الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مطلب تنوع الوقف
ويتنوع الوقف نظرًا للتعلق خمسة أقسام؛ لأنه لا يخلو إما أن لا يتصل ما بعد الوقف بما قبله لا لفظًا ولا معنى -فهو التام. أو يتصل ما بعده بما قبله لفظًا ومعنى -وهو القبيح. أو يتصل ما بعده بما قبله معنى لا لفظًا -وهو الكافي. أو لا يتصل ما بعده بما قبله معنى ويتصل لفظًا -وهو الحسن. والخامس متردد بين هذه الأقسام فتارة يتصل بالأول، وتارة بالثاني على حسب اختلافهما قراءة وإعرابًا وتفسيرًا؛ لأنه قد يكون الوقف تامًّا على تفسير وإعراب وقراءة، غير تام على غير ذلك، وأمثلة ذلك تأتي مفصلة في محلها.
مطلب مراتب الوقف
وأشرت إلى مراتبه بتام وأتم، وكافٍ وأكفى، وحسن وأحسن، وصالح وأصلح، وقبيح وأقبح، فالكافي والحسن يتقاربان، والتام فوقهما، والصالح دونهما في الرتبة؛ فأعلاها الأتم، ثم الأكفى، ثم الأحسن، ثم الأصلح ويعبر عنه بالجائز.
وأما وقف البيان وهو أن يبين معنى لا يفهم بدونه كالوقف على قوله تعالى: {وَتُوَقِّرُوهُ} فرق بين الضميرين، فالضمير في:{وَتُوَقِّرُوهُ} للنبي صلى الله عليه وسلم وفي {وَتُسَبِّحُوهُ} لله تعالى، والوقف أظهر هذا المعنى المراد، والتام على قوله:{وَأَصِيلًا} ، وكالوقف على قوله:{لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ} ، ثم يبتدئ:{الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ} بين الوقف على: {عَلَيْكُمْ} أن الظرف بعده متعلق بمحذوف وليس متعلقًا باسم لا؛ لأن اسمها حينئذ شبيه بالمضاف، فيجب نصبه وتنوينه. قاله في (الإتقان).
فالتام سُمِّي تامًّا؛ لتمام لفظه بعد تعلقه وهو ما يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده ولا يتعلق ما بعده بشيء مما قبله لا لفظًا ولا معنى، وأكثر ما يوجد عند رءوس الآي غالبًا، وقد يوجد قرب آخرها كقوله:{وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} هنا التمام؛ لأنه آخر كلام بلقيس، ثم قال تعالى:{وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وهو أتم، ورأس آية أيضًا، ولا يشترط في التام أن يكون آخر قصة كقوله:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} فهو تام؛ لأنه مبتدأ وخبر وإن كانت الآيات إلى آخر السورة قصة واحدة، ونحوه:{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} هنا التام؛ لأنه آخر كلام الظالم أُبَيِّ بن خلف، ثم قال تعالى:{وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} وهو أتم، ورأس آية أيضًا، وقد يوجد بعد رأس الآية كقوله:{مُصْبِحِينَ (66) وَبِاللَّيْلِ} هنا التام؛ لأنه معطوف على المعنى، أي: تمرون عليهم بالصبح وبالليل، فالوقف عليه تام، وليس رأس آية وإنما رأسها:{مُصْبِحِينَ} ، و {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أتم؛ لأنه آخر القصة، ومثله:{يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا} رأس الآية: {يَتَّكِئُونَ} ، {وَزُخْرُفًا} هو التمام؛ لأنه معطوف على:{سَقْفًا} ، ومن مقتضيات الوقف التام الابتداء بالاستفهام ملفوظًا به، أو مقدَّرًا. ومنها أن يكون آخر كل قصة وابتداء أخرى كل سورة، والابتداء بياء النداء غالبًا، أو الابتداء بفعل الأمر، أو الابتداء بلام القسم، أو الابتداء بالشرط؛
لأن الابتداء به ابتداء كلام مؤتنف، أو الفصل بين آية عذاب بآية رحمة، أو العدول عن الإخبار إلى الحكاية، أو الفصل بين الصفتين المتضادتين، أو تناهي الاستثناء، أو تناهي القول، أو الابتداء بالنفي، أو النهي، وقد يكون الوقف تامًّا على تفسير وإعراب وقراءة، غير تام على آخر نحو:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} تام إن كان {وَالرَّاسِخُونَ} مبتدأ خبره {يَقُولُونَ} على أن الراسخين لم يعلموا تأويل المتشابه. غير تام إن كان معطوفًا على الجلالة، وإن الراسخين يعلمون تأويل المتشابه كما سيأتي بأبسط من هذا في محله.
