الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
له وحرصهما عليه بالسخرية والاستهزاء، وذلك عندما يدعوانه إلى الإيمان بالله فيقول:{أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} إلى أن يقول: {ما هذا إلا أساطير الأولين} .
6 -
عرضت السورة لأولئك النفر من الجن الذين صرفهم الله ووجههم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن الكريم فأنصتوا إليه عند سماعه، ثم ذهبوا إلى قومهم منذرين ومخوفين لهم من أن يخافوه؛ لأن القرآن مصدق لما جاء به موسى عليه السلام ولأنه يهدي إلى الحق الثابت والصراط المستقيم، وآمرين لهم باتباع ما جاء فيه ليغفر الله لهم ذنوبهم وينجيهم من عذاب أليم، وذلك تنبيه وتوبيخ للمشركين، حيث آمن به الجن وكفر به المشركون وعاندوا.
7 -
جاء في هذه السورة أن الله الذي خلق السموات والأرض ولم يصبه إعياءٌ أو ضعف أو تعب هو - سبحانه - قادر على إحيائهم بعد موتهم، وحسابهم على ما اقترفوا من كفر ومعاصٍ في الدنيا، وهذا تهديد لهم. وكانت نهايتها أمرًا من الله لرسوله أن يصبر على تكذيب قومه وإيذائهم له كما صبر أصحاب العزائم العالية من الرسل عليهم السلام ونهاه - جل شأنه - أن يستعجل لم العذاب فإنه آتيهم لا محالة، و {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} .
سبب تسمية السورة بهذا الاسم:
أنه قد ذكر فيها كلمة الأحقاف، وهي اسم للمكان الذي كانت فيه مساكن عاد قوم هود، وقد دمرهم الله بالريح الصرصر العاتية جزاء كبرهم وطغيانهم، قال تعالى:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} إلى قوله تعالى: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} .
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
{وأجل مسمى} : زمان محدود تنتهي عنده؛ وهو مدة بقاء الدنيا.
{أنذروا} : خُوِّفوا.
{معرضون} : مولون ومضربون عنه، من أعرضت عنه: أضربت ووليت عنه.
{أرأيتم} : أخبروني.
{شرك} أي: مشاركة وإسهام.
{أثارةٍ من علم} : بقية من علوم الأولين، وقيل غير ذلك، وسيأتي بيانه في الشرح.
التفسير
1 -
{حم} : هما حرفان من حروف المعجم تقدم الكلام فيهما وفيما يماثلهما من الحروف الواردة في أوائل بعض سور القرآن الكريم كسورة البقرة وغيرها، وكل ما قيل
في هذا الشأن مبني على فهم واجتهاد، وليس لا سند قاطع من كتاب الله - تعالى - أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم والأسلم والأحكم أن نترك أمر المراد منها إلى علم الله فنقول: الله أعلم بمراده.
2 -
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} .
أي: هذا القرآن العظيم منزل من عند الله العزيز الذي لا يغالب ولا يقهر، بل هو القاهر فوق عباده وهو - سبحانه - الحكيم في خلقه وتدبيره، وليس لأحد من الخلق دخل في تأليف هذا القرآن الكريم على آية صورة من الصور.
3 -
أي: ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما مما يعلمه وما لا يعلمه المخلوقون جميعًا إلَاّ خلقًا ملازما للحق لا ينفك عنه ولا سبيل إلى العبث فيه؛ قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا} (1)، وقال تعالى:{مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا باطلًا} (2) وقال جل شأنه: {مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعبين. ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون} (3) فهذا الخلق منه - سبحانه - قد ارتبط بالتدبير الحكيم، والتقدير العظيم ليدل به - تعالت عظمته - على تفرّده ووحدانيته وكمال قدرته، وأنه هو الذي يجب أن يعبد دون سواه كما أن هذا الخلق للسموات والأرض وما بينهما مقدر بأجل وزمان ينتهى عنده، ثم بعده يكون فناء الدنيا وقيام الساعة:{يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات} (4). وإن هؤلاء الكفار عن الهول والنكال الذي أنذروا وخوفوا به من أهوال الآخرة من الحشر والحساب والصراط والميزان وما ينتهى إليه أمرهم من العذاب المقيم - إن هؤلاء الكفار - معرضون عنه لا يلتفتون إليه ولا يفكرون فيه جهلا وكبرًا واستهزاءً ..
(1) المؤمنون، من الآية:115.
(2)
ص، من الآية:27.
(3)
الدخان، الآيتان: 38، 39.
(4)
إبراهيم، من الآية:48.
وبعد أن بين الله - سبحانه - أنه منزل الكتاب الحكيم وأنه - وحده - خالق السموات والأرض وما بينهما على مقتضى حكمته، وأن هؤلاء الكفار مع هذا كله معرضون ومدبرون عما خوفوا به من العذاب جاء قوله تعالى.
4 -
جاء هذا القول الحكيم تسفيهًا لهم، وقاطعًا عليهم سبيل اللجاج والجدل، أي: قل - يا محمد - لهؤلاء الضالين المكذبين الذين يعبدون غير الله من مخلوقاته أو مما تصنعه أيديهم - قل لهم -: أخبروني عما تعبدون من دون الله وتزعمون أنها آلهة تنزلفون إليها وتتقربون منها - أعلموني وأرشدوني - عن المكان الذي استقلت آلهتكم بخلقه من الأرض أخلقوا الماء أو اليابس؟ الشرق أو الغرب؟ السهل أو الجبل؟ الحيوان أم الجماد؟ عالم البر أو عالم البحر؟ دقيق المخلوقات أم عظيمها؟.
إن هذه المعبودات أقل شأنًا وأدنى منزلة من أن تخلق شيئًا، إنها مخلوقة لله، أو مصنوعة بيد الإنسان الذي خلقه الله، إنها لا تملك لكم رزقًا في السموات ولا في الأرض، إنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك موتًا ولا حياة ولا نشورًا.
قل لهم - أيها الرسول على سبيل التدرج معهم -: {أم لهم شرك في السموات} أي: بل ألهم شركة وإسهام مع الله - جل شأنه - في خلق السموات؟ هل ساعدوا الله وأعانوه في شيء من ذلك؟ - قل لهم يا محمد -: {ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم} أي: هاتوا لي الدليل وأقيموا لديَّ الحجة، هل عندكم من كتاب من الكتب المنزلة من عند الله قبل القرآن نشهد لكم بذلك؟ أو هل لديكم بقية من علوم الأولين تنطق باستحقاقهم العبادة وأنهم خلقوا شيئًا من الأرض، أو اشتركوا في خلق السموات، أو هل اختصكم الله وحدكم بعلم من عنده يؤيد ما تدعون {إن كنتم صادقين} أي: إن كنتم محقين في دعواكم فهاتوا ما لديكم من الأدلة؛ فإن الدعوى لا تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو دليل نقلي، وحيث لم يقم عليها شيء من العقل أو النقل فقد تبين بطلانها، وأُقيمت الحجة عليكم وظهر ضلالكم وبهتانكم.
المفردات:
{غافلون} : أصله من: غفل عن الشيء: تركه وسها عنه، والمراد هنا أنهم لاهون لا يسمعون.
{حشر الناس} : جمعوا يوم القيامة في صعيد واحد.
{افتراه} : نسبه كذبًا إلى الله.
{تفيضون فيه} : تندفعون وتخوضون فيه.
التفسير
5، 6 - {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُومِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}:
{وَمَنْ أَضَلُّ} الاستفهام هنا لإنكار أن يكون في الضالين كلهم من هو أشد ضلالا من عبدة غير الله، أي: ليس هناك من هو أبلغ ضلالا وأبعد إفكًا وانحرافًا عن الحق من هؤلاء الذين يعبدون غير الله من المخلوقات: أوثانًا أو ملائكة أو جنًّا أو بشرًا، ويتركون عبادة السميع العليم القادر على كل شيء، إنهم يعبدون معبودات لا ينفعون ولا يضرون، قال
- تعالى -: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} (1). إن هذه الآلهة المزعومة لا تستجيب ولا تلبي ما يطلبونه منها مدة بقاء السموات والأرض وإلى أن تقوم الساعة، إذ لا قدرة لها على ذلك فهي لا تسمع ولا تدري، قال تعالى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} (2). فإذا قامت القيامة وحشر الناس وجمعوا في صعيد واحد واشتد كربهم كانت هذه المعبودات أعداء لمن عبدوهم، وكانوا عليهم ضدًّا يخالفونهم ويلحقون بهم الذل والهوان، بعد أن اتخذوهم في الدنيا ليكونوا لهم مجدًا وعزًّا وذخرًا، قال تعالى:{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} (3) وقال أيضًا: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ} (4). كما أن العابدين الضالين ينكرون - يوم القيامة - أنهم عبدوا هذه المخلوقات، ويزعمون أنهم ما أشركوا بالله شيئًا، قال - تعالى - حكاية عنهم:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (5).
