الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تفسير سورة الطور
هذه السورة مكية كما رُوِيَ عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله عنه ولم نقف على استثناء شيء منها، وهي تسع وأربعون آية.
ومناسبة أولها لآخر ما قبلها اشتمال كل منهما على الوعيد.
وقال الجلال السيوطى: وجه وضعها بعد الذاريات تشابههما في المطلع والمقطع، فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار، ولا يخفى ما بين السورتين الكريمتين من الاشتراك في غير ذلك: كالدعوة إلى وحدانية الله وترك الشرك، وهو المقصد الأول من مقاصد القرآن، بل من مقاصد جميع الأديان.
مقاصد السورة:
يقسم الله - تعالى - في أول سورة الطور بخمسة أشياء لها شأن عظيم على وقوع العذاب يوم القيامة بالمكذبين، ثم تمضى آيات السورة مبينة بمعنى ألوانه وضروبه، بعض التغييرات الكونية والآيات الإلهية التي تقع في ذلك اليوم (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) ثم تنتقل إلى ذكر ما أعده الله للمتقين من جنات ونعيم وما يتلذذون به ويلقونه عن صنوف التَّكريم، حيث يلحق الله بهم ذريتهم المؤمنة ويرفعهم إلى درجتهم لتقرّ بذلك عيونهم ويتم سرورهم.
ثم تدعو الآيات رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المداومة على التذكير؛ فهذه رسالته في وهو - بفضل ما أنعم الله به عليه من النبوة ورجاحة العقل - ليس بكاهن ولا مجنون ولا شاعر، كما تدعوه إلى عدم الالتفات إلى ما يتقوّله عليه المتقولون، وعدم المبالاة بما يصفون به القرآن الذي عجزوا عن الإتيان بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا. ثم تأخذ الآيات في توبيخ الكافرين والمشركين وتقبيح آرائهم الضالة، وتسفيه معتقداتهم الفاسدة، مظهرة ضلالهم
معلنة سوء تقديرهم، آمرة الرسول بأن يدعهم غير مكترث بهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون، يوم لا يغنى عنهم مكرهم شيئًا من العذاب ولا هم ينصرون، فإن للذين كفروا عذابًا في الآخرة غير العذاب الذي يصيبهم في الدنيا، ولكن أكثرهم لا يعلمون.
وتختم السورة بأمر الرسول بالصبر لحكم ربه؛ فهو في عنايته وكلاءته، وبالتسبيح بحمده (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ).
بسم الله الرحمن الرحيم
(وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16))
المفردات:
(الطُّورِ): جبل بسيناء.
(كِتَابٍ مَسْطُورٍ): مكتوب على وجه الانتظام.
(رَقّ): ما يُكتب فيه جلدًا أو غيره.
(مَنْشُورٍ): مبسوط ظاهر.
(الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ): هو بيت في السماء السابعة اسمه الضُّراح، وقيل: الكعبة.
(السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ): السماء.
(الْبَحْرِ الْمَسْجُور): الموقد أو المملوء نارًا يوم القيامة.
(لَوَاقِعٌ): لنازل وكائن على شدة.
(تَمُورُ): تضطرب، وبه قال ابن عباس، أو تدور كالرحى، وبه قال مجاهد.
(فِي خَوْضٍ (1)): في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب.
(يُدَعُّونَ): يدفعون بعنف وشدة.
(اصْلَوْهَا): ادخلوها وقاسوا حرّها وشدائدها.
التفسير
يقسم الله - تعالى - بمخلوقاته الدّالة على قدرته العظيمة إن عذابه لواقع بأعدائه لا محالة وإنه لا دافع له عنهم.
1 -
(والطور):
أي: ومن جملة ما يقسم الله به الطور، وهو الجبل الذي يكون فيه أشجار، مثل الجبل الذي كلَّم الله موسى عنده فإن لم يكن فيه شجر لا يسمَّى طورا وإنما يقال له جبل، والمراد به هنا جبل سيناء ويسمى طور سيناء.
(1) أصل الخوض: المشى في الماء، ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء، وغلب في الخوض في الباطل، قال - تعالى -:(وخضتم كالذى خاضوا) سورة التوبة من الآية 69.
2 -
{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} :
ويقسم الله بكتاب مسطور، أي: مكتوب على وجه الانتظام؛ فإنَّ السَّطر ترتيب الحروف المكتوبة، والمراد به على ما قاله الفرَّاءُ: الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال ويُعطاه العبد يوم القيامة بيمينه أو شماله، وهو المذكور في قوله - تعالى -:{وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (1) وقيل: هو اللَّوح المحفوظ، وقيل: هو القرآن وغيره من الكتب السماوية المنزلة المكتوبة في صحف مُيسرة للقراءة يقرؤها الناس جهارًا ولهذا قال: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} .
3 -
ويقسم - سبحانه - وتعالى بالرّق المنشور، والرّق: ما يكتب فيه جلدا أو غيره، ونشره: بسطه وظهوره للناس يرجعون إليه ويهتدون بهديه ويقرأونه بسهولة ويسر.
وقيل: وصفه بالنشر والظهور للإشارة إلى صحّة الكتاب وسلامته من الخطأ حيث جُعل مُعرَّضًا لنظر كل ناظر مع الأمن عليه من الاعتراض لسلامته.
4 -
{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} :
ويقسم الله - تعالى - بالبيت المعمور، قال ابن كثير: ثبت في الصَّحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعد مجاوزته للسَّماء السَّابعة: "ثُمَّ رُفع بي إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كلّ يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه": فهو في السماء يتعبّد فيه الملائكة ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، وقال الحسن: هو الكعبة وعمرانها بالمُجاورين عندها والحجّاج إليها.
