الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
سورة الشورى
"
هذه السورة: مكية وآياتها ثلاث وخمسون، وسميت الشورى لوجودها في آياتها لإرشاد المؤمنين إلى السير في تصريف مجتمعهم على أَساسها، ومناسبة هذه السورة للتى قبلها: اشتمال كل منهما على ذكر القرآن ودفع طعن الكفرة فيه، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بما ذكر فيهما من آيات تبين نصر المؤمنيين وخذلان الكافرين والجاحدين.
أهم مقاصد السورة:
1 -
افتتحت بالتنويه بشأْن القرآن بأَنه وحى من عند الله، وكذلك كانت كتب الأَنبياء السابقين.
2 -
أشادت بقدرة الله، وأَنه - سبحانه - لا يخرج عن سلطانه شىءٌ في الأرض ولا في السماء.
3 -
بينت أن السموات تكاد أن يتشققن من فوقهن لعظمة الله، وكمال الخشية منه.
4 -
هددت الذين اتخذوا من دونه أولياءَ بأن الله حفيظ عليهم ليجازيهم بما اقترفوا.
5 -
أشارت إلى أنه - تعالى - لو شاء أن يجمع الناس على ملة واحدة لجمعهم، ولكن الحكمة اقتضت أن يكون منهم المهتدى والضال.
6 -
أرشدت إلى ما يفعله المؤمنون مع المشركين إذا خالفوهم في الدين.
7 -
أشارت إلى القدرة البالغة في أنه جعل لكم من أنفسكم أزواجًا، ومن الأنعام أزواجا.
8 -
أكدت وحدة الشرائع.
9 -
نددت بشرك المشركين واختلافهم في الحق ظلمًا بعد أن أُمروا بإقامة الدين وعدم التفرق فيه.
10 -
بينت أن الذين ورثوا الكتاب من أسلافهم وأدركوا عهد الرسول لفى شك من كتابهم موقع في الريب، وسيأتى تفسيره.
11 -
أرشدت إلى ما يجب اتباعه في دعوة الناس للحق.
12 -
بينت بطلان حجة الذين يجادلون في الدين من بعد ما استجاب الناس لدعوته.
13 -
ذكرت أن الذين يستعجلون الساعة هم الذين لا يصدقون بها، أما الذين صدقوا بها فهم خائفون من وقوعها.
14 -
أبرزت لطف الله بعباده حيث يرزق من يشاءُ كما يشاء بدون معقب له.
15 -
حذرت من الانهماك في طلب الدنيا حيث تكون عاقبته الحرمان من الآخرة.
16 -
بينت سوء حال الجاحدين يوم القيامة، وأنهم مشفقون مما كسبوا وهو واقع بهم.
كما بينت حال المؤمنين، وأن لهم ما يشاءُون عند ربهم.
17 -
نددت بادعاء المكذبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه افترى على الله كذبًا وردت ذلك الافتراء.
18 -
بددت يأس اليائسين حيث أبانت أن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات.
19 -
ذكرت الحكمة في توزيع الرزق بين الناس بتدبير محكم، فلم يكونوا جميعًا أغنياء، ولم يكونوا فقراءَ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا.
20 -
أشارت إلى عظم بركات الغيث، ودلائل قدرة الله على خلق السموات والأرض وما بث فيهما من دابة.
21 -
ذكرت أن من آيات القدرة السفن الجوارى في البحر كالأَعلام إن يشأْ تهب الرياح فتسيرها، وإن يشأْ يجعلها ساكنة، فتظل ثوابت على وجه الماء، أو يهلكهن بذنوب ركابها.
22 -
أعادت تهديد المجادلين، فذكرت أنهم في علم الله، ليس لهم من عقابه مهرب.
23 -
عددت أوصاف المؤمنين، ومن بينهم الذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة، وأمرهم شورى بينهم ومما رزقهم الله ينفقون، وذكرت أن لهم ما هو خير وأبقى عند ربهم.
24 -
دعت إلى عدم قبول الذلة، ودلَّت على أن الانتصار - بعد الظلم - أمر مشروع:{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} (1).
25 -
دعت إلى الصبر والمغفرة {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)} (2).
26 -
بينت حال الظالمين حين يرون العذاب، كما بينت حالهم حين يعرضون على النار، وسجلت قول المؤمنين في الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة:{أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} (3).
27 -
حثت على الاستجابة قبل فوات وقتها {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} (4) وهددت من لا يستجيبون لله ورسوله {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)} (5).
28 -
دعت الرسول إلى عدم الحزن على المعرضين لإعراضهم عن الاستجابة: {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} (6).
29 -
عنيت بتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان أن الحق لله في هبة الإناث لمن يشاءُ والذكور لفريق آخر، والجمع بينهما لفريق ثالث، وحرمان فريق رابع منهما.
30 -
ذكرت طرق خطاب الله تعالى لأنبيائه وعباده.
31 -
ختمت السورة ببيان أن مثل ما أوحينا إلى الرسل قبلك أوحينا إليك هذا القرآن، وهو روح من أمر الله جعله نورًا يهدى به من يشاءُ من عباده {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (7).
(1) سورة الشورى الآية 41.
(2)
سورة الشورى الآية 43.
(3)
سورة الشورى من الآية 45.
(4)
سورة الشورى الآية 47.
(5)
سورة الشورى من الآية 47.
(6)
سورة الشورى من الآية 48.
(7)
سورة الشورى من الآية: 52 والآية: 53.
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ) أي: يتشققن من عظمة الله وجلاله وقيل: من ادعاء الولد له.
(مِنْ فَوْقِهِنَّ) أي: يبتدئ التشقق من أعلاهن.
(وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي: يسألون الله أن يغفر للمقصرين في الأرض من المؤمنين.
(وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) أي: بموكل بهم أو بموكول إليك أمرهم، وإنما وظيفتك البلاغ والإنذار.
التفسير
1، 2 - (حم (1) عسق): هما اسمان للسورة ولذلك فصلا في الخط وعدا آيتين. قيل: هما اسم واحد وآية واحدة والفصل بينهما ليناسب مفتتح سائر الحواميم قبلها وبعدها حيث
رسم مستقلا في السور المفتتحة بحروف الهجاء وقبل: إن أجزاءهما أَسماء لحروف هجائية، والمراد بها تحدى العرب أَن يأْتوا بسورة مثله لأنه مؤلف من كلمات ذات حروف هجائية مثلما يتكلمون وينطقون، فليأتوا بمثله إن كانوا صادقين، وقيل: غير ذلك. والكلام في إعرابها وفي معناها قد مضى في مثله من سورة البقرة وغيرها، وحسبك هنا ما تقدم.
3 -
{كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} : كلام مستأْنف وارد لتحقيق أن مضمون السورة موافق في تضاعيف الكتب المنزلة على سائر الرسل المتقدمين في الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق، أَي: مثل ما في هذه السورة من المقاصد أُوحى إليك في سائر السور وأوحى إلى من قبلك من الرسل في كتبهم وصحفهم، من الدعوة إلى التوحيد والإرشاد إلى الحق وإلى ما فيه صلاح العباد، أو مثل إيحاء هذه السورة أُوحى إليك سائر السور. وإلى سائر الرسل عند إيحاءِ كتبهم إليهم كما في قوله - تعالى -:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} (1) .. الآية، ومناط المثلية كونه بطريق الملك، وفي جعل هذه السورة أو إيحائها مشبها به من تفخيمها والتنويه بها ما لا يخفى، وخلاصة ما تشير إليه الآية: أن الله ذكر معانى هذه السورة في القرآن وفي جميع الكتب السماوية لما فيها من الإرشاد إلى الحق، وهو العزيز في انتقامه الحكيم في أقواله وأفعاله.
4 -
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)} :
استئناف مقرر لعزته - تعالى - وحكمته عز وجل في قوله - سبحانه -: (اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) من الآية السابقة أي: لله وحده ما في السموات وما في الأرض خلقًا وملكًا وتدبيرا وهو العلى شأْنه العظيم برهانه.
5 -
الآية واردة للتنزيه بعد إثبات الملكية والعظمة لله - تعالى - في الآية السابقة أي: تقرب السموات أن يتشققن من أعلاهن مع عظمتهن وتماسكهن خشية من الله وتأَثرا بعظمته وعلو شأْنه وروى ذلك عن قتادة، وأخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: تكاد السموات يتشققن من الثقل لكثرة ما على السماء من الملائكة. قال عليه السلام: "أطَّتِ
(1) سورة النساء من الآية 163.
السماء أطًّا وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع قدم إلا وعليه ملك قائم أو راكع أو ساجد" والتشقق يحصل من أعلاهن بسبب ذلك، وقيل: من ادعاء الشريك والولد لله - سبحانه - كما في سورة مريم {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)} (1).
وأيد هذا بقوله - تعالى - بعد: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ} وكان القياس أن يقال: يتفطرن من تحتهن، أي: من الجهة التي جاءت منها كلمة الكفر؛ لأنها جاءت من الذين تحت السماء، ولكنه بولغ في ذلك فجعلت مؤثرة في جهة الفوق. كأنه قيل: تكاد السموات يتفطرن من فوقهن، أما الجهة التي تحتهن فحصوله بطريق الأولى.
{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} خضوعًا لما يرون من عظمته، وتنزيها عما لا يليق به ملتبسين بحمده. وقيل: يتعجبون من جرأَة المشركين، فذكر التسبيح موضع التعجب وعن علي رضي الله عنه أن تسبيحهم تعجب مما يرون من تعرض المشركين لسخط الله {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} بالسعى فيما يستدعى مغفرتهم من الشفاعة والإلهام وترتيب الأسباب المقربة إلى الطاعة، واستدعاء تأْخير العقوبة طمعًا في إيمان الكافر. وتوبة الفاسق وهذا يعم المؤمن والكافر، وقال السدى وقتادة: المراد بقوله: (لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) المؤمنون لقوله - تعالى - في سورة غافر: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (2) وعلى هذا تكون الملائكة هنا حملة العرش، وقيل المراد جميع ملائكة السماء وهو الظاهر من قول الكلبي، وحيث خص من في الأرض بالمؤمنين فيكون المراد من الاستغفار الشفاعة، أو حقيقة الدعاء.
(أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إذ ما من مخلوق إلا وله حظ عظيم من رحمته - تعالى - وإنه سبحانه لذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وفيه إشارة إلى قبول استغفار الملائكة عليه السلام وأَنه - سبحانه - يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة والرحمة مع زيادة تقرير لعظمته تعالى، وبيان لكمال تقدسه عما نسب إليه بترك معاجلتهم بالعقاب على تلك الكلمة الشنعاء بسبب استغفار الملائكة وفرط غفرانه.
(1) سورة مريم الآيات 90، 91، 92.
(2)
سورة غافر من الآية 7.
6 -
أي: والمشركون الذين جعلوا لله أندادا وشركاءَ يعبدونهم من دون الله - سبحانه - رقيب على أحوالهم وأعمالهم يحصيها عليهم، وبعدها عدا ليجزيهم عليها. وما أنت - أيها الرسول - بموكل بهم، أو بموكول ومفوض إليك أمرهم، وإنما وظيفتك الإنذار والبلاغ فحسب.
المفردات:
(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) أَي: أَنزلناه عربيا بلسان قومك.
(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى): وهي مكة، والإنذار يتعدى إلى مفعولين، وقد يستعمل ثانيهما بالباء.
(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ):. وهو يوم القيامة.
(لَا رَيْبَ فِيهِ) أي: لا شك فيه. (وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أي: في النار ولهيبها.
التفسير
7 -
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)} أي: مثل هذا الإيحاء البديع البين المفهم أوحينا إليك قرآنا عربيا لا لبس فيه ولا إبهام عليك ولا على قومك.
(لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) أَي: لتنذر أهل أم القرى وهي مكة، وتنذر من حولها من سائر الخلق شرقا وغربا. وسميت مكة أم القرى لأن فيها البيت الحرام الذي يحج إليه أهل القرى العربية، ولهذا كان فراق الرسول حين هاجر منها صعبًا على نفسه، روى الإِمام أحمد بسنده: أن عبد الله بن عدى بن الحمراء أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو واقف بالحزورة في سوق مكة: "والله إنك خيرُ أرض الله وأحبُّ أرض الله إلى الله ولولا أنى أُخرجتُ مِنكِ ما خَرَجْت" وهكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي: حسن صحيح. لهذا الفضل استحقت أن نسمى أمًّا (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) وهو يوم القيامة ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد كقوله - تعالى -: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} (1) وفي العبارتين: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ) احتباك فقد حذف من الأولى ما أثبت في الثانية، وحذف من الثانية ما أثبت في الأولى، أي: لتنذر أُم القرى ومن حولها يوم الجمع تنذر يوم الجمع أم القرى ومن حولها، ثم قرر ذلك بقوله:(لَا رَيْبَ فِيهِ) أَي: لا شك فيه.
(فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) أَي: هذا التفريق بعد جمعهم في الموقف فإنهم يجمعون فيه أولًا ثم يفرقون بعد الحساب، منهم فريق في الجنة ومنهم فريق في النار المستعرة. والجملة استئناف في جواب سؤال تقديره: ثم كيف يكون حالهم؟ فيجاب مما ذكر.
8 -
أي: ولو شاءَ الله لجعلهم في الدنيا أهل دين واحد، ولكنه - سبحانه - أراد أن يدخل في رحمته - وهي الإِسلام - من يشاءُ أن يدخله فيه ويدخل في عذابه من يشاءُ أن يدخله فيه ولا ريب في أن مشيئته - تعالى - لكل من الإدخالين لاستحقاق كل من الفريقين أن يدخل مدخله تبعًا لاختيار
(1) سورة هود من الآية 103.
الداخلين فيهما قطعا، فلم يشأْ جعل الكل أُمة واحدة بل جعلهم فريقين تبعًا لاختيارهم بعد ما أرسل إليهم رسله مبشرين ومنذرين فيتأَثر بعضهم بالإنذار فيصرفون اختيارهم إلى الحق فيوفقهم الله - تعالى - إلى الإيمان والطاعات، ويدخلهم في رحمته عز وجل ولا يتأثر به الآخرون، ويتمادون في غيهم، فيبقون في الدنيا على ما هم عليه من الكفر، فينتهون في الآخرة إلى السعير من غير ولى يلي أمرهم ولا نصير يخلصهم من العذاب ، قال مقاتل: ولو شاءَ الله لجمعهم على الهدى، أي: مؤمنين كلهم على دين الإِسلام كما في قوله - تعالى -: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى) أي: ولو شاء الله لجعلهم أُمة واحدة. لقسرهم على الإيمان، ولكن الله - تعالى - بنى أمرهم على أن يختاروا ليدخل المؤمنين في رحمته وهم المرادون بقوله - تعالى -:(يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ) ويعذب الكافرين الذين ظلموا أنفسهم وقيل في ختام الآية: (وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ) ولم يقل: ويدخل من يشاء في عذابه للإيذان بأَن الإدخال في العذاب من جهة الداخلين بموجب سوء اختيارهم لا من جهته تعالى، كما في الإدخال في الرحمة، على أن ذلك أبلغ في تخويفهم لإشعاره بأَن كونهم في العذاب أمر مفروغ منه إنما الكلام في - أنه بعد تحتمه - هل من يخلصهم بالدفع أو بالرفع، فإذا انتقى ذلك علم أنهم في عذاب لا خلاص منه حيث لا ولى يتكفل بحمايتهم ولا نصير ينقذهم.
المفردات:
(أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) أي: بل اتخذوا أصناما وأوثانا يلون أمورهم.
(وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى) أي: عند البعث.
(وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي: أن غيره من الأولياء لا يقدر على شيءٍ.
التفسير
9 -
جملة (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) مستأنفة مقررة لما قبلها من انتفاء أن يكون للظالمين ولى أو نصير.
أي: بل أتخذوا - مجاوزين الله - أولياءَ من الأصنام وغيرها، و (أَم) منقطعة بمعنى بل وهمزة الاستفهام الإنكارى، وهي لاستنكار اتخاذهم الأولياءَ واستقباحه ونفيه على أبلغ وجه وآكده، إذ المراد بيان أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الأولياء في شيء لأن ذلك فرع كون الأصنام أولياء، وهو أظهر الممتنعات (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ) كأنه قيل بعد إنكار كل ولى سواه: إن أرادوا أولياءَ بحق، فالله هو الولى. لا غيره عز وجل (وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى) عند البعث (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو الحقيق لذلك بأن يتخذ وليا. فليخصوه بالاتخاذ دون غيره.
المفردات:
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ) أي: وما خالفكم الكفار والمشركون في الدين أو ما حدث بينكم فيه خلاف.
(إِلَيْهِ أُنِيبُ): أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأُمور.
(فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): خالقها ومبدعها على غير مثال، يقال: فطره من - باب نصر - ابتدأَه واخترعه.
(يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ): يكثركم بسبب هذا التزاوج بين الذكور والإناث، يقال: ذرأ الشيءَ كثَّره وفرقه.
(لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أَي: له مفاتيح خزائنهما، ومن يملك المفاتيح يملك الخزائن، والمقاليد: جمع مِقلاد أَو مقليد.
(وَيَقْدِرُ) أَي: يضيق ويقتر على من يشاء.
التفسير
10 -
(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ):
حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين، أي: ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب، والمشركون في شيءٍ من أمور الدين فاختلفتم أنتم وهم فيه كاتخاذ الله وحده وليًّا. فقولوا لهم: حكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله لا إليكم، قد حكم بأن الدين هو الإِسلام لا غيره، وأمور الشرائع إنما تتلقى من بيان الله - سبحانه - الذي تكفل بإثابة المحقين من المؤمنين ومعاقبة المبطلين (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي) الإشارة إليه - تعالى - من حيث اتصافه بما تقدم من الصفات على ما قال الطيبى: من كونه - تعالى - يحيى الموتى، وكونه على كل شيء قدير، وكونه عز وجل ما اختلفوا فيه فحكمه إليه (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) أَي: عليه لا على غيره توكلت في كل أُمورى، وإليه أرجع في كل ما يعن لي من معضلات الأُمور لا إلى أحد سواه.
وقيل: المعنى: وما اختلفتم وتنازعتم في شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تؤثروا على حكومته حكومة غيره، وقيل: وما اختلفتم فيه من تأويل آية واشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى المحكم من كتاب الله، والظاهر من سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيث كان التوكل على الله أمرا: أحدا مستمرًا والإنابة إليه متعددة متجددة حسب تجدد موادها. أوثر في الأول صيغة الماضي وفي الثاني صيغة المضارع. فقيل: (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ).
11 -
أي: ذلكم الله ربي هو خالق السموات والأرض ومبدعهما خلق لكم من جنسكم أزواجًا، وخلق للأنعام أيضا من جنسها أزواجا، أَي: كما خلق لكم في أنفسكم أزواجا وخلق لكم من الأنعام أزواجا (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ) أي: يكثركم ويزيدكم فيما ذكر من التدبير، وهو أن جعل - سبحانه - للناس والأنعام أزواجًا يكون بينهم توالد وتناسل. أو جعل التكثير في هذا الجعل لوقوعه بسببه، والضمير في (يَذْرَؤُكُمْ) يرجع للمخاطبين والأَنعام بتغليب المخاطبين العقلاء على الغُيَّب مما لا يعقل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) نفى للمشاركة في كل شأن من الشئون التي من جملتها هذا التدبير البديع السابق، والمراد نفى أن يكون مثله - سبحانه - شيء يزاوجه عز وجل وهو وجه ارتباط هذه الآية بما قبلها.
والمعنى: ليس كذاته شيء بإرادة الذات من (المثل) كما قيل، وعلى هذا لا فرق بين (ليس كذاته شيء) وبين (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) في المعنى، إلا أن الثاني كناية مشتملة على مبالغة هي أن المماثلة منتفية عمن يكون مثله وعلى صفته فكيف عن نفسه. وهذا لا يستلزم وجود المثل إذ الغرض كاف في المبالغة، ومثل هذا شائع في كلام العرب كما يقولون: مثلك لا يبخل، يريدون به نفى البخل عن ذاته ويقصدون المبالغة في ذلك بسلوك طريق الكناية لأنهم إذا نفوه عمن يماثله فرضا فقد نفوه عنه بطريق أولى. وقيل: يراد بالمثل الصفة، أي: ليس كصفته صفة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) أي: المدرك إدراكا تاما لجميع المسموعات ولجميع المبصرات أو الموجودات.
12 -
أي: له سبحانه وتعالى مفاتيح خزائنهما، ومن يملك المفاتيح يملك الخزائن حفظًا وتدبيرا، وهو عز وجل يوسع الرزق لمن يشاء ويضيقه على من يشاءُ حسبما تقتضية الحكمة العالية، والعدل التام.
(إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) مبالغ في الإحاطة به كما في قوله - تعالى -: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} (1) فيفعل كل ما يفعل على ما ينبغي أن يفعل عليه. والجملة تعليل لما قبلها، وتمهيد لما بعدها من قوله - تعالى -:(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ).
المفردات:
(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ): سن لكم من الدين وبين وأظهر وقضى، والمشرعة والشريعة: مورد الماء.
(وَصَّى): أمر أمرًا لازما جازما. (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ): اجعلوا الدين قائما بالمحافظة عليه، وتقويم أركانه، والحرص عليه من أن يقع فيه زيغ أو تفريط.
(كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ): عظم واشتد.
(يَجْتَبِي): يجتلب ويصطفى.
(يُنِيبُ): يرجع عن الكفر ويختار طريق التوحيد والهداية.
(بَغْيًا): ظلما وحقدا وعداوة.
(مُرِيبٍ): مقلق موغل في الشك.
(1) سورة يونس من الآية 61.
التفسير
13 -
ختم الله الآية السابقة بقوله: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) تعليلا لما قبلها، وتمهيدا لهذه الآية وما بعدها، وإيذانا بأَن ما شرع الله من الأحكام صادر عن كمال العم والحكمة، وقد حكت الآيات السابقة صورا كثيرة من ألوان القدرة، ومظاهر التفرد بالوحدانية والملك، وقررت أن الله وحده هو الولى لخلقه، القادر على كل شيء، فاطر السموات والأرض ، وأنه - تعالى - جعل من الإنسان أزواجًا ومن الأنعام أزواجًا ينتظم بها أمر الدنيا، بيده مقاليد السموات والأرض يتصرف فيها خلقًا وملكًا وإحياء وإماتة وبسطا وتضييقًا، وهو العليم بكل ما فيها ومن فيها، لا يعزب عن علمه شيء من أحوالها، ولا يعجزه أمر من أُمورها.
ثم جاءَت هذه الآية لتبين أنه - تعالى - شرع لعباده ما ينظم سلوكهم. ويقوم مسيرتهم بما جاء على لسان أنبيائه ورسله على تتابع الزمان، فقال - تعالى -: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ
…
) الآية، والشارع هو الله - تعالى - المفهوم بالنص من الآيات السابقة، والمخاطب أُمة محمد صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: سنَّ الله - تعالى - لكم يا أُمة محمَّد وأظهر وبين من أُمور الدين وأحكامه ما سبق أَن وصى به نوحًا، والذي أوحاه إلى نبيكم، وما وصى به من جاء بعد نوح من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - وأمرهم به أمرًا مؤكدًا لازما هو قوله - تعالى -:(أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) والمقصود به دين الإِسلام، والاستسلام لله وذلك بتوحيده وطاعته، والإيمان بكتبه ووسله ويوم الجزاء، وسائر ما يكون العبد به مؤمنًا، وإقامة الدين: معناها تعديل أركانه، والمواظبة عليه، وحفظه من أن يقع فيه زيغ أو تحريف، والإِسلام بهذا المعنى لا يختلف فيه أَحد من الأنبياءِ في أي عصر من العصور، والبدء بذكر نوح عليه السلام لأنه أبو البشر بعد آدم عليهما السلام ولأَنه - على ما قيل - أول الأنبياء بعد آدم.
وفي تقدم ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم على من قبله من الأنبياء إشعار بأن شريعته صلى الله عليه وسلم هي الشريعة المعتنى بها غاية الاعتناء، وأنه النبي الخاتم، وأن رسالته أعم الرسالات.
والمراد بالإيحاء إليه صلى الله عليه وسلم إما الإشارة إلى ما ذكر في خصوص هذه السورة من مثل
قوله - تعالى - في صدرها: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ) ومن
قوله - تعالى - في ختامها: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا) وإما ما يعمها وغيرها من مثل ما وقع في سائر المواقع من القرآن الكريم التي من جملتها: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} وقوله - تعالى -: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ، وغير ذلك كثير في القرآن الكريم.
وتخصيص الرسول بذكر الإيحاء، وإيثاره على ما قبله وما بعده من التوصية لمراعاة ما وقع في الآيات المذكورة وغيرها من مثل قوله - تعالى -:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وقوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} مما جاء في هذه السورة بخصوصها، ولما في الإيحاء من التصريح برسالته صلى الله عليه وسلم والالتفات إلى "نون" العظمة في قوله - تعالى -:{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} لإظهار كمال العناية بإيحائه.
