المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأفكر والبناء الاجتماعي - من أجل التغيير

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌الأفكر والبناء الاجتماعي

‌الأفكر والبناء الاجتماعي

(*)

الندوة التي عقدت في (نادي الصنوبر)، ستترك بدون شك نتائج إيجايية. إنما ينبغي القول بأن بعض المناقشات تتطلب الإيضاح، وبالخصوص تلك الخطب التي أطلقت عبر المناقشات من أجل الإثبات أو الإشارة إلى السمة العالية للفكر الماركسي؛ فأفقدت القيمة الموضوعية لها بإطلاقها ذلك الادعاء.

فاشتراكي ذو تكوين عالمي، لا يذهب إلى هذا الحد، ولا يدعي أبدا أنه يمكن عرض الاشتراكية، كما يعرض العلم الموضوعي، كالكيمياء مثلا (1).

فماركس نفسه أوضح من ناحية أخرى خصائص طريقته تقريبا في هذه العبارات "الفلاسفة حتى الآن فسروا العالم، أما نحن فنريد تحويله".

فالاشتراكية لا يمكن النظر إليها كعلم إلا في هذا الإطار، أعني بقدر ما تقتضيه التقنية الاجتماعية لتحقيق فكرة جديدة.

فتفسيره للعالم عبر مسلمتيه: المادية الجدلية والمادية التاريخية، يتضمن منذ البداية منهجا ميتافيزيكيا، أفضى في جوانب أخرى لعناء كبير، كذلك العناء الذي ألم بالعالم حينما أراد أن يجدد ضمن التفسير الماركسي بعض ظواهر نظريته، في علم الفلك الفيزيائي، في كتابه (العالم - الحياة- العقل).

لكن الندوة احتفظت من ناحية أخرى باتصال ولود.

وأخص خطاب الرئيس بومدين، الذي طرح للتأمل أكثر من مصطلح. وإذا كانت هنالك أسباب جعلتني في مقالي الأخير أتحدث عن المظاهر الاقتصادية للندوة،

* «1967 Les Idées et l'édification sociale» ، Révolution africiane، no 225، Semaine du 5 au 11 juin

(1)

هذا التعبيرقيل فعلأ خلال المناقشات.

ص: 11

فإنني أرى من المفيد أن أتحدث في هذه المقالة عن مشكلة الأفكار، التي أثارتها هذه الندوة.

ولنقرأ أولا هذا المقطع من الخطاب:

"إن مجتمعنا هو كبقية المجتمعات الاشتراكية الأخرى يشكو من الانفصال بين الفكر والسياسة، وهذا يمنح الحوار المثمر والإصلاح عبر المناقشات الحية.

من هنا جاء ذلك الخوف التقليدي المتبادل، بين المفكر ورجل السياسة".

عبر صراحة تشرف قائلها، فمن الواضح أن الرئيس بومدين قد أراد أن يبرز نقصا باديا، وبالخصوص في الجانب السياسي. ولكن ينبغي أن نعترف أن الدكتور خالدي في كالمته الموجزة، قد وضع في الكفة الأخرى من الميزان الوزن المناسب، حينما تحدث عن (حركي القلم).

هكذا تكون القضية، قد استقامت لنا في خطورة أبعادها. وينبغي أن نعطيها ما تستحق من أهمية من وجهة نظر اجتماعية.

إن الماركسية التي ادعت بأنها قد تبعت خطى المنهج الهيجلي، قد ورثت من هذا المنهج آلية الجدلية الرائعة. وبالخصوص ذلك المبدأ الذي من حقه أن يفاخر به إذ يقول: هناك مستقبل فلسفي للعالم ومستقبل لعالم الفلسفة.

فهذا المبدأ إذن، قد وضع بين الأفكار المنظمة منهجا فلسفيا، وبين الأحداث الاجتماعية رابطا محددا ومتبادلا.

وهذا يعني أن الترابط المستمر، والتلاحم المؤثر بين المعنيين الفلسفة (الأفكار)، والعالم (بقدر ما يمثل الواقع الاجتماعي) هو أمر ضروري في كل لحظة، وهذا التزاوج هو نفسه مقياس مستوى حضارة ما.

ص: 12

وينتج عن هذا أن كل ما يؤدي إلى الاختزال، أو المزيد من التعتيم بين الأفكار والأحداث، لابد من مراقبته بكثير من اليقظة والحذر. وهذه الاعتبارات هي التي تملي علينا دائما، وتحدد موقفنا من مؤسسة "

" التي ليس من شأنها إلا أن تلقى مزيدا من التعتيم، على تلك الصلة التي نتحدث عنها هنا.

من ناحية أخرى، فإنه من غير المفيد أن نبني هنا مناقشة حول أولوية مستقبل فلسفة العالم، أو مستفبل عالم الفلسفة، والذي هو الخلاف الرئيسي بين ماركس وهيجل.

لندع هذه المشكلة جانبا، آخذين بعين الاعتبار الأمور من مجرد وجهة نظر اجتماعية، لنرى بأن كل اطراد تاريخي، إنما هو اختصار لذلك الخطر المزدوج المحدد بالمبدأ الذي نعمد إلى تحليله.

الماركسية مثلا: إنها منهج أفكار رأى النور في الواقع الاجتماعي لأوروبا في بداية القرن التاسع عشر. إنها ساعة مستقبل فلسفي لعالم ما.

