الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سوق البركة
(*)
على طريق (مهنة)، وفي محلة (بومدفع)، يغ سوق يعج بالناس طيلة أيام الأسبوع السبعة.
لا توجد فيه مطاعم شعبية، ولا خيم يضع البقالون تحتها بضائعهم في الهواء الطلق، كما في الأسواق العادية التي تجذب زبائنها المتنوعين مرة واحدة في الأسبوع.
لا. لا يوجد على الطريق، في هذا المكان، سوى سياج من قصب يلاحظ من ورائه بيت من البيوت الريفية المؤلفة من غرفة واحدة أو من غرفتين، والتي تسمى (نوالة).
ولكن، أمام هذا السياج، هناك رتل من السيارات المختلفة أنواعها.
إن الصديق القديم الذي حكا لي هذه الرواية، بعد زيارته لهذا المكان، وكان ذلك منذ عشرة أيام، أحصى فيه يومها حوالي ثلاثين حافلة ومئة وخمسين سيارة خاصة وبالأجرة تقريبا.
الأمر مهم جدا كما ترون.
هذه العربات تجلب زبائن مرضى من كل الأجناس والأعمار، منهم من أتى على عكازتين، ومنهم من كان محمولا على ذراعي أحد من أهله أو على نقالة.
الجميع يأتي طلبا للشفاء. والشخص الذي يمنحهم الشفاء يدعى (الشيخ الأخضر). إنه شاب، ويبدو أنيقا في ثيابه العربية.
(*)« Le Souk de la Baraka» Révolution africaine، Semaine du 15 au 21 mai 1967.
نراه يبدأ عمله في ساعة مبكرة، تقريبا مع شروق الشمس. ونراه يغادر المكان حوالي الساعة الرابعة، في سيارة خاصة يقودها سائق.
هناك حماس، وهناك أسلوب، كما نرى.
إلا أن الشيخ ليس في قليل الذوق حتى يضع تسعيرة للبركة التي يهبها. يضع الناس في كفه المبلغ الذي يشاؤون. ولكن المجموع كبير جدا على ما يبدو.
إن صديقي الذي راقب المشهد بروح المناضل الإصلاحي القديم والمخلص لعهد (بن باديس)، وفي الوقت نفسه بروح التاجر الماهر في تقدير الأشياء، كان قدر دخله في ذاك اليوم بأكثر من خمس مئة ألف فرنك قديم.
إذن ودون أن نكون مبالغين في الأمر، إن الشيخ الأخضر يكسب أكثر بكثير مما يكسبه طبيب حائز على دكتوراة في الطب.
في الواقع، ما يهمني ليس مشكلة مجبر العظام المكسورة. فاستغلال المطببين الدجالين للمرضى مشكلة توجد في كل العصور، وهي متشابهة في كل البلدان. وهي مشكلة تسترعي بالأحرى انتباه الأطباء أو وزارة الصحة.
إن ما يسترعي انتباه عالم الاجتماع هو ذلك الجانب الآخر الذي أوحى في الماضي إلى (زولا) بالتحديد روايته الشهيرة حول كاتدرائية (لورد).
إلا أنني أتكلم عن الموضوع على سجيتي. ففي إحدى مقالاتي السابقة عن (بن باديس) المتصوف، كنت قد بينت أنني لا أضمر بغضا ولا أعطي أحكاما مسبقة حيال معتقدات أو مواقف أجدها جد شريفة.
فضلا عن ذلك،- وأنا أنتهز الفرصة لأقولها هنا- إذا كنت فاجأت أحدا في مقالي، فإنه يتوجب علي أن أطمئنه أنني لم أشوه التاريخ الشخصي لمؤسس في الإصلاح
الجزائري. فهو بنفسه أوضح موقفه وبشكل جيد في رسالة تعود إلى سنة 1925، حيال الفكر الصوفي الحقيقي، كفكر الجنيد مثلا.
كما أنني اليوم لا أخون عواطفي تجاه عمل تربوي إسلامي جميل كالذي تقوم به زاوية (الحمل) مثلا، في ظروف يجب على البلد فيها أن يجد معنى لقيمه الأخلاقية والروحية. لكن مشكلة المطبب الدجال التي نحن بصددها ليست مشكلة مسجد ولا زاوية. إن مثل الشيخ الأخضر ليست، من جهة أخرى، سوى حالة بسيطة. في حين يبدو أننا أمام ظاهرة اجتماعية نصادفها تقريبا في كل مكان على امتداد أرضي الوطن.
في (عنابة)، هناك (لالة الخضراء) - لا نزال في لون الجنة- التي توزع البركة اليومية على أناس يأتون للبحث عنها في دارها، في حلقات استغفار تعقدها لهم.