والكافي: ما يحسن الوقف عليه والابتداء بما بعده إلَّا أن له به تعلقًا ما من جهة المعنى؛ فهو منقطع لفظًا متصل معنى، وسمي كافيًا لاكتفائه واستغنائه عما بعده واستغناء ما بعده عنه بأن لا يكون مقيدًا له، وعود الضمير على ما قبل الوقف لا يمنع من الوقف؛ لأن جنس التام والكافي جميعه كذلك، والدليل عليه ما صح عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ عليَّ» ، فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ فقال:«إني أحب أن أسمعه من غيري» قال: فافتتحت سورة النساء فلما بلغت: {شَهِيدًا} ، فقال لي:«حسبك» (1)، ألا ترى أن الوقف على شهيدًا كاف وليس بتام؟ والتام:{وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا} ؛ لأنه آخر القصة وهو في الآية الثانية، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقف دون التام مع قربه فدل هذا دلالة واضحة على جواز الوقف على الكافي؛ لأنَّ قوله: يومئذ إلخ ليس قيدًا لما قبله، وفي الحديث نوع إشارة إلى أن ابن مسعود كان صيتًا.
قال عثمان النهدي (2) صلى بنا ابن مسعود المغرب بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فوددنا أنه لو قرأ سورة البقرة من حسن صوته وترتيله، وكان أبو موسى الأشعري كذلك. ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوته وهو يقرأ القرآن، فقال:«لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود» (3) كان داود عليه السلام إذا قرأ الزبور تدنو
(1) أخرجه أحمد في المسند (1/ 374)، برقم:(3551).
(2)
أبو عثمان النهدي، الإمام، الحجة، شيخ الوقت، عبد الرحمن بن مل، وقيل: ابن ملي، ابن عمرو بن عدي البصري، مخضرم معمر، أدرك الجاهلية والإسلام، وغزا في خلافة عمر وبعدها غزوات، وحدّث عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأُبي بن كعب، وبلال، وسعد ابن أبي وقاص، وسلمان الفارسي، وحذيفة ابن اليمان، وأبي موسى الأشعري، وأسامة بن زيد، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي هريرة، وابن عباس، وطائفة سواهم، حدّث عنه قتادة، وعاصم الأحول، وحميد الطويل، وسليمان التيمي، وأيوب السختياني، وداود بن أبي هند، وخالد الحذاء، وعمران بن حدير. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 175).
(3)
أخرجه الحُميدي برقم: (282)، قال: حدثنا سُفيان، وأحمد (6/ 37)، قال: حدثنا سُفيان، وفي (6/ 167) وقال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا مَعْمر، وعَبْد بن حُميد برقم:(1476)، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا مَعْمر، والدارِمِي برقم:(1497)، قال: أخبرنا أبو نُعيم، قال: حدثنا ابن عُيَيْنَة، والنَّسائي (2/ 180)، وفي الكبرى برقم:(1002)، قال: أخبرنا عبد الجبار بن العلاء بن عبد الجبار، عن سُفيان، وفي (2/ 181)، وفي الكبرى برقم:(1003)، قال: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا مَعْمر، وفي فضائل القران برقم:(76)، قال: أخبرنا محمد بن رافع، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبانا مَعْمر.
إليه الوحوش حتى تؤخذ بأعناقها.