وقوله - تعالى -: {وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} معناه - على ما اختاره غير واحد من الأجلَّة عَام شامل للنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه وللأنبياء والأُمم قبلهم، أي: لا تختلفوا في أصل من أُصول الدين وقوله - جل شأْنه -: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} (1).
ولا يشمل هذا النهي الاختلاف في الفروع فإنها ليست من الأصول المرادة هنا، ولم يجمع النبيون على الاتفاق فيها، أو يتحتم دينًا الاتفاق عليها كما يؤذن بذلك قوله - تعالى -:{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (2).
قال مجاهد: لم يبعث نبى إلا أمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والإقرار باللهِ - تعالى - وطاعته - سبحانه - وذلك إقامة الدين.
ومعنى الآية: شرعنا لكم ما وصينا به نوحا، وما أوحيناه إلى نبيكم، وما وصينا به الأَنياء قبلكم - شرعنا - لهم دينا واحدا في الأصول، وهي: التوحيد، والصلاة ، والزكاة
(1) سورة النساء الآيتان 150، 151.
(2)
سورة المائدة من الآية 48.
والصيام، والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والوفاء بالعهد، وأَداء الأَمانات، وصلة الرحم، وتحريم الكبر والزنى والإيذاء للخلق، والاعتداء على الحيوان، واقتحام الدناءَات، وما ينافى المروءَات، ونحو ذلك من الكمالات فهذا كله مشروع دينا واحد، وملة متحدة، لم يختلف علي ألسنة الأنبياء في الأصل ولا في الصورة، فأقيموا هذا الدين ولا تتفرقوا فيه، واجعلوه قائما مستمرا من غير خلاف فيه، لا اضطراب. (الآلوسي بتصرف).
والذي ينبغي اعتباره - ولا مجال للشك فيه - أن رسالات الأنبياء جميعًا متفقة في أُصول العقائد ومطلق العبادات، والأمر بإتيان الفضائل، واجتناب الرذائل. وقد تختلف في الفروع أو في بعضها تبعًا لتقادم الأَزمان، ولمقتضيات الأطوار، وتطور أحوال الإنسان ، كما تختلف في أسلوب الأَداء في رسالة عن رسالة أُخرى.
وقوله - تعالى -: (كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) معناه: شق على المشركين وعظم في نفوسهم ما تدعوهم إليه من توحيد الله - تعالى - ورفض عبادة الأصنام، وضاقوا بدعوتك ولجوا في عنادك تقليدا لآبائهم.
وقوله - تعالى -: (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) فيه تسلية - للنبي صلى الله عليه وسلم يمحو القلق من نفسه، ويضفى على قلبه الراحة والاطمئنان إذا علم أن قلوب العباد ونواصيهم بيده سبحانه وتعالى يجتبى إليه من يشاء ويهدى إليه من ينيب.
والمعنى: الله تبارك وتعالى يصطفى إليه من يشاء من عباده الباحثين عن الحق ويهديه إلى الاستجابة ويرشده إلى التوحيد والطاعة، ويختاره لحظيرة أُنسه، ودار قدسه، ويهدى بالإرشاد والتوفيق من يترك المعاصي ويقبل عليه، ويرجع إليه، فلا تبال يا رسول الله بخلاف من خالفك، ولا يشق ذلك على نفسك.
14 -
هذه الآية شروع في بيان أحوال أهل الكتاب بعد الإشارة الإجمالية إلى أحوال أهل الشرك، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هم اليهود والنصارى لقوله - تعالى -: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} (1).
والمعنى: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى في الدين الذي دعوا إليه في حال من الأحوال أَو في وقت من الأوقات إلا من بعد ما جاءَهم العلم بحقيته بما شاهدوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم والقرآن من دلائل الحقية حسبما وجدوه في كتبهم - وهذا ما ذهب إليه العلامة أبو السعود - وقال الآلوسي: وما تفرق أُمم الأنبياء بعد وفاة أنبيائهم منذ بعث نوح عليه السلام في الدين الذي دعوا إليه - ما تفرقوا في وقت من الأوقات - إلا من بعد ما جاءَ العلم من أنبيائهم بأن الفُرْقة ضلال وفساد وأمر متوعَّد عليه، وهذا يؤيد ما دل عليه سابقًا من أن الأُمم القديمة والحديثة أُمروا باتفاق الكلمة، وإقامة الدين.
ويضعف هذا الرأى أن مشاهير الأُمم السابقة قد أصابهم عذاب الاستئصال من غير إنظار وإمهال، وأن مساق النظم الكريم لبيان أحوال هذه الأُمة، وإنما ذكر من ذكر من الأَنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لتحقيق أن ما شرع لهؤلاء المكذبين دين قديم أَجمع عليه أولئك الأعلام تأْكيدا لوجوب إقامته، وتشديدا للزجر عن التفرق والاختلاف فيه، ومهما يكن القول في التفرق فإنه لم يكن صادرا منهم عن حقيقة، ولا قائما على رأْى، وإنما كان بغيا وظلما وعداوة وحسدا نابعًا من طلب الدنيا والحرص على الرياسة {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} أي: ولولا قضاء قضى به الله ، وَعِدَة سبقت منه - جل شأْنه - بتأخير العقوبة (إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم (لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) أي: لوقع العقاب باستئصال المبطلين منهم، لعظم ما اقترفوه واستيجاب جناياتهم لذلك.
(وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ) أي: وإن المشركين الذين أُورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب كتبهم لفى شك من القرآن مدخل
(1) سورة البينة الآية: 4.
في القلق والحيرة. ولذلك لا يؤمنون به لمحض البغى والمكابرة بعد ما علموا بحقيته كدأب أهل الكتابين.
المفردات:
(وَاسْتَقِمْ): واستمر على المنهج المستقيم ودم عليه.
(أَهْوَاءَهُمْ): ميولهم الفاسدة.
(مِنْ كِتَابٍ) أَي: أي كتاب منزل من الله.
(لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ): لا محاجة ولا خصومة.
(يُحَاجُّونَ): يجادلون ويخاصمون.
(فِي اللَّهِ): في دين الله.
(دَاحِضَةٌ): زائلة باطلة.
التفسير
15 -
تناولت الآيات السابقة تفرق الأُمم فيما جاءَهم به أنبياؤهم، والشك المريب الذي عاشوا فيه، ثم جاءت هذه الآية ترشد إلى رفض هذا السلوك السيء وتحث علي مدافعته واستئصاله، فالإشارة في قوله - تعالى -:(فَلِذَلِكَ فَادْعُ) أي: فمن أجل ما ذكر من التفرق فادع إلى دين الحق الذي أنت عليه.
والمعنى: إذا كان الأَمر كما ذكر فلأَجل ذلك التفرق وما جر إليه من تشعب في الكفر، وشك مريب في مقدسات الدين فادع يا محمد إلى الاتفاق على الملة الحنيفية القديمة، والعقيدة السمحة القويمة (وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ) واثبت على هذه الدعوة، والزم منهجها المستقيم (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) الباطلة ولا تطاوع ميولهم الفاسدة، واحمل الناس كافة على إقامة ذلك الدين والعمل بموجبه، فإن تفرقهم في الدين وكونهم في شك مريب يحتمان الدعوة إليه والأَمر به.
(وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ) يعنى: دُمْ على الإيمان بكل كتاب من الكتب المنزلة من الله، لا تفرق بين كتاب وكتاب منها، ولا تقل: نؤمن ببعض ونكفر ببعض وفي هذا القول تحقيق للحق، وبيان لاتفاق الكتب في الأصول، وتأليف لقلوب أَهل الكتابين، وتعريض بهم حيث لم يؤمنوا بجميعها.
(وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) أَي: وأمرني ربي أن أَعدل بينكم في فصل القضايا والخصومات، وفي تبليغ الشرائع والأحكام، فلا أَخص بشىء منها شخصًا دون آخر، وقيل: لأسوى بيني وبينكم. فلا آمركم بما لا أعمله، ولا أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه.
(اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ) أَي: خالقنا وخالقكم، ومتولى أُمورنا وأُموركم، لا ندين إلا به ولا نخضع إلا لأَمره.
(لَنَا أَعْمَالُنَا) لا يتخطانا جزاؤها ثوابًا أو عقابًا (وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ) لا تتجاوزكم آثارها، فنحن لا نستفيد بحسناتكم أو نتضرر بسيئاتكم. (لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ) أي: لا خصومة ولا محاجّة بيننا وبينكم؛ لأَن الحق قد ظهر ولم يبق للمحاجة حاجة، ولا للخصومة موقع أو مجال، ولا للمخالفة محمل سوى المكابرة. (اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي: الله يجمع بيننا جميعًا يوم القيامة للحساب والجزاء وإليه وحده مصيرنا ومصيركم فيظهر هناك حالنا وحالكم، ويفصل بيننا وبينكم، ويلاقى كل واحد منا جزاءه من الثواب أو العقاب في هذا المصير المحتوم.
هذا، وليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسًا حتى تكون منسوخة بآية السيف، وبهذا يقول أبو السعود، وهذا - كما ترى - محاجزة في موقف المجاوبة، لا متاركة في موطن المحاربة حتى يصار إلى النسخ بآية القتال.
160 -
لما ذكرت الآية السابقة ظهور الحجة وانقطاع المحجة، جاءت هذه الآية تنعى على أهل الكتاب الجدل بالباطل واللدد في الخصومة، قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإِسلام، ومحاولة إضلالهم فقالوا:"كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم" وفي رواية بدل - فديننا - "فنحن أولى به - تعالى - منكم".
والمعنى: والذين يحاجون من أهل الكتاب في دين الله بعد أن استجاب الناس لله أو لهذا الدين، وأذعنوا له، ودخلوا فيه أفواجًا لظهرر حجته، ووضوح محجته، وعدالة أحكامه، وسلامة قواعده - الذين يفعلون ذلك - (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) أَي: باطلة وزائلة لا تقبل عند الله، ولا تصح في منطق ولا عقل، بل لا يقام لهم حجة أصلا، لأن الحجة إنما تصح فيما يقبل فيه الرأْى ويستقيم الترجيح، والتعبير عن أباطيلهم بالحجة - وهي الدليل هنا - مجاراة لهم على زعمهم الباطل.
وقوله - تعالى -: (وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ): بيان لما يستحقون وما يجرى عليهم في الدنيا من الغضب الذي يتغشاهم، والكآبة التي تعلو وجوهم فتفقدهم الطلاقة والبشر، وبيان لما ينتظرهم في الآخرة من العذاب البالغ الحد في القسوة والشدة ولا يدرك تصوره فيجتمع، عليهم - إلى بطلان الحجة - غضب الله، والعذاب الشديد.
المفردات:
(الْكِتَابَ): جنس الكتاب، ويراد به الكتب السماوية المنزلة من الله تعالى.
(وَالْمِيزَانَ): الشرع الذي يتحقق به العدل، أو نفس العدل، أو آلة الوزن.
(وَمَا يُدْرِيكَ): وأى شيء يجعلك عالمًا داريًا؟.
(مُشْفِقُونَ مِنْهَا): خائفون منها.
(يُمَارُونَ): يجادلون ويشككون، من المرية والشك، أو من: مريت الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة لإدرار اللبن، لأن كُلًّا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة.
(لَطِيفٌ): بليغ البرّ.
(حَرْثَ) الحرث: كسب المال، وجمعه: أحراث، والحرث: البذر الذي يوضع في الأرض لينبت، ويطلق على الزرع الحاصل منها، وعلى ثمرة الأعمال.
التفسير
17 -
هذه الآيات من جملة تسفيه المشركين الذين يجادلون في دين الله من بعد ما استجيب له، وتمكنت دعوته، ورسخت حجته، وإمعان في تهديدهم وتخويفهم وتحذيرهم مغبة ما يفعلون بتقرير صدق الكتب السماوية المنزلة من الله - - تعالى - على أنبيائه المتمثلة في قوله - تعالى -:(اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ).
والمعنى: الله سبحانه وتعالى هو الذي أنزل الكتاب ملتبسا بالحق بعيدا عن الباطل في أحكامه وأخباره، قائما على الصدق في كل ما جاء به من العقائد والعبادات والفضائل لا مجال فيه لجدل، ولا سبيل إلى محاجة أو مكابرة في شأنه.
والمراد بالميزان - والله أعلم -: الشرع الذي تحدد به الحقوق، ويسوى به بين الناس، أو العدل، والمقصود بإنزاله الأمر به - وقيل: المراد خصوص آله الوزن. والمقصود من الساعة القيامة في قوله - تعالى -: (وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) أي: لعك القيامة قريب، والاستفهام للتنبيه والإعذار، والمعنى: وأى شيء يجعلك عالمًا داريا بما يغيب عنك من الأمور التي من جملتها قيام الساعة؟ إن قيام الساعة قريب وشيك الإتيان فاتبع الكتاب، وواظب على العدل، واعمل بالشرع قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه الأعمال، ويوفى جزاؤها.
