الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دفاعا عن رأسمال الأفكار
(*)
لقد أشرت في مقالي ما قبل الأخير إلى الدخداخيات (كثيرة الأرجل).
وقد تساءل صديقي (النموشي) في العدد الأخير من مجلة (الثورة الإفريقية) عما إذا كانت خرافة أم حقيقة؟ فبت الأمر في النهاية قائلا قول من يرجم بالغيب، إنها حقيقة. فما كان منه إلا أن حلل التأثيرات المحتملة لهذه (الحقيقة) على صعيد الوقائع، وعلى صعيد الأفكار.
ولكن يجب أن نوضح هذه الأشياء توضيحا أكبر. نعم، وللأسف، الدخداخيات واقع حزين في دول العالم الثالث. لقد قدمت الاعتبارات العامة التي تقع في أساس تأكيدي هذا؛ ولقد كنت فعلت ذلك في كلمات متنوة، على الأخص في مقالي ما قبله الأخير، وفي غيره من المقالات التي سبقت.
إن الاستعمار لا يستطيع فعلا أن يترك- بلا قيد أو شرط- بلدا كان يستعمره، ولا أن يغادره هكذا وبكل بساطة، مخليا وراءه المكان للاستقلال الجديد. هذا يعني أننا نعده ولدا ساذجا. فنرتكب بذلك خطأ فريدا من نوعه، يكون في صالحه، ومضرا لنا. تلك هي إذن الاعتبارات العامة، التي بنيت تأكيداتي عليها بادئ الأمر.
كان يبدو لي أن هذا كاف. ولكنني أعتقد أنه بات من الضروري أن نتجاوز العموميات. وقد أتت كلمة صديقي (النموشي) لتعطيني الحجة والفرصة لذلك.
(*) « Défense du Capital-idées، Révolution Africaine، no 270، du 18 au 24 avril 1968.
وليس في نيتي أن أنغمس في علم الحشريات، ولا في علم التشريح، عندما أتكلم عن الدخداخيات. فهذا ليس من شأني.
ولن يعيق هذا أحدا عن أن يقول: إن الحشرة تتكون بشكل عام من رأس وجسد وأرجل. وهذا أمر كانت تعرفه جدتي، رحمها الله، كما يعرفه أي عالم. فما يهمني هو الخصائص المورفولوجية (التكوينية) التي تنفرد بها الدخداخيات بشكل خاص.
ويجب أن نكرر هذا: إن رأسها في الخارج، لست أدري أينا .. ولكنني أراهن أن (بن غوريون) لا بد أن يعرف تماما أين. تماما كما يتبع بانتباه- ونحن نراهن على ذلك- كل ما يجري اليوم في براغ، وفي فرصوفيا، وحتى في موسكو، حيث أعلن بريجنيف- منذ قليل- ضرورة تدعيم الجبهة الأيديولوجية. ومن المؤكد أن رأس هذه الحشرة، وفكرها، والإرادة التي تسكنها من اهتماماتنا. ولكن شعوب العالم الثالث كلها لا تعرف عنها شيئا ما، ولو كان ذلك جزئيا ومن طريقا الاختبار.
في هذا المجال، يملك كل امرئ على الأقل فكرة بسيطة. أنا أعرف ما يعرفه راعي الغنم، وراعي الغنم يعرف قدر ما أعرف. والباقي ثانوي. فهو مجرد مسألة شكلية. ولا داعي إذن أن ننصرف إلى دراسة هذه النقطة دراسة علمية. لنتكلم بالأحرى عن الأرجل المحلية للدخداخيات. فالثورة الثقافية في الصين، وتصريحات بريجنيف، تلتقيان على الأقل حول هذه النقطة. ولا يتعلق الأمر هذه المرة بالحس المشترك، بل يجب التمتع بتجربة حقيقية، وأفكار واضحة جدا. ففي أحد الميادين، وهو ميدان الأفكار الذي تعمل فيه الدخداخيات عملها الأشد خبثا. هناك الشيء الكثير نقوله. ويجب أن نختصر. يجب أن نسير بخطوات قصيرة، مثل لمام السنابل، ونقطف من هنا وهناك زهرة صغيرة. وذلك دون أن نصل إلى (باقة الورود). لأنه بالضبط، لا تفوح منه رائحة الورود، أنا أؤكد لكم ذلك، بل رائحة شيء آخر لا أريد أن أذكره هنا
…
لئلا تمتد أيديكم إلى محارمكم. إذن، لنتكلم عن الأرجل مع الأخذ
بالاحتياطات اللازمة. فالوظيفة تخلق العضو، كما يقال. ويجب أن نضيف أنها تحدد مكانه، وأنا أعرف أن المورفولوجيا لا تنتظر مني هذه الإضافة.
