ بدون شك، إذ هبط (بوسعادة). ويمكن لنا أن نتصور اتصاله الأول بتلك الطبيعة، حيث نظرته كرسام، قد أخذت على غرة بطبيعة لم تألفها. إنها الخضرة الداكنة والتربة الصلصالية الحية.

فحينما تسلق لأول مرة، ذلك الطريق المتعرج، الذي يقود إلى الجانب الآخر من الوادي، أي المكان الذي يوجد فيه اليوم قبره، فقد استشعر نشيد الألوان يتسرب إلى روح الفنان في نفسه. وفي تلك اللحظة من النشوة، فإن نظرته اكتشفت وراء ذلك الأفق الأكثر اتساعا.

فهنالك أولا منبسط الوادي، حيث برك الماء التي تمتلئ إثر كل شتاء، وتنثر هنا وهناك بقعا خضراء على صفحة صهباء مليئة بالحصى. فإذا سرح النظر إلى أعلى قليلا، فهنالك إلى الأمام يبز إكليل داكن متدرج من شجر النخيل، وفي القمة من المنظر

ص: 71

ذلك الخط الأصهب من بيوت الطوب لبلدة بوسعادة القديمة. وفي فرجة من جنوبي الواحة هنالك المدى الذي أمسك بالعديد من الأرواح. كروح إيزابيل إيبرهارد.

إتيين دينيه لم يكن، فحسب؛ الرسام الذي استيقظت هنالك رسالته، التي أخذت به إلى مداها.

وهو لم يكن، فحسب؛ الشاعر الذي استسلم لسحر ذلك النداء الخفي. لقد كان ذلك كله بل أكثر.

ففي الواحة هنالك حياة إنسانية، سوف يكتشفها وهو يجتاز طرقاتها الضيقة. هذه الحياة لها ألوانها الخاصة بها، والتي تتحدث إلى الشاعر وإلى الرسام.

فلوحاته .. كلوحة (النساء الذاهبات إلى الزيارة)، أو لوحة (التماس هلال رمضان) هي قمة الإبداع الفريد في التعبير عن الأشكال والحضور الإنساني.

لقد كان دينيه، كما أعتقد، الريشة التي أعطت لتلك الأشكال اللهجة الأكثر تأثيرا، واسمه سوف يبقى ذلك الرسام الأوفى بحياة الجنوب.

لكن حياته الإنسانية سجلت جانبا مؤثرا لا يمكن لريشة أن ترسمها.

لقد كان في هذه الحياة جوانب خاصة مليئة بالألم، تترجم مأساة ذلك العصر. فخلف الأشكال والألوان، هنالك الحقيقة المرة للعصر الاستعماري، وقد أفاضت في شعور إتيهين دينيه.

هذه الحقيقة اكتست بنظره وجهين: بؤسا لا مسمى له، وسكينة لا حدود لها. وكلاهما استأثرا به فجعلا من نفسه مؤمنا ومكافحا. وتنهيدة الضابط الذي أضحى الأب فوكولد؛ ها هي على شفتي إتيين دينيه شهادة: إنني مسلم.

ص: 72

وهكذا سوف نرى إتيين دينيه، يعلن على الملأ إسلامه في يوم من نحو عام 1929، أمام جمع من المسلمين، ومن وجوه الإصلاح المرموقة. وهو سوف يسمي نفسه منذ ذلك الحين نصر الدين دينيه.

لقد كان ذلك انقطاعا عن وسطه وعن عائلته .. هذا الانقطاع الذي تم فعلا قبل ذلك لدى دينيه، بروح المكافح.

والبقعة التي تملكها واختارها بذوق الفنان، ليبني عليها مستقره الأرضي، والتي أضحت فيما بعد مستقره الأخير؛ لم تحترم لا من الناس ولا من الطبيعة. لكن الزائر الذي يأتي ليزور قبر إتيين دينيه، يرى أيضا وهو يجتاز الوادي، تلك الشرفة من ألواح الخشب التي تطل على منبسطه المليء بالحصى.

فالرسام شاء أن يبني بغير شك منتجعا يأوي إليه، في اللحظات التي تكون فيها العزلة حاجة كل مبدع.