والمراد بقوله: وآتاه الله الملك هو الصوت الحسن قاله السمين، وعلامته أن يكون ما بعده مبتدأ، أو فعلًا مستأنفًا، أو مفعولًا لفعل محذوف نحو:{وَعَدَ اللَّهُ} ، و {سُنَّةَ اللَّهِ} ، أو كان ما بعده نفيًا، أو أن المكسورة، أو استفهامًا، أو بل، أو ألَا المخففة، أو السين، أو سوف؛ لأنها للوعيد، ويتفاضل في الكفاية نحو:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} صالح. {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} أصلح منه. {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أصلح منهما، وقد يكون كافيًا على تفسير وإعراب وقراءة، غير كاف على آخر نحو:{يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} كاف إن جعلت ما نافية. حسن إن جعلتها موصولة، وتأتي أمثلة ذلك مفصلة في محالها.
والحسن: ما يحسن الوقف عليه، ولا يحسن الابتداء بما بعده؛ إذ كثيرًا ما تكون آية تامة وهي متعلقة بما بعدها؛ ككونها استثناء، والأخرى مستثنى منها؛ إذ ما بعده مع ما قبله كلام واحد من جهة المعنى
-كما تقدم- أو من حيث كونه نعتًا لما قبله، أو بدلًا، أو حالًا، أو توكيدًا، نحو:{الْحَمْدُ لِلَّهِ} حسن؛ لأنه في نفسه مفيد يحسن الوقف عليه دون الابتداء بما بعده؛ للتعلق اللفظي، وإن رُفِع:{رَبِّ} على إضمار مبتدأ، أو نُصِب على المدح وبه قرئ (1).
وحكى سيبويه: (الحمد لله أهل الحمد) برفع اللام ونصبها فلا يقبح الابتداء به، كأن يكون رأس آية، نحو:{رَبِّ الْعَالَمِينَ} يجوز الوقف عليه؛ لأنه رأس آية، وهو سُنَّة وإن تعلق ما بعده بما قبله؛ لِمَا ثبت متصل الإسناد إلى أم سلمة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ قطَّع قراءته، يقول:«بسم الله الرحمن الرحيم» ، ثم يقف، ثم يقول:«الحمد لله رب العالمين» ، ثم يقف، ثم يقول «الرحمن الرحيم» ، ثم يقف (2).
وهذا أصل معتمد في الوقف على رءوس الآي، وإن كان ما بعد كل مرتبطًا بما قبله ارتباطًا معنويًّا، ويجوز الابتداء بما بعده؛ لمجيئه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يكون الوقف (حسنًا) على قراءة، غير حسن على أخرى، نحو الوقف على:{مُتْرَفِيهَا} ، فمن قرأ:{أَمْرِنَا} بالقصر والتخفيف (3)، وهي قراءة العامة من الأمر، أي: أمرناهم بالطاعة فخالفوا، فلا
(1) قرأ أبو جعفر بالرفع في غير المتواتر، وقرأ الكسائي بالنصب في غير المتواتر، وكذا زيد بن علي، وهي قراءة شاذة. انظر هذه القراءة في: الإعراب للنحاس (1/ 121)، الإملاء للعكبري (1/ 3)، تفسير القرطبي (1/ 139).
(2)
وقال الدارقطني: إسناده صحيح وكلهم ثقات، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة فأخرجه في صحيحه كما في تفسير ابن كثير:(1/ 17)، وكذا صححه النووي في المجموع:(3/ 333)، وأخرجه الطحاوي (1/ 117)، والحاكم أيضًا (1/ 232) من طريق حفص بن غياث: ثنا ابن جريج به ولفظه: (كان يصلي في بيتها فيقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين .. الخ الفاتحة.
(3)
القراء العشرة سوى يعقوب. انظر هذه القراءة في: إتحاف الفضلاء (ص: 282)، البحر المحيط (6/ 20)، تفسير الطبري (15/ 42)، تفسير القرطبي (10/ 233)، السبعة (ص: 379)، النشر (2/ 306).