ولنقل إذن: إن بين هذه الأرجل أرجلا تقع قرب رأس هذا الحيوان، وأخرى تقع بالقرب من ذنبه. فالأولى هي في الوقت ذاته (مجسات) تلتقط المعلومات من الرأس، وتنقلها إليه. والثانية ليست سوى أرجل مهمتها التنفيذ.
ولكنها لا تفكر، لا الأولى ولا الثانية. الرأس هو وحده الذي يفكر
…
واعذروني مرة أخرى على هذه الإضافة.
ما يهمنا إذنا، غاية الاهتمام، هو الشيء الذي ينفذ وكيفية تنفيذه. أي أننا نهتم بكيفية مرور الدافع العصبي، الذي يحمل الفكرة والإرادة، من الرأس إلى آخر رجل، وإلى الذنب. وبما يحمله.
هنا أيضا، لابد من توضيح. كل امرئ يلاحظ الظواهر- العادية وغير الاعتيادية- من زاويته الضيقة. فكسوف الشمس مثلا يهم عالم الفلك والخباز. إلا أن الأول يراقبه بأجهزة مناسبة، والآخر يكتفي باستعمال يده، كحاجز يضعه فوق عينيه. ومما لاشك فيه أن هذين الرجلين يريان الأمر ذاته. ولكنه بالنسبة لهما يملك الوجه نفسه دون معناه. إن هذا التوضيح ضروري جدا فيما يخص أرجل الدخداخيات.
هناك مثلا نساء مسنات ساذجات في الجزائر، يرين هذه الأرجل وهي تعمل. وبائع الفحم يراها، وهو يقوم بوزن بضاعته. وأنا أراها أيضا، دون أن أغادر زاويتي التي أكتب فيها مقالتي الآن.
الواقع، أن طبيعة عملي، تجعل نافذة ملاحظاتي تدخل في ميدان الأفكار. وأنا أرى، بالطبع، من نافذتي تلك، شيئا، مما يجري في الميادين المجاورة؛ وعلى الأخص ميدان الاقتصاد، أو التخطيط المدني.
إن طريقة صف أوعية الأزهار- على جانبي الشارع المؤدي إلى (قصر الشعب) - تعنيني بعض الشيء. فإذا تغيرت، أنزعج. وقد تنزعج كذلك العجوز، أو الفحام إذا مرا من هناك. ولكني لا أعتقد أن لدينا الانطباعات ذاتها. فانطباعاتي تترجم بعلامة استفهام. إنها مهنتي، هذا كل ما في الأمر.
لكن الميدان الذي أقوم فيه بالملاحظة بشكل خاص، هو ميدان الأفكار. وهنا أيضا تختلف تجربتي وانطباعاتي، عن تجربة المرحومة جدتي وانطباعاتها. فتجربتي تدفعني إلى طرح الأسئلة: ما نوع الاهتمام الموجود في رأس (الداخداخيات) تجاه الأفكار التي أحملها؟ التي تحملونها أنتم؟ التي نحملها جميعا في هذا البلد؟ ذلك هو السؤال الذي يجب طرحه، إذا أردنا الدخول في صميم الموضوع، أي (معرفة ما تنفذه الأرجل).
من الواضح، أن الرأسمال الفكري لبلد ما جوهري بالنسبة له، بقدر (أو أكثر) مما هو جوهري رأسماله بالدينار، أو رأسماله بالدولار، أو حتى رأسماله البترولي. والأمر بالنسبة لهذا الرأسمال الأخير، واضح:(50) بالمئة من ريعه تبقى في الخارج، بناء على تقديرات دقيقة.
لقد بدأت اللوحة تتضح. وهي تزداد وضوحا بما فعله العراق، لكي يستعيد جزءا من هذه النسبة المئوية. فقد اتخذ العراق منذ فترة قصيرة قرارا أعاره الغربا أهمية بالغة، وهو يخص حقل الرميلة، الذي قرر أن يستثمره بوسائله الخاصة. ومهما يكن من أمر، فإنه من واجبنا أن نعير رأسمالنا الفكري على الأقل الاهتمام ذاته، الذي توليه إياه (الدخداخيات) فهذه الأخيرة تعرف كيف تقدر الأشياء حق قدرها، في هذا الميدان كما في الميادين الأخرى. ونحن نستطيع أن نهتدي بتقديراته، ولكنه بالطبع يحتفظ بسره لنفسه. وعلينا أن نخلق بأنفسنا الآلة التي بها نزن الأفكار. أولا لاستعمالنا الخاص. ثم لكي تقدر الاهتمام والصعوبات الخاصة للدخداخيات في هذا المجال ذاته.