غير أني لا أتصور أن الفنان المبدع قد جاء إلى هذه الشرفة، ليتأمل سحر الطبيعة فحسب، ويباغت عفوية حاملات الماء، اللواتي يأتين ليملأن الجرار والقرب، في ذلك الزمن الذي لم تكن (بوسعادة) قد جرت إليها المياه.

فنصر الدين كان كامنا في أعماق إتيين دينيه، وهو قد شعر بقوة بالرابطة التي تربطه كإنسان، بذلك المجتمع الذي رسم بعظمة الفنان كل ما هو جذاب فيه، وبادره بلمسة غالبا ما تكون مؤثرة.

لقد شعر بقوة مأساة ذلك الشعب، وها هو يشارك بإدراك منه في قدره المأساوي فبؤس الشعب وسكينته قد كسبا دينيه لجانب قضيته. وها هما يكشفان اللعبة التي تحاك في الظلام.

ص: 73

فالإيمان يمنح الشعب قوة احتمال ذلك البؤس بإباء، مرسيا على قسمات الوجوه، وفي سائر الأجواء، مزيدا من السكينة والهدوء.

لقد شعر دينيه وهو رجل الفن، أي رجل الإلهام والبصيرة، أن المؤامرة تحاك بالتحديد دائما ضد القوة المسعفة؛ والتي تحول دون سقوط هذا الشعب في ظلمة اليأس.

وقد بدا له أن الاستعمار لديه هو أيضا ذلك الحدس، الذي يتصل بواقع هذا الشعب، ولذا فسائر مخططاته الموجهة تصب دائما ضد مفصل صمود الروح الجزائرية؛ الإسلام. فإذا ما سقط هذا المفصل فلن يكون هنالك ما يعوق عمل الاستعمار. وهكذا يصبح الشعب لا قبل له بدفع مؤثرات الاستعمار، أو البرء منها.

لقد كان ذلك كله يتخايل في شعور إتيين دينيه، وهو يطل من شرفته التي أهملت اليوم، وتركت لعبث الزمن، وللرياح الحادة، التي أتلفت خشب تلك الشرفة.

وربما كانت هي تلك حالة النفس، التي جعلته يترك لفترة الريشة ليحمل القلم. في تلك الحقبة كان الدكتور كرونيه، نائب (جورا) في حينه. ينزل في الاستراحة بين جلستين من جلسات قصر بوربون، ليتوضأ ويصلي على رصيف السين، تحت أنظار المارة المتسكعين الذاهلين، وهم يجتازون جسر ألكسندر. بينما كريستيان دوشرفيل الذي أعلن إسلامه هو الآخر باسم عبد الحق، يؤلف كتابه نابليون والإسلام، الذي إليه سوف يسطر إتيين دينيه إهداء كتابه (الشرق من منظار الغرب)، وفي تصدير هذا الكتاب دافع إتيين دينيه بتواضع عن كونه مدققا. ولقد كان هذا الكتاب في الواقع نتاج عالم باحث اتخذ موقفا، أو كان كما يقال اليوم ملتزما، وهو التزام فيه مجازفة الملتزم، واندفاع تهور.

لقد التزم بالضبط ضد الفرنسيين من المستشرقين، حين رفع القناع بلا رحمة عن مخططاتهم وخداعهم ضد الإسلام.

ص: 74

لقد ساوى قلمه ريشته. وحين ألف كتابه (محمد نبي الإسلام) أضحى قلمه في بعض صفحاته ريشته الأشد سحرا.

فالفنان مثله وحاله الذي يمكنه في الواقع أن يكتب صفحة غزوة تبوك.

فالدفاع عن الإسلام، وإبراز قيمته بالريشة أو بالقلم، كانا إفشالا لمناورات الاستعمار، التي أرادت أن تستغل وتستنفد سائر المصادر الروحية للبلاد الإسلامية المستعمرة؛ كالجزائر ومراكش وتونس، لتصبح شعوبها أكثر استجابة لعمله التفتيتي.

إتيين دينيه قد واجه ذلك كله بريشته وبقلمه، فهو إذن قد فعل ما لن يغفره له الاستعمار أبدا.