يقف على: {مُتْرَفِيهَا} ، ومن قرأ (1):{أَمْرِنَا} بالمد والتخفيف بمعنى: كثرنا، أو قرأ:{أَمْرِنَا} بالقصر والتشديد (2)، من الإمارة بمعنى: سلَّطنا حسن الوقف على: {مُتْرَفِيهَا} وهما شاذتان لا تجوز القراءة بهما، وقد يكون الوقف حسنًا، والابتداء قبيحًا، نحو:{يخرجون الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} الوقف حسن، والابتداء بـ {إِيَّاكُمْ} قبيح لفساد المعنى؛ إذ يصير تحذيرًا عن الإيمان بالله تعالى، ولا يكون الابتداء إلَّا بكلام موفٍّ للمقصود.
والجائز: هو ما يجوز الوقف عليه وتركه، نحو:{وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} فإنَّ واو العطف تقتضي عدم الوقف، وتقديم المفعول على الفعل يقتضي الوقف؛ فإن التقدير ويوقنون بالآخرة؛ لأن الوقف عليه يفيد معنى، وعلامته أن يكون فاصلًا بين كلامين من متكلمين، وقد يكون الفصل من متكلم واحد كقوله:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} الوقف جائز فلما لم يجبه أحد أجاب نفسه بقوله: {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} ، وكقوله:{وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} هنا الوقف، ثم يبتدئ:{رَسُولَ اللَّهِ} على أنه منصوب بفعل مقدر؛ لأنَّ اليهود لم يقروا بأن عيسى رسول الله فلو وصلنا {عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ}
بـ {رَسُولَ اللَّهِ} -لذهب فهم من لا مساس له بالعلم: أنه من تتمة كلام اليهود، فيفهم من ذلك أنهم مقرون أنه رسول الله، وليس الأمر كذلك، وهذا التعليل يرقيه ويقتضي وجوب الوقف على ابن مريم، ويرفعه إلى التام.
والقبيح: وهو ما اشتد تعلقه بما قبله لفظًا ومعنى، ويكون بعضه أقبح من بعض، نحو:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي} ، {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} ؛ فإنه يوهم غير ما أراده الله تعالى؛ فإنه يوهم وصفًا لا يليق بالباري سبحانه وتعالى، ويوهم أن الوعيد بالويل للفريقين، وهو لطائفة مذكورين بعده، ونحو:{لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ} يوهم إباحة ترك الصلاة بالكلية، فإن رجع ووصل الكلام بعضه ببعض غير معتقد لمعناه فلا إثم عليه، وإلَّا أثم مطلقًا وقف أم لا، ومما يوهم الوقف على الكلام المنفصل الخارج عن حكم ما وصل به، نحو:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى} ؛ لأن الموتى لا يسمعون، ولا يستجيبون، إنما أخبر الله عنهم أنهم يبعثون، ومنه:{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} ، ونحو:{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} ،
(1) وهي قراءة يعقوب من العشر فهي متواترة عنه، ومن غير العشر الحسن وعلي بن أبي طالب وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وسلام والأعرج والكلبي وابن عباس وقتادة وغيرهم. انظر هذه القراءة في: إتحاف الفضلاء (ص: 282)، البحر المحيط (6/ 20)، تفسير الطبري (15/ 42)، تفسير القرطبي (10/ 233)، السبعة (ص: 379)، المعاني للفراء (2/ 119)، النشر (2/ 306).
(2)
وهي قراءة السُدّي وابن عباس وزيد بن علي وعليّ والحسن والباقر ومجاهد ومحمد بن علي وغيرهم، وهي قراءة شاذة. انظر هذه القراءة في: الإملاء للعكبري (2/ 49)، البحر المحيط (6/ 20)، الحجة لابن خالويه (ص: 214)، الكشاف (2/ 442)، تفسير الرازي (20/ 177).