18 -
قررت الآية السابقة أن القيامة على وشك الإتيان ثم جاءَت هذه الآية بعدها توضح موقع الناس من أمرها، وحقيقة إيمانهم بها، وأبانت أنهم منها بين جاحد منكر يستعجل وقوعها سخرية واستبعادا، وبين مؤمن مصدق بها مشفق من وقوعها مع عمله لها أو تقصيره في شأنها.
والمعنى: يستعجل وقوع الساعة وينادى بحصولها المشركون المنكرون لها سخرية واستبعادا، كانوا يقولون: متى هي؟ ليتها قامت حتى يظهر حال ما نحن عليه، وما عليه محمَّد وأصحابه. أَما الذين آمنوا وصدقوا فدائمون على الخوف منها والإشفاق من وقوعها مع عملهم الصالح، وطاعتهم المرضية استقلالا لأعمالهم واستصغارا لحسناتهم، مع يقينهم أن حصولها هو الأمر المحقق الكائن لا محالة، وأشدهم خوفا منها هم المؤمنون المقصرون في العمل لها.
ولعل من حلية الأُسلوب، وجمال تنسيقه ما قاله الجلبى من أن الآية من الاحتباك، والأَصل: يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها فلا يشفقون منها، والذين آمنوا مشفقون منها فلا يستعجلونها، وفي التعبير بالفعل المضارع في الجملة الأولى، وبالجملة الاسمية في الجملة الثانية ما يلمح إلى تجدد القلق والاضطراب في نفوس الذين لا يؤمنون بها وتمكن الاستقرار والاطمئنان في قلوب المشفقين منها.
وفي قوله - تعالى -: (أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ) تنبيه على غفلة هؤلاء المشركين، واستعظام لإنكار الساعة، واستقباح لمماراتهم فيها، وتشككهم وتشكيكهم في حصولها، وهي أقرب الغائبات إلى المحسوسات، وذلك مما يقتضيه العقل الراجح، والفطنة السليمة.
19 -
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ):
هذه الآية من كتاب الله يدق فيها الفهم بقدر ما يرق فيها اللطف، فإن عباد الله منهم البرّ والفاجر، وفيهم المؤمن والكافر، وإن أرزاق الله التي تجرى على خلقه تتعدد حسا ومعنى، ويختلف جريها على الناس سعة وضيقًا، وإعطاء لشىء وحرمانا من آخر، وهي في جملتها لا تنقطع عن مخلوق - إنسانًا، أو حيوانا - قال - تعالى -:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)} (1) ولهذا تقدم في الآية اللطف على إجراء الرزق، وتعقب إجراء الرزق بالقوة والعزة.
(1) سورة هود: الآية 6.
والمعنى: الله لطيف بعباده، أي: برٌّ بليغ البر بعباده رفيق بهم يفيض عليهم من فنون ألطافه، وصنوف آلائه ما لا تبلغه الأفهام. قال حجة الإِسلام - عليه الرحمة: إنما يستحق هذا الاسم من يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها ولطف ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح سبيل الرفق دون العنف، فإذا اجتمع الرفق في الفعل، واللطف في الإدراك تم معنى اللطيف، ولا يتصور كمال ذلك إلا في الله - تعالى - والقصود بالعباد جميع خلقه لإضافة العباد - وهو جمع - إلى ضميره - تعالى - فيفيد الشمول والعموم، ومعنى قوله - تعالى -:(يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ): يجرى رزقه على من يشاءُ بما شاء من أنواع الرزق فيخص كلا من عباده بنوع من البر على ما تقتضيه مشيئته وحكمته، وهو القوى القادر الذي لا يعجز، العزيز المنيع الغالب الذي لا يقهر. والتذييل بالاسمين الجليلين مؤذن بالتعليل، كأَنه قيل: لطيف بعباده عظيم الإحسان بهم؛ لأنه - تعالى - القوى الباهر القدرة الذي غلبت قدرته جميع القدر، يرزق من يشاءُ؛ لأنه العزيز الذي لا يغلب.
20 -
أي: من كان طلب من المكلفين بأعماله ثواب الآخرة، ويرجو رحمة الله وحسن جزائه يوم القيامة يضاعف الله له ثوابه بالواحد عشرة أمثاله إلى سبعمائة ضعف إلى أكثر من ذلك لمن يشاء، ومن كان يطلب بأعماله الدنيا ويجرى وراء متاعها وزخرفها لا يريد غير ذلك يؤته من ذلك حسبما قسم الله له وقدر في الدنيا ولا حَظَّ له في الآخرة، وما له فيها من أجر ولا ثواب؛ لأنه أفرغ همه، وقصر جهده على طلب الدنيا، وفي هذا التوجيه حث على إخلاص النوايا ، إذ الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى.
ولم تشر الآية إلى أَن لطالب الآخرة نصيبا في الدنيا على نحو ما ذكر لطالب الدنيا للتنويه بعظم أجره في الآخرة والاستهانة بما يناله في الدنيا مهما عظم بجانب ثواب الآخرة.
المفردات:
(شُرَكَاءُ): شياطين أو أصنام. (شَرَعُوا): سوّلوا وزينوا.
(مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ) أي: ما لم يأْمر به كالشرك ونحوه.
(كَلِمَةُ الْفَصْلِ): القضاء السابق بتأْجيل عذابهم.
(لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ): فصل بين المشركين والمؤمنين، أو بين المشركين وشركائهم.
(مُشْفِقِينَ): خائفين.
(رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ): أطيب بقاعها، وأعلى منازلها وأنزهها. (يَقْتَرِفْ): يكتسب.
التفسير
21 -
هذه الآية تنعى على المشركين كفرهم الذي دعاهم إلى إيثار متاع الدنيا على العمل للآخرة، وتنكر عليهم في أُسلوب توبيخى تقريعى ما هم عليه من العقائد الفاسدة، والإخلاد
إلى الدنيا، وهي في مقابلة قوله - تعالى -:(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) لتدلَّ على أَنهم في شرع يخالف ما شرعه الله - تعالى - من كل وجه: حيث قابلوا إقامة الدين في قوله - تعالى -: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ) بالشرك، والإشفاق من يوم القيامة باستعجال الساعة، وطلب الآخرة بالعمل للدنيا.
والمعنى: بل ألهؤلاء الكفار والمشركين من أهل مكة شركاء من الشياطين سوَّلوا لهم من الدين وسنوا ما لم يأْذن ويأْمر به الله - تعالى - كالشرك وإنكار البعث فاتخذوه دينا لهم ومنهجا {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: ولولا أَن الله قضى وحكم بتأْخير العذاب في هذه الأُمة إلى أجل مسمى هو يوم القيامة لوقع العذاب في الدنيا على الذين يكذبونك ، ولفصل الله بين المشركين والمؤمنين فهلك من هلك عن بيَّنة وحيّ من حىَّ عن بيَّنة، أو لفصل بين المشركين وشركائهم من الشياطين والأصنام بما يقضى به الله فيهم.
وبما أن شركاءهم من الشياطين حرضوهم على الشرك وشرعوه لهم ولم يأْذن به الله، فيكون الاستفهام الإنكارى الذي تضمنه لفظ (أَم) مرادًا منه إنكار هذا الواقع وتوبيخهم عليه.
(وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أَي: وإن لهؤلاء المشركين الذين يستوحون دينهم من شياطينهم، لهم عذاب موجع بالغ غاية الإيلام والإيجاع في الآخرة.
هذا، وإسناد الشرع إلى الشركاءِ لأَنهم سبب ضلالهم وفتنتهم كقوله - تعالى -:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} (1). وتسمية ما شرعوه دينا للتهكم والسخرية، والتعبير بالظالمين عن ضميرهم للإشارة إلى أنهم - بشركهم - تجاوزوا حدّ الاعتدال فظلموا أنفسهم بالشرك، ظلموا المؤمنين بمعارضتهم، وظلموا دين الله بالافتراء عليه - وإنكار أحكامه العادلة ، ومنهجه القويم، وإن الشرك لظلم عظيم.
22 -
(1) سورة إبراهيم: من الآية 36.
هذه الآية كلام مستأنف يعرض مشهدا من أحوال الناس يوم القيامة، والخطاب فيه لكل أحد يصلح لتلقى الخطاب، قصدا إلى المبالغة في عرض سوءِ حال الظالمين، وجمال نعيم المؤمنين.
والمعنى: ترى يا من يصح منه أن يرى. ترى الظالمين الذين كانوا متجبِّرين في الدنيا يرفلون في الترف والنعيم - تراهم - يوم القيامة أذلاء صاغرين مشفقين أشد الإشفاق خائفين غاية الخوف من جزاء وعذاب ما كسبوا من المعاصي واقترفوا من المظالم والمآثم وهو واقع بهم لا محالة لا ينجيهم منه خوف ولا يعفيهم إشفاق فإن يوم الجزاء لا يُنجى منه خوف، ولا إشفاق من الكافرين الظالمين.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} :
آمنون مستقرون في أطيب بقاع الجنات، وأعْلى منازلها وأنزه ملاذها دانية عليهم ظلالها، مُذَلَّلَة قطوفها، لهم ما يشتهون من فنون الملذات عند ربهم، فلا ينتهى فيها نعيم، ولا ينقصه وافر العطاء.
(ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ): أي ذلك الشأن الذي يعيشون، والنعيم الذي يتنعمه أَهل الجنة البالغ أعلى الدرجات في السموِّ والراحة، هو الفضل الذي لا يقادر قدره، ولا يبلغ أحد وصفه.
23 -
الكلام في هذه الآية موصول بالكلام عن الفضل الكبير المذكور في الآية قبلها.
والمعنى: ذلك الفضل المتناهى في الكبر المتعاظم في العلو هو الذي يبشر الله به عباده الذين أخلصوا الإيمان، وأكثروا عمل الصالحات وداوموا عليها، يبشرهم بذلك الفضل استعجالا لسرورهم في الدنيا.
روى أن المشركين اجتمعوا في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون محمدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟، فنزل قوله - تعالى -: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا
الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}:
والمعنى: قل لهم يا أيها الرسول الكريم ردًّا على ما تساءَلوا به: لا أطلب منكم على ما أنا فيه من تبليغ الرسالة - وتعليم الشريعة - لا أطلب منكم نفعا ولا أبتغى عليه أجرا إلَاّ أن تودوا أهل قرابتى وتحفظوا حقهم وواجبهم وليس ذلك أجرا لأن قرابتكم قرابتى فهي صلة يفرضها الدم، وتقتضيها حق قرابتى ورحمى، وقد ذكر الطبرى في هذه الآية آراءً لعل من تمام الإيضاح أن نذكرها كما أشار إليها غيره من المفسرين - قال رحمه الله عند ذكر هذه الآية: اختلف في معناه على أقوال:
(أَحدها): لا أسألكم على تبليغ الرسالة وتعليم الشريعة أجرا إلَّا التواد والتَّحاب فيما يقرب إلى الله - تعالى - من العمل الصالح - عن الحسن والجبائى وأبى مسلم: قالوا: هو التقرب إلى الله - تعالى - والتودد إليه بالطاعة.
(ثانيها): معناه إلَاّ أن تودونى في قرابتى منكم، وتحفظوني لها - عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة قالوا: وكل قرشِيّ كانت بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة، وهذا لقريش خاصَّة، والمعنى إن لم تودونى لأجل النبوّة فودونى لأجل القرابة التي بيني وبينكم.
(ثالثها): أن معناها إلَاّ أن تودوا قرابتى وعترتى وتحفظونى فيهم. عن ابن عباس - مرفوعًا إليه بكثير من الرواة قال: لما نزلت: (قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا
…
) الآية قالوا: يا رسول الله، من هؤلاءِ الذين أمرنا الله بمودتهم؟ قال: عليّ، وفاطمة، وولدهما.
وأخرج الترمذي - وحسنه. والطبرانى. والحاكم - والبيهقي في الشعب عن ابن عباس قال: قال عليه الصلاة والسلام: "أحبوا الله - تعالى - لما يغذوكم به من نعمة، وأحبّونى لحبّ الله - تعالى - وأحبوا أهل بيتى لحبِّى".
