المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌سورة الفتح ‌ ‌(وهي مدنية وآياتها تسع وعشرون) ‌ ‌مناسبتها لما قبلها قال العلامة الآلوسي: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ سورة الشورى

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌ سورة الزخرف

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌ سورة الدخان

- ‌أهم أهداف السورة:

- ‌ سورة الجاثية

- ‌أهدافها:

- ‌ سورة الأحقاف

- ‌هذه السورة مكية وآياتها خمس وثلاثون

- ‌صلتها بما قبلها

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سبب تسمية السورة بهذا الاسم:

- ‌سورة محمد

- ‌أهم أهداف السورة:

- ‌سورة الفتح

- ‌(وهي مدنية وآياتها تسع وعشرون)

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌مقدمة:

- ‌سورة الحجرات

- ‌مدنية وآياتها ثماني عشرة

- ‌مجمل معانيها:

- ‌وجه ارتباطها بما قبلها:

- ‌السبب العام لنزول هذه السورة:

- ‌الأسباب الخاصة لنزول آياتها:

- ‌قتال علي ومعاوية:

- ‌رأى علي فيمن قاتلوه:

- ‌كيف تكون التوبة من الغيبة

- ‌من لا غيبة لهم:

- ‌صور مشرقة من محو الفوارق الطبقية في الزواج:

- ‌سورة ق

- ‌مكية وآياتها خمس وأربعون

- ‌مجمل معانيها:

- ‌مقدمة:

- ‌ سورة الذاريات

- ‌مقاصد السورة:

- ‌تفسير سورة الطور

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة والنجم

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة القمر

- ‌مقاصدها:

- ‌تفسير سورة القمر

- ‌هذه السورة مكية، وآياتها خمس وخمسون

- ‌ سورة الرحمن

- ‌آياتها ثمان وسبعون

- ‌مقاصد هذه السورة الكريمة:

- ‌ سورة الواقعة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌المعنى العام للسورة:

- ‌ سورة الحديد

- ‌هذه السورة الكريمة من السور المدنية وآياتها تسع وعشرون آية

- ‌سبب التسمية:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌ما جاء في فضلها مع أخواتها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

الفصل: ‌ ‌سورة الفتح ‌ ‌(وهي مدنية وآياتها تسع وعشرون) ‌ ‌مناسبتها لما قبلها قال العلامة الآلوسي:

‌سورة الفتح

(وهي مدنية وآياتها تسع وعشرون)

‌مناسبتها لما قبلها

قال العلامة الآلوسي: حسن وضعها هنا بعد سورة محمَّد (القتال):

1 -

لأن الفتح بمعنى النصر رتب على القتال.

2 -

ولأنه ذكر في كل منهما المؤمنين المخلصين والمنافقين والمشركين.

3 -

ولأنه قد جاء في السورة الأُولى محمَّد (القتال) الأمر بالاستغفار، قال - تعالى -:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية 19 من سورة محمَّد، وذكر هنا في سورة الفتح وقوع المغفرة في قوله - تعالى -:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} الآية رقم 2، إلى غير ذلك من المناسبات المتعددة.

‌مقدمة:

جاء في حديث صحيح أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما ما يدل على أن سورة الفتح نزلت بعد مُنصَرَفه صلى الله عليه وسلم من الحديبية، وأن ذلك عند كراع الغميم (مكان قرب مكة) فقرأها عليه الصلاة والسلام وهو على راحلته، ومثل ذلك يعد مدنيًّا على المشهور، وهو أن المدنى ما نزل بعد الهجرة.

ولقد بدئت السورة الكريمة بالبشارة بالفتح المبين، وبما أفاء الله به على رسوله والمؤمنين من نصر عزيز وتأييد، وبما أنزله من سكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم، وذكرت جزاء المؤمنين وعذاب المشركين والمنافقين الذين تشككوا في انتصار الرسول على أعدائه، ثم تمضى الآيات مبينة أن الله أرسل محمدا للناس شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، ليتحقق الإيمان بالله ورسوله، ويعم الخير والحق بين الناس بطاعته وتعظيمه عز وجل ومحدثة عن قدر الذين بايعوا الرسول وعاهدوه على نصرته، والاستشهاد في سبيل دعوته، وأنهم بعملهم هذا ومبايعتهم له إنما يبايعون الله، ويد الله فوق أيديهم بالنصر والتأييد، فمن نقض منهم العهد بعد ميثاقه فضرر ذلك عليه، ومن أوفى بالعهد فسيؤتيه الله أجرًا عظيمًا.

ص: 978

ووضحت الآيات صورة الموقف المخزى للأعراب الذين تخلفوا عن القتال مع رسول الله حينما دعاهم إلى النفير، وأعذارهم الواهية الكاذبة في ذلك، وفضحتهم وكشفت عن نفاقهم وسوء طويتهم، وأنهم تخلفوا عن القتال لظنهم السيء أن الله لن ينصر نبيه - وذكرت طلبهم الخروج معه بعد ذلك لا حبًّا في القتال والجهاد، ولكن حبًّا للغنائم وابتغاء متاع الحياة الدنيا.

وتناولت الآيات أصحاب الأعذار الذين يباح لهم التخلف عن القتال لعجزهم عن مباشرته وأنهم لا إثم عليهم في ذلك، كما بينت السورة الخير العظيم الذي حظى به من رضى الله عنهم في بيعة الرضوان، وذكرت منَّة الله في كف الكافرين عن المؤمنين، والمؤمنين عن الكافرين يوم فتح مكة بعد أن نصرهم الله وأقدرهم عليهم، وختمت السورة ببيان أن الله صدق رسوله الرؤيا بالحق، وكان الرسول قد رأى في منامه أنه يدخل هو ومن معه من المؤمنين المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون، وبيان خُلُقِ محمد وأصحابه:{أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} وببيان نعتهم وصفتهم في التوراة والإنجيل، وبذكر ما أعده الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات من المغفرة والأجر العظيم.

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)}

المفردات:

{فَتَحْنَا} أصل الفتح: إزالة الإغلاق، وفتح البلد - كما في الكشاف -: الظفر به عنوة أو صلحًا بحرب أو بغيرها؛ لأنه منغلق ما لم يُظْفر به، فإذا ظفر به فقد فتح.

{نَصْرًا عَزِيزًا} : يقل وجود مثله ويصعب مناله.

ص: 979

التفسير

1 -

{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} :

المعنى: إنا فتحنا لك يا محمد فتحًا عظيما بينا ظاهرا بانتصار الحق وأصحابه وخذلان الباطل وأربابه، وقال قتادة: معناه: حكمنا وقضينا لك قضاء بينًا على أهل مكة أن تدخلها أنت وأصحابك من قابل لتطوفوا بالبيت الحرام، يعني في عمرة القضاء.

فالفتح على هذا من الفتاحة: وهي الحكومة.

وقوله - تعالى -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} هو إخبار عن صلح الحديبية عند الجمهور سنة ست من الهجرة وروى ذلك عن ابن عباس وأنس، قال ابن عطية: وهو الصحيح. وقال الزهرى: لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا كلامهم، وتمكن الإِسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر، بهم سواد الإِسلام قال القرطبي: فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها.

وقد خفى كون ما في الحديبية - فتحًا على بعض الصحابة حتى بيَّنه عليه الصلاة والسلام.

أخرج البيهقي عن عروة قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعا فقال رجل من أصحاب رسول الله: والله ما هذا بفتح، لقد صُدِدْنا عن البيت وصُدَّ هدينا، وعكف رسول الله بالحديبية، وردَّ رجلين من المسلمين خرجا، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك - فقال:"بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتح، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عن بلادهم ويسألونكم القضية، ويرغبون إليكم في الأمان، وقد كرهوا منكم ما كرهوا، وقد أظفركم الله عليهم، وردكم سالمين غانمين مأجورين فهذا أعظم الفتح، أنسيتم يوم أُحُد؟ إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؛ أنسيتم يوم الأحزاب؟ إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا"؟ قال المسلمون: صدق الله ورسوله، هو أعظم الفتوح، والله يا نبي الله ما فكرنا

ص: 980

فيما ذكرت ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا. وذهب جماعة إلى أن المراد بالفتح الوارد في السورة فتح مكة وهو- كما في زاد المعاد -. الفتح الأعظم الذي أعزّ الله به دينه، واستنقذ به بلده وطهّر حرمه، واستبشر به أهل السماء، ودخل الناس بعده في دين الله أفواجًا، وأشرق وجه الأرض به ضياء وابتهاجًا.

وعلى هذا الرأى ففي مجىء المستقبل بصيغة الماضى في قوله - تعالى -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} تنزيله منزلة المحقق، وفيه من الفخامة والدلالة على علوّ شأن المخبر ما لا يخفى - كما في الكشّاف - وذلك - على ما قيل - لأنه يدل على أنَّ الأزمنة كلها عند الله على السواء وأن منتظره كمحقَّق غيره، وأنه - سبحانه - إذا أراد أمرا تحقق لا محالة، وأنه - لجلالة شأنه - إذا أخبر عن حادث فهو كالكائن لما عنده من الأسباب القريبة والبعيدة.

ولم يذكر المفعول للقصد إلى نفس الفعل والإيذان بأنَّ مناط التبشير نفس الفتح الصادر عنه - سبحانه - لا خصوصية المفتوح، وذكر لفظ (لك) في الآية لبيان مقام الرسول الرفيع عند الله عز وجل.

2 -

3 - {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} :

{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} أي: ليغفر لك الله ما تقدم وما تأخر مما يعد ذنبا لمثلك، فهو من قبيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين. أو ليغفر لك ما هو ذنب في نظرك، وإن لم يكن ذنبا ولا خلاف الأولى عنده - تعالى - كما ترشد إلى ذلك الإضافة في لفظة (ذنبك) وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت صام وصلى حتى انتفخت قدماه، فقيل له: أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فقال:"أفلا أكون عبدًا شكورا"{وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} أي: ويكمّل نعمته عليك بإعلاء الدين وانتشاره في البلاد، وغير ذلك مما أفاضه الله - تعالى - عليه من النعم الدينية والدنيوية بعد الفتح.