5 -
{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} :
ويقسم الله - تعالى - بالسقف المرفوع وهو السماء كما رواه جماعة وصحّحه الحاكم عن علي - كرم الله وجهه - وبه قال سفيان وتلا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} (2).
(1) سورة الإسراء، من الآية:13.
(2)
الأنبياء، الآية:32.
وعن ابن عباس: هوالعرش، وهو سقف الجنَّة، أو سقف لجميع المخلوقات.
6 -
{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} :
ويُقسم الله بالبحر المسجور، والجمهور على أنَّ المراد به بحر الدنيا، وبأَن المسجور بمعنى الموقد نارا قال - تعالى -:{وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} (1) أي: أضرمت فتصير نارا تتأجج محيطة بأهل الموقف: رواه سعيد بن المسيب عن علي - كرم الله وجهه - وقيل المسجور: المملوء.
والواو الأُولى في قوله - تعالى -: {وَالطُّورِ} للقسم، وما بعدها للعطف كما قال أبو حيان، والجملة المقسم عليها قوله - تعالى -:{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} .
7 -
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} :
هذا هو المقسم عليه بما سبق، أي: إن عذاب ربك الذي توعد به الكافرين لكائن لا محالة على شدة، كأنَّهُ مهيّأ ومعدّ في مكان مرتفع فيقع وينزل على من يحلّ به من مستحقيه من الكفار والمكذبين، وفي إضافة العذاب إلى لفظ الرب مع إضافة الرب إلى ضميره عليه الصلاة والسلام أمان له صلى الله عليه وسلم وإشارة إلى أن العذاب واقع بمن كذَّبه.
8 -
عن جعفر بن زيد العبديّ قال: خرج عمر يَعُسُّ (2) في المدينة ذات ليلة فمرّ برجل من المسلمين فوافقه قائمًا يُصلي، فوقف يستمع قراءته، فقرأ {وَالطُّورِ} حتى بلغ {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)} قال: قسم - وربّ الكعبة - حقّ، فنزل عن حماره، واستند إلى حائط فمكث مليًّا، ثم رجع إلى منزله فمكث شهرًا يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله عنه.
وأخرج أحمد وسعيد بن منصور وابن سعد عن جبير بن مطعم قال:
قدمت المدينة على رسول الله لأُكلِّمه في أُسارى بدر، فدُفِعْت إليه وهو يُصلِّي بأصحابه صلاة المغرب؛ فسمعته يقرأ:{وَالطُّورِ} إلى قوله - تعالى -: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ
(1) سورة التكوير، الآية:6.
(2)
أي: يطوف بالليل، وهو من باب رد: مختار الصحاح.
مِنْ دَافِعٍ} فكأنَّمَا صدع قلبي، وفي رواية فأَسلمت خوفًا من نزول العذاب، وما كنت أظنّ أن أقوم من مقامي حتّى يقع بي العذاب. والمعنى: ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك.
9، 10 - {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}:
يحكي القرآن بعض التغيرات الكونية والآيات الإلهية التي تحدث في يوم القيامة فيقول: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} ويوم: ظرف للعذاب الواقع الذي ليس له دافع أي: يقع ذلك العذاب ويحدث يوم تضطرب السماء اضطرابًا شديدًا، وتدور كالرّحى ويموج بعضها في بعض، ولمّا ذكر من مشاهد يوم القيامة ما يحدث للسماء ذكر ما يحدث للأرض فقال:{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} أي: وتنتقل الجبال من مقارِّها وتتحرك تحركًا ظاهرًا، وتذهب فتصير هباءً منبثًّا وتُنسفُ نسفًا، والإتيان بالمصدرين في (مَوْرًا وسَيْرًا) للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة والأعراف المألوفة؛ لأن ذلك من أحوال يوم القيامة، أي: تمور السماء مورًا عجيبًا، وتسير الجبال سيرًا غريبًا لا يدرك كنههما.
11، 12 - {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ}:
{فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي: إذا وقع ذلك، أو كان الأمر كما ذكر فويل في ذلك اليوم للمكذبين بالحق من عذاب الله ونكاله بهم وعقابه لهم.
{الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي: الذين هم في أباطيلهم وأكاذيبهم يلهون ويعبثون، وغلب الخوض في الاندفاع في الباطل والكذب.
13، 14 - {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}:
{يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي: يوم يُدفعون إلى جهنَّم دفعًا عنيفًا بأن تُغلّ أَيديهم إلى أعناقهم وتُجمع نَوَاصِيهم إلى أقدامهم فيُدفَعُون إلى النَّار دفعًا على وجوههم.
{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي: وتقول لهم الزبانية - تقريعًا وتوبيخًا -: هذه النار التي كنتم بها تكذِّبُون في الدنيا، ومثلها في التكذيب بها تكذيبهم بالوحي النَّاطق بها.
15 -
{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} :
استفهام قصد به التقريع والتهكم بهم، كأنه قيل: كنتم تقولون للوحي الذي أنذركم: هذا سحر، أفهذا الذي تشاهدونه من العذاب في النَّار سحر أيضًا؟ أم أنتم عمى عن المخبر به كما كنتم في الدنيا عميًا عن الخير؟.
16 -
أي: ادخلوا النار وقاسوا شدائدها وذوقوا حرّها، فافعلوا ما شئتم من الصّبر وعدمه وسواء أصبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها والأمران (الصّبر وعدمه) سواء عليكم في عدم النَّفع، إذ كل لا يدفع العذاب ولا يُخففه وإنَّما تُلَاقون اليوم في الآخرة جزاءَ ما كنتُم تعملون في الدُّنيا.