فوالي عام 1931 زرت متحف اللوفر، وكنت أنتظر أن أجد فيه بعضا من لوحات ذلك الرسام الكبير، الذي كان قد توفي حديثا. وأشد ما كانت خيبتي أنني لم أجد شيئا منها، وحينما عبرت عن هذه الخيبة لطالب في الفنون الجميلة، كان قد تطوع بلطف ليرشدني، فوجئت بجوابه:

لحسن الحظ أنه لا يوجد مثل تلك القباحات هنا. لست أدري إذا كانت الأمور تغيرت منذ ذلك الزمن في متحف اللوفر، ولكني أفهم اليوم بصورة أفضل تلك الأمور.

ففكرة العجوز التبسية قد راودت فكري البارحة أمام قبر إتيين دينيه؛ وهي قد فسرت لي ذلك كله. ثم إن حياة وأعمال الرسام الكبير فسرت بالمقابل تلك الفكرة المؤلمة. حتى إنه حينما حمل المركب رفاته من فرنسا، حيث توفي، فإن الإدارة قد أخذت كافة الاحتياطات بين المرفأ ومحطة الجزائر. فقد نقل إلى مثواه الأخير في (بوسعادة) خلسة، بمعزل عن علم الجماهير، عبر جلفا، إذا لم تخني الذاكرة.

ص: 75

نعم كما قالت العجوز التبسية "الويل لمن ينجدنا لأننا سنكون بلواه". لقد كان على إتيين دينيه أن يدفع هذه الضريبة.

كل ذلك أفهمه اليوم .. من الذي لم أستطع فهمه البارحة، حالة الإهمال والتلف في تلك الأماكن، التي تأمل دينيه عبرها في عمله الفني ونضاله الملتزم.

إنني لا أجرؤ على التصريح بكل ما أفكر به في هذا الموضوع؛ إنما أعلم أنه في العمق هنالك شيء من البراءة. ومن عدم الوعي من جانبنا، ولكنني مضطر أن أسجل بأن تلك البراءة وافتقاد الوعي، يبدوان وكأنهما استمرار لموقف الاستعمار من دينيه.

لن أشير هنا إلى التفاصيل التافهة. فأنا لا أدري مثلا أي يد مدنسة وضعت على صورة الرسام الصغير، المعلقة على حائط المقبرة، تحت اسمه المكتوب بخط عربي لائق، اسمه بخط لاتيني مليء بالخطأ، وكل حرف فيه يرتجف. لا ريب كان ذلك مجرد تصرف صبياني يمكن تحمله من أمي. كما لن أتحدث عن نافذة الضريح، الذي سدته يد بربرية بتلك الأحجار الصغيرة التي جمعت من حوله دون أن تكلف نفسها عناء طلائها من الداخل. لكن الذي يصدمنا أكثر إنما هو تصرفات أخرى، تشير إلى روح الجش والاستغلال والاستثمار.

فمنتجع دينيه لم يترك لعوامل الطبيعة فحسب، بل قسم وبيع مفرقا. ومن اقتناه حوله إلى مسكن على طراز مدينة الصفائح. فبابه استبدل بلوح من الصفيح المموج، يتسرب من خلاله ضوء النهار، فتلمح الممر الذي كان الرسام يجتازه، ليدلف إلى حديقته، ويأتي منتجعه فوق الوادي.

والمنتجع هذا، قد أضحى نفسه مع الحديقة ملك شخص آخر.

لم يبق لدينيه سوى ضريحه. لقد عزل عن بقية آثار دينيه، بحائط غير مورق، بل وبأية حالة!

ص: 76

هكذا جرد في حياته من الكثير، وجرد في مماته من التقدير الواجب لرفاقه.

لقد جرد ميتا من الإطار الجميل، الذي يجب أن يقبر فيه ذلك الفنان الشغف بالجمال.

لسنا في حاجة لأن نتساءل أين هي وثائقه التي لا تقدر؟ كل ما نبغيه على الأقل أن نعيد إليه ما يمكن أن يعاد إليه، وهذا يقع على عاتق الدولة الجزائرية، على عاتق أجهزة فنوننا الجميلة. وأنا أعلم أن مدير ذلك الجهاز يحترم الأشياء التي لا تقدر بقيمتها المادية، إنما تقدر بقيمتها المعنوية التاريخية.

ترجمة ع. م

ص: 77