ص: 981

{وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} أي: ويرشدك إلى الطريق المستقيم في تبليغ الرسالة وإقامة الحدود وبما يُشَرِّعه الله لك من الشرع العظيم والدين القويم.

وهذا وإن كان حاصلا قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتِّضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلا من قبل.

{وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} أي: وينصرك الله على أعداء الرّسالة والكافرين بالدعوة والمحاربين لها نصرا يعز وجود مثله ويصعب مناله ويرفع في قدرك وذلك بسبب تواضعك وشدة خضوعك لأمر الله عز وجل كما جاء في الحديث الصحيح: "ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله عز وجل إلا رفعه الله، قال الآلوسي: وفي الكشاف: لم يجعل الفتح علَّة للمغفرة، لكن لاجتماع ما عدّد من الأمور الأربعة وهي:

1 -

المغفرة.

2 -

وإتمام النعمة.

3 -

وهداية الصراط المستقيم.

4 -

والنَّصر العزيز كأنه قيل: يَسّرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عزّ الدارين وأغراض العاجل والآجل.

وحاصله أن الفتح علة لمجموع المتعاطفات، لا لكل واحدة منها على حدة.

وقال الصدر: أظهر الاسم الجليل في الصّدر في قوله - تعالى -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} وهنا في قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ} ؛ لأن المغفرة تتعلق بالآخرة والنصر يتعلق بالدنيا فكأنه أُشير بإسناد المغفرة والنَّصر إلى صريح اسمه - تعالى - إلى أن الله عز وجل هو الذي يتولى أمرك في الدنيا والآخرة، وقال الإِمام: أُظهرت الجلالة في قوله: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ} إشارة إلي أن النَّصر لا يكون إلا من عند الله، كما قال - تعالى -:{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (1).

(1) سورة آل عمران من الآية: 126.

ص: 982

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)}

المفردات:

{السَّكِينَةَ} : الطمأنينة والثبات والسكون.

{ظَنَّ السَّوْءِ} : ظن الأمر الفاسد المذموم، وهو أن الله لا ينصر نبيّه والمؤمنين.

{عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} : دعاء عليهم بالهلاك والدمار الذي يتربصونه بالمؤمنين.

التفسير

4 -

{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} :

بيان لما أنعم الله به عليهم من مبادئ الفتح، أي: هو وحده - سبحانه - الذي أنزل

ص: 983

الطمأنينة في قلوب المؤمنين بسبب الصلح والأمن؛ ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف والهدنة بدل القتال، ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم ويقينًا مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفس عليها.

أو: هو الذي أنزل في قلوب المؤمنين السُّكون والاطمئنان إلى ما جاء به الرسول من الشرائع ليزدادوا إيمانًا مع إيمانهم بالله واليوم الآخر، والرأى الأول أظهر.

وبهذه الآية الكريمة وبنصوص كثيرة أخرى، ومنها ما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما: قلنا: يا رسول الله، إن الإيمان يزيد وينقص؟ قال:"نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار" أقول: بهذا وبأمثاله استدل جمهور الأشاعرة والفقهاء والمحدثين والمعتزلة على أن الإيمان يزيد وينقص، ونقل ذلك عن الشافعى ومالك، وقال البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت واحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص.

وهذه قولة حقٍّ، وإلا لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويًا لإيمان الأنبياء والصديقين.

وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وتبعه صحبه وكثير من المتكلمين: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واحتجوا بأنه اسم للتصديق البالغ حدّ الجزْم، والإذعان وهذا لا يُتصَور فيه زيادة ولا نقصان، واختار هذا الرأى إمام الحرمين، وفي هذا الموضوع كلام كثير ذكره العلامة الآلوسي وغيره فليرجع إليه في الموسوعات من أراد التوسّع في هذا المقام.

ثم ذكر سبحانه - أنه لو شاء لانتقم من الكافرين فقال: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي: ولله جنود السموات والأرض يدبِّر أمرها كيفما يريد، فيسلِّط بعضها على بعض تارة، ويجعل السّلم بينها تارة أخرى حسبما تقتضيه مشيئته، ومن ذلك ما وقع في الحديبية، ولو أرسل علي الكفار ملكا واحدا لأباد خضراءهم ولكنّه - سبحانه - شرع لعباده المؤمنين الجِهاد والقتال ليثيبهم عليه، وكان الله

ص: 984

ولا يزال - محيطا علمه بجميع الأُمور، ذا حكمة بالغة يضع الشيء في موضعه اللائق على مقتضى حكمته.

5 -

{لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} :

أخرج بن جرير وجماعة عن أنس قال: أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} في مرجعه من الحديبية، فقال:"لقد أُنزلت عليّ آية هي أحب إليّ مما على الأرض" ثم قرأها عليهم، فقالوا: هنيئًا مريئا يا رسول الله، قد بيّن الله - تعالى - ذلك ماذا يفعل بك، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ .... ) حتى بلغ {فَوْزًا عَظِيمًا} آلوسى.

وهذه الآية وما بعدها علَّة لما دلّ عليه قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} من التصرف والتدبير أي: دبّر سبحانه وتعالى ما دبر من تسليط المؤمنين ونصرهم على الكافرين، ليعرفوا نعمة الله في ذلك ويشكروها، فيدخلهم ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار دائمين فيها باقين أبدا، ويمحو عنهم سيئاتهم ولا يؤاخذ عليها بل يعفو ويرحم ويصفح ويغفر، وكان ذلك الجزاء عند الله فوزا بالغ العظم؛ لأنه منتهى ما تصبو إليه النفوس، وتهوى الأفئدة.

وذكر المؤمنات في الآية بعد المؤمنين دفعا لتوهم اختصاص الحكم بالذكور، لأن الجهاد والفتح على أيديهم، وهكذا في كل موضع يوهم الاختصاص يصرِّح بذكر النساء.

وتقديم الإدخال في الذكر على التكفير - مع أن الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلي بيان ما هو المطلوب الأعلى، قال الآلوسي: ويجوز عندي أن يكون التكفير في الجنة، على أنَّ المعنى: يُدخلهم الجنة ويُغطى سيئاتهم ويسترها عنهم فلا تمرّ لهم ببال ولا يذكرونها أصلًا؛ لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم.

ص: 985

6 -

{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} :

قوله - تعالى -: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} عطف على قوله - تعالى -: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي: فعل الله ما فعل ودبر ما دبر ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجرى من تحتها الأنهار، ويعذب المنافقين الّذين يُظهرون خلاف ما يبطنون والمنافقات، والمشركين مع الله غيره والمشركات الظانين بالله ظنا سيئا، وهو أنَّه - سبحانه - لن ينصر رسوله والمؤمنين، وكذلك سائر ظنونهم الفاسدة من الشرك وغيره - عليهم وحدهم دائرة السوء والهلاك والدّمار، وما يظنون ويتربّصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم لا يفلتون منه، وسخط الله عليهم وطردهم من رحمته وأبعدهم عن نعيمه وجَنته، وأعدّ لعذابهم جهنم وساءت جهنَّم نهاية، وقبُحت مرجعًا ومآلا لهم.

7 -

{وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} :

أي: ولله جنود السموات والأرض يدبر أمرها بقدرته وحكمته وبأسه وسطوته وكان الله غالبا على كل شيء، ذا حكمة بالغة في تدبير كل شأن.

وقوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ذكرت هذه الآية سابقا، على أن المراد أنه عز وجل المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته، فلذلك ختمت الآية السابقة بقوله - تعالى -:{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} .

وأُعيد ذكرها هنا للتهديد بأنهم في قبضة الله المنتقم، ولذلك ختمت الآية بقوله - تعالى -:{وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} فلا تكرار كما قال الشِّهاب.

ص: 986

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)}

المفردات:

{وَتُعَزِّرُوهُ} : وتنصروه.

{وَتُوَقِّرُوهُ} : وتعظِّموه وتُبجِّلوه.

{وَتُسَبِّحُوهُ} : وتنزِّهوه، وتصلوا له.

{بُكْرَةً وَأَصِيلًا} : غدوة وعشيا.

{يُبَايِعُونَكَ} (1) يعاهدونك على الجهاد والانتصار لدعوتك وذلك في بيعة الرضوان بالحديبية.

{إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} أي: إنما يعاهدون الله؛ لأنّ المقصود من البيعة إطاعة الله وامتثال أمره.

{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} أي: قدرته وقوته فوق قدرتهم وقوّتهم.

(1){يُبَايِعُونَكَ} مفاعلة من البيع، يقال: بايع فلان السلطان مبايعة إذا ضمن بذل الطاعة له، وكثيرا ما تطلق على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم.

ص: 987

{فَمَنْ نَكَثَ} : فمن نقض العهد والبيعة.

{فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: فإنه يضر نفسه ويوردها موارد الهلكة، فلا يعود وبال نقضه وضرر نكثه إلا عليه.

التفسير

8 -

{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} :

هذا توضيح وبيان لما بعث من أجله الرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى: إنا أرسلناك يا محمد شاهدا على أُمتك لقوله - تعالى -: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) وعن قتادة: شاهدا على أمتك وشاهدا على الأُمم التي قبلك، وعلى الأنبياء الذين سبقوك بأنهم قد بلَّغوا، ومبشرا المتّقين بحسن الثواب على الطاعة، ونذيرا للعصاة بالعذاب على المعصية.

9 -

{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} :

الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته كقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} (2).

فيفيد أن النبي مخاطب بالإيمان برسالته كالأمة، وقال الواحدى: الخطاب في {لِتُؤْمِنُوا} وما بعدها للأُمة.

والمعنى: أرسلناك يا محمَّد شاهدا ومبشرا ونذيرا، لكي تؤمنوا يا أمته بالله ورسوله وتنصروا الله بنصر دينه وتعظموه - سبحانه - وتنزِّهوه عما لا يليق به أول النهار وآخره.