والمعنى: لا أحد أضل ولا أشقى ممن يعبدون آلهة غير الله لا تستجيب ولا تلبي نداءهم في الدنيا؛ إذ أنها لا تسمع ولا تبصر، فهي جماد، أما إذا كانت من الجن أو الإنس أو الملائكة فإنهم مشغولون بأمر أنفسهم، أو أن الله يحمي أسماعها عن أن تسمع دعاء هؤلاء، فضلًا عن أنها لا تملك شيئًا، وفي يوم الحشر تكون هذه المعبودات أعداء لعابديهم كذبهم وتتبرأ منهم، كما يتبرأُ العابدون من معبوداتهم ويقولون:{والله ربنا ما كنا مشركين} فيجمعون بين الشرك بالله والكذب، وكل ذلك لا يغنيهم من الله شيئًا.
(1) سورة الرعد الآية: 14.
(2)
فاطر، من الآية:14.
(3)
سورة مريم الآيتان: 81، 82.
(4)
البقرة، الآية:166.
(5)
الأنعام، الآيتان: 23، 24.
7 -
أي: وإذا تقرأ - يا محمد - كل هؤلاء الكفار المعاندين آياتنا المنزلة عليك - وهي واضحات ظاهرات لا لبس فيها ولا غموض، أو مظهرات ومُبيِّنَات لما أنزلت في شأنه من الأمور التي يلزم إظهارها وبيانها، قال الذين كفروا وجحدوا هذه الآيات دون تدبر وتأمل -:{هذا سحر مبين} أي: ما جئت به - يا محمد - سحر واضح بين، وذلك لأنهم عجزوا عن الإتيان بمثلها، وإذا سمعها غير المعاند آمن بها، فلهذا قالوا عنها: إنها سحر بين؛ لأنها تأخذ بألباب العقلاء فيؤمنون.
8 -
في هذه الآية الكريمة ينكر الله عليهم ويوبخهم على شناعة قولهم: إنه صلى الله عليه وسلم افترى وكذب على الله - جل شأنه - ونسب إليه القرآن.
أي: بل أيقولون افترى محمَّد على ربه القرآن ونسبه إليه؟ قل لهم - مسفها -: لو افتريتُه ونسبتُه زورًا وبهتانًا إلى ربي - كما تزعمون - لعاجلني الله بعقوبة هذا الكذب، وأنتم لا تقدرون على منع ربي - جل شأنه - وكفه عن معاجلتي، ولا تستطيعون دفع شيء من عقابه عني، فكيف أفترى القرآن على الله وأتعرض لعقابه؟ أيفعل ذلك من لديه بقية من عقل؟!.
{هو أعلم بما تفيضون فيه} أي: هو - سبحانه - عليم بالذي تأخذون وتندفعون بحماقة وتسرع في القدح والذم والطعن فيه، وتسميته سحرًا تارة وافتراءً تارة أخرى إلى غير ذلك من ضروب النيل من كتاب الله.
{كفى به شهيدًا بيني وبينكم} أي: يكفيني ويملأُ قلبي اطمئنانًا أن الله - سبحانه - شهيد بيني وبينكم، يشهد لي بالصدق فما أُبلغه لكم عنه، ويشهد عليكم بالجحود، والنكران والكفر.
وفي هذه الآية الكريمة ما لا يخفى من التهديد والوعيد على إفاضتهم واندفاعهم في تنقيص ما أوحى الله به إلى رسوله.
{وهو الغفور} أي: وهو وحده الذي يغفر الذنوب ويتجاوز عن السيئات، بل قد يبدلها حسنات، وهو {الرحيم} بعباده يفتح لهم أبواب رحمته وييسر لهم طرق الخير، وينعم عليهم بنعمه الدقيقة التي لا يفطن إليها إلا من جعل الله له نورًا في قلبه.
وفي ختم وتذييل الآية الكريمة بهذين الوصفين الجليلين له - سبحانه - فتح لِبَاب الرَّجاء في الله، وسدٌّ لبابِ اليأس والقنوط من رحمته، أي: هلم أيها العاصون والكافرون إلى ساحة رضواني، تتوبون فأتوب عليكم، وتستغفرون فأغفر لكم، وتلجأون إلى رحابي فأضمكم إلى جنابي وأشملكم بفيض رحماتي.
المفردات:
{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} : ما كنت مستحدثًا في الدين، وهو من قولهم: فلان بدْعٌ في هذا الأمر، أي: هو أول من فعله، فيكون المعنى: قل: ما أنا أول من جاء بالوحي من الله.
التفسير
9 -
قيل في سبب نزول هذه الآية الكريمة: إن الكفار كانوا يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات عجيبة، ويسألونه عمَّا لم يوح به الله من الغيوب - عنادًا ومكابرة - فأمر الله رسوله أن يقول لهم:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} أي: قل يا محمد لهؤلاء الكفار المنكرين الظالمين: ما أنا أول من جاء بالوحي من عند الله، بل قد أرسل الله الرسل قبلي مبشرين، أو منذرين ومبلغين ما أنزل إليهم من ربهم؛ ولا يقترحون على الله الآيات، ولا يتحدثون عن الغيب الذي استأثر الله بعلمه، فكيف أقترح على الله تلك الآيات التي تريدونها: أو أخبركم بالغيب الذي استأثر الله بعلمه، فكيف تستنكرون وتستبعدون بعثتي إليكم وأنا على هداهم وطريقتهم؟
{وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} أي: لا أعلم ما يحدث بي، أأخرج من بلدي وأهلي كما أُخرجت الأنبياء عليهم السلام قبلي؟ أم أقتل كما قتل بعض الأنبياء قبلي؟ ولا أدري ما يفعل بكم؟ أأمتي المكذبة أم أمتي المصدقة؟ أأمتي المرمية بالحجارة من السماء قذفًا أم المخسوف بها خسفًا؟ أو المراد: أتؤمنون فتدخلوا الجنة، أم تكفرون فتعذبوا، وتُستأصلوا بكفركم وشرككم؟ ثم أنزل الله بعد ذلك قوله تعالى:{إن ربك أحاط بالناس} (1) فعرف أنه لا يقتل، ثم أنزل:{هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله} (2) فعرف أن دينه سيظهر على الأديان كلها، ثم أنزل:{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} (3) فأخبره الله بما يصنع به وما يصنع بأمته.
{إن أتبع إلا ما يوحى إليَّ} أي: ما أنا إلا متبع وممتثل وحي الله أُبلغه إليكم، وليس لي من الأمر شيء فيما تقترحون وتطلبون.
(1) الإسراء، من الآية:60.
(2)
التوبة، من الآية:33.
(3)
الأنفال، الآية:33.
{وما أنا إلا نذير مبين} أي: لست إلَاّ منذركم ومخوفكم عقاب الله حسبما يوحي إليّ مظهرا ومبيِّنًا ذلك لكم بالحجج القاطعة والمعجزات الباهرة التي يؤيدني الله بها.
والمعنى الإجمالي: لست أول رسول جاء بالوحي من الله، بل قد سبقني الرسل إلى أقوامهم مبشرين الطائعين، ومنذرين ومخوفين الكافرين والعاصين، ولست أعلم ما يحصل لي في الدنيا من البقاء في بلدي أم أخرج إلى غيرها وأهاجر إلى سواها، أم أُقتل كما قتل بعض الأنبياء قبلي، ولا أدري ما يحصل لكم: أتكذبون فتعذبوا وتستأصلوا أم تصدقون فتنصروا ثم تدخلوا الجنة، ولست إلا متبعا وممتثلًا أمر ربي، فليس لي من الأمر شيء فيما تقترحون وتطلبون من الآيات الغريبة والمعجزات العجيبة، وما أنا إلا منذر لكم ومخوف عقاب الله وَفق ما يأمرني به ربي مؤيدًا منه - سبحانه - بالحجج والبراهين الساطعة. وحسبكم القرآن في الدلالة على صدقه، فإنه آية الآيات.
10 -
روى البخاري ومسلم والنسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض: إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام رضي الله عنه وفيه نزلت: {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله} وعلى هذا تكون الآية مدنية.
وقد روى أنه (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر عبد الله بن سلام إلى وجهه صلى الله عليه وسلم فعلم أنه ليس وجه كذَّاب، وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر، وقال له: أني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي: ما أوَّل أشراط الساعة؟ وما أوَّل طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أما أول أشراط الساعة
فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأمّا أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأنا الولد فإذا سبق ماءُ الرجل نزعه وإذا سبق ماء المرأة نزعته، فقال عبد الله: أشهد أنك رسول الله حقًّا، ثم قال: يا رسول الله إن اليهود قومٌ بهت، وإذ علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني (1) عندك، فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي رجل عبد الله فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أسلم عبد الله؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لَا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه، قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول الله وأحذر).
وعلى هذا فالشاهد هو عبد الله بن سلام.