ونحو: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ} ، ونحو:{فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا} ، ونحو:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي} ، وشبه ذلك من كل ما هو خارج عن حكم الأول من جهة المعنى؛ لأنه سوَّى بالوقف بين حال من آمن ومن كفر، وبين من ضل ومن اهتدى؛ فهذا جليُّ الفساد، ويقع هذا كثيرًا ممن يقرأ تلاوتة؛ لحرصه على النَّفَس فيقف على بعض الكلمة دون بعض، ثم يبني على صوت غيره ويترك ما فاته، ومثل ذلك ما لو بنى كل واحد على قراءة نفسه؛ إذ لابد أن يفوته ما قرأه بعضهم، والسُّنَّة: المدارسة؛ وهو أن يقرأ شخص حزبًا، ويقرأ آخر عين ما قرأه الأول، وهكذا فهذه هي السُّنَّة التي كان يدارس جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بها في رمضان، فكان جبريل يقرأ أوَّلًا، ثم يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم عين ما قرأه جبريل، قال تعالى:{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} أي: على لسان جبريل {فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ} .
وأما الأقبح: فلا يخلو إما أن يكون الوقف والابتداء قبيحين، أو يكون الوقف حسنًا، والابتداء قبيحًا؛ فالأول كأن يقف بين القول والمقول، نحو:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ} ، ثم يبتدئ:{عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} ، أو:{وَقَالَتِ النَّصَارَى} ، ثم يبتدئ:{الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} ، أو:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ} ، ثم يبتدئ:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، أو:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا} ، ثم يبتدئ:{إِن اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} ، وشبه ذلك من كل ما يوهم خلاف ما يعتقده المسلم.
قال أبو العلاء الهمذاني (1): لا يخلو الواقف على تلك الوقوف: إما أن يكون مضطرًا، أو متعمدًا؛ فإن وقف مضطرًا، وابتدأ ما بعده غير متجانف لإثم، ولا معتقد معناه -لم يكن عليه وزر.
وقال شيخ الإسلام (2): عليه وزر إن عرف المعنى؛ لأنَّ الابتداء لا يكون إلَّا اختياريًّا.
(1) أبو العلاء الهمذاني (488 - 569 هـ = 1095 - 1173 م) الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد ابن سهل العطار: شيخ همذان، وإمام العراقيين في القراءات، وله باع في التفسير والحديث والأنساب والتواريخ، كان لا يخشى السلاطين ولا يقبل منهم شيئا، ولا تأخذه في الله لومة لائم، مع التقشف في الملبس، له تصانيف، منها: زاد المسير -في التفسير، والوقف والابتداء -في القراءات، ومعرفة القراءة، والهادي في معرفة المقاطع والمبادي -قراءات. انظر: الأعلام للزركلي (2/ 181).
(2)
وهو: زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا الأنصاري، المصري، الشافعي، أبو يحيى: شيخ الإسلام، قاضٍ مفسر، من حفاظ الحديث، ولد في سنيكة (بشرقية مصر)، وتعلم في القاهرة وكُفّ بصره سنة (906 هـ)، نشأ فقيرا معدمًا، قيل: كان يجوع في الجامع، فيخرج بالليل يلتقط قشور البطيخ، فيغسلها ويأكلها، ولما ظهر فضله تتابعت إليه الهدايا والعطايا، بحيث كان له قبل دخوله في منصب القضاء كل يوم نحو ثلاثة آلاف درهم، فجمع نفائس الكتب وأفاد القارئين عليه علما ومالا، وولاه السلطان قايتباي الجركسي (826 - 901) قضاء القضاة، فلم يقبله إلا بعد مراجعة وإلحاح، ولما ولي رأى من السلطان عدولًا عن الحق في بعض أعماله، فكتب إليه يزجره عن الظلم، فعزله السلطان، فعاد إلى اشتغاله بالعلم إلى أن توفي، له تصانيف كثيره، منها: فتح الرحمن -في التفسير، وتحفة الباري على صحيح البخاري، وفتح الجليل -تعليق على تفسير البيضاوي، وشرح إيساغوجي -في المنطق، وشرح ألفية العراقي -في مصطلح الحديث، وشرح شذور الذهب -في النحو، وتحفة نجباء العصر -في التجويد، واللؤلؤ النظيم في روم التعلم والتعليم -رسالة، والدقائق المحكمة -في القراءات، وفتح العلام بشرح الأعلام بأحاديث الأحكام، وتنقيح تحرير اللباب -فقه، وغاية الوصول -في أصول الفقه، ولب الأصول -اختصره من جمع الجوامع، وأسنى المطالب في شرح روض الطالب -فقه، والغرر البهية في شرح البهجة الوردية -فقه، ومنهج الطلاب -في الفقه، والزبدة الرائقة -رسالة في شرح البردة (ت926 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (3/ 46).