لكننا إذا نظرنا إلى الحاضر، يبدو لنا الوجه الآخر: مستقبل عالم الفلسفة، الذي ظهر لأعيننا عبر القرن العشرين؛ وفي الواقع الاجتماعي ل بعض البلاد الاشتراكية في مرحلة تطورها الحالي.

ليس هذا إلا مثلا بينما الحدث عام. ونحن نراه بارزا في تطور المجتمع الغربي انطلاقا من أصوله المسيحية.

وقد أوجزه لنا بالخصوص في اطراد الثورات حين قال "من الإنجيل إلى العقد الاجتماعي فالكتب (الأفكار) تصنع الثورات".

فهناك في الواقع علاقة جدلية بين الأفكار والأحداث الاجتماعية والسياسية في كافة مراحل التاريخ.

ص: 13

وما يهمنا اعتباره هنا هو تأثير الانقطاع بين الأفكار والأحداث الاجتماعية على تطور مجتمع ما، وأسباب هذا الانقطاع. هذه هي المشكلة التي طرحها الرئيس بومدين.

ينبغي أن نركز اهتمامنا على انفصال كهذا في الجزائر. وأن نوظف في حسابه العمل السياسي، وقد أضحى حقلا ل بعض المسؤولين الذين يمارسون السياسة كمهنة، بدلا من أن يعيشوها كنضال.

لكننا نبادر إلى القول بأن الخشية من الأفكار لم تنشأ في بلادنا. فسقراط قد لاحظها في المجتمع الأثيني عند حديثه عن أولئك الذين يدعون (الفصحاء) في خطاب المائدة.

فقد وضع فرقا بين (الجدليين) الذين يبحثون عن فكرة صحيحة (العصر لم يكن يتطلب البحث عن الفكرة الفعالة) وأولئك الذين يعمدون إلى المحسنات اللفظية، أو يحترفون النوادر التي لا يحتاج فيها الراوي إلى فكرة، أو إلى حقيقة تتضمنها، أو إلى وسيلة عمل.

لكن سقراط كان يجهل الاستعمار، بينما عصرنا الذي يعرفه قد وضع فرقا هو الآخر، بين الكاتب الذي يكتب فقط لإرضاء ذاته أو الآخرين، والكاتب الذي سماه الدكتور خالدي (الحركي بالقلم).

ينبغي أن نترك الأول لعدالة محكة الأدب. ويبدو لنا أن كاتبا مغربيا هو الأستاذ عبد الله العروي قد خص الموضوع بدراسة هامة، حيث أعلنت عن قرب صدورها مجلة في منشورات ماسبيرو.

(فحركي القلم) هو على العكس من ذلك، يهمنا لأن حالته تهم عالم الاجتماع.

ص: 14

في الواقع فإن أفكارنا لا يصنعها فقط (الفصحاء) الذين يتحدثون باحتقار (وأحيانا بانفعال) ولكن أيضا يصنعها (الحركيون).

الأولون يدخلون إلى دورة الأفكار قاطعا منهجيا. أما الحركيون، فيدسون الأفكار الخاطئة، التي لا علاقة لها بالحياة، وبالمشاعر وبمتاعب الشعب الجزائري.

والفرقتان تعملان معا لاختزال كل تواصل ضروري بين (المستقبل الفلسفي لعالم ما)، و (مستقبل عالم الفلسفة).

إنهم ستائر تحول بين الأفكار والأحداث الاجتماعية، خصوصا في الإطار السياسي. وأحيانا دون أن يعلموا، يشكلون فواصل، جهزت بأيد خبيرة، لتقص كل اتصال من شأنه أن يعزل الأفكار، ويجعل من غير الممكن الحوار بين رجل السياسة ورجل الفكر، وفق تعبير الرئيس بومدين.

ولعله من غير الممكن أن نتحدث هنا عن سائر الإجراءات المستعملة، وعن سائر القواطع التي جهزت، لتجعل مثلا هذا الحوار مستحيلا.

يكفي أن نقول فقط، بأننا إذا كنا نعرف شيئا عن الصراع الفكري العنيد، الذي يجمع بيده القوى الكبرى والتي تدعي السيطرة العالمية، فإننا لا نعرف شيئا عن الخاصية القوية للصراع الفكري، الذي يطلقه الاستعمار في البلاد التي خرج منها، بعد أن استعمرها.

وشعوب العالم الثالث تدخل في هذا، سواء علمت به أو لم تعلمه. فنحن نعرف على سبيل المثال، بأية طريقة ينتقص الاستعمار من طاقتنا الاقتصادية، حين يخضع موادنا الأولية للكساد. إذ ينافسها بما يطرح في السوق بديلا عنها مصنوعات (السانتاتيك).

ونعلم أيضا بأنه يفعل ذلك لهدف محدد، يعرقل بناءنا الاجتماعي.

ص: 15

لكن ينبغي أن نضيف بأن مناورات الاستعمار للانتقاص من أفكارنا، أعني افتقادها فعاليتها في البناء الاجتماعي هي الأكثر خداعا، وأن نعترف في الوقت نفسه بأنه لا يوجد في بلادنا أية وقاية تمنع هذه المناورات من النجاح؛ بل العكس هو الصحيح.

ترجمة ع. م

مالك بن نبي

ص: 16