وقيل: البكرة والأصيل جميع النهار، ويكنى بالتعبير عن جميع الشيء بطرفيه. وقال ابن عباس: المراد بهما صلوات الفجر والظهر والعصر.

10 -

{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى (3) بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} :

المعنى: إن الذين يعاهدونك يا محمَّد يوم الحديبية على الجهاد في سبيل نصرتك

(1) سورة البقرة من الآية: 143.

(2)

سورة الطلاق من الآية: الأولى.

(3)

يقال: وفى بالعهد وأوفى به إذا تممه. وأوفى: لغة تهامة ومنه قوله تعالى: {أوفوا بالعقود} اهـ. كشاف.

ص: 988

إنما يُعاهدون الله؛ لأنّ المقصود من بيعة الرسول وإطاعته: إطاعة الله - تعالى - وامتثال أوامره لقوله - تعالى -: {من يُطِع الرسول فقد أطاع الله} (1).

{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} : استئناف مؤكد لما قبله، والمراد بيد الله: قدرته ونصره، أي: قدرة الله معك وتأييده فوق قدرتهم وتأييدهم، فَثِق بنصرة الله - تعالى - قبل نصرتهم وإن صدقوا في مبايعتك. والسَّلف يأخذون بظاهر الآية كما جاءت مع تنزيه الله - تعالى - عن الجوارح وصفات الأجسام، وكذلك يفعلون في جميع المتشابهات يقولون: إن معرفة حقيقة ذلك فرع معرفة حقيقة الذات، وأنّى ذلك وهيهات هيهات!!

{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} أي: فمن نقض عهدك بعد ميثاقه ورجع في بيعته بعد تأكيدها وتوثيقها فلا يرجع وبال نقضه إلَاّ على نفسه، ولا يعود ضرر نكثه إلا عليه {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} أي،: ومن أوفى بالعهد الذي عاهد عليه الله بإتمام بيعتك وألزم نفسه تحقيقها والقيام بأعبائها فسيُعطيه الله ثوابا بالغ العظم وهو الجنة وما يكون فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

من حديث البيعة: بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى أشراف قريش بمكة يخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا للبيت الحرام ومُعظِّما له، واحتبسته قريش عندها، وبلغ الرسول أن عثمان قد قُتِل فقال رسول الله:(لا نبرح حتى نُنَاجز القوم) ودعا الناس إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة على الموت في سبيل الله، أو على ألا يفرّوا من قريش ، فبايع النَّاس ولم يتخلف أحدٌ من الحاضرين إلا الجد بن قيس أحد بني سلمة، فكان جابر يقول: لكأنِّى أنظر إليه لاصِقًا بإبْطِ ناقته قد صبأ إليها يستتر بها من النَّاس، وضرب الرسول بإحدى يديه على الأخرى مُبَايعا عن عثمان، وقال:"اللهم إنّ عثمان في حاجة الله - تعالى - وحاجة رسوله" ثم أتى رسول الله أن الذي كان من أمر عثمان باطل. اهـ: ملخصا بتصرف عن محمَّد بن إسحاق في السير وذكره ابن كثير.

(1) سورة النساء من الآية: 80.

ص: 989

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)}

المفردات:

{الْمُخَلَّفُونَ} (1) قال الطبرى: المخلفون هم الذين تخلفوا في أهليهم عن صحبة رسول الله يوم الحديبية، جمع مُخلَّف.

{الْأَعْرَابِ} في المشهور: سكّان البادية من العرب لا واحد له.

{فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ} : استفهام بمعنى النفى أي: لا أحد يملك لكم.

{وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} : وهو ظنهم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا بل يقتلون.

(1){الْمُخَلَّفُونَ} جمع مخلف: وهو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد مأخوذ من الخلف، وضده المقدم.

ص: 990

{بُورًا} (1)؛ هالكين لفساد عقيدتكم.

{سَعِيرًا} : نارا موقدة ملتهبة، ونكّرت للتهويل أو التنويع.

التفسير

11 -

{سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} :

أي: سيقول لك من خلّفهم النِّفاق من أهل البادية وهم قبائل جُهينة ومُزينة وغِفار وغيرهم، استنفَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية ليخرجوا معه حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدّوه عن البيت، وأحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدي ليعلم أنه لا يريد حربا، ورأى أولئك الأعراب أنه عليه السلام يستقبل عدوا قويا من قريش وثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة وهم الأحابيش، ولم يكن الإيمان لدى الأعراب قد تمكن في قلوبهم، فقعدوا عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم وتخلفوا عن الجهاد معه، وقالوا: نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم؟ وقالوا: لن يرجع مُحمد ولا أصحابه إلى المدينة من هذه السفرة ففضَحهُم الله في هذه الآية وأعلم رسوله بقولهم واعتذارهم قبل أن يصلوا إليه، وحين جاءوا معتذرين إليه قائلين:

شغلتنا أموالنا وأهلونا عن الذهاب معك، إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظها ويحميها من الضياع، فاستغفر لنا الله ليغفر لنا تخلُّفَنا عنك، حيث لم يكن عن تكاسل وتباطؤ في طاعتك، فأنزل الله تكذيبا لهم في اعتذارهم بما سبق:{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} أي: إن كلامهم من طرف اللِّسان غير مطابق لما في الجنان، ثم أمر سبحانه وتعالى رسوله أن يردّ عليهم عند اعتذارهم بتلك الأباطيل فقال:

(1) بورا: مصدر كالهلك، أو جمع بائر كباذل وبذل، وعائذ وعوذ.

ص: 991

{قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} أي: لا يقدر أحد أن يردّ ما أراده الله فيكم ويدفع عنكم قضاءه إن أراد بكم ما يضركم أو أراد بكم ما ينفعكم، وليس الشُّغُل بالأهل والمال عذرا، فلا ذاك يدفع الضرر إن أراده عز وجل ولا محاربة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعا، ثم أعقب ذلك بما يتضمن تهديدا لهم فقال:{بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي: بل كان الله بكل ما تعملون محيطا، فيعلم - سبحانه - سر تخلُّفكم وقصدكم فيه، ويجازيكم عليه يوم القيامة، ثم هتك الله سترهم وبين مكنون ضمائرهم بقوله:

12 -

{بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} :

والمعنى: لم يكن الأمر كما تقولون، بل ظننتم أن لن يرجع الرسول والمؤمنون من ذلك السّفر إلى عشائرهم وذوى قرباهم أبدا، فلم يكن تخلفكم تخلف معذور ولا مقهور بلى تخلُّف نفاق؛ لأنَّكم اعتقدتم أنَّ الرسول ومن معه من المؤمنين سيقتلون وتُستأصل شأفتهم، وتُبَادُ خضراؤهم ولا يرجع منهم أحد، فتخلفتم لذلك، وحسّن لكم الشيطان والنفاق ذلك الظن الخبيث في قلوبكم، حتى تمكَّن منكم وحملكم على ما فعلتم، فاشتغلتم بشأن أنفسكم ومصلحة ذواتكم غير مبالين بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين. {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} وهو ظنهم ألَاّ يرجع الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وأعيد لفظ {ظَنَنْتُمْ} لتشديد التوبيخ والتسجيل عليهم بالسّوء، أو هو عام فيشمل ذلك الظنَّ وسائر ظنونهم الفاسدة التي من جملتها الظّن بعدم رسالته صلى الله عليه وسلم فإن الجازم بصحتها لا يحوم فكره حول ما ذُكِر من الاستئصال للرسول وأصحابه، وكنتم في علم الله الأزليّ قومًا هالكين، لفساد عقيدتكم وسوء نيّتكم، أو فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم ولا خير فيكم.

13 -

{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} :

هذا كلام مبتدأ من جهته عز وجل غير داخل في الكلام السابق، مقرِّر لبوارهم وهلاكهم، ومبين لكيفيته، أي: ومن لم يصدق بالله ورسوله كهؤلاء المخلفين فإنا أعددنا

ص: 992

للكافرين نارا مسعورة موقدة ملتهبة، وكان الظاهر أن يقال: فإنَّا أعددنا لهم، فعدل عن ذلك إلى الظاهر وهو لفظ (الكافرين) إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله - سجانه - والإيمان برسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر مستحق للسعير بكفره.

14 -

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} :

أي: ولله - وحده - ملك السموات والأرض - يدبّره تدبير قادر حكيم، وهو - جل شأنه - المتصرّف في الجميع كما يشاء، - له هذا الملك - يغفر لمن يشاء المغفرة له ويعذب من يشاء أن يعذِّبه، من غير دخل لأحد في شيء من غفرانه أو تعذيبه، وكان الله - ولا يزال - عظيم المغفرة لمن يشاء، ولا يشاء - سبحانه - المغفرة إلا لمن تقتضى الحكمة المغفرة له ممن يؤمن بالله وبرسوله، وأما من عدا ذلك من الكافرين المُجَاهرين والمنافقين فهم بمعزل عن ذلك، وفي تقديم المغفرة وختم الآية بكونه (غفورًا رحيمًا) بصيغة المبالغة فيهما فيه من واسع غفرانه وعظيم رحمته ما فيه، وفي الحديث:"كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق: رحمتى سبقت غضبى" أي: قضى بذلك وأوجبه على نفسه، والآية كما قال أبو حيّان لبعث الرَّجاء في قلوب المنافقين إذا آمنوا حقيقة، وقيل: لقطع أطماعهم الفارغة في طلب استغفاره عليه السلام لهم.

ص: 993

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)}

المفردات:

{ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} : اتركونا نخرج معكم لخيبر.

{كَلَامَ اللَّهِ} : حكمه القاضى باختصاص أهل الحديبية بمغانم خيبر.

التفسير

15 -

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} :

المراد من المغانم هنا مغانم خيبر التي انطلقوا إليها بعد الحديبية كما عليه عامة المفسرين وأُيِّد بأن السِّين تدلّ على القرب، وخيبر أقرب المغانم التي انطلقوا إليها من الحديبية فإرادتها كالمتعينة، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن الله وعد أهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون شيئًا، وخص - سبحانه - ذلك بهم.