وقوله - تعالى -: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليل للاستواء، فإن الجزاء لمّا كان مُحتم الوقوع لسبق الوعيد به وقضائه سبحانه وتعالى إيّاه بمقتضى عدله {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} (1) كان الصبر وعدمه مُسْتويين في عدم النفع.
ووجّه الزَّمخشري كَوْنَ قوله - تعالى -: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تعليلا للاستواء فقال: لأن الصّبر يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة بأن يُجازى عليه الصّابر جزاء الخير، فأمّا الصّبر على العذاب - الذي هو الجزاء - ولا عاقبة له ولا شفعة فيه، فلا مزية له على الجزع.
(1) سورة الكهف، من الآية:49.
المفردات:
{فَاكِهِينَ} : متلذذين ناعمين.
{مَصْفُوفَةٍ} : موصول بعضها ببعض باستواء حتى يصير صفا.
{وَزَوَّجْنَاهُمْ} : وقرنَّاهم.
{بِحُورٍ} : حُورٍ: جمع حوراء، من الحَوَر: وهو شدة بياض العين في شدة سوادها، وامرأة حوراء بيِّنة الحَوَر.
{عِينٍ} : جمع عيناء، وهي المرأة واسعة العين، أي: وقرنَّاهم بنساء واسعات العيون حسانها.
التفسير
17 -
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} :
شُروع في ذكر حال المؤمنين وما أُعدّ لهم من نعيم مقيم بعد ذكر حال الكفَّار وما أعدّ لهم من عذاب أليم كما هو نسق القرآن وطريقته في التَّرغيب والتَّرهيب.
والمعنى: إن المتقين المطيعين لله العاملين بشرعه الَّذِين جعلوا لهم بعقيدتهم وسلوكهم وقاية من النار، في جنات فسيحات لا يحاط وصفها ونعيم عظيم لا يقادر قدره، والتنوين في الموضعين {فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} للتعظيم، ويجوز أن يكون للتنويع، أي: نوع من الجنات ونوع من النعيم مخصوصين بهم، ويجوز أَن تكون الآية من جملة القول للكفَّار إذ ذاك زيادة في غمِّهم وحزنهم وتكديرهم.
18 -
{فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} :
أي: مُتنعِّمين مُتلذِّذين بما أعطاهم ربهم من أنواع الإحسان والنعيم وبما منحهم من أصناف الملاذِّ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك، وقد نجّاهم الله من عذاب النار وتلك نعمة مستقلة بذاتها مع ما أُضيف إليها من نعمة دخول الجنة التي فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وإظهار لفظ الرّب في موضع الإضمار مضافًا إلى ضميرهم في قوله - تعالى -: (رَبُّهُم) للتشريف والتعليل.
19 -
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} :
أي: ويقال لهم: كلوا واشربوا أكلا وشربًا هنيئًا، أو طعامًا وشرابًا هنيئًا لا تنغيص فيه، ولا يلحقكم فيه مشقَّة ولا يُعقِب وخامة، جزاءَ ما كنتم تعملون في الدُّنيا من عمل صالح.
20 -
{مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} :
أي: متكئين على سرر مجعولة على صف وخط مستقيم مع تقابل وجوه بعضها إلى بعض لتعدّد الصفوف كما قال - تعالى -: {عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} (1) وجعلنا لهم قرينات صالحات وزوجات حسانًا من الحور العين. قال الراغب: لم يجىء في القرآن: زوجناهم حورًا كما يقال زوجته امرأة تنبيها على أن ذلك لا يكون على حسب المتعارف فيما بيننا من المناكحة، وقال الفَّراء: تزوجت بامرأة: لغة (أزد شنوءة).
(1) سورة الصافات، الآية:44.
المفردات:
{وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} : وما نقصنا الآباء بسبب إلحاق الأبناء بهم.
والفعل (أَلَتْ) من باب: ضرب، وعلم، وبهما قرئ.
{رَهِينٌ} : مرهون عند الله بعمله.
{يَتَنَازَعُونَ} : يتجاذبون ويتعاورُون، وقيل: التَّنازع مجاز عن التَّعاطي.
{كَأْسًا} : (1) إناءً به خمر، والكأْس مؤنث سماعي كالخمر.
{لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} : لا كلام ساقط أثناء شربها، ولا فعل يستوجب الإثم، وقال مجاهد: لا يستبُّون ولا يُؤثَّمُون.
التفسير
21 -
كلام مستأنف مسوق لبيان حال طائفة من أهل الجنَّة.
والمعنى: والذين آمنوا واستحقُّوا درجات عالية، واتَّبعتهم ذريتهم بإيمان ولم يبلغوا درجات الآباء، ألحقنا بهم ذريتهم في الدرجة، وإن كانوا لا يستأهلونها تفضّلا عليهم وعلى آبائهم، ليتم سرورهم ويكمل نعيمهم، وما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق من ثواب عملهم شيئًا بأن أعطينا الأبناء بعض مثوباتهم، وإنما رفعنا منزلة الأبناء إلى منزلة الآباء بمحض التفضل والإحسان، ولما أخبر - سبحانه - عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذّرية، إلى منزلة الآباء من غير عمل منهم يقتضي ذلك أخبر عن مقام العدل، وهو أنَّه لا يؤاخذ أحد بذنب أحد، فلا يحمل الآباء شيئًا من أخطاء ذرَّيتهم؛ لأنَّ كلَّ إنسان مرهون بعمله لا يؤخذ به غيره، فقال:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} .