والمعنى: قل - يا محمد لهؤلاء اليهود -: أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به، واجتمعت شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله ومسارعته ومبادرته إلى الإيمان به مع استكباركم عليه، وعن الإيمان بالذي جاء به، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ والمراد من قوله - تعالى -:{على مثله} هو التوراة؛ فإن كلاًّ منهما مُنزل من عند الله، أو على مثل القرآن الكريم في المعنى، وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن من التوحيد والوعد والوعيد، ويدل على ذلك قوله - تعالى -:{وإنه لفي زبر الأولين} (2)، وقوله:{إن هذا لفي الصحف الأولى} (3)، وقيل:{مثل} في قوله تعالى: {على مثله} كناية عن القرآن نفسه مبالغة، ويكون المعنى: وشهد شاهد على القرآن بأنه من عند الله، وقيل: الشاهد موسى عليه السلام وشهادته بما في التوراة من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وبه قال الشعبي.
{والله لا يهدي القوم الظالمين} أي: والله - تعالى - لا يأخذ بيد الظالم فيرشده ويهديه إلى سواء السبيل؛ فأنتم بظلمكم أنفسكم واستعلائكم على الإذعان للحق لا يهديكم الله، وستمكثون في الحيرة والضلال ومأواكم النار وبئس المصير.
(1) بهته بهتا وبهتًا وبهتانا: قال عليه ما لم يفعل: القاموس.
(2)
الشعراء، الآية:196.
(3)
الأعلى، الآية:18.
المفردات:
{إفك} : كذب وبهتان.
{إمامًا} : قدوة وأسوة يؤتم ويقتدى به.
التفسير
11 -
ورد في سبب نزول هذه للآية الكريمة أقوالٌ منها: أنها نزلت في بني عامر وغطفان وتميم وغيرهم لمَّا قالوا ذلك في شأن من أسْلَمَ منهم، وقيل: إنها نزلت في اليهود لما أسلم عبد الله ابن سلام، وقيل: نزلت لما أسلمت زنيرة - وكانت أمة لعمر بن الخطاب وقد أسلمت قبله وكان يضربها لإِسلامها - فأُصيبت في بصرها، فقال المشركون لها: أصابك اللَاّت والعزى، فرد الله عليها بصرها، فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمدٌ خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة.
أي: قال الذين كفروا بالقرآن الكريم وبالرسول العظيم - استكبارا واستعلاء - قالوا في شأن المؤمنين الذين آمنوا برسول الله وبما أُنزل عليه: لو كان خيرا وهداية ما سبقنا في الإيمان به هؤلاء الأدنوْن الأراذل والمستضعفون والعبيد والإماء.
وما دفع هؤلاء الكافرين المكذبين إلى ما ذهبوا إليه إلا أنهم يظنون أن لهم عند الله وجاهة ومنزلة ومكانة، فهم يبنون أمر الدين على أمر الدنيا، وقد حكى القرآن الكريم ذلك عنهم فقال - تعالى -:{لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} والكفار بظنهم هذا قد أخطأوا خطأ بينا؛ فقد غاب عنهم، بل أعماهم كبرهم فلم يهتدوا إلى أن الميل إلى الخير والانعطاف نحو الرسل واتباعهم إنما يكون ذلك منوطًا بكمالات نفسية وملكات روحية، مبناها الإعراض عن زخارف الدنيا والإقبال على الآخرة وما يقرب منها:{وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} أي: أنهم لمَّا لم يصيبوا الهدى والرشاد بالقرآن الكريم مع وضوح إعجازه عادوه ونسبوه إلى الكذب، وقالوا: هذا كذبٌ قديم وأساطير مأثورة نسبها محمد إلى الله.
وقيل لبعضهم: هل في القرآن: (من جهل شيئا عاداه؟) قال: نعم، قال الله - تعالى -:{وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} ، ومثله:{بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} (1).
12 -
أي: ومن قبل القرآن كانت التوراة التي أنزلها الله على موسى عليه السلام إمامًا يقتدى به في شرائعه - سبحانه - ورحمة لمن صدق به وعمل بما جاء فيه؛ وأنتم أيها الكفرة المكذبون لا تنازعون في ذلك؛ فالتوراة التي تؤمنون بها مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فإذا سلمتم أنها من عند الله - وأنتم مقرون بذلك - فاقبلوا حكمها بأن محمدًا رسولٌ - حقا - من عند الله.
{وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا} أي: وهذا القرآن كتاب رفيع القدر عظيم الشأن مصدق لما نزل قبله من الكتب، وقد جاء لسانا عربيا فصيحا نازلا بلغتكم التي برعتم في
(1) يونس، من الآية:39.
فنونها وضروبها، فكيف تنكرونه وتجحدونه؛ وهو أفصح بيانا وأظهر برهانا وأبلغ إعجازا من التوراة؟
{لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين} أي: ليكون القرآن الكريم إنذارًا وتخويفًا متجددًا للذين ظلموا غيرهم بالافتراء والكذب عليهم، كما ظلموا أنفسهم بحرمانها من الخير العظيم والنعيم المقيم في الآخرة، مع تعريضها للعذاب الأليم والهوان والذل في النار، كما يكون القرآن بشارة وإخبارًا بالمنزلة الكريمة عند الله للذين أحسنوا وأخلصوا أعمالهم وراقبوا مولاهم في سرهم وعلانيتهم.
وفي هذا تحذيرٌ للمؤمنين أن يسلكوا مسالك الذين ظلموا؛ ودعوة إلى الكافرين أن يتوبوا إلى الله ويرجعوا إليه ليعمهم بإحسانه وفضله، فباب التوبة مفتوح، والله - سبحانه - يقول:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1).
التفسير
13 -
أي: إن الذين قالوا بلسانهم تعبيرًا عما اشتملت عليه قلوبهم، ودلالة على ما اطمأنت به نفوسهم، وأذعنت له أفئدتهم، قالوا: ربنا الله رعانا بإحسانه وحفَّنا بلطفه، وتكفل
(1) النساء، من الآية:116.
- سبحانه - تفضلا منه بأسباب حياتنا، ثم استقاموا على شريعته فامتثلوا أوامره واجتنبوا نواهيه ولزموا محجته فلا يلحقهم ما يخافونه ويكرهونه في الآخرة، ولا يُرَوَّعون؛ لأنهم خافوه - سبحانه - في الدنيا فأمنهم في الآخرة؛ إذ لا يجمع الله على المؤمن خوفين: خوف الدنيا وخوف الآخرة، كما أنه لا يصيبهم حزن ولا أسف على ما خلفوه في الدنيا من مال أو ولد أو جاه، فكل نعيم دون الجنة زائل.
14 -
{أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} :
أي: أولئك الذين سمت بهم أعمالهم، وعلت منزلتهم لدى ربهم هم أصحاب الجنة الذين يمكثون فيها أبدًا، ويقيمون بها سرمدًا، يتفضل الله عليهم بهذا النعيم الدائم كفاءً وجزاء على ما كانوا يعملونه - بتوفيق الله - في دنياهم من خير، ويقدمون من برّ، ويبذلون من طاعة.
المفردات:
{ووصينا الإنسان} : ألزمناه وأمرناه.
{حملته أمه كرها ووضعته كرها} : بكره ومشقة وتعب في الحمل والوضع.
{وفصاله} الفصال: الفطام، وهو مصدر (فَاصَل) فكأن الولد فاصل أمه والأم فاصلته.
{أشده} : كمال قوته وعقله ورشده.
{أوزعني} : ألهمني ووفقني.
مناسبة هذه الآيات لما قبلها:
لما كان أمر الأولاد يختلف مع والديهم برًّا وعقوقًا كما يختلف أمر الأمم مع أنبيائهم استجابة لهم وإعراضًا عنهم كانت هذه الآيات متصلة بما قبلها.
التفسير
15 -
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا
…
} الآية:
سبب النزول:
هذه الآية الكريمة نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه روى ذلك عن ابن عباس وعلي رضي الله عنهم.
قال عليّ - كرم الله وجهه -: هذه الآية نزلت في أبي بكر الصدايق رضي الله عنه أسلم أبواه جميعًا، ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره فأوصاه الله بهما ولزم ذلك.
وعند قوله - تعالى -: {وأن أعمل صالحا ترضاه} قال ابن عباس رضي الله عنهما: فأجاب الله أبا بكر فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله، منهم: بلال، وعامر بن فهيرة. ولم يدع شيئًا من الخير إلا أعانه الله عليه.
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "من تَبِع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "من أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امريء إلَاّ دخل الجنة".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ودعا أبو بكر أيضًا فقال: {وأصلح لي في ذريتي} فأجابه الله تعالى؛ لم يكن له ولد إلا آمنوا، وقد أدرك أبواه وولده عبد الرحمن وولده أبو عتيق النبي صلى الله عليه وسلم وآمنوا به، ولم يكن ذلك لأحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين -.