وقال أبو بكر بن الأنباري: لا إثم عليه وإن عرف المعنى؛ لأن نيته الحكاية عمن قاله، وهو غير معتقد لمعناه، وكذا لو جهل معناه، ولا خلاف بين العلماء أن لا يحكم بكفره من غير تعمد واعتقاد لمعناه، وأما لو اعتقد معناه -فإنه يكفر مطلقًا وقف أم لا، والوصل والوقف في المعتقد سواء.
إذا علمت هذا عرفت بطلان قول من قال: لا يحل لمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقف على سبعة عشر موضعًا، فإن وقف عليها وابتدأ ما بعدها -فإنه يكفر ولم يفصِّل.
والمعتمد ما قاله العلامة النكزاوي (1): أنه لا كراهة إن جمع بين القول والمقول؛ لأنه تمام قول اليهود والنصارى، والواقف على ذلك كله غير معتقد لمعناه، وإنما هو حكاية قول قائلها حكاها الله عنهم، ووعيد ألحقه الله بالكفار، والمدار في ذلك على القصد وعدمه.
وما نسب لابن الجزري من تكفير مَن وقف على تلك الوقوف ولم يفصِّل -ففي ذلك نظر.
نعم إن صح عنه ذلك حُمِل على ما إذا وقف عليها معتقدًا معناها -فإنه يكفر سواء وقف أم لا، والقارئ والمستمع المعتقدان ذلك سواء، ولا يكفر المسلم إلَّا إذا جحد ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وما نُسب لابن الجزري من قوله:
مَغْلُولَةٌ فَلَا تَكُنْ بِوَاقِفِ
…
فَإِنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَ الْوَاقِف
مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ ضَاقَ مِنْكَ النَّفَسُ
…
فَإِنْ تَكُنْ تُصْغِي فَأَنْتَ الْقَبَسُ
وَلَا عَلَى إِنَّا نَصَارَى قَالُوا
…
أَيْضًا حَرَامٌ فَاعْرِفَنْ مَا قَالُوا
وَلَا عَلَى الْمَسِيحِ ابْنِ اللهِ
…
فَلَا تَقِفْ وَاسْتَعِذَنَّ بِالله
فَإِنَّهُ كُفْرٌ لِمَنْ قَدْ عَلِمَا
…
قَدْ قَالَهُ الْجَزَرِيُّ نَصًّا حَسْبَمَا
وَقِسْ عَلَى الْأَحْكَامِ فِيمَا قَدْ بَقي
…
فَإِنَّهُ الْحَقُّ فَعِي وَحَقِّق
وَلَا تَقُلْ يَجُزْ عَلَى الْحِكَايَةِ
…
فَإِنَّهُ قَوْلٌ بِلَا دِرَايَة
(1) عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر النكزاوي المدني، الأنصاري، معين الدين، أبو محمد، مقرئ، نحوي، ولد بالإسكندرية، وقرأ بها القراءات، من مصنفاته: الكامل في القراءات، والاقتضاء في معرفة الوقف والابتداء، والشامل في القراءات السبع (ت683 هـ). انظر: بغية الوعاة (ص: 288، 289)، لسان الميزان (3/ 352)، هدية العارفين (1/ 462 729).
مخالف للأئمة الأعلام، وما جزاء من خالفهم إلَّا أن يمحى اسمه من ديوان العقلاء فضلًا عن الفضلاء، وما علمت وجه تكفيره الواقف على قوله:{فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} وهو وقف جائز على أن جواب {لَمَّا} محذوف، وعليه فلا كراهة في الابتداء بقوله:{ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} .