وفي (سوق أحرس)، هناك بائع معجزات آخر يستخرج الرصاصات التي أصيب بها المجاهدون في معارك الأدغال. ولكن، إن صدف على إثر ذلك وخطرت على بال المجاهد الذي رأى الرصاصة تستخرج من جسده أمام ناظريه، تلك الفكرة غير المناسبة بأن يستشير طبيب أشعة، فإنه حينئذ سيجد الرصاصة لا تزال قابعة بسكينة في المكان نفسه من جسده.
إنه جزاؤه
…
حين ساوره الشك فهل يخطر ببال أحد أن يخضع البركة إلى إثبات بالأشعة السينية؟
إنها تجارة تزدهر في كل مكان تقريبا. ولا نتكلم هنا عن تلك العرافة، في منطقة (بليدا)، التي تكشف لأناس (محترمين) يأتون لرؤيتها- ما تراه من أشياء مدهشة من خلال بيضة.
لنعد إلى سوق (بومدفع). فهو محور اهتمامنا.
أكرر أنني أترك على حدة الجانب الذي يثير اهتمام الجهاز الطبي أو وزارة الصحة.
إن سوق (بومدفع) لا يثير اهتماما إلا لأنه يقدم للناظرين علامات تطور نفسي واجتماعي مهمة جدا.
وفي الواقع، إذا وضعنا أنفسنا في رؤية زمنية تعود بنا إلى الماضي، وتشمل الفترة الواقعة بين سنة 1930 (وهي تقريبا السنة التي أسس فيها العمل الإصلاحي)، وبين سنة 1945 (وهي السنة التي بدأت فيها الحركة المسلحة)، فإننا نجد أن تاريخ هذا البلد يسير في تطور تصاعدي.
إن كل الطاقات الأخلاقية والسياسية وكل الطموحات والضغوطات المتراكة خلال تلك الفترة هي التي تسنح للبلد أن يتجاوز المرحلة الصعبة من تاريخه، وأن يدخل في خضم ثورته التي ستكون بالضبط ذروة هذا التطور التحضيري.
إن رأس المال الثوري الذي كان متوافرا عشية الواحد من نوفبر/ تشرين الثاني من سنة 1954، كان كا الأساس ثمرة هذا التطور الذي قامت الحركة الإصلاحية فيه بدور رئيس. وإذا كنا نلاحظ بعد الثورة حصول انهيارات سريعة في بعض المواقع، فإننا على العكس من ذلك، نجد ما يقابلها من تبديد ل بعض رأس المال الثوري. وأسارع إلى القول بأننا لا نجد هذا التبديد فقط في سوق مثل سوق (بومدفع). إن تبسيط مشكلة معقدة هو ما دفعني إلى تركيز الانتباه على مظهر من مظاهرها يبين معالم التقهقر ويعيد النظر في الهدف الرئيسي للثورة.
لقد حاولت في إحدى مقالاتي أن أبين أن هذا الهدف يقوم على أساس (تغيير الإنسان). وأضيف هنا أن هذا التغيير ليس له أي معنى ثوري إلا في إطار التقدم. وإلا يكون تقهقرا. إنه خطوة نحو الوراء بالنسبة لمسيرة الثورة.
إن الحالة التي يقدمها (بومدفع) تسمح لنا بقياس تناقض الحركة الإصلاحية التي تخلت عن مواقعها في المعركة، في الوقت الذي كانت فيه معاني الإصلاح تأخذ أهميتها في بلد يواجه فعلا تحديات لا تصدق.
والشيخ الأخضر ليس سوى حالة بسيطة تقدم صورة تقريبية عن التقهقر المؤسف الذي نعيشه.
بالإضافة إلى ذلك، فإننا نتساءل: أين منح هذا الشيخ إجازة ليمارس بناء عليها نشاطه الفريد من نوعه؟ يقال إن ذلك حصل في (لسنام). ولكن لنا الحق خاصة في أن نتساءل عمن يدفع للوقوف أمام نوالته كل هذه الحافلات الثلاثين والسيارات المئة والخمسين التي تأتي من كل أطراف البلد؟
إن البركة لا تنتشر لوحدها في كل طرف من أطراف العالم.
من الذي نقل شهرتها إلى أطراف العالم؟
إن أبناء جيلي يفهمونني عندما أطرح هذه الأسئلة. فمنذ عشرين سنة فقط، كان الأخوان الذين كانوا يذهبون كل سنة إلى زردة الشيخ المرابط (الولي) أو ذاك، لا يدفعون سوى نصف التعرفة في القطارات. وكان يوجد من بينهم بعض أبناء المستعمرين الذين أدركت قلوبهم شيء من الروحانيات. ولكن، كنا نعرف آنذاك على الأقل من الذي كان يسير الأمور.