وقد استدل الإمام عليّ - كرم الله وجهه - بهذه الآية الكريمة مع التي في سورة لقمان: {وفصاله في عامين} مع قوله - تعالى - في سورة البقرة: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} استدل رضي الله عنه بذلك على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوى صحيح. ووافقه على ذلك عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم فعن معمر بن عبد الله الجهني قال: تزوج رجل منا امرأة من جهينة فولدت له لتمام ستة أشهر، فذُكر ذلك لعثمان رضي الله عنه فأمر عثمان برجمها فبلغ ذلك عليًّا - كرم الله وجهه - فأتاه فقال له: ما تصنع؟ قال: ولدت تمامًا لستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له عليّ: أما تقرأ القرآن؟ فقال: بلى. قال: أما سمعت الله عز وجل يقول: {وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} وقال: {حولين كاملين} فما نجده بقي إلَاّ سته أشهر. قال عثمان رضي الله عنه: والله ما فطنت بهذا.
قال معمر: فوالله ما الغراب بالغراب ولا البيضة بالبيضة أشبه منه بأبيه، فلما رآه أبوه قال: هذا ابني ولا أشك فيه.
وفي هذا إشارة إلى أن مدة الحمل والرضاع معًا لا تتجاوز الثلاثين شهرا؛ فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع واحد وعشرون
شهرا، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاثة وعشرون شهرًا، وإذا وضعته لستة أشهر فحولان كاملان؛ لأن الله - تعالى - يقول:{وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} .
والمعنى: وألزمنا الإنسان وأمرناه أن يحسن إلى والديه إحسانًا عظيمًا وأن يبرهما برًّا كريمًا، فالإحسان إلى الوالدين هو ثاني أفضل الأعمال، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها". قلت: ثم أيّ؟ قال: "بر الوالدين" قلت: ثم أيّ؟ قال: "الجهاد في سبيل الله" متفق عليه.
كما عد رسول الله صلى الله عليه وسلم عقوقهما ثاني أكبر الكبائر، فعن أبي بكرة نفيع بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ - ثلاثًا - قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال: ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" متفق عليه.
{حملته أمه كرها} أي: قاست بسببه في حال الحمل به مشقة وتعبًا من رحم وغثيان وثقل وكرب {ووضعته كرهًا} أي: بمشقة أيضًا من الطلق وشدته {وحمله وفصاله ثلاثون شهرًا} أي: أنهما لم تقف مشقتها وتعبها عند الوضع بل استمر ذلك في مدة رضاعه وفطامه؛ فقد سهرت عليه وقامت على أمره وعانت من تربيته في تلك الفترة الدقيقة من حياته ما جعلها تتعب ليستريح، وتشقى ليسعد، وتسهر لينام، كل ذلك مع حسن رعاية وكمال عناية رجاء أن تستمر حياته ويمتد به العمر وتنعم به كبيرًا كما سعدت به صغيرًا.
{حتى إذا بلغ أشده} أي: حتى إذا قوى وشهب واكتهل واستحكمت قوته {وبلغ
أربعين سنة} أي: تناهى عقله وكمل فهمه وحمله؛ فسنُّ الأربعين تمام النضج وتمام الحلم، فعنده تكمل الملكات وتتناهى الكمالات، ولا يرجى لأحد بعد أن يبلغ هذا العمر أن يزاد في عقله، فهذا بلغ هذه السن {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} أي: اتجه إلى ربه الذي دعاه وربَّاه وجعله يتقلب في منِّه وكرمه وإنعامه قائلا: يا رب رغبني وألهمني أن أقوم بحق نعمتك العظيمة التي أنعمت بها علي، واهدني إلى القيام بصرفها
وتوجيهها إلى ما خلقتها له، فنعمُك يا رب وفيرة وآلاؤك جليلة؛ فقد وفقتني إلى نعمة الإِسلام، وجعلتني من خير أمة أخرجت للناس، وأنعمت علي بالصحة والعافية والغنى عن الناس، ورزقتني الولد ولم تجعلني فردا منقطع الذرية، وأسألك أن تديم عليّ شكر النعمة التي أنعمت بها على والديّ من الإيمان بك وبرسولك، وبالتحنُّن والشفقة عليّ حتى ربياني صغيرًا {وأن أعمل صالحا ترضاه} أي: اجعل عملي كثيرا عظيما سالما من عدم قبولك له، وذلك بأن يكون خالصًا من الرياء والعجب حتى يكون على وَفق رضاك {وأصلح لي في ذريتي} أي: اجعل الصلاح والبر وعمل الخير ساريا في ذريتي راسخا فيهم حتى يكونوا لك عبيد حق، ولي خَلَفَ صِدق. {إني تبت إليك وإني من المسلمين} أي: إني رجعت عما كنت عليه مما لا ترضاه أو يشغلني عنك، وإني من الذين أسلموا إليك أمرهم وأخلصوا أنفسهم لك وأفردوك بالعبادة.
جاء في كتاب الجامع لأحكام القرآن للإمام القرطبي: وكان مالك بن أنس يقول: اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرِّف؛ فقال له: استعن عليه بهذه الآية وتلا: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} :
نقول: هذا توجيه سديد وإرشاد حكيم؛ فخير الدعاء ما كان بالمأثور من كتاب الله - تعالى - أو من السنة النبوية المطهرة.
16 -
أي: أولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة التي بها علت منزلتهم وسمت مكانتهم عند ربهم يتقبل الله - سبحانه - منهم أفضل أعمالهم وأحسنها - من الأعمال المفروضة والمندوبة - فيجازيهم عليها أفضل جزاء وأكمل ثواب، أما الأعمال المباحة فليست محل ثواب إلا إذا اقترنت بها نيَّة الطاعة والقربى لله عز وجل وذلك كمن يأكل ناويًا أن
أن يتقوى بذلك على أمر مفروض أو مندوب ونحو ذلك، فإن الله يثيبه عليه، والحكم عكس ذلك إذا اقترنت بالمباح ولا بسته نية المعصية فإن الله يعاقب عليه "وإنما لكل امريء ما نوى".
{ونتجاوز عن سيئاتهم} أي: يتجاوز الله عن سيئات المذنبين؛ لتوبتهم المشار إليها بقوله - تعالى - في الآية السابقة: {إني تبت إليك وإني من المسلمين} أو لغلبة حسناتهم على سيئاتهم، لقوله - تعالى -:{إن الحسنات يذهبن السيئات} (1) أو لاجتناب الكبائر، لقوله - تعالى - في سورة النساء:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} ، أما أصحاب السيئات الذين لم يكونوا من هؤلاء وهم مسلمون مؤمنون، فأمرهم مفوض إلى الله تعالى، فإما أن يعفو عنهم أو يعاقبهم.
وهؤلاء الذين يتجاوز الله عن سيئاتهم {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} أي: في عداد أصحاب الجنة منتظمون في سلكهم يحقق الله لهم وعد الصدق الذي كانوا يوعدون به في الدنيا على ألسنة الرسل - عليهم الصلاة والسلام - من الجزاء الحسن والنعيم المقيم في جنة عرضها السموات والأرض، ويتمتعون فيها بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فسبحانه من إله كريم بر رحيم.
(1) سورة هود، من الآية:114.
المفردات:
{أفٍّ لكما} الأفِّ: صوت يصدر عن المرء عند تضجره، وأصله: الوسخ الذي حول الظفر، وقيل: الأُف: وسخ الأذن، يقال ذلك عند استقذار الشيء ثم استعمل ذلك عند كل شيء يتضجر ويتأذى منه (1).
{أخرج} : أُبعث من القبر بعد الموت.
{وقد خلت القرون} : وقد مضت الأزمان.
{وهما يستغيثان الله} : وهما يلجآن إلى الله أن يدفع الكفر عن ولدهما.
{ويلك} : هلاكا لك، وأصل الويل: دعاءٌ بالهلاك يُقام مقام الحث على الفعل أو الترك؛ إشعارًا بأن ما هو مرتكب جدير أن يهلك مرتكبه، والمراد هنا: الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الدعاء بالهلاك.
{أساطير الأولين} : أباطيل وأكاذيب السابقين التي سطروها في الكتب من غير أن يكون لها حقيقة.
{حق عليهم القول} : ثبت ووجب.
التفسير
17 -
{وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا
…
} الآية:
هذه الآية الكريمة عامة تتناول كل كافر عاق لوالديه منكر للبعث؛ فقد جاء في الآية التالية: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ .. } فدل ذلك على أن الحكم عام لكل من يقول ذلك لوالديه، ونزولها في شخص معين لا ينافي العموم؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالمراد من الذي قال لوالديه أف لكما: كل من يقول ذلك لهما.
(1) اللسان: مادة (أفف).