وأخرج أحمد والترمذي،، وصححه، والنسائي عن المطلب بن ربيعة قال: دخل العباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّا لنخرج فنرى قريشًا تتحدث، فإذا رأونا سكتوا
فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرَّ عِرق بين عينيه ثم قال: والله لا يدخل قلب امرئ مسلم إيمان حتى يحبَّكم لله - تعالى - ولقرابتى" وهذا ظاهر إن خص القربى بالمؤمنين منهم.
(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) أي: ومن يكتسب عملا صالحا: ويصطنع طاعة خالصة من الطاعات التي من جملتها المودة في القربى (نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا) أي: نضاعف له في جزاء هذه الحسنة بمقدار ما أحسن فيها وأضعافه بمضاعفة الثواب عليها - روى أن الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لشدة محبته لأَهل البيت.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ): واسع المغفرة يستر عيوب عباده يغفر ذنوبهم إذا تابوا (شَكُورٌ): عظم الشكر لمن أطاعه يوفِّيه حقه من الثواب: ويتفضل عليه بالمزيد من غير حساب.
المفردات:
(افْتَرَى): اختلق.
(يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ): يطمس عليه وينسبه فلا يعى.
(يَمْحُ): يزيل.
(ذَاتِ الصُّدُورِ): حقائقها ودخائلها.
(التَّوْبَةَ): الرجوع عن المعاصي بالندم عليها، والعزم على تركها أبدا.
التفسير
24 -
الاستفهام المفهوم من لفظ (أَم) لتوبيخهم على مقالتهم.
والمعنى: أيجترئ هؤلاء السفهاء، وتطاوعهم ألسنتهم بنسبة مثله عليه الصلاة والسلام إلى الافتراء والكذب والاختلاق وهو من هو الذي لم يعرف عنه في جاهلية ولا في إسلام أنه ألمَّ بكذبة قط، ثم كيف يستقيم افتراؤه على الله والإفتراء على الله عز وجل أقبح الفرى وأفحشها، وما عرف عنه صلى الله عليه وسلم كذب على أحد مطلقًا مشرك أو مؤمن، فالافتراء منه صلى الله عليه وسلم مستبعد، وعلى الله مستحيل وقوله - تعالى -:(فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) استبعاد للافتراء عن مثله، أي فإن يشأ الله يجعلك من المختوم على قلوبهم حتى تفترى عليه الكذب، فإنه لا يفترى الكذب على الله إلَاّ من كان في مثل حالهم مختومًا على قلبه. والأمر لم يكن على ذلك فقد تواتر الوحى، وتكامل إنزال القرآن حتى أَكمل الله دينه وأتم نعمته.
(وَيَمْحُ (1) اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ): كلام مستأنف غير معطوف على يختم مقرر لنفى الافتراء عنه صلى الله عليه وسلم، مسوق لبيان شأن من شئون الله - تعالى - وتقرير سننه بمحو الباطل
(1) وسقوط الواو من كلمة (يمح) ليس للعطف على (يختم) بل لمجرد التخفيف، كما حذفت في قوله - تعالى -:{ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير} .
وإزهاقه، وتأْكيد الحق وإحقاقه كما ينطق بذلك قوله - تعالى:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} (1).
والمعنى: ومن سنن الله - تعالى - أنه يمحو الباطل بقدرته وحكمته، ويثبت الحق ويحققه ببرهانه وآياته.
ويجوز أن يكون الكلام مسوقا مسوق الوعد والبشارة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه - تعالى - يمحو الباطل من البهتان والتكذيب، ويثبت الحق الذي هو عليه بالقرآن أو بقضائه الذي لا مردّ له بنصرته عليهم.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) أي: إنه مطلع على دخائل القلوب بصير بحقائقها، لا تخفى عليه خافية من أُمورها ثم يجرى عليها أحكامه المناسبة لأَحوالها.
25، 26 - {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوعَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ}:
لوّحت الآيات السابقة بالوعيد لمن غوى وضل سبيل الهدى واتبع الهوى فابتدع شرعًا لم يأذن به الله أو ادعى افتراءً على الله، وجاءَت هذه الآيات تهبّ بنسائم الرحمة وتفتح مغاليق الخير والبرّ، حتى لا ييئس عاص من رحمة الله، ولا ينقطع طمع مذنب من رجاء الله، فقال - تعالى -: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ
…
} الآية:
والمعنى: وهو الله - تعالى - الذي يتفضل بواسع فضله ووافر برّه ورحمته بقبول التوبة عن عباده يتجاوز عما تابوا عنه وأقلعوا عن فعله في ندم وحسرة، فإن التوبة الصادقة هي الرجوع عن المعاصي والندم عليها، والعزم على عدم معاودتها أبدا، روى جابر رضي الله عنه أن أعرابيا دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، وكبر فلما فرغ من صلاته قال له على رضي الله عنه: "يا هذا، إن سرعة اللسان
(1) سورة الأنبياء من الآية 18.
بالاستغفار توبة الكذّابين، وتوبتك هذه تحتاج إلى توبة، فقال: يا أَمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، وردّ المظالم، وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية، وإذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاءُ بدل كل ضحك ضَحِكته.
(وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ) أي: يتجاوز عن جميع السيئات الكبائر والصغائر، وقيل: يعفو عن الكبائر، وعن الصغائر باجتناب الكبائر (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) أي: ويعلم كل ما تفعلونه كائنا ما كان، سرا أَو جهرا كبيرا أَو صغيرا خيرا أو شرا فيجازى بما شاءَ ويتجاوز عما يشاءُ حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكمة.
(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ): يختص الله - تعالى - في هذه الآية الذين آمنوا وعملوا الصالحات بمزيد من الفضل تقديرا لأعمالهم، وبعثا لهممهم، واستجلابا لغيرهم في استباق الخيرات، والمبادرة إلى الصلوات، والكلام في قوله - تعالى -:(وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا) على حذف اللام، أَي: يستجيب لهم كما في قوله - تعالى -: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} (1) أي: كالوا لهم.
والمعنى: ويستجيب الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات دعاءَهم ويثبتهم على طاعتهم ويزيدهم على الثواب تفضلا، فإن الطاعة لا يترتب عليها من الثواب شابهت الدعاءَ والطلب، وشابهت الإثابةُ والجزاءُ عليها الإجابة.
وجعلوا من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء الحمدُ"، وسئل سفيان عن قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث:"أكبرُ دعائى ودعاءِ الأنبياء قبلى لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قديرٌ" فقال: هذا قوله - تعالى - في الحديث القدسى: "مَنْ شغلهُ ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضلَ ما أُعطِى السائلين" وقيل الاستجابة فعلهم أَي: يستجيبون لله بالطاعة إذا دعاهم إليها، وعن إبراهيم بن أدهم - لما قيل له: ما بالُنا ندعُو فلا نُجَاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تُجيبوه، ثم قرأ {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} (2).
(1) سورة المطففين من الآية 3.
(2)
سورة يونس، الآية:25.
ومعنى (وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ): يضاعف لهم أجرهم ويزيد ثوابهم على ما استحقوا من الثواب بموجب الوعد والعدل، وذلك من واسع فضله ووافر عطائه وكرمه، وإذا كان للذين آمنوا وعملوا الصالحات ثواب أعمالهم ومضاعفة أجورهم فضلا من الله - تعالى - فإن الكافرين الذين عاشوا حياتهم في الكفر والمعاصي لهم في الآخرة - جزاء كفرهم وعصيانهم - عذاب بالغ الحد في المهانة والشدة والتهديد. مقابل ما للمؤمنين من الثواب والفضل المزيد.
المفردات:
(بَسَطَ): وَسَّع وكَثَّر.
(لَبَغَوْا): لطغوا وتكبروا.
(بِقَدَرٍ): بتقدير حكيم.
(الْغَيْثَ): المطر النافع الذي يُغيث النَّاس بعد الجدب.
(قَنَطُوا): يئسوا من نزوله.
(وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ): يبسطها ويُعمّها.
التفسير
27 -
فيما سبق من الآيات يمتن الله على عباده بقبول توبتهم إذا تابوا ورجعوا إليه، فيعفو ويصفح، ويستر ويغفر، وبأَنه يجيب دُعَاء المؤمنين إلى ما طلبوا ويزيدهم خيرا، وفي هذه الآية
يمنّ عليهم أيضًا سبحانه وتعالى بأَنه مُحيط علمًا بما خفى وظهر من أُمورهم، فيقدِّر بحكمته لكلِّ ما يصلحُ شأنه فيقول: (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ
…
) الآية.
سبب النزول:
قيل: نزلت هذه الآية في قوم من أهل الصُّفة تمنُّوا سَعَةَ الرِّزق والغنى، قال خباب بن الأرت: فينا نزلت، وذلك أننا نظرنا إلى أموال بني قريظة وبنى النضير وبنى قينقاع فتمنيناها فنزلت. (ذكره الزمخشرى والآلوسى).
والمعنى: ولو وسع الله الرزق على جميع عباده، وكَثَّره عندهم وأعطاهم فوق حاجتهم لطغوا وظلموا، وتكبروا في الأرض، وفعلوا ما يستتبعه الكبر من العلو والفساد "فإن الغنى مبطرة مأْشرة" وكفى بحال قارون عبرة (1) وفي الحديث:"أخوفُ ما أخاف على أُمتي زهرة الدنيا وكثرتها".
ولكن يُنزِّل الله الرزق بتقدير مُحكم، فيوسعه على من يشاء، ويضيِّقه على من يشاء تبعًا لما اقتضته حكمته وفي الحديث:"إن من عبادى من لا يُصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأَفسدتُ عليه دينَهُ، وإنَّ من عبادى من لا يُصلحه إلَاّ الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دِينَهُ".
وهو - سبحانه - محيط علما بما خفى وظهر من أُمور النَّاس، يعلم ما تصير إليه أحوالهم فيقدر بحكمته لكلٍّ ما يُصلح شأنه، ولو أغناهم جميعًا لبغوا، ولو أفقرهم جميعًا لهلكوا ولله درّ الغزالي حيث يقول:"ليس في الإمكان أبدع مما كان".
وقد يبْغِى الفقير ولكن ذلك قليل، والبغى مع الغنى أكثر وقوعًا.
28 -
ومن نعم الله وآلائه على عباده أنه هو الذي ينزل المطر في وقت حاجتهم وفقرهم إليه فيغيثهم به بعد يأس من نزوله، وينشر رحمة الغيث بتكثير منافعه وآثاره في كل شيء، وفي كلِّ مكان في السَّهل والجبل والنباب والحيوان - أو يعم الكائنات برحمته الواسعة المشتملة على ما ذكر من المطر وغيره ، وهو وحده - الذي يتولى أمور عباده بالإحسان ونشر الرحمة، (الْحَمِيدُ): المستحق للحمد على ذلك - لا غيره -.
(1) أي موقع في الأثر وهو البطر.
ذكر ابن كثير، والزمخشرى: أن رجلًا قال لعمر بن الخطاب: اشتدّ القحط وقنط الناس فقال عمر: مُطِرتم (1) ثم قرأ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ).
المفردات:
(وَمَا بَثَّ فِيهِمَا): وما فرّق ونشر فيهما.
(دَابَّةٍ): هي كل ما يدبّ (2) على الأرض من إنسان وغيره.
(جَمْعِهِمْ): حشرهم بعد البعث للمُحاسبة.
(مِنْ مُصِيبَةٍ): من بلية وشدّة.
(فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ): فيما ارتكبتم من الآثام.
(وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ): وما أنتم بجاعلين الله عاجزا عن عقابكم في الأرض.
التفسير
29 -
بعد أن ذكر الله آلاءه ونعمه على عباده ذكر - سبحانه - مظاهر قدرته ودلائل عظمته وقوَّته فقال:
(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
…
) إلخ أَي: ومن آياته الدالة على عظمته وقدرته وسلطانه القاهر خلق السموات والأرض على ما هما عليه من الصنع البديع، والنظام
(1) يعنى: جاء أوان إمطاركم بعد ما قنطتم.
(2)
أي: يمشى ويسير.
المُتقن، فإنهما بذاتهما وصفاتهما العجيبة تدلان على قدرته وعظمته وبديع صنعه، وَمَنْ له أدنى عقل وإنصاف يجزم باستحالة صدورهما من الطبيعة التي لا عقل لها ولا إرادة ومن آياته - أيضًا - خَلْقُ ما نشر وفرَّق في السموات والأرض من دابة وهي تشمل الملائكة والجن والإنس وسائر الحيوانات على اخنلاف أشكالها وألوانها ولغاتها وطباعها وأجناسها وأنواعها، وقد فرّقهم في أرجاء السموات، ونشرهم في أنحاء الأرض، وهو - مع هذا - على جمعهم وحشرهم بعد البعث للمحاسبة - إذا يشاء - تَامُّ القدرة كاملها.