والمعنى: سيقول الأعراب الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية: إذا ذهبتم إلى مغانم لتأخذوها {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} : دعونا واتركونا نخرج معكم إلى خيبر

ص: 994

ونشهد معكم قتال أهلها، وذلك لطمعهم في عرض الدنيا لما يرون من ضعف العدوّ، ويتحققون النصر عليه، يريدون بذلك تغيير كلام الله ووعده وحكمه وقضائه باختصاص أهل الحديبية بمغانم خيبر، قل لهم يا محمد: لن تتبعونا، والمراد نهيهم عن الاتباع الذي أرادوه من قولهم:{ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} وهو الانطلاق معهم إلى خيبر.

{كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} أي: مثل ذلك الحكم بعدم اتباعكم لهم - حكم الله - من قبل ذلك بتلك الغنائم لمن خرج إلى الغزو مع رسوله في عمرة الحديبية {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} أي: فسيقول المخلفون للمؤمنين عند سماع هذا النهي: لم يأمركم الله بذلك بل تحسدوننا أن نُشارككم في هذه الغنائم.

{بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا} أي: ليس الأمر كما زعموا بل كانوا لا يفهمون إلا فهما قليلًا، وهو فهمهم لبعض أمور الدُّنيا، وهو ردّ لقولهم الباطل في المؤمنين، ووصف لهم بما هو شر من الحسد وهو الجهل المفرط وسوء الفهم في أمور الدين.

ص: 995

{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)}

المفردات:

{أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} : أصحاب شدة وقوّة في الحرب.

{فَإِنْ تُطِيعُوا} أي: تستجيبوا وتنفروا للجهاد.

{حَرَجٌ} : إثم في التخلف عن الجهاد وقتال الكفار.

التفسير

16 -

{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} :

المعنى: قل للمتخلفين من أهل البادية الذين دُعُوا للخروج مع رسول الله زمن الحديبية فتقاعسوا - قل لهم -: ستدعون إلى قتال قوم ذوي شدة وبأس وقوّة في الحرب، شُرِع لكم جهادهم، وقتالهم، ولكم النُّصرة عليهم أو يُسْلمون فيدخلون

ص: 996

في دينكم بلا قتال بل باختيارهم، فإن تستجيبوا لهذه الدعوة وتلبّوا أمر الله وداعى الجهاد يعظم الله لكم الأجر في الدنيا بالغنيمة، وحسن الأحدوثة والذكر، وفي الآخرة بالجنة، وإن تعرضوا عن الجهاد وتُصِمّوا آذانكم عن داعى الله كما أعرضتم من قبل عن الخروج إلى الحديبية يعذبكم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة لتضاعف جُرمكم. وهنا أمور:

1 -

قال - تعالى -: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ} كرر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في ذمهم وإشعارا بقبح التخلف وشناعة القعود عن الجهاد في سبيل الله ونصرة دينه.

2 -

اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين سيدعون إلى قتالهم وهم أولوا بأس شديد على أقوال: فرجح الزمخشرى والآلوسى: أن المراد بهم بنو حنيفة قوم مسيلمة وأهل الردة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه لأن مشركى العرب والمرتدين هم الّذين لا يقبل منهم إلَاّ الإِسلام أو السيف عند أبي حنيفة، ومن عداهم من مشركى العجم وأهل الكتاب والمجوس تُقبل منهم الجزية، وعند الشافعى لا تقبل الجزية إلَاّ من أهل الكتاب والمجوس دون مشركى العجم والعرب (راجع الآلوسي والكشاف).

وعن عطاء والحسن: المراد بهم الفرس والروم، وفسر القائلون بهذا الرأى قوله - تعالى -:(أو يسلمون) بأو ينقادون؛ لأن الروم نصارى، وفارس مجوس يقبل منهم إعطاء الجزية، وعن قتادة: ثقيف وهوازن، وعن سفيان: هم الترك، وقيل: هم الأكراد (ابن كثير والكشاف).

3 -

ذكر الزمخشرى والآلوسى: أنه شاع الاستدلال بهذه الآية على صحة إمامة أبي بكر رضي الله عنه قال الآلوسي: والإنصاف أن الآية لا تكاد تصح دليلًا على إمامة الصديق رضي الله عنه إلَاّ إن صحّ خبر مرفوع في كون المراد بالقوم بني حنيفة (1)، ودون ذلك خرط (2) القتاد (آلوسى).

(1) هم قوم مسيلمة الكذاب.

(2)

القتاد: شجر له شوك، وخرط القتاد: تنظيفه من الشوك.

ص: 997

17 -

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} :

ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة الأعذار المبيحة لترك الجهاد فمنها ما هو لازم كالعمى والعرج البيِّن، ومنها ما هو عارض كالمرض الذي يطرأ أياما ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوى الأعذار اللازمة حتى يبرأ فقال:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} أي: ليس على الأعمى إثم في التخلف عن الجهاد في سبيل الله، ولا على الأعرج إثم ولا على المريض إثم كذلك لما بهم من العذر والعاهة، وليس في نفى الإثم عنهم نهى لهم عن الغزو، بل قالوا: إن أجرهم مضاعف إذا خرجوا للقتال، ولقد غزا ابن أم مكتوم رضي الله عنه وكان أعمى، وحضر في بعض حروب القادسية وكان يحمل الراية، كما غزا بعض العلماء (وهو أعمى) مع الجيش الإسلامى وهو يحارب التتار والصليبيين ولما سئل عن ذلك - وقد أذن الله له في ترك الجهاد - وما سيقدِّم من خدمات للجيش المقاتل؟ فقال: أكثِّر سواد المسلمين وأحرس متاعهم وأحرِّضهم علي القتال، وأستجيب لقول الله:"انفروا خفافا وثقالا"(1) وفي البحر: "لو حُصِر المسلمون فالغرض متوجِّه بحسب الوُسْع في الجهاد".

ثم قال تبارك وتعالى مرغِّبا - في الجهاد وطاعة الله ورسوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} أي: ومن يطع الله ورسوله في كل ما ذُكر من الأوامر والنَّواهى يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار، ومن يعرض عن طاعة الله ورسوله يعذِّبه عذابا بالغ الألم بالذِّلة والصغار في الدنيا والنار في الآخرة، وقيل في الوعيد:(يعذِّبه) إلخ دون يدخله نارا أو نحوه، لأن العقاب يوم القيامة بالعذاب الأليم يستلزم إدخال النار، وإدخالهم فيها لا يستلزم ذلك، والله أعلم.

(1) سورة التوبة من الآية: 41.

ص: 998

* {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)}

المفردات

{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} : قبل منهم بيعتهم.

{يُبَايِعُونَكَ} : يعاهدونك على السمع والطاعة.

{السَّكِينَةَ} : طمأنينة القلب.

{وَأَثَابَهُمْ} : جازاهم.

التفسير

18 -

{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} :

المراد من المؤمنين هنا: أهل الحديبية (1) إلا جد بن قيس فإنه كان منافقًا فلم يبايع، وهي بيعة الرضوان لقوله - تعالى -:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} .

وخبر الحديبية: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج معتمرًا ومستنفرًا الأعراب الذين حول المدينة فأبطأ عنه أكثرهم وخرج عليه الصلاة والسلام بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن اتبعه من العرب وكانوا في ألف وأربعمائة على أرجح الأقوال فأحرم - عليه الصلاة

(1) الحديبية - وقد تشدد الياء -: بئر قرب مكة - حرسها الله - أو شجرة حدباء هناك.

ص: 999

والسلام - وساق معه الهدى ليعلم الناس أنه لم يخرج لحرب، فلما وصل صلى الله عليه وسلم الحديبية بركت ناقته فقال الناس: خلأت (1) خلأت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل (2) عن مكة. لا تدعونى قريش اليوم إلى خطة يسألوننى فيها صلة رحم إلا أعطيتهم إياها) ثم نزل هناك، فقيل: يا رسول الله، ليس بهذا الوادى ماء فأخرج عليه الصلاة والسلام سهمًا من كنانته فأعطاه رجلًا من أصحابه فنزل في قليب (3) من تلك القلب فغرزه في جوفه فجاش بالماء الرَّوَاء (4) حتى كفى الجيش.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خِرَاشَ - بكسر الخاء - بن أمية الخزاعى رسولا إلى أهل مكة يعلمهم أنه جاء معتمرا لا يريد قتالا فلما كلمهم عقروا جمله وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش (5) فخلوا سبيله حتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا عمر رضي الله عنه ليبعثه فقال: يا رسول الله، إن القوم عرفوا عداوتى لهم وغِلَظى عليهم وإنى لا آمن، وليس بمكة أحد من بني عديّ يغضب لي إن أُوذيت، فأَرْسِل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها وهم يحبونه، وإنه يبلِّغ ما أردت، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فأرسله إلى قريش وقال له عليه الصلاة والسلام: أخْبِرْهم أنَّا لم نأت لقتال وإنما جئنا عمَّارا، وادعهم إلي الإسلام، وأمره عليه الصلاة والسلام أن يأتى رجالا بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله - سبحانه - يظهر دينه بمكة قريبا، فذهب عثمان رضي الله عنه إلى قريش وكان قد لقيه أبان بن سعيد بن العاص فأجاره، فأتى قريشا فأخبرهم، فقالوا له: إن شئت فطف بالبيت، وأما دخولكم فلا سبيل إليه، فقال رضي الله عنه: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبسوه، فبلغ رسول الله والمسلمين أن

(1) خلأت: حرنت وبركت من غير علة.

(2)

حبسها حابس الفيل: أي: أن الله الذي منع فيل أبرهة أن يشترك في هدم الكعبة حبسها ومنعها كذلك أن تتجاوز هذا المكان لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى.

(3)

القليب: هو البئر قبل أن تبنى بالحجارة.

(4)

الرواء: الكثير.

(5)

الأحابيش: هم الأعراب الذين حول مكة، حبشى - بالضم - جبل أسفل مكة، إليه تنسب أحابيش قريش، لأنهم تحالفوا: إنهم ليد على غيرهم، ما سجى ليل ووضح نهار، ومارسا حبشي.