وجاء في كتاب روح المعاني للعلامة الآلوسي: وزعم مروان - عليه ما يستحق - أنها نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما وردت عليه السيدة عائشة رضي الله عنها أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن عبد الله [بن المدائني] قال: إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال: إن الله - تعالى - قد أرى لأمير المؤمنين - يعني معاوية - في يزيد رأيًا حسنًا، أن يستخلفه فقد استخلف أبو بكر وعمر، فقال عبد الرحمن ابن أبي بكر: أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا لأحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية إلا رحمة وكرامة لولده. فقال مروان: ألست الذي قال لوالديه: {أف لكما} ؟ فقال عبد الرحمن: ألستَ ابن اللعين الذي لعن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أباه؟ فسمعت عائشة رضي الله عنها فقالت: مروان، أنت القائل لعبد الرحمن كذا وكذا؟ كذبت - والله - ما فيه نزلت. نزلت في فلان بن فلان.
ومعنى الآية: أن هذا الولد الكافر باللهِ المنكر للبعث، قال لوالديه وقد دعواه إلى الإيمان بالبعث: إني أتضجر منكما، وأضيق بما تُلقيان على مسامعي من سقط القول وسخف الكلام، أتعدانني وتخبرانني أن أُخرج حيا من قبري، وأبعث بعد موتي؛ وقد مضت القرون والأزمان ولم يبعث أحد من قبره يخبرنا بذلك؟ وكأن هذا العاق قد تمثل بقول القائل:
ما جاءنا أحد يُخبرُ أنه
…
في جنَّةٍ لما مضى أو نارٍ
ولكن شفقة الوالدين وفرط حنانهما عليه دفعهما إلى الالتجاء إلى الله والاستغاثة به رجاء أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو فيه من الضلال والكفر وإنكار البعث؛ وحملهما ذلك أيضًا على أن يحضانه على الإيمان باللهِ ويحذرانه مغبة ما هو مقيم عليه، فيقولان له:{ويلك آمن إن وعد الله حق} أي: هلاكًا لك إن أصررت على ما أنت عليه من الكفر، صدق بالله وبالبعث، فإن وعد الله حق لا يتخلف، فأولى لك أن تقبل على ما دعوناك إليه من الإيمان، ولكن هذا الشقي الفاجر - مع الحث والتحذير له من والديه - يصر ويقول:{ما هذا إلا أساطير الأولين} أي: ما هذا الذي تسميانه وعد الله إلا إباطيل وأكاذيب السابقين الأولين قد كتبوها وسطروها من غير أن يكون لها حقيقة.
18 -
أي: هؤُلاء الكفار الذين بعدوا من الحق وعن الصراط المستقيم قد وجب عليهم القول والوعيد الذي قاله الله لإبليس ومن تبعه - عليهم اللعنة -: {لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين} (1) وسيكونون في عداد أُمم وجماعات من الجن والإنس كانوا على شاكلتهم كذبوا كما كذبوا وعاندوا واستكبروا وساروا على نهجهم فباءوا بالخسران والحرمان من الجنة التي خسروها بسوء معتقدهم وفحش عملهم.
المفردات:
{الهون} : الهوان والذل.
التفسير
19 -
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} :
أي: ولكل فريق من الأبرار الأتقياء، والعاقين الأشقياء لكل منهما منازل ينزلون فيها في أخراهم، فأهل الجنة لهم درجات ونعيم يتقلبون فيه، في سعادة غامرة، وقلوب بالرضا عامرة، ونفوس مطمئنة في جنات تختلف منازلها رفعة وعلوا، فالذين رفعتهم أعمالهم إلى درجات أعلى لا يجدون في نفوسهم على مَنْ دونهم في الجنة استكبارا أو استعلاء، كما لا يجد الذين منحهم الله في جناته دون ذلك في صدورهم غلا ولا حقدا على من فوقهم منزلة في الجنة، قال - تعالى -:{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} (2).
(1) سورة ص، الآية:85.
(2)
سورة الحجر، الآية:47.
أما الفريق العاق العاصي فإنه يتدنَّى ويتسفل في دركات النار يلقى سعيرها ويعذب بأليم عقابها يتلاومون فيها ويلقى كل على صاحبه التبعة، ويتبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتَّبعوا، وهم يومئذ بعضهم لبعض عدو.
وهذا النعيم المقيم، وذاك العذاب الأليم يجزيهم الله - سبحانه - به جزاءً وفاقًا على أعمال عملوها في الدنيا فلا ينقص الله من أجر الطائعين، ولا يزيد في عقاب العاصين:{ولا يظلم ربك أحدا} (1).
20 -
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا
…
} الآية:
لما ذكر سبحانه وتعالى أحوال بعض الأشقياء ومآلهم أردفه - جل وعلا - بذكر حال الكافرين عامة في أُخراهم، أي: ذكِّر يا محمَّد هؤلاء المعاندين المكابرين - ذكرهم - يوم يظهر الله للكفار نار جهنم فينظرون إليها ويعلمون أنهم ملاقوها فيقال لهم - تقريعا وتوبيخًا وتسفيهًا لهم عما قدموا -: استنفدتم طيباتكم من المآكل والمشارب والملابس، والمفارش وأنواع المتع والشهوات، وتمتعتم بتلك اللذائذ واستعجلتموها في الدنيا، فليس لكم حظٌّ ولا نصيبٌ منها في الآخرة؛ لأنكم لم تكونوا مؤمنين حتى تنالوا النعيم الأبدي الخالد، بل اشتغلتم بشهوات الدنيا ولذائذها، وقضيتم حياتكم في لهو الشهوات وحمأة المعاصي، وعميت أبصاركم عما ينفعكم في الآخرة من الإيمان باللهِ والعمل في مرضاته، ففي هذا اليوم - وهو يوم القيامة - يُجازيكم الله عذاب الذُّل وعقاب الهوان؛ لأنكم كنتم في الدنيا تستعلون وتتكبرون بغير استحقاقٍ لكم في ذلك الصلف والكبر، وتستنكفون أن تعترفوا بأنكم خلق الله وعباده؛ فترفعتم عن الإيمان بالله إلها واحدًا، ومع هذا الكفر الصريح الدائم منكم كنتم مستمرين على الفسق خارجين عن طاعته - سبحانه - فقد جمعتم بين ذنب القلب بالكفر، وذنب الجوارح بالعصيان والفسق.
(1) سورة الكهف، من الآية:49.
هذا، والترفع والزهد في الاستمتاع بلذائذ الحياة سمة الصالحين وحلية الأولياء، وأُسوتهم في ذلك رسولنا صلى الله عليه وسلم فقد ورد في صحيح مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه دخل على النبي عليه الصلاة والسلام في مشربته حين هجر نساءه، قال عمر: فالتفت فلم أر شيئًا يرد البصر إلا أُهُبًا (1). (جلودًا معطونة قد سطع ريحها)، فقال: يا رسول الله؛ أنت رسول الله وخيرته، وهذا كسرى وقيصر في الديباج والحريير؟ فقال: فاستوى جالسًا وقال: "أفي شك أنت يا بن الخطَّاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا"، فقلت: استغفر الله لي، فقال:"اللهم اغفر له".
وقال حفص بن أبي العاص: كنت أتغدى عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخبز والزيت، والخبز والخلّ، والخبز واللبن، والخبز والقديد، وأقل ذلك اللحم الغريض (الطري غير المجفف)، وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فإنه طعام كله، فجيء بخبز متفلع (مشقق غليظ) فجعل يأكل ويقول: كلوا، فجعلنا لا نأكل، فقال: ما لكم لا تأكلون؟ فقلنا: والله يا أمير المؤمنين نرجع إلى طعام ألين من طعامك هذا: فقال: يا بن العاص، أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بعناق (2) سمينة فيلقى عنها شعرها ثم تخرج مصليَّة (مشوية) كأنها كذا وكذا، أما ترى بأني عالم أن لو أمرت بصاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء ثم أشنّ عليه من الماء فيصبح كأنه دم غزال، إلى أن قال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركناكم العيش، ولكني سمعت الله - تعالى - يقول لأقوام:{أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} .
وقال جابر: اشتهى أهلي لحمًا فاشتريته لهم فمررت بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما هذا يا جابر؟ فأخبرته، فقال: أو كلما اشتهى أحدكم شيئًا جعله في بطنه؟ أما يخشى أن يكون من أهل هذه الآية: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها}
(1) أهبًا: جمع إهاب، وهو الجلد الذي لم يدبغ.
(2)
العناق: الأنثى من ولد المعز.
قال ابن العربي: وهذا عتاب منه على التوسع بابتياع اللحم والخروج عن جلف الخبز والماء؛ فإن تعاطى الطيبات من الحلال تستشره له الطباع وتستمرئه العادة، فإذا فقدتها استسهلت في تحصيلها بالشبهات حتى تقع في الحرام المحض بغلبة العادة واستشراه الهوى على النفس الأمارة بالسوء، فأخذ عمر الأمر من أوله وحماه من ابتدائه كما يفعله مثله.