(1) قال الراغب: الكأس: الإناء بما فيه من الشراب ويسمى كل واحد بانفراده كأسًا، ولكن المشهور أنها لا تسمى كأسًا إلا إذا امتلأت خمرًا أو كانت قريبة من الامتلاء (آلوسى).
والآية الكريمة تفسير إلى أن الكسب بمنزلة الدَّين، ونفس العبد بمنزلة الرهن، ولا يفك الرهن ما لم يؤد الدَّين، فإن كان العمل صالحًا فقد أدّى؛ لأن العمل الصالح يقبله ربُّه سبحانه وتعالى ويصعد إليه عز وجل وإن كان غير ذلك فلا أداء ولا خلاص إذ لا يصعد إليه - سبحانه - غير الطيب، أخرج سعيد بن منصور وابن جرير والحاكم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال:"إن الله ليرفع ذريَّة المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كانوا دونه في العمل لتقرّ بهم عينه، ثم قرأ الآية" وفي رواية الطبراني وابن مردويه عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل الرجل الجنَّة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال له: إنَّهم لم يبلغوا درجتك وعملك، فيقول: يا ربّ قد عملت لي ولهم فيؤمر بإلحاقهم به، وقرأ ابن عباس الآية".
والآية على ما ذهب إليه كثير من المفسِّرين في الكبار من الذُّريَّة، وقال منذر بن سعيد: هي في الصِّغار.
ورُوي عن الحبر والضحاك أنهما قالا: إنَّ الله يلحق الأبناء الصغاري وإن لم يبلغوا زمن الإيمان بآبائهم المؤمنين، وجعل {بِإِيمَانٍ} على هذا الرأي متعلقًا بألحقنا، أي: ألحقنا بالآباء المؤمنين الصالحين ذُريتهم الصِّغار الذين لم يبلغوا التكليف - أو كانوا كبارًا مكلفين مؤمنين ولكنهم لم يبلغوا درجة آبائهم في العمل الصالح، والبعد عن المعاصي - آلحقناهم بآبائهم في درجتهم في الجنة إكرامًا لهم، ولنكمل بهم مسرتهم:
22 -
{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} :
أي: وزدناهم على ما كان لهم من مظاهر النِّعم في وقت بعد وقت بفواكه كثيرة ولحوم من أنواع شتى مما يُستطاب ويُشتهى وإن لم يُصَرِّحوا بطلبه.
23 -
{يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} :
أي: يتجاذبُون في الجنة - تجاذبُ مُلاطفة ويتعاطون تعاطي توادّ - كأسًا مليئة بالشراب لا يكون منهم بِشُرْبها كلام باطل من لغو الحديث وسقط الكلام ولا عمل فاحش يستوجب
الإثم فاعله كما هو دَيْدَنُ النَّدامى في الدنيا، وإنما ينطقون بالحكم وأحاسن الكلام ويفعلون ما يفعل الكرام. والله أعلم.
المفردات:
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ} : يخدمهم غلمان مترددون عليهم.
{مَكْنُونٌ} : مصون ومحفوظ في صدفه.
{مَكْنُونٌ} : أرقاء القلوب من خشية الله.
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} : فتفضل علينا كرمًا منه.
{السَّمُومِ} : النار الشديدة الحرارة، وسميت سموما؛ لأنها تخترق مسام الجلد.
التفسير:
24 -
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} :
بعد أن ذكر الله النعيم الذي تفضل به على أهل الجنة أتبعه نعمًا أخرى، وأولها يتضمنه قوله - تعالى -:{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} أي: ويقوم على خدمتهم من آن لآخر ولدان لهم لم يصلوا إلى درجة البلوغ، وفي ذلك مزيد إيناس لمن يخدمهم.
وفي قوله - تعالى -: {غِلْمَانٌ لَهُمْ} ما يشير ويوحي بأن هؤلاء الولدان قد خصهم الله بأُولئك المخدومين في الآخرة لا ينفكون عن خدمتهم ولا ينقطعون عن تبعيتهم لهم وأنهم مع تلك الخصال الطيبة على الصورة الحسنة والمنظر البهيج كأنهم اللؤلؤ المصون في صدفه صفاء وبياضًا ونقاء ونفاسة، هذا هو شأن الخادم، فما بالك بالمخدوم.
أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر عن قتادة قال: بلغني أنه قيل: يا رسول الله هذا الخادم مثل اللؤلؤ فكيف بالمخدوم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "والذي نفسي بيده إن فضل ما بينهم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب".
25 -
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} :
أي: وأقبل كل واحد منهم على أخيه بوجهه، وقد امتلأ بشرًا وحبورًا، يسأل كل واحد منهم أخاه ورفيقه في الجنة كما يسأله أخوه، كل يسأل عن الأحوال والأعمال التي استوجبت ما هم فيه، يسأله سؤال تلذذ وفرح بما ينعمون من ثواب حسن عظيم، لا يشوبه خوف من انقطاع أو إشفاق من نقصان فيجيبون على هذا التساؤل بما حكاه عنهم في قوله:
26 -
{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} :
أي: قال كل واحد منهم: إنا كنا في الدنيا بين أهلينا وأولادنا لا يشغلنا عن مولانا وإلهنا شىءٌ، كنا خائفين من عصيانه، رقاق القلوب من خشيته، منصرفين إلى طاعته، وجِلين من عاقبة الأمر ونهاية المطاف وهو اليوم الآخر.