وظاهر الآية: وجود الدَّابة في السَّموات والأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالنّاس والملائكة.
ويرى الزَّمخشرىّ: أنَّ ما في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما على الجملة فالآية على أسلوب {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (1) وإنما يخرجان من الملح.
ويجوز أن يكون للملائكة مشى مع الطيران فيوصفوا بالدبيب كما يُوصف به الأناسى، ولا يبعد أن يخلق الله في السموات حيوانا يمشي فيها مشى الأناسى على الأرض، وسبحان الذي خلق ما نعلم وما لا نعلم من أصناف الخلق. (انتهى كلام الزمخشرى ملخصًا). وصدق الله العظيم حيث يقول:{وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2).
30 -
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} :
أي: وما أصابكم ونالكم - أيها الناس - من مصيبة من مصائب الدنيا أو مكروه من مكارهها كالمرض والفقر والضيق وسائر النَّكبات فبسبب معاصيكم وما ارتكبتم من موبقات، واجترحتم من سيئات في الدنيا، ويعفو الله - سبحانه - عن كثير من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلا أو آجلا، ويجوز أن يكون المراد: ويعفو عن كثير من الناس فلا يعاقبهم، والظاهر: المعنى الأول وهو الذي تشهد له الأخبار.
(1) سورة الرحمن: الآية (22).
(2)
سورة النحل: من الآية (8).
فقد روى الترمذي عن أبي موسى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُصيب عبدًا نكبةٌ فما فوقها أو دونها إلا بذنب، وما يعفو الله - تعالى - عنه أكثر، وقرأ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} (1) ومن لا ذنب له كالأنبياء عليهم السلام قد تصيبهم مصائب، ففي الحديث "أشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ ثم الأمثل فالأمثل" ويكون ذلك لرفع درجاتهم، أو لحكم أخرى يعلمها الله ثم إنَّ المصائب قد تكون عقوبة على الذّنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه في الآخرة إذا تقبل العقوبة بنفس راضية، وعلى ذلك يحمل ما رُوى عن عليّ - كرم الله وجهه - وقد رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن عُفِى عنهُ في الدُّنيا عُفِىَ عنه في الآخِرة، ومن عُوقِب في الدَّنيا لم تُثَنّ عليه العقوبة في الآخرة" وعنه - أيضًا - كرَّم الله وجهه: هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن.
31 -
أي: ولستم بقادرين على أن تجعلوا الله عاجزا عن إنزال المصائب بكم في الدُّنيا عقابا لكم على ما كسبت أيديكم وإن هربتم في أقطار الأرض كل مَهْرَب، وما لكم من دونه من مُتَولٍّ بالرحمة يرحمكم إذا أصابتكم المصائب، ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم عذابه إذا وقع بكم.
(1) سنن الترمذي: كتاب التفسير - سورة الشورى - ج 5/ 377 رقم 3252 ط/الحلبى وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
المفردات:
(الْجَوَارِ): جمع جارية وهي السُّفن.
(كَالْأَعْلَامِ): كالجبال أو كالقصور العالية.
(فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ): فَيَصِرْنَ ثوابت سواكن لا تتحرك.
(أَوْ يُوبِقْهُنَّ): أو يُهلكهنّ بالغرق.
(مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ): ما لهم من مَهْرب ولا مَخْلص من العذاب.
التفسير
32 -
: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} :
أي: ومن آيات الله ودلالته الدّالة على قدرته الباهرة وسلطانه القاهر - السُّفن الجارية في البحر، كالجبال الشّاهقة في عظمها، سخرها الله - تعالى - في البحر بأمره لخدمة الإنسان وقضاء مصالحه، وأجراها بقدرته ليسهل انتقال الناس من مكان إلى آخر، فتروج التِّجارة، وترتقى الصِّناعة، ويتبادل النَّاس المنافع، وتزدهر العلوم والمعارف.
33 -
أي: إن يشأ الله يسكن الرِّيح ويمنع حركتها فتظل السُّفن ثوابت على ظهر الماء لا تتحرك ولا تجرى بالنّاس إلى مقاصدهم وقضاء مآربهم.
إن في ذلك الذي ذُكر من السفن المسخّرة في البحر تحت أمره وحسب مشيئته وسيرها ووقوفها بأمره - إن في ذلك - لدلالات عظيمة واضحة على قدرة الله ليعتبر بها المؤمنون الصابرون في الضراء، الشاكرون في السَّراءِ، لأَنَّ الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر.
34 -
{أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} :
(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا) معطوف على (يُسْكِن) في الآية السابقة.
لأنَّ المعنى: إن يشأ الله يبتلِ المسافرين في البحر بإحدى بليَّتين: إمَّا أن يُسْكن الرِّيح فتبقى السفن على متن البحر ويمتنعنَ من الجرى، وإما أن يُرْسل الرِّيح عاصفة فتهلك أهلها إغراقا بسبب ما كسب أهلها من الذّنوب، ويعف عن كثير فلا يُعاقبهم بما سبق "كشاف بتصرف" وقال بعض علماء التفسير في قوله - تعالى -:(أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا):
إنَّ المعنى: وإن يشأ الله يُرسل الريح قَويّة عاتية فتأْخذ السّفن وتُمِيلها عن سيرها المستقيم وتُصرفها ذات اليمين وذات الشمال آبقة لا تسير على طريق ولا إلى جهة، فيهلك من فيها إغراقًا بسبب ما كسبوا من الذّنوب، وهكذا لو شاء الله لسكّن الريح فوقفت السفن، أو أثارها وأهاجها فشردت السفن وأَبقت وأههلكت مَنْ فيها ولكن من لطفه ورحمته أن يرسل الرّياح بحسب الحاجة كما يرسل المطر بقدر الكفاية. (ابن كثير بتصرف).
وهو قريب مما قاله صاحب الكشاف.
35 -
{وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} :
المعنى: إن يشأ الله إمساك الريح أو إرسالها عاصفة، فيهلك من في السفن لينتقم من العصاة وليعتبر المؤمنون ويعلم الذين يجادلون في آيات الله بالباطل ويُشَكِّكون النَّاس فيها أنهم في قبضته مقهورون برُبوُبيّته، ما لهم من مَهْرب من عذابه، ولا مَحِيد لهم عن عقابه، ولا مَخْلَص لهم من بأسه، ولا مَلْجَأ لهم من بطشه.
المفردات:
(فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ): فما أُعطيتم مِنْ أثاث الدنيا وزينتها.
(فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا): يُتَمتَّع به فيها ثم يزول.
(وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ): وعلى الله وحده يعتمدون.
(كَبَائِرَ الْإِثْمِ): أي الفواحش وكبائر الذنوب وقُرِئ كبير الإثم وعن ابن عبّاس هو الشِّرك.
(الْفَوَاحِشَ): ما عَظُم قُبْحهُ من الذنوب كالزِّنى.
(اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ): أجَابُوهُ إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة.
(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ): شأنهم التَّشاور ومراجعة الآراء في أُمورهم.
(الْبَغْيُ): الظُّلم والعدوان.
(يَنْتَصِرُونَ): ينتقمون بمثل ما عُوقِبُوا بِه.
التفسير
36 -
عن علي - كرّم الله وجهه - أنه قال: اجتمع لأبي بكر رضي الله عنه مالٌ فتصدق به كلّه في سبيل الله فَلَاَمَهُ المُسلمون وخطَّأه الكافرون فنزلت.
والمعنى: يقول الله - تعالى - مُحَقِّرا شأن الدُّنيا وزينتها وما فيها من المتاع والنّعيم (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
…
) إلخ، أي: وما أُعطيتم ونلتم من زخارف الدنيا، وجمعتم من أموال، ورزقتم من بنين فلا تغتروا به، فإنما هو متاع الحياة الدُّنيا، وهي دار فانية ومتاع زائل.
وما عند الله من ثواب الآخرة ونعيمها خير في ذاته لخلوص نفعه، وأبقى زمانا، حيث لا يزول ويفنى، وقد أعدّه الله - سبحانه - للذين آمنوا وصبروا على ترك اللّذات في الدُّنيا، وعلى خالقهم ومربيهم - لا على غيره - يعتمدون في كل الأمور ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحذورات.
37 -
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} :
(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
…
) إلخ عطف على (الذين آمنوا) في الآية السابقة، وكذلك ما بعده من الآيات والمعنى: ومن صفات المؤمنين أنهم الذين يبتعدون عن كبائر ما نهى الله عنه كالشِّرك وعن كل ما عَظُمَ قُبْحه وفَحُشَ أمره كالزِّنى، وإذا ما تعرض لهم أحد بالإساءَة إليهم في الدُّنيا كانت سجيّتهم الصَّفح وسَلِيقتُهم الغفران والعفو.
والتعبير بقوله - تعالى -: (هُمْ يَغْفِرُونَ) إشارة إلى أنهم المختصون بالغفران في حال الغضب، لا يُذْهِب الغَضَبُ أخلاقهم، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حُرماتُ الله".
38 -
سبب النزول:
قيل: نزلت في الأنصار دعاهم الله - تعالى - على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته - سبحانه - فاستجابوا له فأثنى عليهم - جل وعلا - بما أثنى هنا.
والمعنى: والذين أجابوا دعوة خالقهم ومُرَبِّيهم إلى ما دعاهم إليه من التَّوحيد والعبادة وأجابوا رسله، واتبعوا أمره، وخافوا زجره، وأقاموا الصلاة بالمواظبة عليها والإتيان بها كاملة، والاحتفاء بها، وكان شأنهم التَّشَاوُر في شئونهم ، ولا يُبرمون أمرا حتى يتدارسوا طلبا للعدل، وابتغاء الوصول إلى الحقّ، فلا ينفرد أحدهم برأى، ولا يستبدّ بهم فرد أو قِلَّة من النَّاس، ومما رزقهم الله وأنعم به عليهم ينفقون ويبذلون في وجوه الخير المتعدّدة وفي الآية حث على الشورى، أخرج عبد بن حميد والبخاري في الأدب وابن المنذر عن الحسن قال:"ما تشاور قوم قطّ إلَاّ هُدُوا لأرْشد أمرهم: ثم تلا (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) ولقد كانت الشورى بين النبي وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذلك بين الصحابة، وكانت - أيضًا - بينهم في الأحكام كقتال أهل الرِّدة، وميراث الجدّ، وعدد حدّ الخمر وغير ذلك، والمراد بالأحكام: ما لم يرد فيه نص شرعى، وإلَّا فالشورى لا معنى لها مع النص، وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله عز وجل إلى آراء الرِّجال، والله - سبحانه - هو العليم الخبير، ويُؤيد ما قُلنَاهُ ما أَخرجه الخطيب عن علي - كرَّم الله وجهه - قال: "قلتُ يا رسولَ الله: الأمرُ ينزل بِنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يُسْمَعْ منك فيه شىءٌ قال: اجمَعُوا العابد من أُمَّتى واجعلوه بينَكُم شُورَى ولا تقضوهُ بِرأْى واحِد".
وينبغى أن يكون المستشار عاقلا عابدا - أخرج الخطيب عن أبي هريرة مرفوعًا "اسْتَرشِدُوا العاقل ترشدوا، ولا تعصوه فتندموا".
هذه صورة الإِسلام المشرقة، وتلك تعاليمه الخالدة، يجعل من أوصاف المؤمنين وأخلاقهم التَّشاور في الأمر وجمع الرأي إلى الرأى.
39 -
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} :
المعنى: ومن جملة أوصافهم أنهم الذين يغضبون إذا بغى عليهم أحد، وينتقمون ممن اعتدى عليهم وظلمهم، ويقتصرون في الانتصار على ما جعل الله
لهم ولا يعتدون، ومعنى القصر المفهوم من قوله تعالى:(هُمْ يَنْتَصِرُونَ) أنهم هم الذين لا يتجاوزون الحد في أخذ حقوقهم، وغيرهم يعدو ويتجاوز، وهذا لا ينافى أنهم يعفون ويصفحون فلكل محله ومجاله.
فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه وذنبه محمود، ولفظ المغفرة مشعر به، كما أَن الانتصار من المخاصم المُصِرّ المعاند محمود، ولفظ الانتصار مشعر به ولو جاءَ أحدهما موضع الآخر لكان مذموما كما يشير إلى ذلك قول الشاعر:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
…
وإن أنت أكرمت اللَّئيم تمرَّدا
فوضع النَّدى في موضع السيف بالعلا
…
مُضِرّ كوضع السَّيف في موضع النَّدى
وعن النخعى أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال: كانوا يكرهون أن يُذِلُّوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق.
المفردات:
(سَيِّئَةٍ): الخطيئة والذنب.
(سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا): سُمِّيت مقابلة السيئة سيئة لمشابهتها لها في الصورة، وقال الزمخشرى: لأنها تسوء من تنزل به.
(عَفَا): صفح عمن أَساء إليه.
(وَأَصْلَحَ) أي: وأصلح بينه وبين من يُعَاديه بالعفو والإغضاء.
(فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ): فثوابه على الله.
(لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ): يكره ويبغض المعتدين.
(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ): ولمَنْ عَاقَبَ بمثل ما عُوقِب به.
(سَبِيلٍ): مؤاخذة ولوم وحرج.
(وَلَمَنْ صَبَرَ): سكت وحبس نفسه عن الانتصار لنفسه.
(وغفر): تجاوز عن ظالمه.
(لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي: لمن الأُمور الجادة المطلوبة شرعًا.
التفسير
40 -
المعنى: شرع الله الانتصار من الظالم بأخذ الحق منه ومقابلة السيئة بمثلها من غير زيادة، وندب إلى الفضل وهو العفو والإصلاح، وهذا أَسمى مما وصلت إليه البشرية قديما وحديثا من تقنين وتشريع، فقد شرع القصاص؛ لأن الطبيعة البشرية تميل إلى أن يأخذ الإنسان حقَّه لنفسه وينتقم ممن يعتدى عليه، وبخاصة مع النفوس المريضة التي لا يُقَوِّمها ويُصْلح شأنها إلا ردْعُها والانتقام منها. ولكنه مع هذا ندب ودعا إلى الفضل وهو العفو والإحسان، ليرتقى بالبشرية إلى أعظم درجاتها، ليرتفع بها إلى الذروة في السَّماحة والمروءة، وفي قوله - تعالى -:(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) بيان لفضيلة العفو والتسامح لأن الفاعل لذلك لن يضيع حقه ولن يذهب أجره وفضله، بل أجره على الله، وناهيك بمن كان أجره على الله.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم " إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ: من كان له على الله أجرٌ فَلْيَقُم: قال: فيقُوم خَلْقٌ فَيُقالُ لهم: ما أجْرُكُم على اللهِ؟، فيقولون: نحن الذين عفونا عمن ظلمنا: فيقال لهم: ادْخلوا الجنة بإذن الله" الكشاف.
ومعنى قوله تعالى: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) أنه يمقت ويبغض البادئين بالظلم، والذين تجاوزوا الحد في الانتقام وفيه إشارة إلى أن الانتصار مظنة التجاوز وعدم الاعتدال عند أخذ الحق وبخاصة في حالة الغضب والتهاب الحمية فربما يجاوز المنتصر لنفسه حقه وهو لا يشعر وفي ذلك حَثٌّ على العفو والصفح:
41 -
{وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} :
المعنى: ولَمَنْ عاقبوا المعتدين بمثل ما اعتدوا به عليهم دون زيادة فهؤلاء ما عليهم من لوم ولا مؤاخذة ولا جُناح.
42 -
في هذه الآية تعيين لمن عليهم السبيل بعد نفيه عن المنتصرين بعد ظلمهم، والمعنى: إنما الحرج واللَّوم على الذين يبدءُون الناس بالظلم أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون حقهم ويتكبرون في الأرض بغير الحق، فهؤلاء لهم عذاب مُوجع شديد الإيلام.
43 -
{وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} :
المعنى: وأقسم لَمَن صبر على الظُّلم والأَذى وغفر ولم ينتصر لنفسه وتجاوز عن ظالمه وفوّض أمره إلى الله إنّ ذلك المذكور من الصبر والمغفرة لمن عزم الأُمور أي لمن الأمور الجادة العظيمة التي ينبغي للعاقل أن يُوجبها على نفسه ويلتزم بها؛ لأنها مطلوبة شرعًا وهي من الصفات الحميدة التي رغّب الشّارع فيها وأجزل لصاحبها العطاء، روى أحمد عن أَبي هريرة قال:"أن رجلًا شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فجعل النبي يعجب ويبتسم فلما أكثر ردَّ عليه بعض قوله، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقه أبو بكر، فقال يا رسول الله: إنّه كان يشتمنى وأنت جالس فلما ردَدْتَ عليه بعضَ قولِه غَضِبتَ وقمْتَ قال: إنهُ كان معكَ مَلَكٌ يردُّ عنك فلما رَدَدْتَ عليهِ بعض قولِه حضَرَ الشيطانُ فلم أكن لأَقعُدَ مع الشَّيطان".
المفردات:
(وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ): ومن يَخْذُلْه الله لأَنَّه ضَلَّ الطَّريق لسوء اختياره.
(فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي: فما له من ناصر يتولاه بعد خذلان الله إيّاه.
(هَلْ إِلَى مَرَدٍّ): هل إلى رجوع إلى الدنيا.
(مِنْ سَبِيلٍ): من طريق.
(خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ): خاضعين متضائلين بسبب الذلّ.
(يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ): ينظرون إلى النار مُسَارَقة خوفًا منها.
(الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) أي: خسروا أنفسهم بالتَّعرض للعذاب الخالد وخسروا أهليهم بالتفريق بينهم.
(مُقِيمٍ): سرمدى دائم.
(وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ): ليس لهم غير الله يدفع عنهم عذابه.
التفسير
44 -
والمعنى: ومن يبعده الله عن طريق الحق والهدى لسوء اختياره، فما له من ناصر يتولَّى هدايته بعد خذلان الله إياه، وترى الكافرين حين يشاهدون عذاب الآخرة ويعاينون أهوالها يسألُون ربَّهُم وهم في ذِلة وإنكسار: هل من طريق إلى الحياة الدنيا حتى نؤمن ونعمل صالحا غير الذي كُنَّا نعمل.
يتمنون ذلك ولكن أنَّى لهم ذلك؟ فليس إلى مردّ من سبيل، هكذا قضى الله ولا رادَّ لقضائه.
45 -
وترى الظالمين - كذلك - يعرضون على النار خاضعين متضائلين بسبب الذل الذي اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله - تعالى -، وبما يلاقون من الأهوال عقابا لهم - يراهم - يسارقُون النَّظر إلى النَّار خوفًا من مكارهها كما ترى المُهيأ للقتل ينظر إلى السيف، وهكذا شأن الناظر إلى الشدائد لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها أو يملأ عينيه منها كما يفعل إذا نظر إلى الأشياء المحبوبة.
ويقول الذين آمنوا يوم القيامة: إن الخاسرين خسارة عظيمة هم الذين ظلموا أنفسهم بالكفر فأُلقِى بهم في النَّار، وفقدوا مُتْعَتهم وحُرِموا نعيمهم فخسروا بذلك أنفسهم وحيل بينهم وبين أزواجهم وأحبابهم وأقاربهم فخسروهم.
وينبه الله - تعالى - في ختام الآية إلى أن الكافرين في عذاب دائم أبدى لا خروج لهم منه ولا محيد لهم عنه.
46 -
المعنى: وما كان للظالمين أولياء يَلُون أمرهم، ولا نصراء مما عبدوهم من دون الله وممن أطاعوهم في معصيته يدفعون عنهم عذابه وينقذونهم منه، ومن يضلّه الله عن الهدى وقد اختار الكفر السلوك السيء وأصَرَّ عليه فما له من طريق موصّل إلى الحق في الدّنيا، ولا إلى الجنّة في الآخرة، لينجيه من سوء المصير وعذاب السّعير.
المفردات:
(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ): سارعوا إلى إجابته بالتوحيد والعبادة.
(لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ): لا يردّه الله بعد إذ أتى به.
(وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ): وما لكم من إنكار لذنوبكم أو منكر لعذابكم.
(حَفِيظًا): رقيبًا ومُسيطرا.
التفسير
47 -
أي: سارعوا إلى إجابة خالقكم ومربيكم وذلك بالتوحيد والعبادة مِن قبل أن تنتهى الحياة التي هي فرصة للعمل، ويأتى يوم القيامة والحساب الذي لا يرده الله بعد إذ قضى
به، ليس لكم يومئذ من ملاذ تلجئون إليه وتتحصنون به من العذاب، وما لكم من مُنكِر لعذابكم ومُخَلِّص لكم منه، أو لن تقدروا أن تنكروا شيئًا مما اقترفتموه ودوِّن في صحائف أعمالكم، وتشهد به أعضاؤكم.
48 -
فإن أعرض المشركون وامتنعوا عن إجابتك والإيمان بدعوتك فلا تحزن عليهم أيها الرسول، فما أرسلناك عليهم رقيبا ومُسيطرا، إنما كلفت بالبلاغ وتأدية الرسالة وقد بلغت وأديت وإن شأن الناس وطبيعتهم إذا منحناهم من لدنا نعمة كالصحة والغنى والأَمن فرحوا واستبشروا، وإن تصبهم سيئة من بلاء ومرض وفقر بسبب معاصيهم وما صدر منهم من السيئات فإنهم ينسون النِّعْمة ويجزعون لنزول البلاء كُفرا وجُحُودا، إلَاّ مَنْ هداه الله وألهم رشده وكان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات فالمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم:"إنْ أَصابتْهُ سرَّاءُ فشكَرَ فكانَ خيرا له وإنْ أصابَتْهُ ضراءُ فصبَر فكان خيرا له وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن".
المفردات:
(أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا): يتفضل على من يشاء بالجمع بين الذكران والإناث في ذريته.
(عَقِيمًا): لا ولد له.
التفسير
49، 50 - {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}:
لما ذكر الله إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع ذلك أنَّ له - لا لغيره - ملك السموات والأرض فهو خالقهما والمتصرف فيهما يخْلُق ما يشاءُ فيهب لعباده من الأولاد ما تقتضيه مشيئته فيخص بعضًا بالإناث لا غير، وبعضا بالذكور دون الإناث ويتفضل سبحانه وتعالى على من يشاءُ من عباده بالجمع بين الذكور والإناث على التعاقب أو في حمل واحد، ويجعل من يشاء عقيمًا لا ولد له.
وتقديم الإناث على المذكور في الآية: قيل إنه لبيان أن الله يُعطى ما يُريدُه لا ما يُريده الناس؛ لأن الناس تهوى الذكور وخصوصا العرب، وقيل: التقديم توصية برعايتهن لضعفهن ولا سيما أنهم قد كانوا قريبي عهد بالوأد وفي الحديث "مَنْ ابتُلى بِشىءٍ من هذه البناتِ فأَحْسنَ إليهنَّ كُنَّ له سِتْرا من النار" وقال الثَّعالبى: إشارة إلى ما تقدم في ولادتهن من اليُمْن، وعن قتادة: من يُمْنِ المرأَة تبكيرها بأُنثى.
جاءَ لفظ المذكور مُعَرَّفا ولفظ الإناث مُنَكَّرا، للتنويه بما للذكور - عادة - من مكانة في نفوس الآباءِ والرغبة فيهم، لأن التعريف تنويه وإشادة.
يجمل بنا قبل الدخول في تفسير هذه الآية الكريمة أن نتعرض لتعريف الوحى ونبيّن أقسامه، حتى يتضح المقام ويكمل البيان فنقول وبالله التوفيق:
- الوحى وأقسامه:
يطلق الوحى ويراد منه الإيحاء، كما يطلق ويراد منه الموحى به، حسب مقتضيات الأحوال.
(أ) فالوحى بمعنى الإيحاء:
في الشرع، وفي اصطلاح علماء الكلام (1) هو إعلام الله أنبياءَه ما يريد إبلاغه إليهم بما يفيد العم اليقينى القطعى بأن ذلك من عند الله عز وجل وأنواعه ثلاثة:
1 -
إعلام بطريق الإلقاء في القلب والنفث في الروع ويكون في اليقظة كما يكون في المنام.
2 -
الكلام من وراء حجاب، أي بدون رؤية النبي لرَّبه عز وجل بحيث يسمع كلامه ولا يراه.
3 -
إعلام الله نبيَّه ما يريد أن يبلغه إياه بوساطة الملك.
(ب) الوحى بمعنى الموحى به:
ينقسم هذا النوع من الوحى إلى متلوّ وغير متلوّ:
1 -
فمن الوحى المتلو:
القرآن الكريم الذي جعله الله آية باهرة، ومعجزة قاهرة وحجة باقية على صحة نبوة سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وتكفل - سبحانه - بحفظه من التبديل والتحريف إلى قيام الساعة فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (2).
نزل به الأمين جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بلفظه ومعناه يقظة من غير أن يكون لواحد منهما دخل فيه بوجه من الوجوه، وإنما هو تنزيل من الله العزيز الحكيم قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)} (3) كما أن من الوحى المقروء الكتب السماويةَ المنزلة من الله على الأَنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كالزبور على نبى الله داود، والتوراة على رسول الله موسى، والإنجيل على رسوله عيسى عليه السلام وقد أصاب هذه الكتب التغيير والتحريف
(1) أي علماء التوحيد.