والذي يضبط هذا الباب ويحفظ قانونه: على المرء أن يأكل ما وجد طيبا أو قفارًا (طعام بلا أُدم) ولا يتكلف الطيب ويتخذه عادة؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشبع إذا وجد، ويصبر إذا عدم، ويأكل الحلوى إذا قدر عليها، ويشرب العسل إذا اتفق له، ويأكل اللحم إذا تيسر، ولا يعتمد أصلًا ولا يجعله ديدنًا، ومعيشة النبي صلى الله عليه وسلم معلومة، وطريقة الصحابة - رضوان الله عليهم - منقولة، فأما اليوم عند استيلاء الحرام وفساد الحطام فالخلاص عسير، والله يهب الإخلاص، ويعين على الخلاص برحمته.
وقيل: إن التوبيخ واقع على ترك الشكر لا على تناول الطيبات المحللة، وهو حسن؛ فإن تناول الطيب الحلال مأذون فيه؛ فإذا ترك الشكر عليه واستعان به على ما لا يحل فقد أذهبه.
المفردات:
{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} : هو هود عليه السلام وكانت أخوته لعاد في النسب لَا في الدين.
{إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} : وهي جمع حقف، وهو: ما استطال من الرمل العظيم واعوج ولم يبلغ أن يكون جبلًا، من احقوقف الشيء: إذا اعوج.
{وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده، والنذر: جمع نذير.
التفسير
21 -
لما كان أهل مكة مستغرقين في الكفر معرضين عن الإيمان وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ناسب تذكيرهم بما جرى لعادٍ، وقد كانوا أكثر أموالا وأشد قوة وأعظم جاهًا منهم؛ فسلط الله عليهم العذاب العظيم بسبب شركهم وطغيانهم، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب من كذبه من قومه، وإنذارٌ لقريش لكفرهم.
والمعنى: واذكر - أيها النبي - لهؤلاء المشركين قصة هود عليه السلام وقت إنذاره قومه عادًا عاقبة الشرك - وهي العذاب العظيم - ليعتبروا بها، وقيل: أمره بأن يتذكر في نفسه قصة هود عليه السلام ليقتدى ويهون عليه تكذيب قومه له.
وكان قومه بالأحقاف وهي مساكنهم، وكانت رمالًا عظيمة مشرفة على البحر بأرض يقال لها: الشِّحْر، والشِّحر قريب من عدن، يقال: شحر عُمان، وهو ساحل البحر بين عُمَان وعدن، وقال ابن إسحاق: مساكنهم من عمان إلى حضر موت، أي: في الجنوب الشرقي من جزيرة العرب.
وبعض المنقبين في الزمن القريب يرى أن مساكنهم شرق العقبة، معتمدين على كتابات خطية عثروا عليها في خرائب معبد كشفوا عنه في جبل إرم، ووجدوا في جانب الجبل آثارا جاهلية قديمة، فرجحوا أن هذا المكان هو موضع إرم التي ذكرها القرآن الكريم (1) {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} أي: وقد مضت الرسل من قبل هود ومن بعده، أي: واذكر زمان إنذار هود قومه بما أنذر به الرسل قبله وبعده، وهو
(1) المنتخب عند تفسير الآية.
أن لا تعبدوا إلا الله، إيذانًا باشتراك المنذرين جميعًا في معنى العبارة المحكية، وتنبيهًا على أنه إنذار ثابت قديمًا وحديثًا، اتفقت عليه الرسل في دعوتهم إلى التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. {إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم} وهو يوم القيامة إن عبدتم غير الله، والجملة تعليل للنهي، أي: لا تعبدوا إلا الله؛ لأني أخاف عليكم أشد العذاب وأقساه.
المفردات:
{لتأفكنا عن آلهتنا} أي: لتصرفنا وتمنعنا عن عبادة آلهتنا.
{فأتنا بما تعدنا} من العذاب، وهذا يدل على أن الوعد قد يوضع موضع الوعيد، فكما يقال: وعده خيرا وبالخير، يقال: وعده شرا وبالشر.
{قومًا تجهلون} أي: تتّصفون بالجهل وعدم الإدراك في سؤالكم استعجال العذاب ممن بعث إليكم منذرا.
{فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم} : جمع واد، وهو كل منفرج بين جبال أو آكام يكون منفذا للسيل.
{ريح فيها عذاب أليم} أي: بل الذي زعمتموه سحابًا ممطرًا هو ريح متكاثفة فيها عذاب مؤلم لكم.
{فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} أي: فاجأتهم الريح فدمرتهم ولم يبق شيء يرى إلا مساكنهم.
{كذلك نجزي القوم المجرمين} أي: مثل هذه العقوبة نعاقب من أجرم مثل جرمهم.
التفسير
22 -
أي: قال قوم هود إنكارا عليه: أجئتنا لتصرفنا عن عبادة آلهتنا - كما قال الضحاك - من الأفْك بمعنى الصرف، وقد وعدتنا بإنزال العذاب بنا عقابًا لنا على الشرك في الدنيا فعجل بهذا العذاب إن كنت صادقًا في وعدك بنزوله بنا.
23 -
أي: فأجابهم عليه السلام قائلا: إنما العلم بوقت نزول العذاب، أو بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك عند الله وحده، فيعلم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فيفعل ذلك بكم ويأتيكم به في وقته، وأما أنا فلا علم لي بوقت نزوله ولا مدخل لي في اقتراح إتيانه وحلوله. {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} من مقاصد الرسالة التي من جملتها بيان نزول العذاب إن لم تنتهوا عن الشرك، من غير وقوف على وقت نزوله {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} أي: شأنكم الجهل حيث تقترحون عليَّ ما ليس من وظائف الرسل من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته، ولو كنتم على شيء من العلم لأدركتم أن الرسل بعثوا منذرين لا مقترحين ولا سائلين غير ما أُذن لهم فيه.
24، 25 - {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ}:
أي: فأتاهم العذاب الذي استعجلوه، فلما رأوه سحابًا ممتدًا في عرض الأُفق متوجها نحو أوديتهم حسبوه سحابًا ممطرًا، وكان المطر قد أبطأ عليهم فاستبشروا به، حيث {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فرحًا به، ولا سيما أنه قد جاء من واد جرت العادة أن ما جاء منه يكون غيثًا - قاله ابن عباس وغيره - ولكن ما توقعوه تبين لهم أنه سراب خادع حين قال لهم هود عليه السلام:{بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم} أي: هو العذاب الذي استعجلتموه لما قلتم: {فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين} أتاكم متمثلًا في ريح كثيفة عاصفة تحل الفساطيط (1) وترفع الظعينة (2) بين السماء والأرض ثم تضرب بها الصخور، وقد اعتزل هود ومن معه في حظيرة - كما روى عن ابن عباس - ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به الجلود وتلذه الأنفس، وإنها لتمر من عاد بالظعن بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة.
ونقل القرطبي عن ابن عباس أيضًا أنه قال: أول ما رأوا العارض قاموا فمدوا أيديهم وأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجًا من ديارهم من الرجال والمواشي تطير بهم الريح ما بين السماء والأرض مثل الريش، وأمر الله الريح فأمالت عليهم الرمال فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام حسومًا، ولهم أنين، ثم أمر الله الريح فكشفت عنهم الرمال، واحتملتهم فرمتهم في البحر، فهي التي قال الله فيها:{تدمر كل شيء بأمر ربها} اهـ. أي: تهلك هذه الريح كل شيء مرت عليه من نفوسهم وأموالهم بإذن ربها وتقديره، وفي ذكر الأمر والرب والإضافة إلى ضمير الريح من الدلالة على عظمة شأنه عز وجل ما لا يخفى، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال: "اللهم إني أسألك خيرها وخير
(1) الفساطيط: جمع فسطاط، وهو السرادق.
(2)
تطلق الظعينة على الجمل يظعن عليه، وعلى الهودج فيه امرأة أو لا.
ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به" فإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وأقبل وأدبر فإذا أمطرت سُرِّى عنه، فسألته السيدة عائشة فقال: لعله يا عائشة كما قال قوم هود: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} أخرج الحديث مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة عن عائشة.
{فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم} أي: فجاءتهم الريح فدمرتهم عن آخرهم فأصبحوا بحيث لا يرى إلا مساكنهم وقد بقى منها ما يدل عليها، وقرأ الجمهور "ترى" بالتاء ونصب مساكنهم خطابًا لكل أحد يتأتى منه الرؤية تنبيها على أن حالهم بحيث لو حضر كل أحد بلادهم لا يرى فيها إلا مساكنهم، أو الخطاب لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم.
{كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} أي: مثل تلك العقوبة التي نزلت بعاد، يجزي الله كل من كذب رسله.
المفردات:
{وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} أي: جعلنا لهم سلطانًا وقدرة على التصرف في الذي ما مكناكم فيه ولا سخرناه لكم.
{فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: لم تنفعهم تلك الحواس أي نفع في دفع العذاب عنهم؛ حيث أهملوا الانتفاع بها فانغمسوا في الضلال.
{إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} أي: يكفرون بها.
{وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: أحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلونه استهزاءً به.
{وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} أي: كررنا الحجج والدلالات لكي يرجعوا عن كفرهم.