27 -
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} :
أي: فتفضل علينا بمنِّه وكرمه وحفظنا وجعلنا في وقاية من عذاب النار وسعيرها، وكانت الجنة هي دار المقام لنا؛ لأنه في الآخرة: إما إلى جنة، وإما إلى نار، وليس فيما حل بنا من حفظ وما أُقمنا فيه من كريم المنزل والمقعد الصدق عند ربنا ليس لنا في ذلك من فضل، فإن أعمالنا الصالحة بتوفيق الله ومعونته، وهي مع هذا قليلة بالنسبة إلى هذا النعيم وذلك بعد أن زحزحنا - سبحانه - عن النار بفضله وسعة كرمه، قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لن يدخل الجنة أحدٌ منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال:
ولا أنا إلَّا أن يتغمدني الله بفضل رحمته، فسددوا وقاربوا، ولا يتمنينّ أحدكم الموت، إما محسنًا فلعله يزداد خيرًا، وإما مسيئًا فلعله يستعتب" ومهما عبد العبد ربه فآلاء الله التي غمره بها لا تحصى ونعمه لا تعد، وإن أدقّ نعمة من الله علي عبده لتزيد على أضعاف أضعاف ما يؤدى العبد لربه من عبادة وطاعة، ولو كان من خاصة المقربين وقضى حياته ساجدًا لله - تعالى - والسموم: اسم من أسماء النار كما قال الحسن، ثم أشار - سبحانه - إلى كمال تعظيمهم لأمر الله بقوله:
28 -
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} :
أي: إنّا كنا في الدنيا قبل أن نقدم ونصير إليه - سبحانه - لم تشغلنا أولادنا ولا أهلونا ولا أموالنا ولا ما كنا فيه من جاء زائف وسلطان زائل، فكنا ندعوه ونلجأُ إليه ونعبده فهو - جل شأنه - حقيق بالطاعة والانقياد والإذعان لأمره، فهو البر التام الإحسان العميم الفضل إذا عُبد أثاب وإذا سئل أجاب.
المفردات:
{بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} : بسبب تفضل الله عليك بالنبوة وغيرها.
{بِكَاهِنٍ} الكاهن: هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن، والمشاهد أنه يستمد إخباره بالغيب عن الجن، وهذا عن الماضي، أما عن المستقبل فلا سبيل له إليه فقد استأثر الله بعلمه.
{نَتَرَبَّصُ} : ننتظر.
{رَيْبَ الْمَنُونِ} : حوادث الدهر ومصائبه. والمنون: هو الدهر، وقيل: هو الموت.
{أَحْلَامُهُمْ} : جمع حلم وهو العقل.
{طَاغُونَ} : مجاوزون الحد في العناد.
{تَقَوَّلَهُ} : اختلقه من تلقاء نفسه.
التفسير
29 -
{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} :
أي: فدم على التذكير بما أوحاه الله إليك ولا تبال بافتراءاتهم، فإن من أنعم الله عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين فضلا عن أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة أعلاهم رأيًا، وأرجحهم عقلًا، وأبينهم حجة ومنطقًا منذ أن ترعرع وشب إلى أن بلغ الأشد، فما أبعد من كان هذا شأنه عن أن يكون كاهنًا أو مجنونًا، والكاهن يعتمد في إخباره عن الغيب على الجن وبضرب من الظن.
والراغب الأصفهاني في مفرداته خص الكاهن بمن يخبر بالأخبار الماضية الخفية، والعراف بمن يخبر بالأخبار المستقبلة، فضلا على أن الكهان كانوا عندهم من أكثرهم فطنة وهو ضد المجنون الذي لا يعقل، فكيف جمعوا بين هذين الوصفين المتناقضين في افترائهم على الرسول؟!.
30 -
{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} :
المنون: الدهر، من المن، بمعنى القطع؛ لأنه يقطع الأعمار، والريب: مصدر (رابه) إذا أقلقه فيكون المراد حوادث الدهر وصروفه التي تقلق النفوس، أو المراد بالمنون: الموت، وريبهُ: نزولُهُ.
روى أن قريشًا اجتمعت في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيه عليه الصلاة والسلام حتى قال قائل منهم: تربصوا به ريب المنون؛ فإنه شاعر يهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت هذه الآية، وقد نفى الله - تعالى - عنه فقال:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ .. } الآية 41 من سورة الحاقة.
31 -
{قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} :
أي: قل لهم - يا محمَّد متهكمًا بهم مهددًا لهم -: انتظروا موتي ما شئتم فإني أتربص وأنتظر هلاككم وفناءكم كما تتربصون هلاكي {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} .
وفي هذا الأسلوب عِدَةٌ وبشارة لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن الله مهلكهم ومبيدهم. ثم تنتقل الآيات مستهزئة بهم ساخرة منهم ومن عقولهم وذلك في قوله - تعالى -:
32 -
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} :
أي: بل أتأمرهم عقولهم وألبابهم بهذا التناقض في القول، فتارة هو عندهم كاهن؛ وتارة مجنون، وتارة أخرى شاعر، وكانت قريش يُدْعَوْن أهل النهى والأحلام الراجحة، لأن جميع العالم العربي يأتونهم ويخالطونهم، ولكنهم في شأن الرسول أغفلوا عقولهم وأهدروا الاحتكام إليها والعمل بمقتضاها.
وقيل لعمرو بن العاص: ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله - تعالى - بالعقل؟! فقال: تلك عقول كادها الله عز وجل أي: لم يصحبها التوفيق، فلذا لم يؤمنوا وكفروا.