ص: 1000

عثمان قد قُتل، فقال صلى الله عليه وسلم: لا نبرح حتى نناجز (1) القوم، ونادى مناديه صلى الله عليه وسلم: ألا إن روح القدس (جبريل) قد نزل على رسول الله عليه الصلاة والسلام فأمره بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله - تعالى - فبعضهم بايعه على ألا يفر، وبعضهم بايعه على الموت، وبعضهم بايعه على ما في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما بايع الناس قال عليه الصلاة والسلام:(اللهم إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله) فضرب بإحدى يديه على الأخرى فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم، ولما سمع المشركون بالبيعة خافوا وبعثوا عثمان رضي الله عنه وجماعة من المسلمين ثم جرى السفراء بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار قريش وطال التراجع والتنازع إلى أن جاء سهيل بن عمرو العامرى فقاضاه على أن ينصرف عليه الصلاة والسلام عامه هذا حتى لا يتحدث العرب أنَّا أخذنا ضُغطة (2)، فإذا كان من قابل أتى صلى الله عليه وسلم معتمرا ودخل هو وأصحابه مكة بغير سلاح حاشا السيوف في قُربِها، فيقيم بها ثلاثًا ويخرج، وعلى أن يكون بينه وبينهم صلح عشرة أعوام يتداخل الناس ويأمن بعضهم بعضًا، وعلى أن من جاء من الكفار إلى المسلمين مسلمًا من رجل أو امرأة رُدّ إلى الكفار، ومن جاء من المسلمين إلى الكفار مرتدًّا لم يردوه إلى المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، أنكتب هذا؟ قال: نعم إنه مَنْ ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم فسيجعل الله له فرجا ومخرجا، فجأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال:(بلى) قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: (بلى) قال: ففيم نعطى الدَّنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقال: (يا بن الخطاب إني رسول الله ولن يضيعنى الله أبدا) فانطلق عمر فلم يصبر متغيِّظا، فأتى أبا بكر فقال له ما قاله لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو بكر: يا بن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدا فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله أوَ فَتْحٌ هو؟ قال: (نعم) فطابت نفسه ورجع

حقًّا لقد كان صلح الحديبية فتحًا عظيمًا، فبعده دخل كثير من العرب في الإسلام وجاءت

(1) المناجزة في الحرب: المبارزة.

(2)

ضغطة: قهرا.

ص: 1001

الوفود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهات شتى تدخل في دين الله، وما ظنه بعض المسلمين كعمر - رضى الله عنه - أنه دنيّة ونقيصة وذل في دينهم ما كان إلَاّ عزة ومنعة، فقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن رجع إلى المدينة جاءه أبو بصير - وهو رجل من قريش قد أسلم - فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا، فدفعه إلى الرجلين فخرجا به، وفي الطريق خدع أبو بصير أحد الرجلين وأخذ سيفه وقتله به، وفرّ الآخر إلى المدينة، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قتل - والله - صاحبى وإني لمقتول، فجاءه أبو بصير فقال: يا رسول الله قد - والله - أوفى اللهُ ذمتك وقد رددتنى إليهم، ثم نجاني الله - تعالى - منهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "ويل أمِّه مِسْعر (1) حرب لو كان معه أحد) فلما سمع أبو بصير ذلك عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف (2) البحر، ولحق به - هربا من قريش - أبو جندل ابن سهيل بن عمرو وكان قد جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلما في الحديببة بعد الصلح، فطلب أبوه سهيل بن عمرو أن يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه إنفادًا للعهد، ففعل الرسول ذلك ودعا لأبي جندل أن يجعلى الله له مخرجًا.

ولحق بأبي بصير وبأبي جندل من كان يسلم من قريش، حتى اجتمعت منهم جماعة فما يسمعون بِعيرٍ خرجت من قريش إلا اعترضوا لها فقتلوهم، وأخذوا أموالهم جزاء ما أصاب المسلمين على أيديهم منه القتل والتعذيب وأخذ الأموال ظلمًا، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم، وقالوا له: اضممهم إليك حتى نأْمن، ففعل صلى الله عليه وسلم وأجابهم إلى ما طلبوا.

ومما تجدر الإشارة إليه والتنويه به ما حدث بعد فراغ الرسول صلى الله عليه وسلم من إتمام عقد الحديبية أنه قال لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا) فما قام رجل منهم حتى قال صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد دخل صلى الله عليه وسلم على زوجه السيدة أم سلمة رضي الله عنها فذكر لها ما لقي من الناس، قالت له: يا نبي الله أتحب ذلك؟

(1) مسعر حرب: موقد نار حرب.

(2)

سيف البحر - بالكسر -: ساحله.

ص: 1002

اخرج فلا تكلم أحدًا منهم كلمة حتى تنحر بُدْنَك وتدعو حالقك فيحلقك، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم أحدًا منهم حتى فعل ذلك: نحر بيده، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأَوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا حتى كاد بعضهم يقتل بعضًا غمًّا.

لقد رضي الله عن المؤمنين وقبل منهم مبايعتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاهدتهم له على السمع وبذل الطاعة بما رضوا به ورضخوا له من بيع أنفسهم وأموالهم لله بأن لهم الجنة، مع علمه - سبحانه - بما في قلوبهم من الصدق والإخلاص في مبايعتهم وحبهم للإسلام وحرصهم عليه ونصرتهم له، فأنزل - جل شأنه - الطمأنينة وسكون القلب عليهم بصدق وعده وتحقق جزائه وأثابهم وجزاهم على تلك البيعة (فتحًا قريبًا) هو فتح خيبر والصلح مع أهلها، بعد عودتهم من الحديبية مباشرة.

وفي تقييد البيعة بأنها كانت تحت الشجرة إشارة إلى عظم منزلتها لدى الله لأنها كانت امتثالًا لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن نزل عليه جبريل عليه السلام وأمره بها، ولم تكن لخوف منه عليه الصلاة والسلام ولذا استحقت رضاه - تعالى - الذي لا يعادله شيءٌ، وقد ترتب على هذا الرضا من الثواب ما لا يكاد يخطر على بال، ويكفي في ذلك ما أخرج أحمد عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة) كما صح برواية الشيخين وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم: (أنتم خيرُ أهل الأرض).

19 -

{وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} :

أي: ومنحهم - سبحانه - مع هذا الفتح والصلح غنائم كثيرة وأموالًا وفيرة أفاءَ الله بها على المسلمين من خيبر، فجمع الله لهم بهذا الصلح أمنًا واطمئنانًا على نفوسهم من جانب هؤلاء اليهود مع رزقه واسع وخير عميم، والفضل في هذا كله لله - سبحانه - فهو العزيز الذي لا يغالب ولا يُقهر {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} والحكيم: الذي لا تجرى أحكامه وقضاياه إلا على مقتضى الحكمة.

هذا، وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم غنائم خيبر بين المقاتلين فأعطى للفارس سهمين وللراجل سهمًا واحدًا.

ص: 1003

{وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا}

المفردات:

{وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} : دفعها ومنعها أن تحول بينكم وبين اغتنامها.

(آيَةً): علامة وأَمارة.

(قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا): قد قدَر الله عليها واستولى.

(لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ): لانهزموا وأعطوكم ظهورهم هربًا منكم.

(وَلِيًّا) الوليّ: من ينفع برفق ولين.

(نَصِيرًا) النصير: من ينفع بعنف.

(سُنَّةَ اللهِ): طريقة الله.

(خَلَتْ): مضت وسلفت.

(تَبْدِيلًا): تغيِيرًا.

ص: 1004

التفسير

20 -

{وَعَدَكُمُ اللهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} :

أي: وعدكم الله - أيها المسلمون - ووعد الله لا يتخلف؛ إذ الخلف في الوعد كذب وحاشا لله ذلك. أي: وعدكم - سبحانه - بمغانم كثيرة من أموال وسلاح وأرض وسبى تأخذونها من الكفار في مستقبل أيامكم إلى يوم القيامة إذا تحققت فيكم صفات المؤمنين، إذ قد وعد الله رسله والمؤمنين النصر على أعدائهم، قال - تعالى -:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} (1).

(فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي: فَقَدَم لكم مغانم خيبر عاجلة دون مشقة أو قتال تطييبا لخاطركم، ومنع أهل خيبر ومن جاءه لنصرتهم من بني أسد وغطفان أن ينالوكم بسوءٍ؛ حيث قذف الله في قلوبهم الرعب فنكصوا على أعقابهم وولوا الأدبار هاربين فارين فزعا وخوفًا. (وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) أي: ولتكون هذه المغانم أمارة وعلامة للمؤمنين يعرفون بها أنهم من الله بمنزلة عظيمة ومكانة رفيعة، وأنه - سبحانه - كفيل بنصرهم والفتح عليهم، أو يعرف بها المؤمنون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في وعده إياهم فتح خيبر وما يلي ذلك من فتح مكة ودخول المسجد الحرام، (وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) أي: وَيثبتكم الله على الهدى والطاعة ولا يفتنكم في دينكم، أو يزيدكم هدى وتقوى؛ فإن قومًا هذا شأنهم وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جدير بهم أن يكونوا على الجادّة والصراط السويّ والطريق المستقيم.

21 -

{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللهُ بِهَا وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} :

أي: وأعطاكم ومنحكم غنائم أُخرى غير ما غنمتموه من خيبر وهي غنائم هوازن في

(1) سورة غافر الآية: 51.