{قُرْبَانًا آلِهَةً} القربان: كل ما يتقرب به إلى الله - تعالى - من طاعة ونسيكة - قاله الكسائي - وجمعه: قرابين، أي: اتخذوا الآلهة متقربًا بها إلى الله - تعالى -.
{بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي: غابوا عن نصرتهم.
{وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: وضلال آلهتهم عنهم وامتناع نصرتهم إياهم هو دليل كذبهم وافترائهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى.
التفسير
26 -
خطاب لأهل مكة على سبيل التهديد، والمعنى: ولقد مكنا الأمم السابقة في الدنيا وأعطيناهم من القوة والسعة وطول الأعمار وسائر التصرفات ما لم نعطكم مثله يا أهل مكة، وجعلنا لهم سمعًا وأبصارا وأفئدة ليستعملوها فيما جعلها الله له فيعرفوا بكل منها مختلف النعم التي يستدلون بها على شئون الخالق المنعم عز وجل في تفضله عليهم فيؤمنون به ويداومون على شكره. {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} أي: أنها لم تغن عنهم أي شيء من الإغناء، ولم تُذهب عنهم شيئًا من عذاب الله،
لم يستعملوا سمعهم في استماع الوحي ومواعظ الرسل، وأبصارهم في اجتلاء الآيات الكونية الناطقة بقدرة الله ووحدانيته، وقلوبهم في التأمل طلبًا لمعرفة الله.
وإفراد السمع في النظم الكريم وجَمْعُ غيره لاتحاد المدرك به وهو الأصوات، وتعدد مدركات غيره، وقد تأتي الإضافة إلى جمع مرادا بها الجمع، فكأنه قيل: أسماعهم.
{إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} : تعليل لما سبق من عدم إغناء سمعهم عنهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم، أي: لأنهم كانوا يكفرون بالله وينكرون آياته المنزلة على رسله إعراضًا عنهم، وتكذيبًا لهم.
{وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: ونزل بهم العذاب الذي أحاط بكل جهاتهم، وكانوا يستعجلونه بطريق السخرية والاستهزاء فلم يبق منهم ولم يذر أحدا.
27 -
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : تهديد آخر لكفار مكة وتخويف لهم بذكر سوء عاقبة أمثالهم السابقين.
والمعنى: ولقد أهلكنا القرى المجاورة لكم والمحيطة بكم كقرى عاد وحِجر ثمود ومساكن سبأ وقرى قوم لوط، وكانوا يمرون بها في أسفارهم وكانت أخبارها متواترة عندهم، وكررنا الحجج وأنواع البينات والعظات ووضحناها لأهل ثلاث القرى {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي: لكي يرجعوا عما هم فيه من الكفر والمعاصي إلى الطاعة والإيمان.
28 -
الآية تهكم بالمشركين، والمعنى: فهلَاّ نصرهم الذين اتخذوهم آلهة يتقربون بها إلى الله تعالى لتشفع لهم، حيث كانوا يقولون:{ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فهلَاّ منعوهم من الهلاك الواقع بهم؟! {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي: غابوا عنهم ولم ينصروهم؛ لأنهم آثمون بعبادتهم فكيف ينصرونهم أو يشفعون لهم؟ هذا إذا
كانت معبوداتهم عاقلة كالبشر أو الملائكة، فإن كانت غير عاقلة كالأصنام والكواكب كان المعنى: غاب عنهم نفعهم لعدم فائدتهم، فهم جمادات فكيف ينصرونهم؟
وقيل المعنى: ترك المشركون الأوثان وتبرأوا منها، أو هلكت معبوداتهم فاستحال نصرها لهم {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: وضلال آلهتهم عنهم في الدنيا ويوم القيامة هو أثر كذبهم في قولهم: إنها تقربنا إلى الله، وإنها شفعاؤنا عنده.
المفردات:
{وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ} أي: وجهنا إليك نفرا من الجن، والنفر: من ثلاثة إلى عشرة، وقيل: إلى سبعة من الرجال.
{فَلَمَّا قُضِيَ} أي: فرغ من تلاوته.
{وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} : رجعوا إليهم مخوفين من عذاب الله.
{كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} : وهو القرآن الكريم.
{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: لما قبله من التوراة؛ لأنهم كانوا مؤمنين بموسى.
{فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} أي: لا يفوت الله طلبًا. ولا يعجزه هربًا، وإن هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل في أعماقها.
{أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: أولئك الذين لا يستجيبون لله في خسران واضح بيِّن بحيث لا يخفى على أحد.
التفسير
29 -
في القصة المذكورة توبيخ لمشركي قريش حيث إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به، وعلموا أنه من عند الله، وهؤلاء معرضون عنه مصرون على الكفر به، مع أنهم من أهل اللسان الذي نزل به، ومن جنس الرسول الذي جاء به، والجن ليسوا كذلك.
والمعنى: واذكر - أيها النبي - لقومك الوقت الذي صرفنا فيه ووجهنا إليك نفرًا من الجن يستمعون القرآن منك وهم - كما قال ابن عباس - سبعة نفر من جن نصيبين، وقال زر بن حبيش: كانوا تسعة أحدهم زوبعة، وقيل: كانوا سبعة، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين، كذلك قيل - والله أعلم - فلما بلغوا تهامة اندفعوا إلى بطن نخل، فوافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلى في جوف الليل، وقيل: يؤم أصحابه في صلاة الفجر، فلما حضروا تلاوته قال بعضهم لبعض: أنصتوا تمكينًا لنا من سماعه وتأدبًا معه، وحينما قُضِي القرآن وفُرِغ من تلاوته {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} أي: انصرفوا قاصدين من وراءهم من قومهم منذرين لهم عاقبة مخالقة القرآن، ومخوفين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا.
وروى عن سعيد بن جبير ما يشير إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم وإنما كان يتلو في صلاته فوقفوا مستمعين وهو لا يشعر بهم فأنبأه الله تعالى باستماعهم حيث أوحى إليه قوله تعالى: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن .. } وقيل: بل أمره الله - تعالى - أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن، فصرف إليه نفرا منهم ليستمعوا منه وينذروا قومهم. فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني؟ قالها ثلاثًا، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب، خطَّ لي خطا فقال: لا تخرج منه حتى أعود إليك ثم افتتح القرآن، وسمعت لغطا شديدًا حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: ثم انقطعوا كقطع السحاب، فقال رسول الله: هل رأيت شيئًا؟ قلت: نعم، رجالًا سودا، مستشعري ثيابٍ بيضٍ. فقال: أُولئك جن نصيبين" وكانت هذه القصة قبل الهجرة بثلاث سنين على ما صح عن ابن عباس. وهذه الرواية لا تعارض الرواية التي تقول: إنهم صادفوا وقت قراءته صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كان في واقعة أُخرى، بل قيل: إن وفادة الجن كانت ست مرات، ولتعدد الوقائع اختلفت الروايات في عدد الجن الذين حضروا وفي المكان والزمان لاستماعهم القرآن.
ويستفاد من الآية: أن في الجن نذرًا وليس فيهم رسلًا - تعالى -: {وما أرسلنا من قبلك إلا رجالًا نوحي إليهم من أهل القرى} (1) وأما قوله - تعالى -: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم} (2) فالمراد من مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما، وتعلق قوم بظاهر النص فقالوا: إن الجن كانت لهم رسل منهم - انظر تفسير الآية في الكشاف.
30 -
أي: قال الجن لقومهم حينما رجعوا إليهم: يا قومنا إنا سمعنا كتابًا عظيم القدر رفيع الشأن أنزل على رسول من بعد موسى، وقد ذكروا بعديته لموسى دون بعديته لعيسى؛ لأن عيسى كان مأمورًا بالعمل بمعظم ما في التوراة أو بكله، حيث أنزل عليه
(1) سورة يوسف من الآية 109.
(2)
سورة الأنعام من الآية 130.
الإنجيل مشتملًا علي كثير من المواعظ، وقليل من التحليل والتحريم. فهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، أو لأن الجن كانت يهودًا - كما قال عطاء - {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: أن القرآن مصدق لما تقدمه، وأرادوا به التوراة أو جميع الكتب الإلهية السابقة. {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} أي: أنه يرشد إلى العقائد الصحيحة وإلى طريق مستقيم من الأحكام الفرعية، أو ما يعمها وغيرها من الأركان والقواعد على أنه من ذكر العام بعد الخاص.
31 -
يحتمل أنهم أرادوا بداعي الله ما سمعوه من القرآن الذي طلبوا الاستجابة له والإيمان به، ووصفوه بالهداية إلى الحق والصراط المستقيم لتلازمهما.
ويحتمل أنهم أرادوا به محمدًا صلى الله عليه وسلم حيث دعاهم إلى الله وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين - الإنس والجن - وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي سورة الرحمن فطلبوا الاستجابة له والإيمان به، وهذا يدل على أنه كان مبعوثًا إلى الجن والإنس، قال مقاتل: لم يبعث الله نبيًّا إلى الجن والإنس قبل محمد صلى الله عليه وسلم ويؤيد هذا ما في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود إلى آخر الحديث" قاله مجاهد: الأحمر والأسود: الجن والإنس، وفي رواية من حديث أبي هريرة:"بعثت إلى الخلق كافة، وختم بي النبيون".