تلك هي في الواقع المسألة في وجهيها الاثنين. وهي مسألة صعبة. بالنسبة لنا،
في بادئ الأمر، لأننا لا نزال حديثي العهد في هذا الموضوع، وبالنسبة للدخداخيات بعد ذلك، لأنها لا تستطيع أن تقوم بعملها هنا كما تفعل بالنسبة للبترول مثلا.
فالواقع، أنه يسهل نسبيا على الدخداخيات أن تحتفظ بـ (80 بالمئة) من الإنتاج البترولي. فهذه مجرد قضية محاسبة. إنها مسألة تحرير فاتورة التنقيب والتجهيز والتسويق. فبالإمكان التوصل إليها بمجرد دفعها إلى الأمام.
لقد حمل المغفور له الشجاع (مصدق) معه إلى القبر تجربة، لا تعادالها تجربة في شدة مرارتها، ولا في قوة العبرة التي تعطيها.
ولكن كيف يمكن أخذ (80 بالمئة) من (الرأسمال الفكري) لبلد نام؟ هناك بادئ الأمر طريقة خط الأنابيب الذي لا يمتص هذه المرة بترول البلد، بلا مواردها الضعيفة من الطاقة الفكرية. وقد أشرت سابقا إلى التحقيق الذي قام به باحث اجتماعي إيراني حول هذا الموضوع.
إن طريقة خط الأنابيب شائعة إذن في ميدان الأفكار. ولكنني عندما أشرت في مقالي قبل الأخير إلى الأطباء الجزائريين الثلاث مئة المتواجدين في منطقة باريس ليس إلا، كنت أحتفظ ب بعض التوضيح، كم يبلغ، في عداد مفكرينا المستقرين اليوم خارج الحدود الوطنية، عدد الذين ركبوا البحر من تلقاء أنفسهم، وكم يبلغ عدد أولئك الذين أرغموا على ركوب البحر؟ أي بكلمة أخرى، كم عدد الفارين، وكم عدد المنفيين؟ إن الأولين لا يهمنا أمرهم إلا ما أجل تقدير عمل خط الأنابيب الفكري.
بعد ذلك أترك حالتهم للأخلاقيين. ولكن ما يهمنا هو الآخرون، المنفيون. خاصة فيما يتعلق بالعمل الخاص، الذي تقوم به (الأرجل المحلية للدخداخيات). وهذا بالضبط موضع حديثنا في هذه الأسطر.
آه! بالطبع، لم ينف المنفيون بمرسوم نشر في الجريدة الرسمية.
هنا نلج في (لعبة الداخداخيات) الأشد غموضا، والأكشد دهاء في ميدان الأفكار. الأمر بسيط: إنها تضع رجلا في الخدمة وراء الباب، الذي يجب أن يجتازه هذا المفكر، أو ذاك، وقد جاء يعمل في بلده. وإذا بالباب يغلق بهدوء في وجهه. لماذا؟ آه! هناك ألف وسيلة ووسيلة لإغلاق الباب هكذا. من الإغاظة إلى تدبير أمر ما. سل هذا المهندس الزراعي (وهو، في نظري، أفضل من في فرعه)، لماذا هو الآن في الخارج؟ وسل ذاك الطبيب الجزائري، وهو متخصص بطب العيون من الدرجة الأولى، لماذا هو الآن رئيس في عيادة في ألمانيا؟ عندها ستفهم كيف يغلق الباب في وجه المنفي. إنه عمل آلي:(رأس الدخداخيات) ترسل الأمر، و (الرجل) تفعل الباقي.
في الواقع، إذا أردنا أن نكون فكرة، ولو تقريبية، عن ضخ رأسمالنا الفكري وطرده، يجب القيام بتحقيق يشمل كامل أرض الوطن، وفي كل الأماكن التي تستخدم فيها كشعار كلمة (ثقافة) أو (ثقافي). وبالطبع، أنا لا أملك الوسيلة، ولا الزمن للقيام بذلك، ولا حتى متسعا من المكان في هذه الأسطر.
ولكن صديقي (النموشي) أشار إلى وسيلة تعطينا فكرة ولو كانت على الأقل جزئية. فهو يشير بالضبط كيف تضع الدخداخيات في الدول الصغيرة (مجساتها التي تشوش على مراكزنا العصبية).
والجامعة، بالطبع، إحدى هذه الوسائل. إذ يمكنك بالتالي أن تعرف أهمية الإضراب في جامعتنا، مؤخرا، والذي انتهى، فعلا، بعودة الأمور إلى طبيعتها، بفضل حكمة طلابنا.