قال الإِمام الآلوسي: وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم، ولعلها تدل على ضد ذلك (بهذا) التناقض في المقال، فإن الكاهن والشاعر يكونان ذوي عقل تام وفطنة وقَّادة، والمجنون مغطى عقله مختل فكره، وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيصَ بيصَ حتى اضطربت عقولهم، وتناقضت أقوالهم، وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون اهـ. ولكل وجهته.
{أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} أي: بل هم قوم مجاوزون الحدود في المكابرة موغلون في العناد، ولا يحومون حول الرشد والسداد، لذلك تناقضوا في وصفه صلى الله عليه وسلم.
33 -
{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} :
أي: بل أيقولون - كذبًا وزورًا -: إن محمدًا اختلق القرآن الكريم من تلقاء نفسه ونسبه إلى ربه بهتانًا وافتراءً، فليس الأمر كما يقولون {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} بل إنهم لا يؤمنون بك ولا بما جئت به مع وضوح الحق لديهم جحدًا واستكبارًا، قال الله - تعالى -:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} .
34 -
{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} :
أي: فليأتوا بكلام يماثله في البلاغة والإعجاز إن كانوا صادقين فيما يدعونه من أنك يا محمَّد أتيت به من عندك؛ فما أنت إلا واحد منهم نشأ بينهم ولم يفارقهم، مع أن بلغاء العرب قد عجزوا وأفحموا - بعد أن تحديتهم - عن الإتيان حتى بسورة من مثله، ومحمد عربي مثلهم ولم يعرف عنه أنه تبارى مع الفصحاء والبلغاء، فإذا كنتم قد عجزتم عن الإتيان بمثله، فمحمد صلى الله عليه وسلم مثلكم يعجز عن الإتيان بمثله، لأنه فوق مستوى البشر أجمعين، لقد كان وعاش أميًّا لا يعرف القراءة والكتابة مثلكم، فلو أنه قدر على نظمه لكان غيره من الفصحاه والبلغاء أقدر على ذلك منه، ومع ذلك بدا عجزهم حتى عن معارضة القرآن بعد أن تحداهم الله وأبان عجزهم فقال:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} .
المفردات:
{خَزَائِنُ رَبِّكَ} الخزائن: هي البيوت التي تُهيأ لجمع أنواع مختلفة من النفائس والذخائر، والمراد بها هنا: مفاتيح الرحمة والرزق وغير ذلك من عظائم النعم.
{الْمُصَيْطِرُونَ} : الأرباب الغالبون والمتسلطون القاهرون.
{سُلَّمٌ} : مُرتقى ومصعد.
{بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} : بحجة بينة.
{مَغْرَمٍ} : من الغرم والغرامة، قال الراغب: ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه.
{مُثْقَلُونَ} : محملون ما يثقلهم ويجهدهم. (كيدًا): مكرا.
{الْمَكِيدُونَ} : الممكور بهم الذين يلقون جزاء مكرهم.
35 -
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} :
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} أي: أم خُلِقُوا هذا الخلق الدقيق العظيم وصوروا هذا التصوير البديع، فجاءُوا على هذا النظام الحسن من استقامة في أبدانهم، ونطق بألسنتهم، وإدراك في عقولهم، وتدبير لأمر معاشهم، واهتداء إلى ما يصلحهم ويحفظهم، أخُلِقُوا هذا الخلق وقدروا التقدير المحكم الذي عليه فطرتهم من غير خالق ومقدر؟
{أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} أي: أم هم الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون الله عز وجل ولا يلتفتون إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وكيف يتصور عقل سليم وفكر مستقيم أن المعدوم يخلق ويوجد سواه فضلًا عن أن يخلق نفسه؟ وهم مع شركهم يعترفون بأن الله هو الذي خلقهم. قال - تعالى -: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) وإذا اعترفوا بأن ثَمَّ خالقًا قد خلقهم وهو الله سبحانه وتعالى فما الذي يمنعهم من الإذعان له بالعبادة دون الأصنام؟ إنه هو التقليد لآبائهم، ومن أجله أهدروا عقولهم، وعاندوا في الإقرار بالحق.
36 -
{أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} :
أي: بل أَهم الذين خلقوا السموات والأرض؟ كلا، إنهم لم يخلقوها بل لم يقفوا على شيء من أسرارها وما تضم من مخلوقات جليلة عظيمة وعديدة، فضلا عن أنهم أقروا بأن الله هو الذي خلقهن فقال - عز من قائل -:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} (2).
37 -
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} :
أي: بل أعندهم وتحت أيديهم ووفق تصريفهم مفاتيح رزق الله ورحمته من النبوة وغيرها من عظائم نعمه ودقائقها فيقسموها على من يشاءُون ويؤثروا بها من يريدون ويمسكوها
(1) سورة الزخرف، من الآية:87.
(2)
سورة الزخرف، الآية:9.
عمن لا يرغبون ولا يحبون؟ فلهذا رأوا أن تكون الرسالة لرجل من القريتين عظيم؟ واستبعدوا النبوة عن محمَّد صلى الله عليه وسلم لفقره.
{أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} أي: بل أهم الأرباب الغالبون والمعبودون القاهرون حتى يدبروا أمر الخلق، وينفردوا بهذا التقدير المحكم والتدبير المتقن، ويعطوا النبوة لمن شاءوا، ويستعيدوها من سواه، إنهم ليسوا كذلك، فالله وحده هو قيوم السموات والأرض وليس له ندٌ ولا شريك.