ص: 1005

غزوة حنين، إذ لم تستطيعوا اغتنامها والحصول عليها وقت أن ركنتم إلى كثرتكم، واعتززتم بقوتكم، واعتمدتم على كثرة عددكم وقلة عدوّكم فقلتم: لن نغلب اليوم عن قلة، وكان الجيش الإِسلامي في اثنى عشر ألفًا وجيش الكفار في أربعة آلاف، فلم تغن عنكم هذه الأعداد شيئًا حتى ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم الأدبار منهزمين، ثم أدركتكم عناية ربكم - سبحانه - فأنزل سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وملأَ قلوبهم اطمئنانًا وثقة في الله - جل وعلا - وأنزل جنودًا من الملائكة لم تبصروها فكانت عونًا لكم على عدوّكم وعذَّب الله الذين كفروا فهزمهم وأعطاكم غنائمهم بعد أن أحاط بها وحفظها لكم ومنعها من سواكم؛ والله - سبحانه - قدير لا يعجزه ولا يفوته شيء في الأرض ولا في السماء ولا فيما وراء ذلك مما لا نعلمه، فغلبة المؤمنين على هؤلاء الكفار واغتنام أموالهم أمر واقع لا محالة إذ قد حكم به الله وقضاه.

22 -

{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} :

أي: ولو امتنع المشركون وغيرهم عن أن يصالحوكم، وأصروا على قتالكم وحاربوكم لانهزموا وفروا وأعطوكم أدبارهم وظهورهم تُعْمِلون فيها أسلحتكم قتلًا وجرحًا، ولأمكنكم منهم أخذًا وأسرًا، ثم هم مع ذلك لا يجدون من وليّ يتولى أمرهم ويحرسهم من بأس الله على أيدى المؤمنين، ولا يجدون أحدًا ما ينصرهم ويقاتل معهم، قال الإِمام الفخر الرازي: أريد بالولي: من ينفع باللطف. وبالنصير: من ينفع بالعنف، أَي: لا ينالون ولا يصيبون عونًا من أحد يدفع عنهم برفق ولين أو يقف بجانبهم يحمل السلاح ويخوض معهم الحرب في قتالهم للمؤمنين.

23 -

{سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا} :

أي: سنّ الله - سبحانه - غلبة أنبيائه ونصرتهم - عليهم الصلاة والسلام - سنة وطريقة قديمة فيمن مضى من الأُمم، قال - تعالى -:{كتب الله لأغلبن أنا ورسلي} (1) والمراد:

(1) من الآية 21 من سورة المجادلة.

ص: 1006

أن سنته - تعالى - أن يكون النصر والعاقبة لأنبيائه عليهم السلام ولن تتغير سنة الله وطريقته معك، فالغلبة والعاقبة لك عليهم لا محالة.

وفي هذا تثبيت لفؤاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنزال للطمأنينة على قلوب المؤمنين، وبشارة ووعد بأَن النصر لهم، كما أن فيه تهديدا للمشركين بأَن الدائرة تدور عليهم.

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ في رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)}

المفردات:

(كَفَّ): دفع ومنع.

(بِبَطْنِ مَكَّةَ) المراد: الحديبية.

(أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ): أمكنكم منهم وجعلكم ذوى غلبة تامة عليهم.

(وَالْهَدْيَ): ما يهدى ويساق إلى البيت الحرام من النَّعَمِ تقرّبًا إلى الله.

(مَعْكُوفًا): محبوسًا وموقوفًا.

ص: 1007

(تَطَئُوهُمْ): تدوسوهم بأقدامكم، والمراد: أن تبيدوهم وتهلكوهم.

(مَعَرَّةٌ): مكروه ومشقة، من: عرَّه بمعنى عراه إذا دهاه بما يكره ويشق عليه. وقيل: من العُرّ، وهو الجرب الصعب اللازم.

(تَزَيَّلُوا): تفرقوا وتميز بعضهم عن بعض.

التفسير

24 -

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} :

أخرج الإِمام أحمد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ومسلم وغيرهم عن أنس بن مالك قال: لَمَّا كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلًا من أهل مكة في السلاح من قِبل جبل التنعيم يريدون غِرة (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا عليهم فأخذوا، فعفا عنهم، فنزلت هذه الآية (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ

) الخ الآية، فهذا امتنان من الله على عباده المؤمنين حين كفّ أيدى المشركين عنهم في الحديبية فلم يصل إلى المسلمين منهم سوءٌ كما منع - سبحانه - أيدى المؤمنين عن المشركين مع تمكنهم منهم فلم يقاتلوهم، وحفظ كلاًّ من الفريقين وأوجد بينهم صلحًا فيه خير للمؤمنين، وعاقبة كريمة لهم في الدنيا والآخرة، والله - سبحانه - بصير بكم وبأعمالكم - أيها المؤمنون - يعلم ما فيه الخير لكم، ولذلك منعكم عن قتال المشركين حفظا لكم ورحمة بكم، ورعاية لحرمة بيته العتيق من أن تراق فيه الدماءُ وتزهق الأرواح، كما أن في هذا الكف أيضًا إبقاءً على قوم لكم بهم رحم وقربى، ولعل الله يهدى بعضهم إلى الدخول في الإِسلام.

25 -

{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ

} الآية:

(1) الغرة - بالكسر -: الغفلة، أي: يريدون أن يصادفوا من رسول الله ومن أصحابه غفلة عن التأهب لهم: إهـ: القرطبي.

ص: 1008

جاءت هذه الآية الكريمة للإشارة إلى أن الاختلاف بين المؤمنين والكفار باق، والنزاع قائم، والعداوة مستمرة، ولم ينته ما بينهما بالاتفاق والصلح ومنع أَيدى كل فريق عن الآخر، إذ أَن هؤلاء لا يزالون على كفرهم، وإمعانهم في عداوتكم، فلهذا قاموا بصدكم ومنعكم عن دخول المسجد الحرام للزيارة والاعتمار، مع أنهم قد علموا أنكم لا تريدون بهم شرًّا فقد سُقْتم الهدى من البدْن إلى البيت الحرام، وعكَفْتموها وحبستموها عليه قربى وزلفى لله سبحانه وتعالى فقد أشعرتموها فحززتم أَسْنمتها حتى سالت منها الدماءُ ليعلم أنها هدى، فمنعوا تلك البدن أن تبلغ المحل الذي اعتاد زُوَّار بيت الله وقُصَّاده أن يذبحوها فيه وهو منى (1)، وقد سبق أن حدثهم في هذا الشأن الحليس بن علقمة الكناني، وكانوا قد أرسلوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: يا معشر قريش لقد رأيت ما لا يحل صده؛ الهدى في قلائده قد أكل أوباره من طول الحبس عن محله، ولكن المشركين ركبوا رءُوسهم وقالوا له: اجلس إنما أنت أعرابي لا علم لك.

أي: أن هؤلاء الكفار قد ازدادوا كفرًا وعداوة لكم فلا تأْمنوهم، وإنما كان كف الله أيديكم عنهم بعد أن أَظفركم عليهم وأمكنكم منهم لحكمة يعلمها هو - سبحانه -.

وقد جاء بيانها في قوله - تعالى -: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} :

أي: ولولا كراهة أن تهلكوا أُناسًا مؤمنين يقيمون بين ظهراني المشركين وأنتم غير عالمين بهم وبأَماكنهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، كأن يقول المشركون: إن المسلمين قد فعلوا بأَهل دينهم من الإهلاك مثل ما فعلوا بنا، وكذلك ما يصيب المسلمين وينالهم عن الضيق والمشقة من أن يقتلوا إخوانهم في الإِسلام وهم عدّتهم على أعدائهم، فضلا عن الرحمة التي تسود وتعم المسلمين فهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، أي: لولا كراهة إهلاككم المؤمنين لما كف أيديكم عن قتال أهل مكة من المشركين.

(1) منى: مكان قرب مكة، وسمي بذلك لما يمنى به من الدماء، أي: يراق.

ص: 1009

(لِيُدْخِلَ اللهُ في رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ) أي: كفَّ أيديكم عنهم ليدخل الله في رحمته الواسعة من يريده - جل شأنه - من المؤمنين الذين يعيشون بين المشركين في مكة، فجعل لهم بعد خوفهم أمنًا، وبعد ذلك عزًّا، فيؤدّون في ظل ذلك عبادتهم لربهم على أَكمل وجه وأتم صورة في علانية دون استخفاء، أو: لِيَمُنَّ الله ويدخل من يشاءُ من المشركين في رحمته، وذلك باعتناقهم الإِسلام بعد أن رأوا ما عليه المؤمنون من تواد وتراحم وخلق كريم ودين قويم.

(لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) أي: لو تفرق هؤلاء المؤمنون والمؤمنات وتميزوا عن الكفار وخرجوا من مكة ولم يبقوا بينهم لعذبنا هؤلاء الكفار في الدنيا بالقتل والسبى وغير ذلك من ضروب التنكيل الشديد والإيلام العظيم.

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}

المفردات:

(الْحَمِيَّةَ): الكبر والأَنفة.

(سَكِينَتَهُ) السكينة: هي الوقار والحلم.

(أَلْزَمَهُمْ): اختار لهم وطلب منهم.

(كَلِمَةَ التَّقْوَى): هي: لَا إله إلا الله، كما جاء في حديث الترمذي وغيره مرفوعًا، وقبل غير ذلك.

ص: 1010

(أَحَقَّ بِهَا) أي: أولى بها من غيرها ومتصفين بمزيد استحقاق لها.

(وَأَهْلَهَا): وأصحابها المستأهين لها.

التفسير

26 -

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ

} الآية:

هذه الآية الكريمة تحكى ما كان من المشركين عند كتابة صلح الحديبية وتوثيقه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليًّا - كرم الله وجهه - فقال له: اكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل بن عمرو: لا أعرف هذا ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب (باسمك اللهم) فكتبها، ثم قال عليه الصلاة والسلام:(اكتب: هذا ما صالح عليه محمَّد رسول الله سهيل بن عمرو) فقال سهيل: لو كنا نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب: هذا ما صالح عليه محمَّد بن عبد الله سهيل بن عمرو) إلى آخر ما جاء في كتاب الصلح.

أي: تذكر - يا محمَّد - وذكر المؤمنين بذلك الوقت الذي ملأ فيه الكافرون قلوبهم كبرًا وأنفة بعدت بهم عن الحق، ونأت عن الصراط المستقيم، حيث لم يذعنوا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضوا الإقرار بالبسملة والتسليم برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يرضوا بكتابة ما أملاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ورقة صلح الحديبية، ولكن الله برعايته ولطفه أدرك المؤمنين بكريم عطفه وعظيم فضله، فأنزل الطمأنينة والوقار والحلم عليهم، وثبتهم وأرضاهم وشرح صدورهم إلى ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يدخل قلوبهم ما دخل في قلوب المشركين من الحمية.