قال السمين (1): قال ابن عصفور (2): يجوز أن يكون الله قد أسند إلى نفسه ذهابًا يليق بجلاله، كما أسند المجيء والإتيان على معنى يليق به تعالى، فلعل تكفيره الواقف لاحظ أن الله لا يوصف بالذهاب ولا بالمجيء، وكذلك لا وجه لتكفيره الواقف على قوله:{لَفِي خُسْرٍ} مع أنَ الهمداني والعبادي (3) قالا: إنه جائز، والكتابة على بقية ما نسب لابن الجزري تطول -أضربنا عنها تخفيفًا.
ويدخل الواقف على الوقوف المنهي عنها في عموم قوله صلى الله عليه وسلم في حق من لم يعمل بالقرآن: «رب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه» كأن يقرأه بالتطريب والتصنع فهذه تخل بالمروءة وتسقط العدالة.
قال التتائي (4): ومما يردُّ الشهادة التغني بالقرآن. أي: بالألحان التي تفسد نص القرآن ومخارج حروفه بالتطريب وترجيع الصوت، من لحن بالتشديد طرب، وأما الترنم بحسن الصوت فهو حسن؛ فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت عبد الله بن قيس المكنى بأبي موسى الأشعري وهو يقرأ القرآن، فقال:«لقد أوتي هذا مزمارًا من مزامير آل داود» (5).
(1) أحمد بن يوسف بن عبد الدايم الحلبي، أبو العباس، شهاب الدين، المعروف بالسمين: مفسر، عالم بالعربية، والقراءات، شافعي، من أهل حلب، استقر واشتهر في القاهرة، من كتبه: تفسير القرآن، والقول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز، والدر المصون -في إعراب القرآن، وعمدة الحفاظ، في تفسير أشرف الألفاظ -في غريب القرآن، وشرح الشاطبية -في القراءات، قال ابن الجزري: لم يسبق إلى مثله (ت756 هـ). انظر: الأعلام للزركلي (1/ 274).
(2)
ابن عصفور (597 - 669 هـ = 1200 - 1271 م) علي بن مؤمن بن محمد، الحضرمي الإشبيلي، أبو الحسن المعروف بابن عصفور: حامل لواء العربية بالأندلس في عصره، من كتبه: المقرب -في النحو، والممتع -في التصريف، والمفتاح، والهلال، والمقنع، والسالف والعذار، وشرح الجمل، وشرح المتنبي، وسرقات الشعراء، وشرح الحماسة، ولد بإشبيلية، وتوفي بتونس. انظر: الأعلام للزركلي (5/ 27).
(3)
العبادي (375 - 458 هـ = 985 - 1066 م) محمد بن أحمد بن محمد العبادي الهروي، أبو عاصم: فقيه شافعي، من القضاة، ولد بهراة وتفقه بها وبنيسابور، وتنقل في البلاد، وصنف كتباً، منها: أدب القضاة، والمبوسط، والهادي إلى مذهب العلماء، وطبقات الشافعيين. انظر: الأعلام للزركلي (5/ 315).
(4)
التتائي (000 - 942 هـ = 000 - 1535 م) محمد بن إبراهيم بن خليل التتائي: فقيه من علماء المالكية، نسبته إلى (تتا) من قرى المنوفية بمصر، نعته الغزي: بقاضي القضاة بالديار المصرية. من كتبه: فتح البديع الوهاب شرح التفريغ لابن الجلاب -فقه مالك، فتح الجليل -شرح به مختصر خليل في الفقه شرحًا مطولًا، وجواهر الدرر -في شرحه أيضًا، وتنوير المقالة -في شرح رسالة ابن أبي زيد القيرواني -فقه، وخطط السداد والرشد بشرح نظم مقدمة ابن رشد -فقه. انظر: الأعلام للزركلي (5/ 302).
(5)
سبق تخريجه.