المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صحافة العالم الثالث - من أجل التغيير

[مالك بن نبي]

الفصل: ‌صحافة العالم الثالث

‌صحافة العالم الثالث

(*)

قد يفكر أحدنا بوضع لائحة بالصفات التي توسم بها، وفقا للزاوية التي يحكم منها على الأشياء، الصحف المختلفة التي نقرؤها، أو التي نرميها في سلة المهملات- ومن الجميل أن نراهن، رغم ذلك، على أننا إذا قمنا بهذا الإحصاء سننسى واحدة على الأقل من هذه الصفات.

وبالطبع يعرف المرء أنه توجد صحيفة (اليمين) وصحيفة (اليسار)، والصحيفة (التقدمية)، و (الرجعية)، و (الناقدة)، و (الرديئة)، وما أدري، ولكن يجب الاحتفاظ بمكان خاص للصحيفة التي تدعي أنها- أو التي يحاول بعضهم في الواقع أن يضعها- في رأس الصحافة الوطنية لبلد من بلدان العالم الثالث.

لماذا نعير هنا مثل هذه الصحيفة اهتماما أكبر؟ إنها قضية تجربة، بعد أن عشنا في بلد تتدخل- أو أدخلت- الصحافة فيه في كل الأحداث البارزة التي طبعت تاريخ بلادنا منذ عدة عقود من الزمن؛ بما فيها الثورة والاستقلال الذي تبعها. والواقع أنه علينا أن نعود إلى أبعد من هذا الزمن، إذا أردنا أن نؤكد على هذا الوجه الفريد للصحافة التي يقال إنها طليعية في بلدان العالم الثالث. إنها في بادئ الأمر مسألة الصحافة بذاتها، تلك الصحافة التي يقال إنها السلطة الثالثة أو الرابعة.

إنها فعلا سلطة. ذلك أن الصحيفة إذ تحول الرأي العام في هذا الاتجاه أو ذاك، تصبح أداة سلطة ذات أهمية كبرى، في عالم، عالم القرن العشرين، يسير كل ما فيه على مبدأ القوة والسيطرة.

(*)« La Presse du Tiers Monde» ، Révolution Africaine، no، 135، 28 août 1965.

ص: 115

القوة! .. السيطرة! ..

كلمات سحرية، كلمات أخاذة! لكل أولئك الذين تحركهم ثقافة الإمبراطوريات. ولنكن أكثر فهما: هل تتذكرون تجربة بافلوف الشهيرة: تعرض على الكلب قطعة من السكر، فيتلمظ لرؤيتها، ويفرز ريقا، ويسيل لعابه بغزارة من شفتيه.

إن الصحيفة- من حيث هي أداة سيطرة- تسيل بشكل عام لعاب كل حاملي لواء ثقافة الإمبراطوريات.

وهذا طبيعي. الآن يمكننا أن نفهم ما يمكن أن يكون أثر تسييل اللعاب هذا على تكوين وعلى توجيه الصحافة الوطنية في بلد من العالم الثالث، نال استقلاله.

لقد نسف هذا البلد الأغلال (الأقفال) التي كانت تقيد أعضاءه تقييدا شبه جسدي. وهذا يعني أنه لم يعد بالإمكان أن يوجه في الاتجاه المطلوب بواسطة الشرطي الرقيب.

لكل وضع جديد هناك وسيلة جديدة عندها، بدلا من الأغلال التي تشد على الأعضاء، حاولوا وضع أغلال أخرى حول الأفكار.

يمكن للصحيفة أن تكون هذه الأغلال في بلد من بلدان العالم الثالث، لا يراد للأفكار فيه أن تذهب في هذا الاتجاه أو ذاك. من الواضح أنه يجب في هذه الحالة أن تكون الأغلال من النوع الجيد، أن لا تكون خرقة (من البلد)، وتتركز كل حنكة هذه الحرب (الإيديولوجية) في وضع الصحيفة الموكلة بهذه المهمة في ظروف أفضل من ظروف الصحيفة المحلية؛ حتى من حيث نوعية الورق.

ولكن هذا الأمر يعود إلى زمن قديم. لقد لوحظ فيما مضى، منذ أربعين سنة تقريبا، القرابة التي لم يكن معترفا بها بالطبع، بين جريدة كبيرة قاهرية، وأخرى

ص: 116

باريسية، على الرغم من أن إحدهما كانت تقدم في أعمدتها مواضيع استعمارية، في حين تقدم الأخرى في أعمدتها مواضيع بالطبع ضد الاستعمار.

الحيلة إذن ليست جديدة، والحرب الأيديولوجية ليست بنت يومها في بلدان العالم الثالث.

بالطبع لا ينبغي على تقنيي الصراع الأيديولوجي أن يقدموا فقط الورق ذا النوعية الجيدة، ليضمنوا نجاح الصحيفة (التقدمية) في بلد من بلدان العالم الثالث، بل تعطى كذلك نصوصا نثرية غاية في الرشاقة، تظهر على أعمدتها ممهورة بتوقيع واحد، مثل أحمد بن كبير، أي أحد أولئك الذين كان يطلق عليهم في هذا البلد منذ عشر سنين فقط اسم (الخادم ابن البلد).