وقال الإِمام الفخر الرازى: إن الله - تعالى - أبان غاية البون بين الكافر والمؤمن فأشار إلى ثلاثة أشياء:

(أحدها): جعل ما للكافرين بِجَعْلهم فقال: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ)، وجعل ما للمؤمنين بجَعْل الله - تعالى - فقال:(فَأَنْزَلَ اللهُ) وبين الفاعِلَيْن ما لا يخفى.

ص: 1011

(ثانيها): جعل للكافرين الحمية، وللمؤمنين السكينة، وبين المفعولَيْن تفاوت.

(ثالثها): أضاف الحمية إلى الجاهلية، وأضاف السكينة إلى نفسه حيث قال:(حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)، وقال:(سَكِينَتَهُ) وبين الإضافتين ما لا يذكر، ثم استطرد الإِمام الفخر فقال: قال الله في حق الكافر: (جَعَلَ)، وفي حق المؤمن:(أنزَلَ) ولم يقل: خلق ولا جعل سكينَتَه إشارة إلى أن الحمية كانت مجعولة في الحال، أما السكينة فكانت كالمحفوظة في خزائن رحمته معدَّة لعباده فأنزلها. وقال:(الحَمِيَّة) ثم أضافها بقوله: (حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ)؛ لأنَّ الحمية في نفسها صفة مذمومة، وبالإضافة إلى الجاهلية تزداد قبحًا، وللحمية في القبح درجة لا يعتبر معها قبح القبائح كالمضاف إلى الجاهلية، وأما السكينة في نفسها وإن كانت حسنة لكن الإضافة إلى الله فيها من الحسن ما لا يبقى معه لِحُسْنٍ اعتبار، فقال:(سَكِينَتَهُ) اكتفاء بحسن الإضافة.

(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا) أي: اختارها لهم وألزمهم بها - سبحانه - تكريمًا وتشريفًا لهم، وكانوا أحق وأولى من سواهم وأجدر من غيرهم بهذا التكريم؛ فيه صفوة خلقه وأصحاب رسوله رضي الله عنهم المختارون لدينه الحنيف. وقيل: هم أحق بها في الدنيا وهم أهلها بالثواب في الآخرة.

وكلمة التقوى هي: (بسمِ الله الرحمن الرحيم، ومحمَّد رسول الله) التي أبى سهيل ابن عمرو أن تكتب في صلح الحديبية، وقيل: هي لَا إله إلا الله، والله أكبر، وقيل: هي الثبات والوفاء بالعهد.

(وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) أي: يعلم - سبحانه - حق كل شيءٍ فيسوق ويعطى الحق لمن يستحقه، ويمنح العطاءَ من يستأهله، وذلك حسب ما تقتضيه حكمته وتوجبه رحمته.

ص: 1012

{لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)}

سبب النزول:

أخرج ابن المنذر وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا، فيقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا: إن رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق، فلما تأخر ذلك إلى العام القابل بسبب صلح الحديبية قال بعض المنافقين - استهزاءً -: والله ما خلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام. فنزلت هذه الآية.

التفسير

27 -

{لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ

} الآية:

أي: لقد أرى الله - سبحانه - رسوله الرؤيا الصادقة، ورؤيا الأنبياء كلها كذلك صادقة محققة؛ إذ هي أَحد وجوه الوحي إلى الأنبياء، وهذه الرؤيا ملتبسة ومرتبطة بالحق؛ وهو الغرض الصحيح والحكمة البالغة، فقد أظهرت وأَبانت حال المتردد والمتزلزل في إيمانه، وحال المطمئن الراسخ فيه الذي انشرح به صدره.

(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ) أي: والله لتدخلن المسجد الحرام؛ ويكون دخولكم إياه بمشيئته - سبحانه - وحده، ولا يرجع ذلك إلى قوة المسلمين وجلادتهم ومصابرتهم ولا إلى إرادة المشركين ومشيئتهم.

ص: 1013

وفي تعليق الدخول على مشيئة الله مع أنه - سبحانه - خالق الأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها ليُعَلِّم العبادَ أن يقولوا ذلك عندما يريدون فعل شيء أو تركه تأدُّبًا معه - جل شأنه - وتأكيدًا - لقوله تعالى -: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلا أن يشاء الله} (1). قال ثعلب: استثنى سبحانه وتعالى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون، أي: علق الدخول على مشيئته، ليفعل الخلق مثل ذلك فيما لا يعلمونه.

(آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ) أي: أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين متمكنين من أدائكم النسك وتصلون به إلى غايته؛ يحلق بعضكم ويقصر آخرون.

هذا، والحلق أفضل وأولى بالرجال، والتقصير أحق بالنساء.

(لا تخافون) قد تكفل الله - سبحانه - لرسوله ومن معه بكمال الأمن بعد تمام النسك، أي: تدخلون آمنين تحلقون وتقصرون، ويبقى ويدوم أمنكم بعد خروجكم من الإحرام فأنتم في حفظ الله ورعايته في حال الإحرام وبعده.

(فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا) أي: فعلم الله ما في صلح الحديبية من الحكمة والخير والمصلحة لكم ما لم تعلموا أنتم به؛ عَلِمَهُ - سبحانه - واقعًا وحاصلًا، وقد علمه أزلًا قبل وقوعه وهو بكل شيء عليم.

(فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) أي: جعل الله لكم من قبل دخولكم المسجد الحرام محلقين مقصرين - جعل لكم - من دون ذلك ومن قبله فتحًا عظيمًا قريبًا هو فتح خيبر، وما أصبغ فيه من الغنائم دون قتال، أو المراد من الفتح القريب: هو صلح الحديبية الذي قال عنه الزهرى: ما فتح الله في الإِسلام كان أعظم من صلح الحديبية؛ لأنه إنما كان القتال حين يلتقى الناس، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وأَمن الناس بعضهم بعضًا، فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة فلم يُكلَّم أحد بالإِسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، فلقد

(1) سورة الكهف، الآية 23، وبعض الآية 24.

ص: 1014

دخل في تَيْنِكَ السنتين في الإِسلام مثل ما كان في الإِسلام قبل ذلك وأكثر، يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ستٍّ يوم الحديبية ألفا وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا (28))

المفردات:

(لِيُظْهِرَهُ): ليعليه ويرفعه.

(عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ): على كل ما يدين ويتعبد به الناس من حق أو باطل.

التفسير

28 -

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا):

أي: هو - سبحانه - الذي أرَى نبيه الرؤيا الصادقة هو - كذلك - الذي أرسله وبعثه مصاحبًا للهدى والدليل الواضح والحجة البالغة والمعجزة الباهرة، وأرسله بالدين الحق الذي لا يأتيه الباطل، ولا ينال منه الزيف، ولا يعتريه التحريف، ليعليه - سبحانه - ويرفعه على كل ما يدين الناس ويستعبدون به من الشرائع والملل من الحق والباطل، وإظهار الإِسلام على الحق من الشرائع والملل يكون بنسخ بعض أَحكامه المستبدلة والمتغيرة بتبدُّل الأعصار والأزمان، وأما إظهاره على الباطل فيكون ببيان بطلانه وزيفه.

ص: 1015

هذا، والإِسلام بمبادئه وتعاليمه وشرائعه يسمو في كل زمان ومكان على كل شرعة ومنهاج، وذلك عند أصحاب الفطر المستقيمة والقلوب النقية السليمة، كما أنه - كذلك - عند من له أدنى بصر وبصيرة، ولا يضير الإِسلام أن خالفه المخالفون، فهم في واقع أمرهم معترفون في داخلهم، ولكنهم يستكبرون فينكرون، وصدق الله القائل:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللهِ يَجْحَدُونَ} (1). (وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا) هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعد له بأنه - سبحانه - لا محالة سيحقق له ما وعده به من إظهار دينه على جميع الملل والنحل وكفى الله شهيدًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، وشهادته له تكون بإظهار المعجزات على يديه، وقيل:(شهيدًا) على رسالته صلى الله عليه وسلم، وفي الآية - على هذا - تسفيه للكفار الذين أبَوا أَن يكتبوا في عقد صلح الحديبية (محمد رسول الله).

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ في الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29))

(1) سورة الأنعام من الآية 33.

ص: 1016

المفردات:

(يَبْتَغُونَ): يطلبون في جد واجتهاد.

(سِيمَاهُمْ): علامتهم وأمارتهم التي تميزهم.

(مَثَلُهُمْ): وصفهم العجيب الشأن البخاري مجرى المثل في الغرابة.

(شَطْأَهُ) شطء الزرع: فروخه، وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه، أي: جانبيه.

(فَآزَرَهُ): فأعانه وقواه.

(فَاسْتَغْلَظَ): فصار من الدقة إلى الغلظ.

(فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ): استقام على قصبه. والسُّوق: جمع ساق.

التفسير

29 -

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ

) الآية:

أي: هو محمَّد الذي وصف بالرسالة في قوله - تعالى -: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} ، وفي قوله - جل شأنه -:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} وجاء النص في هذه الآية بالتصريح بذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم تفخيمًا لشأنه وزيادة في إنزال السكينة والطمأنينة في قلوب المؤمنين، بعثًا للرجاء لدى بعض الشاكِّين المترددين كي يثبتوا على الإِسلام، فضلًا عن أن ذلك يغيظ قلوب الحاسدين والحاقدين على رسوله صلى الله عليه وسلم، وجاء وصف الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من الصحابة - رضوان الله عليهم - بأنهم أشداء على الكفار لقطع أمل الكفار ورجائهم في أن يداهنهم أو أن ينزل ويتجاوز عن بعض ما جاء به، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في غير هذه الآية بالغلظة على الكفار فقال:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (1) كما وصفه ربه - جل وعلا - بالرحمة والرأفة بالمؤمنين فقال: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ

(1) من الآية رقم 9: من سورة التحريم.