38 -
{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} :
أي: بل أيَدَّعُونَ أن لهم مرتقى ومصعدًا منصوبًا إلى السماء يستمعون وهم صاعدون فيه إلى كلام الملائكة وما يوحى به إليهم من علم الغيب حتى يعلموا أن الظفر والغلبة والعاقبة لهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ادعوا ذلك وزعموه لزمهم أن يأتوا بحجة واضحة ودليل ظاهر بين يصدق دعواهم، وأنَّى لهم هذا الدليل؟ وليس لهم إليه من سبيل.
39 -
{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} :
هذا إنكار وتوبيخ ووعيد لهؤلاء الذين بلغ بهم التَّدنِّي في السفه والغلو في العناد إلى أن ادعوا أن الملائكة إناث، وأن الله قد اختارها لنفسه وآثرهم بالبنين، وهم لم يشهدوا خلق الملائكة ولم يعرفوا فطرتهم، ولم يقفوا على حقيقتهم حتى يصفوهم بالأنوثة ويزعموا مع ذلك أنهم بنات الله {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (1) وهم يزعمون أن لهم البنين فيختارون لله ما يكرهون، ولهم ما يحبون {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} (2). ليس الأمر كما تزعمون أيها الحمقى - تعالى الله عما تقولون علوا كبيرًا - فهو - سبحانه - منزه عن الشريك والصاحبة والولد.
40 -
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} :
أي: بل أتطلب منهم أجرًا وجزاءً على هدايتك لهم وإرشادهم إلى دين الله الحق تلزمهم بهذا الأجر وتجبرهم عليه، فهم من هذا الغرم الثقيل الفادح المجهد لهم يزهدون في اتباعك
(1) سورة الزخرف من الآية: 19.
(2)
سورة الزخرف الآية: 17.
ويصدون عنك؟ إنك لم تطلب منهم أجرًا على تبليغ رسالة ربك، بل لقد أديت الأمانة وبلغت الرسالة على خير أداءٍ وأفضل تبليغ امتثالًا لأمر ربك، وكنت مع ذلك شديد الشفقة عليهم والرحمة بهم رغبة في إيمانهم.
41 -
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} :
أي: بل أعندهم ولديهم علم ما غاب عن الناس مما هو مسطور في اللوح المحفوظ وغيره ومما استأثر الله بعلمه، فعرفوا أن ما أخبرهم به محمد صلى الله عليه وسلم من أمر القيامة وما فيها من بعث وحساب، ثم جنة أو نار، أعلموا أن ما أخبرهم به الرسول عليه الصلاة والسلام ليس له حقيقة، وإنما هو أمرٌ باطلٌ، وهم لذلك يكتبون للناس بذلك ويخبرونهم؟ ليس هذا لديهم ولا هم في شيءٍ منه.
42 -
{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} :
هذه الآية الكريمة من الأخبار بالغيب؛ لأنها نزلت قبل اجتماع المشركين في دار الندوة قبيل هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وائتمارهم عليه، فمنهم من كان يرى أن يحبس حتى يموت، واقترح آخرون أن يخرج وينفى من ديارهم، ثم اتفقوا جميعًا على أن يختار من كل قبيلة شاب جلد فيضربوا الرسول صلى الله عليه وسلم ضربة رجل واحد فيتفرق دَمُهُ في القبائل فلا يقدر بنو عبد مناف على قتالهم فيقبلون ديته، ولكن الله - سبحانه - أعماهم فهم لا يبصرون، وخرج صلى الله عليه وسلم من بينهم بعد أن حثا التراب عليهم. والمعنى: بل أيريدون الخديعة والمكر بك لينالوا منك ويقضوا عليك، إن الله - سبحانه - لن يمكنهم منك، ولن يصلوا فيك إلى ما يريدون، فالله راعيك وحافظك، أما هم فبسبب كفرهم سينزل الله بهم عاقبة مكرهم، ووبال خداعهم {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} (1) وسيلقون جزاءهم في الدنيا هوانا وقتلا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
(1) سورة فاطر، من الآية:43.
43 -
{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} :
أي: بل ألهم إله خلقهم ورزقهم يحييهم ويميتهم ويعطيهم ويمنعهم غير ربِّ السموات والأرض رب العالمين، فهم لإلههم هذا يدينون بالربوبية ويشركونه مع الله في العبادة، إن الله - سبحانه - تنزه وتعالى عما يشركون فهو الذي تقدس عن أن يكون له شريك أو ند أو نظير.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1).
المفردات:
{كِسْفًا} : قطعة.
{مَرْكُومٌ} : ملقى بعضه فوق بعض.
{فَذَرْهُمْ} : فدعهم واتركهم.
{يُصْعَقُونَ} : يهلكون ويموتون.
(1) سورة الشورى، من الآية:11.
{دُونَ ذَلِكَ} : سوى ذلك.
{لِحُكْمِ رَبِّكَ} : لقضاء ربِّك فيما حملك من رسالته.
{بِأَعْيُنِنَا} : في حفظنا وحراستنا.
{إِدْبَارَ النُّجُومِ} : غيبها وذهاب ضوئها بطلوع الفجر الثاني.