لقد أخفقت الدخداخيات- ولا شك- في إيصال سنة كاملة من عمر شبابنا المجتهد إلى العدم. ولكنها لا تقبل الفشل. ماذا سيدفع هذا الطالب، وهذه الطالبة من الطلاب الذين سجلوا حضورهم في أيام الإضراب؟ هناك إشارات بدأت تدل على
ما سيجري. ماذا يعلن عن الامتحانات المقبلة؟ لقد ترك (سقراط)، فيما ترك، كلمة خالدة حينما تكلم عن (قارضي الأفكار). حيثما تفوح رائحة فكرة ما، تستيقظ عند الدخداخيات غريزة الحيوان المتوحش، الذي يشتم فريسته. إنها (قارضة الأفكار). لقد اكتسبت، أو بالأحرى، أكملت تجربتي حول هذه النقطة، من الزاوية الصغيرة التي أراقب منها الأشياء. فنذ خمس سنين، استدعتني الحكومة الجزائرية من الخارج لإنشاء مركز للتوجيه الثقافي. ولقد أنشأته بالفعل في الزاوية الصغيرة التي أنا فيها الآن. وهو يعمل منذ أربع سنوات. وفي برنامجه ملف مشروع المرسوم القاضي بإنشائه، والذي لم ينشر في الجريدة الرسمية حتى الآن. ولا يزال هذا الملف في الواقع محفوظا منذ ثلاث سنوات، في خزانة المكتب التشريعي. ولقد سألت خلال هذه الفترة- الشخص اللطيف المسؤول عن هذا المكتب. فأجابني بلطف إن المرسوم سيعرض للتوقيع، حالما يقدم الوزراء رأيهم فيه، وإن بعض هم، وعلى الأخص وزير الاقتصاد آنذاك، لم يرسلوا رأيهم بعد. إنها الإجراءات العادية. ولكن، ما هو عادي في بلد ما، يصبح غير عادي في بلد آخر. إلا أن تشريعنا لم يتبدل منذ سنة 1962. وإذا كان يجب أن ننتظر الضوء الأخضر من بعض البيروقراطيين .. فإننا سننتظر طويلا. إذن لقد عمل المركز بوسائل مؤقتة. من جهة أخرى، لم يكن المركز مخصصا لإعطاء شهادات، بل لتقديم بعض الأفكار الجديدة، على الأخص في مجال الاقتصاد والثقافة في بلد من بلدان العالم الثالث؛ أي في مجال علم اجتماع البلدان النامية.
ولكنه، وفي هذا المجال بالضبط، يهم الدخداخيات كثيرا. وهو- لكونه لا يحظى بالغطاء الرسمي- يقدم فريسة سهلة لغريزة قرض الأفكار. عندها، لن أقول أكثر من ذلك رحمة بالقارئ.
رغم ذلك، يصبح من غير المجدي أن نندهش، لأن السيد (موسوي) لم يفكر في
دعوة مدير مركز التويه الثقافي إلى الاجتماع، الذي عقده منذ فترة وجيزة على حين غرة بناء على نداء قسطنطة.
ولكننا نندهش أن يكون وزير الإعلام هو نفسه، الذي أخذ على عاتقه هذا الأمر. ربما هناك (ثقافتان): تلك التي يهتم بها هذا الوزير، وتلك التي يهتم بها بعض الجزائريين منذ ربع قرن.
في هذه الحالة، تقتضي أن نأمل في (نداء قسطنطة) آخر، يوجه خاصة إلى هؤلاء الجزائريين. وهذا يوضح كم هو غير كاف وحده الاهتمام الذي توليه السلطة الرسمية، في العديد من المناسبات للحياة الثقافية في هذا البلد. وأن يليه تفتيش يأتي بعد المبادرة في مرحلة التطبيق.
ولنقل من جهة أخرى إن الدخداخيات، وقارضة الأفكار، وقاتلة الأفكار، لا تحتاج دائما إلى الأرجل المحلية. فهي ربما تستغل أحيانا إهمالنا، في سبيل تقليص رأسمالنا الفكري.
في بعض الشوارع، من الخطر أن تترك فتاة تسير وحدها في الليل. وأحيانا حتى في النهار. كذلك، من الخطر أن نترك فكرة لوحدها. إننا نريد أن نأمل أن السلطات الرسمية تفكر في هذا، وتعمل على الدفاع عن الأفكار. وأنا أخشى أشد الخشية أن تكون فكرة نداء قسطنطة قد خطفت
…
ويذكرنا التلفاز بالمناسبة (رومان رولان) الذي يجعل أحد شخصيات روايته يقول: "لا يكفي أن تبدع أفكارا، بل يجب أن تؤمن لها الحياة".
هنا تكمن المسألة كلها.