ص: 1017

رَءُوفٌ رَحِيمٌ} (1) أما صحابته رضي الله عنهم فشأنهم معه صلى الله عليه وسلم هو الطاعة والتأسي وبذل النفس والمال في سبيل الله، وقد قال الله في حقهم:{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} (2). وشدة الرسول عليه الصلاة والسلام ومن معه على الكفار تكون عند ملاقاتهم في الحروب، فلا تضعف عزائمهم ولا تلين قناتهم، فالمؤمن قد وعده الله إحدى الحسنيين إما الشهادة والموت في سبيل الله، أو الظفر والنصر، أَما فيما يتصل بمعايشة الكفار غير الحربيين فينبغى أن يكون المسلم على حذر منهم؛ لأنهم لا يألون جهدًا في المكر والكيد للمسلمين والنيل منهم، وصدق الله القائل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} (3) وهذا لا يمنع حسن الجوار معهم والبر بهم والعدل فيهم وقوله - تعالى -: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) أي: يتراحمون فيما بينهم، فلا يبغي بعضهم على بعض؛ فهم في تعاطف وتوادّ كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

وعن الحسن رضي الله عنه: بلغ من تشددهم على الكفار أنهم كانوا يتحرزون من ثيابهم أن تلزق بثيابهم، ومن أبدانهم أن تمس أبدانهم، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم أنه كان لا يرى مؤمن مؤمنًا إلا صافحه وعانقه.

أخرج أبو داود عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما" كما أثر (أن أحد الصحابة قدم على رسول الله في المدينة فاعتنقه وقبَّله) غير أن الإِمام النووى في كتابه الأذكار قال في التقبيل وكذا المعانقة: لا بأس به عند القدوم من سفر ونحوه، ومكروه كراهة تنزيه في غيره، ولعل دليله في هذا ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أخرجه الترمذي عن أنس في زيادة رزين - لما سئل عن الرجل يلقى أخاه أينحنى له؟ قال:(لا). قال: أفيلتزمه ويقبله؟ قال: (لا، إلا أن يأتى من سفره).

(1) سورة التوبة، الآية:128.

(2)

سورة المائدة، من الآية:54.

(3)

سورة آل عمران، من الآية:118.

ص: 1018

(تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا) الخطاب هنا لكل من تتأتى منه الرؤية، أي: تبصر وترى منهم كثرة الصلاة في أغلب أحوالهم وكثرة أحيانهم ليلًا ونهارًا؛ ينبئ ويدل على ذلك التعبير بالفعل المضارع (تَرَاهُمْ) فإنه يدل على استمرار الفعل وتجرده (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللهِ وَرِضْوَانًا) أي: يرجون في جد واجتهاد بانكسار قلب، وذلة نفس أَن يمنحهم الله من فضله ويمن عليهم من رضوانه تفضلًا منه وتكرمًا؛ لأنهم لا يرون لهم أجرًا على ما قدموا من عمل طيب، وأن ما قاموا به من طاعة وعبادة فهي - فضلًا على أنها بتوفيقه - دون أقل نعمة تفضل الله بها عليهم، فنعم الله وأفضاله كثيرة قبل وتعظم عن الإحصاء والحصر، ويقف الإنسان منها عاجزًا عن عدّها وبيانها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} (1).

(سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي: العلامة التي يتميز المؤمنين عن سواهم أن ترى في وجوهم سمة حسية وأَمارة تنبئ عنهم وتدل عليهم، وذلك يكون من كثرة ما يسجدون لربهم. قال جار الله الزمخشرى في الكشَّاف: وكان كل من العَلِيَّيْن: علي بن الحسين زين العابدين، وعلي بن عبد الله بن عباس أبي الأملاك يقال له: ذو الثَّفَنَات (2)؛ لأنَّ كثرة سجودهما أَحدثت في مواقعه منهما أَشباه ثفنات البعير.

وعن سعيد بن جبير: هي سمة في الوجه، فإن قلت: فقد جاءه عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا تعلبوا صوركم)(3).

وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلًا قد أثر في وجهه السجود فقال: إن صورة وجهك أنفك فلا تعلب وجهك ولا تَشِنْ صورتك. قلت: ذلك إذا اعتمد بجبهته على الأرض لتحدث فيه تلك السمة، وذلك رياءٌ ونفاق يستعاذ بالله منه، ونحن نتحدث فيما حدث في جهة السَّجاد الذي لا يسجد إلا خالصًا لوجه الله - تعالى - وعن بعض المتقدمين: كنا نصلى فلا يُرى بين أعيننا شيءٌ ونرى أحدنا الآن يصلي فيرى بين عينيه ركبة البعير: فما ندرى أثقلت الرءوس أم خشنت الأرض؟ وإنما أراد من تعمد ذلك للنفاق، وقيل: هو صفرة

(1) سورة إبراهيم من الآية: 34.

(2)

ثفن البعير: غلظت وصلبت المواضع التي يبرك عليها.

(3)

العلب: هو الأثر، أي: لا تعيبوا صوركم بما تحدثون من أثر كما يثلم ويكسر حرف الإناء والسيف.

ص: 1019

الوجه من خشية الله، وقال بعضهم: ليس هو النحول والصفرة ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين يبدو من باطنهم على ظاهرهم يتبين ذلك للمؤمنين ولو كان في زنجى أو حبشي. وعن عطاء رحمه الله استنارت وجوههم من طول ما صلوا بالليل، وفي الأثر:(مَن كثُرت صلاته بالليل حَسُنَ وجهه بالنهار)، وأخرج الطبراني في الأوسط والصغير وابن مردويه بسند حسن عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله - تعالى -: (سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ): "النور يوم القيامة". قال الإِمام الآلوسي: ولا يبعد أن يكون النور علامة في وجوههم في الدنيا والآخرة، لكنه لما كان في الآخرة أظهر وأتم خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر.

(ذَلِكَ) إشارة إلى ما سبق من صفاتهم الحميدة وشمائلهم العظيمة، وجاء اسم الإشارة (ذَلِكَ) الذي يدل على البعد للإيذان بعلو شأنهم وبعد منزلتهم في الكمال والفضل.

وقوله - تعالى -: (مَثَلُهُمْ في التَّوْرَاةِ) أي: وصفهم العجيب الشأن الجاري في الغرابة مجرى المثل لكونهم على صورة فريدة طيبة ومثال غريب لتميزهم في عباداتهم، وأنهم أُسوة لسواهم، وقدوة يحتذيها غيرهم ممن يأتي بعدهم، وجاء هذا الوصف الجليل لهم في الكتاب الذي أنزله الله على سيدنا موسى عليه السلام وهو التوراة.

(وَمَثَلُهُمْ في الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ) أي: وصفتهم العظيمة في الإنجيل الذي أنزله الله على سيدنا عيسى عليه السلام كزرع أَخرج فِراخه من أَغصان وأَفنان وأَوراق، فتفرعت في جانبيه فأعانه ذلك وقوّاه فصار من الدقة إلى الغلظ، واشتد فاستقام وانتصب هذا الزرع على أصوله وقصبه وسيقانه.

(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) أي: معجبًا لهم بقوته وكثافته وغلظه وحسن منظره، وخص الله - سبحانه - الزُّرَّاع بالذكر؛ لأنّهم أعرف من غيرهم بِجيِّد الزرع من رديئه، وبِقَوِيِّه من ضعيفه، ويحيطون علمًا بآفاته وعلله وعيوبه، فإذا أعجبهم وظفر باستحسانهم له - وهم أهل الخبرة فيه - فسواهم أولى وأجدر بالإعجاب، وأحق أَن يحظى لديهم بما يملأُ نفوسهم رضًا عنه وانفعالًا به.

ص: 1020

وذكر ابن جرير، وعبد بن حميد عن قتادة أنه قال: مكتوب في الإنجيل: سيخرج قوم يشبهون نبات الزرع يخرج منهم قوم يأْمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. نقول: وعلى هذا يكون الوصف للصحابة وحدهم.

وقال صاحب الكشاف: هو مثل ضربه الله - تعالى - لبدء الإِسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوى واستحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحدد ثم قواه الله - تعالى - بمن معه كما يقوى الطاقة الأولى ما يحتف بها ممَّا يتولد منها.

وظاهر قول الزمخشرى أن الزرع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشطء هو الصحابة، ولكل وجهة.

(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) أي: فعل الله - تعالى - هذا لمحمد صلى الله عليه وسلم ولأصحابه ليغيظ بهم الكفار ويجلب لهم الحسرة والندامة.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) أي: وعد الله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين آمنوا بالله حق الإيمان وعملوا من الصالحات ما جعلهم أهلًا لصحبة رسوله صلى الله عليه وسلم وعدهم وبشَّرهم بمغفرة منه لما عسى أن يكون قد بدر منهم من ذنوب هي إلى الصغائر أقرب، كما وعدهم وبشَّرهم بأجر عظيم وثواب كريم في الآخرة.

وقد استنبط الإِمام مالك من هذه الآية تكفير الذين يبغضون الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فإن الصحابة يغيظونهم، ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه كثير من العلماء، وفي كلام السيدة عائشة - رضي الله هـ عنها - ما يشير إلى ذلك، فقد تخرج الحاكم وصححه عنها في قوله - تعالى -:(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) قالت: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمروا بالاستغفار لهم فسبُّوهم.

أَعاذنا الله من ذلك، وثبت قلوبنا على محبته صلى الله عليه وسلم ومحبة أصحابه الذين قال فيهم:"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم"، وقال:"لا تسبوا أصحابى، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا لم يدرك مُدَّ أحدهم ولا نصيفه"(1) خرجهما البخاري - والله أعْلم.

(1) أي: لم يدرك مد أحدهم ولا نصف المد إذا تصدق بمثل جبل أحد ذهبا، والمد - بالضم - مكيال هو رطلان أو وطل وثلث، أو ملء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومد يده بهما وبه سمي مدًّا، وقد جربت ذلك فوجدته صحيحًا. القاموس المحيط.

ص: 1021