(2)
سورة الحجر الآية 9.
(3)
سورة الشعراء الآيات من: 192 - 195.
بعد وفاة الأنبياء الذين أُرسلوا إليهم، إذ لم يتكفل الله بحفظها لأنها ليست نهاية التشريع ولا خاتمته، فالتشريع الخاتم جاءَ به النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأَنبياء والمرسلين، ومن هنا كان القرآن الكريم مهيمنا ورقيبا على ما جاء فيها، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} (1).
2 -
الوحي غير المتلو وهو ما يلي:
(1)
السنة النبوية المطهرة لقوله - تعالى -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (2) والسنة الشريفة منزلة من عند الله بالمعنى، أَما لفظها فهو من عند النبي صلى الله عليه وسلم وليست معجزة بألفاظها وأسلوبها ولا متعبدا بتلاوتها كالقرآن الكريم، ولا تصح الصلاة بها بخلاف القرآن العطيم، فإنه معجزة في ألفاظه، متعبد بتلاوته، ولا تصح الصلاة بدونه.
هذا، ومن الوحى: اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الله - جل شأنه - يقره عليه إذا أصاب، وينبهه ويرشده إلى الخطأ إن أخطأ، ولا يقره عليه بل يدله على الصواب.
وفي عصرنا الحديث - ظهر بعض المسلمين الذين ينكرون العمل بالسنة وقد أخبر الرسول عنهم بذلك فقد روى أبو داود والترمذى وابن ماجة عن المقدام بن معد يكرب أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألَا إني أوتيتُ القرآن ومثله معه، ألَا يوشك رجل شبعان على أريكته فيقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتُم فيه من حلالٍ فأحِلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحَرِّموه، ألَا إنّ ما حرَّم رسول الله كما حرم الله".
(ب) الحديث القدسى: وهو ما كان مضافا إلى الله - تعالى - كقوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: "يا عبادى إنِّى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا" وهو كالحديث النبوى معناه من عند الله، أما لفظه فقيل: إنه من عند الرسول صلى الله عليه وسلم ونسب إلى الله - سبحانه - لأنه موجه منه - جل شأنه - إلى عباده ولزيادة الاهتمام بمضمونه، وحث النفوس
(1) سورة المائدة، من الآية 48.
(2)
سورة النجم، الآيتان 3، 4.
على العمل بما اشتمل عليه من المعاني والآداب. وقيل: غير ذلك من الأقوال التي لا تخرجه عن كونه وحيًا، وقد يطلق الوحى على غير ما جاء من عند الله إلى رسله، كأن يُطلق ويراد منه الإلهام، مثل قوله - تعالى -:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (1) كما يطلق ويراد منه التسخير مثل قوله - تعالى - {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} (2) وبعد هذه المقدمة نعود إلى شرح الآية ومفرداتها كما يلي:
المفردات:
{وَحْيًا} : إلقاء في القلب.
{أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} : أو يكلمه من وراه حجاب دون أن يراه.
{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} : أو يبعث الله الملك للأنبياء ليبلغهم ما أمر الله به.
{عَلِيٌّ} : متعال عن صفات المخلوقين.
{حَكِيمٌ} : يجرى - سبحانه - أفعاله على سَنَن الحكمة.
روى في سبب نزول هذه الآية: أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيًّا كما كلمه موسى، ونظر إليه، فإنا لا نؤمن لك حتى تفعل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم ينظر موسى إلى الله فنزل قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا .... } إلخ.
التفسير
51 -
(1) سورة القصص الآية 7.
(2)
سورة النحل الآية 68.
أي: وما صح وما استقام لفرد من أفراد البشر أن يكلمه الله إلَاّ نفثا وإلقاء في قلبه مناما - كما حصل لإبراهيم عليه السلام حينما أمر بذبح ولده قال - تعالى - حكايته عن ذلك: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} (1).
وقد حصل الوحى بالنفث والإلقاء في القلب لرسولنا صلى الله عليه وسلم فقد ورد أنه قال: "أن روح القدس نفث في رُوعِي أن نفْسا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجْمِلوا في الطلب، خذوا ما حلَّ ودعوا ما حَرُمَ".
{أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي: أن يسمع الرسول الكلام من غير أن يبصر من يكلمه والمراد أن السامع محجوب عن رؤية ربه - جلت قدرته - في الدنيا أما في الآخرة فيمنحها الله للذين قال في حقهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (2).
وقد حصل الوحى من وراه حجاب لموسى عليه السلام في بدء رسالته وقد رأى نارا فطلب من أهله المكث والبقاء في مكانهم حتى يستطلع الأمر قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} (3) وقد حدث ذلك له أيضًا عند مجيئه لميقات ربه قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} (4) الآية أما رسولنا فقد كلمه ربه من وراء حجاب ليلة الإسراء والمعراج عند فرض الصلاة ومراجعته ربّه عز وجل في التخفيف عن أمته في عدد الصلوات.
كما كلم الله سبحانه وتعالى ملائكته من وراء حجاب في أمر خلق آدم عليه السلام وجعله خليفة في الأرض، قال تعالي:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} (5).
(1) سورة الصافات، من الآية 102.
(2)
سورة القيامة الآيتان 22، 23.
(3)
سورة طه الآية 11 وجزء من الآية 12.
(4)
سورة الأعراف من الآية 143.
(5)
سورة البقرة من الآية 30.
{أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} أي: أو يبعث الله - تعالى - ملكا رسولًا كجبريل عليه السلام إلى أنبيائه فيسمع الأنبياء صوت الملك، وتارة يرونه عيانًا في صورة بشر كما كان يتمثل جبريل عليه السلام لرسولنا صلى الله عليه وسلم في صورة أعرابي أو في صورة الصحابي الجليل دحية الكلبى وتارة أخرى كان يراه الرسول صلى الله عليه وسلم في صورته الحقيقية. وقد يأتى الوحى دون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للملك وإنما يسمع عند قدومه دويًا أو صلصلة شديدة لا يعلم إلا الله كنهها وحقيقتها فيعتريه صلى الله عليه وسلم حالة روحية لا يدرك الحاضرون منها إلا أماراتها الظاهرة مثل ثقل البدن وتفصُّد جبينه الشريف عرقا. روى البخاري رضي الله عنه عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما عن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها أن الحارث بن هشام سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس وهو أشد عليّ فيفصم وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملكُ رجلًا فيكلمنى فأعِى ما يقول، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها ولقد رأيته ينزل عليه الوحى في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينَهُ ليتفصَّدُ عَرقًا".
وتارة يسمع الحاضرون عند وجهه الكريم دويًّا كدوىّ النحل عند مجىء الوحى أخرج الترمذي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل الوحى يسمع عند وجهه كدوىّ النحل"{فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} أي: فيخاطب الملكُ الأنبياء بإذن الله وأمره ما أراد الله أن يبلغه لهم.
{إِنَّهُ عَلِيٌّ} أي: إن الله - جلت قدرته - متعال عن مشابهة الخلق أجمعين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1).
{حَكِيمٌ} : يجرى أفعاله على الحكمة وهي إصابة الحق على أكمل وجه، وخلاصة معنى الآية الكريمة: وما صح ولا استقام أن يكلم الله أحدا من خلقه إلَاّ على صورة من الصور
(1) سورة الشورى من الآية 11.
التي بينتها الآية الكريمة بأن يلقى الله في قلب رسوله وينفث في روعه - منامًا أو يقظة - بما يريده منه، أو يكلمه من وراء حجاب فيسمع الرسول الكلام دون أن يرى شيئًا، أو يرسل الله للأنبياء ملكًا يبلغهم ما أمر به من لدن ربه وديس فوق ذلك ولا دونه وحى ولا تبليغ من الله.
فما يدعيه المنجمون إنما هو الرجم بالغيب، وكذلك ما يخبر به الجن، والله - سبحانه - متعال ومنزه عن مماثلة ومشابهة الخلق أجمعين، يجرى أفعاله على مقتضى حكمته الرشيدة.
المفردات:
{رُوحًا} : قرآنًا وقيل: غير ذلك.
{مِنْ أَمْرِنَا} : من لدنا.
{نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} : نخلق ونوجد الهداية بإرادتنا إلى من نختاره من عبادنا الذين آثروا الحق على الباطل.
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} : وإنك لترشد وتدل.
{إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} : إلى طريق معتدل موصل إلى المطلوب لا يضل من يسلكه.
{أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} : إلا إلى الله وحده لا إلي غيره يرجع شأن الخلق وأمورهم كلها يوم القيامة.
التفسير
52 -
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ
…
} الخ الآية:
أي: ومثل إيحائنا إلى الأنبياء من قبلك، أوحينا إليك يا محمد القرآن العظيم الذي هو من أمرنا ومن شأننا، - أوحيناه - كما شئنا على من شئنا بهذا النظم المعجز والتأليف المحكم. وسمى القرآن الكريم روحًا لأن الله يحيى به القلوب والنفوس من موت الجهل والغفلة والضلال.
وقال ابن عباس روحًا: نبوة. وقال الحسن وقتادة: رحمة من عندنا، وقال الربيع: جبريل والأول أولى وأظهر.
{مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} أي: ما كنت يا محمد تعلم ما هي الكتابة لأنك من قوم أُميين لا يعرفونها، ولا تعرف ما هو الإيمان حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك أهل الكتاب، وهو كقوله تعالي:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} (1) - روى هذا المعنى عن ابن عباس فإنه لم يكن قبل بعثته وتنبيئه يعلم أنه سيكون رسولًا، وكذلك لم يكن على دراية ومعرفة بالملائكة والعالم العلوى: وما أطلعه الله عليه وعلمه إياه بعد النبوة من الشرائع والأحكام، وهذا لا ينفى أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنًا بربه قبل النبوة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتعبد في الغار كما روى أنه قال للراهب بحيرا في أثناء رحلته إلى الشام حين استحلفه الراهب باللات والعزى، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"لا تسألنى بهما فوالله ما أبغضت شيئًا قط بغضهما". وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام لم يسجد لصنم ولا أشرك باللهِ. ولا زنى ولا شرب الخمر، ولا شهد ما كانوا يجتمعون عليه ويسمرون فيه، ويأتون ما يباح وما يحرم، قال صلى الله عليه وسلم:"لما نشأت بُغضت إليّ الأوثان وبُغض إلي الشعر ولم أهم بشىء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمنى الله منهما ثم لم أَعُد".
وهذا شأن كل الأنبياء فقد اصطفاهم ربهم واختارهم وما عرفوا بشرك أو كفر قبل النبوة وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء.
(1) سورة العنكبوت: الآية 48.
{وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} أي: ولكن جعلنا القرآن الكريم وأنزلناه نورًا ونبراسًا نضىءُ به الطريق لعبادنا ليكونوا على بينة من أمرهم، ونوجد ونخلق به الهداية فيمن نريد هدايته من عبادنا فنجعله راشدًا مهديًا وذلك وفق اختيار العبد وصرف نفسه نحو الاهتداء بكتاب ربه والاهتداء بما جاء به.
{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مستقيمٍ} أي: وإنك يا محمَّد لتدل وترشد إلى صراط سوى وسبيل قويم وحقيقة سمحاء ودين خالص، فهدايتك هداية إرشاد وتبليغ فحسب، قال تعالى:{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} (1) وقال - جل ثناؤه -: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} (2) وتفخيمًا لشأن هذا الصراط المستقيم وتقريرًا لاستقامته واعتداله وتأكيدًا لوجوب سلوكه نسبه - سبحانه - وأضافه إلى نفسه فقال: {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وَوَصَفَ عز وجل ذاته بأنه له - وحده - ما فيهما خلقًا وملكًا وتصرفًا فيما نعلم منهما وما لا نعلم فكل شيء تحت قبضته وقهر عظمته.
{أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} أي: أَلَا إلى الله وحده دون سواه ترجع أمور المخلوقات جميعًا يوم القيامة ليحكم فيها - سبحانه - بحكمه العادل وقضائه المبرم فالوسائط قد ارتفعت والناس كلهم قد جُردوا من حولهم وقوتهم فقد سلبوا الأسباب التي كانت لهم في الدنيا.
وفي هذا من الوعد للمهتدين إلى الصراط المستقيم بالثواب المقيم والفوز العظيم، كما فيه من التهديد والوعيد بالعذاب الشديد للضالين المكذبين.
(1) سورة القصص من الآية 56.
(2)
سورة المائدة من الآية 99.