{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} أي: يغفر لكم بعض ذنوبكم وهو الذنوب السالفة، وقيد الخطاب معهم بما يدل على التبعيض دفعًا لتوهمهم أنهم إذا أجابوا داعي الله - تعالى - وآمنوا به يغفر لهم ما تقدم من ذنوبهم وما تأخر، وقال أبو السعود: أي: بعض ذنوبكم وهو ما كان في خالص حق الله تعالى؛ فإن حقوق العباد لا تغفر بالإيمان.
{وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} مُعَدٍّ للكفرة، ويدل هذا على أن الجن مكلفون، واختلف في أن لهم أجرًا غير غفران الذنوب والإجارة من العذاب الأليم أولا، والأظهر أنهم في حكم بني آدم ثوابًا وعقابًا، قال ابن عباس: لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها. وقال الآخرون: إنهم كما يعاقبون في الإساءة يجازون في الإحسان مثل الإنس، وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى وغيرهم، وقال الضحاك: يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون لقوله تعالى: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} (1) ولعل الاقتصار على ما ذكر من غفران الذنوب لهم والإجارة من العذاب الأليم؛ لأن المقام مقام إنذار، فلذا لم يذكر فيه شيء من الثواب، وقيل: لا ثواب لمطيعهم إلا النجاة من النار قال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، فيقال لهم: كونوا ترابًا فيكونون ترابًا، وبه قال أبو حنيفة، وعلق القشيري على هذا الخلاف فقال: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء والعلم عند الله، على أن ما ذكر من الجزاء على الإيمان بتكفير الذنوب والإجارة من العذاب يستلزم دخول الجنة؛ لأنه ليس في الآخرة إلا الجنة أو النار، فمن أجير من النار دخل الجنة لا محالة.
32 -
إيجاب للإجابة بطريق الترهيب بعد إيجابها بطريق الترغيب، أي: ومن لا يؤمن بالله استجابة لداعيه، فإنه لا يفوت الله طلبًا، ولا يعجزه هربًا، لبالغ قدرته وعظيم سلطانه، وقد نجح هذا الأُسلوب في كثير منهم، فجاءوا إلى رسول الله يبتغون سبيل الهدى والرشاد، وتقييد الإعجاز بكونه في الأرض لتوسيع الدائرة، بمعنى أنه ليس بمعجز - له تعالى - بالهرب وإن هرب كل مهرب من أقطارها أو دخل في أعماقها. {وليس له من دونه أولياء} إبراز لاستحالة نجاته بمعاونة أنصار يمنعونه من عذاب الله بعد بيان استحالة نجاته بنفسه، وعاد الضمير مفردًا في قوله - تعالى -:{وليس له} باعتبار لفظ {من} والمراد به الجمع، ويؤيد ذلك قراءة ابن عامر:{وليس لهم} بضمير الجمع {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي: أولئك الموصوفون
(1) سورة الرحمن الآية 74.
بعدم إجابة داعي الله في ضلال واضح بيِّنٍ لا يخفى على أحد كونه ضلالًا؛ لبعده عن الحق ومجافاته له، وجمع {أولئك} باعتبار معنى {من} .
المفردات:
{أَوَلَمْ يَرَوْا} أي: أو لم يعلموا؛ لأن المراد بالرؤية هنا العلم.
{وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} أي: لم يتعب به أصلًا.
{وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} أي: يوقفون عليها ويمررون بها.
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} أي: كأنهم حين يرونها لم يمكثوا في الدنيا إلا وقتًا يسيرًا من نهار لشدة العذاب وطول مدته.
{بَلَاغٌ} أي: أن ما وعظوا به كفاية في الموعظة، أو تبليغ من الرسول.
{فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طاعة الله، أو عن الاتعاظ بما وعظوا به.
التفسير
33 -
الهمزة في {أَوَلَمْ يَرَوْا} للإنكار، والمعنى: أغفل هؤلاء الكفار المنكرون للبعث ولم يعلموا علمًا جازمًا أن الله العظيم أبدع خلق السموات والأرض ابتداء من غير مثال يحتذيه، ولم يلحقه بذلك تعب أصلًا، أو لم يعجز عنه - أو لم يرده - {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} أي: أنه - سبحانه - وقد أبدع خلق السموات والأرض في الابتداء قادر قدرة بالغة على أن يحيى الموتى بعد الفناء، ويعيدهم بعد تفرق الأشلاء.
ودخلت الباء هنا في خبر أنَّ تأكيدًا للمعنى لاشتمال النفي في أول الآية على أن وما في حيزها كأنه قيل: أو ليس الله قادر على أن يحيى الموتى؟ ولذلك أجيب عنه بقوله تعالى: {بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تقريرًا للقدرة على وجه عام ليكون كالبرهان على المقصود، فكأنه قيل: إحياء الموتى شيء، وكل شيء مقدور له - تعالى - فينتج عنه أن إحياء الموتى مقدور له، ويلزمه أنه قادر على إحياء الموتى: تفسير الآلوسي.
34 -
أي: وذكِّر الكفار يوم يوقفون على النار فيقال لهم تقريعًا: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} إشارة إلى ما يشاهدونه من حيث هو من غير لفظ يدل عليه إذ هو اللائق بتهويله وتفخيمه، أو إشارة إلى العذاب الذي كانوا يكذبون به بدليل التصريح به بعد في قوله:{فَذُوقُوا الْعَذَابَ} وفي ذلك توبيخ لهم على استهزائهم بوعد الله ووعيده، وكان جوابهم مؤكدًا بالقسم حيث قالوا:{بَلَى وَرَبِّنَا} كأنهم يطمعون في الخلاص من العذاب بالاعتراف بحقية ذلك، وأنى لهم ذلك؟! {قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: فيقول المقرِّر: فذوقوا العذاب بسبب استمراركم على الكفر في الدنيا.
ومعنى أمرهم بذوق العذاب: الاستهانة بهم والتهكم والتوبيخ لهم، وذوق العذاب تمثيل لإدراك آثاره الأليمة والإحساس بها إحساسًا لا شك فيه.
35 -
أي: إذا كانت عاقبة أمر الكفرة إنزال العذاب بهم بسبب كفرهم فاصبر - أيها النبي - على الدعوة إلى الحق ومكابدة الشدائد بما يصيبك من أذى قومك الذي أنزلوه بك وبمن اتبعك. اصبر كما صبر أُولو العزم والثبات من الرسل المجتهدين في تبليغ الوحي فلم يصرفهم عنه صارف، ولم يعطفهم عنه عاطف، وإنك من جملتهم بل من عليتهم. فكل الرسل كانوا أُولى عزم كما قال ابن عباس، ولفظ (من) على هذا للتبيين، وقيل: هي لا تبعيض، والمراد من أُولي العزم: أصحاب الشرائع الذين اجتهدوا في تأسيسها وتقريرها، وصبروا على تحمل مشاقها ومعاداة الطاغين فيها، وقد اختلفوا في تعيينهم على أقوال: أشهرها أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتم الأنبياء محمَّد صلى الله عليه وسلم فهم خمسة - قاله مجاهد - وقال مقاتل: هم ستة: نوح صبر على أذى قومه مدة طويلة، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق (1) صبر على الذبح ويعقوب صبر على فقد الولد، وذهاب البصر، ويوسف صبر على البئر والسجن، وأيوب صبر على الضر، وهناك أقوال أخرى كثرة ذكرها القرطبي وغيره فمن أرادها فليرجع إليها.
{وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} أي: لا تدْعُ على كفار مكة بتعجيل العذاب لهم فإنه على شرف النزول بهم يوم القيامة وهو قريب لا شك فيه {إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا} (2).
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} من العذاب الذي أمروا بذوقه لم يمكثوا في الدنيا حتى جاءهم هذا العذاب. أو في قبورهم حتى بعثوا للحساب - كما قال النقاش لم يمكثوا - إلا وقتًا يسيرًا
(1) الأصح أن الذبيح إسماعيل عليه السلام.
(2)
المعارج، الآيتان: 6، 7.
يقدر بساعة من نهار في جنب يوم القيامة لما يشاهدون من شدة العذاب وطول مدته حتى أنساهم هولُ ذلك طول مكثهم في الدنيا أو في قبورهم، وهذا الذي وعظتم به {بلاغٌ} أي: كاف في الموعظة، أو هذا القرآن بلاغ للناس - قال الحسن - بدليل {إن في هذا لبلاغًا لقوم عابدين} {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} أي: لا يكون الهلاك والدمار إلا للكافرين الخارجين عن الاتعاظ بأمر الله، أو عن الطاعة، وفي الآية من الوعيد والإنذار ما فيها.