التفسير
44 -
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} :
أي: وإن يروا بأعينهم ويظهر لهم قطعة عظيمة من السماء تسقط عليهم لتهلكهم وتقضي عليهم لقالوا - من فرط طغيانهم وشدة عنادهم -: هذا سحاب متراكم بعضه فوق بعض يحفل بالمطر ويمتلىءُ بالغيث يسقينا ويروينا، ولم يصدقوا أنه كِسْف وقطعة تنزل لعذابهم، وهم بقولهم هذا يتبعون طريق وسنن من كان قبلهم في صلفهم وكبرهم كعاد قوم هود عند ما رأوا سحابًا استقبل أوديتهم فرحوا به واستبشروا وقالوا: هذا يأتينا بالمطر، وقد حكي القرآن الكريم عن رسولهم هود عليه السلام أنه قال لهم:
45 -
{فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} :
أي: اتركهم - يا محمَّد - غير مكترث بهم ولا ملقيًا لهم بالًا حتى ذلك اليوم الذي فيه يلقون حتفهم وهلاكهم. وهو يوم غزوة بدر حيث ينصرك الله نصرًا مبينًا مؤزرًا تطمئن به قلوبكم، ويقهر به عدوكم، ويُلقي الله به الرعب في قلوب من تحدثه نفسه أن ينازلكم أو يتعرض لملاقاتكم.
(1) سورة الأحقاف، من الآية: 24 والآية: 25.
46 -
{يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} :
أي: في هذا اليوم الذي هو يوم بدر لا يفيد ولا يغني عنهم ما مكروا به ودبروه في دار الندوة لإلحاق الأذى برسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكيد والمكر الذي عاونهم فيه إبليس - عليه اللعنة - كما لم ينفعهم ما أعدوه من العدد والعدة لمناصبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم وراء ذلك لا يجدون أحدًا ينصرهم ويمنع عنهم نزول الهزيمة بهم، وقتل سادتهم وشجعانهم وأشرافهم.
47 -
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} :
أي: لا يقف شأن إنزال الهوان والعذاب بهم عند هذا الحد ولا يقتصر على إحاطته بهم يوم بدر، بل وإن لهؤلاء الظالمين أنفسهم بكفرهم، والظالمين غيرهم بالقتل والتعذيب والإذلال، إن لهؤلاء جزاءَ ظلمهم - عذابًا مهينًا غير هذا العذاب الذي نزل بهم وهو ما يصيبهم من القحط والجدب في السنين السبع التي أكلوا فيها الجيف، وردئ الطعام ومُرَّه، أو ما يلقونه من مصائب الدنيا وعذاب القبر، وهم عن ذلك في غفلة، وأكثرهم لا يعلمون ما سيحل بهم من الوبال والهلاك، وبعضهم يعرفه ويعلمه غير أنه يصر على الكفر والضلال عنادًا وكبرًا وصدًّا.
48 -
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} :
أي: اصبر - يا محمَّد - على ما حملك الله من رسالته، وما يتبع ذلك مما ابتلاك الله به من سفه قومك وإعراضهم {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما يحدث منك وما يفعله أعداء الله بك، فنحفظك ونرعاك ونحرسك، وفي التعبير بصيغة الجمع في قوله - تعالى -:{بِأَعْيُنِنَا} للدلالة على المبالغة في الحفظ، كأن معه من الله - تعالى - حُفَّاظًا يكلؤُونه بأعينهم، وقال الإمام الآلوسي نقلا عن العلامه الطيبي: إنما أفرد هناك - يعني في سورة طه - فقال في شأن موسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} لإفراد الفعل هناك وهو كلاءَة موسى "رعايته وحفظه" وهنا لما كان لتصبير الحبيب - يعني محمَّدا، صلى الله عليه وسلم على المكابد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها
أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه عز وجل ثم قال: ومن نظر بعين بصيرة علم من الآيتين الفرق بين الحبيب والكليم - عليهما أفضل الصلاة والتسليم - وفي هذا وعد للرسول صلى الله عليه وسلم بالنصر والحفظ والرعاية، وبشارة للمسلمين بالظفر والأمان.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي: نزه ربَّك وقدِّسه، قال عون بن مالك وابن مسعود وغيرهما: المراد: يسبح الله حين يقوم من مجلسه فيقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك، فإن كان المجلس خيرًا ازددت ثناءً حسنًا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له، ودليل هذا ما أخرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلَّا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلَّا غفر له ما كان في مجلسه ذلك" وقيل: المعنى: حين تقوم من منامك، قال حسان بن عطية: ليكون متفتحًا لعمله بذكر الله، وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل:"اللهم لك الحمد؛ أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، وأنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنَّار حق، والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت، وبك آمنت، وإليك أنت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وأسررت وأعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلَّا أنت ولا إله غيرك" متفق عليه.
وعن ابن عباس أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل مسح النوم عن وجهه، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران.
49 -
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} :
أي: وفي بعض الليل نزه ربك وقدِّسه وعظمه، وخص - سبحانه - بعض الليل وأفرده بالتسبيح والتقديس له - جل شأنه - لأن العبادة في جوف الليل أشق على النفس وأبعد عن الرياء، ويجوز أن يراد بالتسبيح هنا: الصلاة في الليل والتهجد فيه، وهذه الصلاة من خصوصياته صلى الله عليه وسلم الواجبة عليه وحده، والصلاة تسمى تسبيحًا لما فيها من التسبيح لله، ومنه سُبحة الضحى، أي: صلاة الضحى {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} : هو ذهاب ضوئها إذا طلع الفجر الثاني، وهو البياض المنشق من سواد الليل، والمراد به: صلاة ركعتين قبل الفجر، وهذا مروي عن كثير من الصحابة كعمر وعلي وأبى هريرة وغيرهم رضي الله عنهم جميعًا - كما هو مأثور أيضًا عن كثير من التابعين كالحسن البصري والنخعى والشعبي وغيرهم، كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: بت ليلة عند النبي صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة فقال:"يا بن عباس، ركعتان قبل الفجر إدبار النجوم، وركعتان بعد المغرب إدبار السجود" وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح. وعنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها. والله أعلم.