ومن الطبيعي أنه إذا كان الورق يصل ويسلم في وضح النهار وبالسبل الطبيعية، فإن النصوص النثرية على النقيض من ذلك، تصل خفية بواسطة قنوات سرية إلى الصحيفة التي تحمل رسالة قيادة البلد، الذي ينتمي إلى العالم الثالث في طريق التقدم والتقدمية.

وبالطبع من السهل ملاحظة أن أحمد بن كبير هذا الذي يقدم لوطنه هذه البضاعة ممهورة بتوقيعه، لا يعرف دائما تمام المعرفة نوعية البضاعة التي يطلب منه تسليمها.

ولقد وجدت مرة أخرى البرهان على ذلك، لدى قراءتي لمقال حول اليمين، نشر في إحدى الصحف منذ عدة أسابيع. كان من الواضح أن ال (بن كبير) الذي ذيل هذا المقال بتوقيعه، لم يكن يعرف تاريخ اليمن. إنه يبدأ جيدا عرضه كمتخصص بتاريخ بلاد بلقيس في المرحلة المعاصرة؛ أي منذ تأسيس (الإمامة) في منتصف القرن السادس عشر. ثم يأتي التسلسل الزمني موسعا بطريقة طبيعية ومحكة.

ص: 117

وفجأة، وعند اللحظة الحاسمة التي يدخل فيها اليمن مرحلة الثورة، ينكسر الشرح ويجد القارئ نفسه بغتة محمولا بعصا سحرية إلى الثاني والعشرين من أيلول سنة 1962، وهو تاريخ ثورة عبد الله السلال. غير أن القارئ الذي يعرف بعض الشيء عن اليمن، يتذكر جيدا أن شيئا ما قد جرى سنة 1948 في صنعاء؛ عندما أزاح شخص يدعى عبد الله الوزير الإمام يحيي، وأقام نظاما جمهوريا؛ وقد ساعده في ذلك مستشار جزائري، هو الورثيلاني، الذي توفي في تركيا منذ ثلاث سنوات.

عندما يقف القارئ أمام سؤال يطرق ذهنه: لماذا اختفت الحلقة الأولى من تاريخ الثورة اليمنية ضمن تسلسل زمني موسع جدا ودقيق جدا تناول الأحداث فيما عداها؟

من الطبيعي أن يصل القارئ إلى نتيجة، أن ال (أحمد بن كبير) الذي وقع في أسفل هذا المقال ليس هو فعلا كاتبه، أو أن قلمه مسير من بعد. فالتاريخ لا تختفي صفحة منه دون سبب.

هاك مثالا جيد، يكفي للدلالة على الأسباب الخفية، والأهداف الغامضة، لتلك الصحافة التي برزت في بلدان العالم التي استردت استقلالها، وللجزائر بالطبع حصتها في هذا الميدان.

(الثورة الإفريقية) استبدلت لتوها مديرها. قد يقال إن هذا أمر تافه. ولكنه يطرح أمام الإدارة الجديدة عددا من المسائل، عليها أن تحلها على الفور لكي تتجنب الخلل في حياة صحيفتها.

وليست أقلها المسائل ذات البعد النفسي.

والواقع إننا نستطيع أن نفخر، بأننا بتنا نبدو أسيادا في الصحافة؛ وأننا لا نعرف أن نكون في البداية مجرد تلامذة (متدرجين).

ص: 118

أضف إلى ذلك أن بلدان العالم الثالث ليست الوحيدة التي عليها أن تتحرر من مثل هذه العقدة، للسير خطوة إلى الأمام في طريق التطور. ففي بداية القرن الثامن عشر قضى بطرس الأكبر حياته كلها، لكي يعلم الشعب الروسي أن يصبح تلميذا (متدرجا) لدى حضارة أخرى. وهو بذاته قيصر كل روسيا، تدرب على يد نجار سفن، وعلى يد حداد في هولندا، لكي يعطي فيما بعد لبلاده أول أسطول وطني له. ولكن، كم كانت تبدو مضحكة أولى المدافع وأولى السفن الشراعية، التي بنيت تحت إدارة بطرس الأكبر الشخصية، بالمقارنة مع مدافع سفن معاصره وغريمه (شارل) ملك السويد. إلا أن بطرس الأكبر عرف كيف يخضع غرور بلاده وكسلها لإكراه رسالة كبرى.

إن بلادنا والميدان الذي أخص به هذه السطور، ليسا على ما يبدو على مستوى المثال الذي اخترته. لكن الأمثلة لا تكون بناءة بمقاييسها، بل بمدلولاتها.

كي نتغلب على العناصر، يجب أولا أن نتغلب على أنفسنا.

وإذا كنا نريد صحفيين موهوبين، وصحافة تتبوأ مركزها في عداد الصحافة العالمية الكبرى، يجب علينا أن نكون في البداية مجرد صحفيين متدربين.

ص: 119