الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة محمد
هذه السورة مدنية وعدد آياتها ثمان وثلاثون، ولها اسمان سميت بهما، أحدهما: سورة محمَّد، لقوله - تعالى - في أول السورة:{وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} وثانيهما: القتال لقوله - تعالى - فيها: {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} من الآية رقم 20.
ومناسبتها للسورة التي قبلها أن حديثها عن الكفار الذي بدئت به متصل بما ختمت به سابقتها التي ذكرت حالهم يوم يعرضون على النار، بسبب كفرهم وإيذاء الرسول وإنكار البعث، وقررت مصيرهم بقول - تعالى -:{فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} حتى قال ابن كثير: لا يخفى قوة ارتباط أولها بآخر السورة قبلها واتصاله وتلاحمه بحيث لو سقطت من البين البسملة لكانا كلامًا واحدًا لا تنافر فيه، كالآية الواحدة آخذًا بعضها بعنق بعض.
أهم أهداف السورة:
1 -
بينت في بدايتها أن الله أبطل أعمال الكافرين لإعراضهم عن الحق واتباع الباطل، والوقوف في وجه الدعوة ليصدوا الناس عن دين الله، وأنه - سبحانه - كفّر عن المؤمنين سيئاتهم؛ لأنهم نصروا الحق وسلكوا طريقه واتبعوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
2 -
بينت - بإطناب - وجوب الدفاع عن الحق وما يتطلبه ذلك عند لقاء الكفار في بدء المعركة ونهايتها، وذكرت جزاء من قتل في سبيل الله {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} الآيات: 4، 5، 6.
3 -
وعدت المؤمنين المدافعين عن دين الله بالتأييد والنصر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ
…
} الآية، وأوضحت أن للكافرين الشقاء والخسار {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} ؛ لأنهم كرهوا ما أنزل الله فأبطل أعمالهم.
4 -
حذرت كفار مكة سوءَ المصير فضربت لهم الأمثال بالطغاة المتجبرين من الأمم السابقة، وبينت أن الله دمر عليهم بسبب إجرامهم وطغيانهم. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الآية، ثم ذكرت جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وعاقبة الذين يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم، وأشارت إلى أن سنة الله إهلاك القرى الظالمة التي هي أشد من قريتك التي أخرجتك {فلا ناصر لهم} .
5 -
ذكرت أنهار الجنة التي ينعم بها المؤمنون، وشراب الكافرين الذي يقطع أمعاءهم.
6 -
تحدثت بإسهاب عن المنافقين، وعما جبلوا عليه من الإنكار لما يسمعون من الرسول حيث كانوا يقولون لأولى العلم: ماذا قال آنفًا؟ تماديًا في الإعراض عن الحق وعلى جهة الاستهزاء، واستمرت آيات السورة تعدد مساوئهم مع تحذير المؤمنين أن يكونوا بينهم حتى لا يستمعوا لتثبيطهم، وهددتتم بهتك أستارهم بإظهار الرسول على أحقادهم التي يخفونها حيث كانوا يقولون ما لا يفعلون. {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} .
7 -
ثم ختمت السورة مؤكدة أن الذين صدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما وضح الحق وتبين الهدى لن يضروا الله شيئًا، وسيحبط أعمالهم، وأنهم إذا ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم، وذمَّت البخلاء في الإنفاق وبينت استغناء الحق، وفقر الخلق في قوله:{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ .. } الآية.
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
{وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي: أعرضوا عن الإِسلام وامتنعوا عن الدخول فيه، من: صد صدودًا، أو منعوا الناس عن الدخول فيه، من: صده صدًّا.
{أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطل كيدهم ومكرهم وتدبيرهم.
{كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي: أزالها ومحاها بالإيمان والعمل الصالح.
{وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: حالهم في الدين والدنيا، والبال كالمصدر ولا يعرف منه فعل.
{اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} أي: الشرك أو الشيطان.
{اتَّبَعُوا الْحَقَّ} : التوحيد والقرآن.
التفسير
1 -
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} :
قال ابن عباس: نزلت في المطعمين يوم بدر وهم اثنا عشر رجلًا من أهل الشرك منهم أبو جهل، والحارث بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبيُّ وأُمية ابنا خلف كانوا يمنعون
الناس عن الإِسلام ويأمرونهم بالكفر، وقد أنفقوا في سبيل ذلك نفقة كثيرة، وقيل: المراد بهم أهل الكتاب الذين كفروا وصدوا من أراد منهم ومن غيرهم أن يدخل في الإِسلام، وقيل: هم أهل مكة الذين كفروا بتوحيد الله وصدوا عن الإِسلام من أراد الدخول فيه، والحق أن الآية عامة لكل من كفر وأعرض عن الإِسلام، أو كفر ومنع الناس من الدخول فيه (1) ويدخل في العموم كل ما نقل من أقوال دخول أوليا، هؤلاء أبطل الله أعمالهم وجعلها ضائعة ليس لها من يثيب عليها ، ولا أثر لها أصلًا، بمعنى أنه حكم ببطلانها وضياعها لا بمعنى أنه أبطلها وأحبطها بعد أن لم تكن كذلك، وبطلانها بإبطال كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث جعل الدائرة تدور عليهم، أو بإبطال ما عملوه في كفرهم مما كانوا يسمونه مكارم من صلة الأرحام، وترى الأضياف، وحفظ الجوار وعمارة المسجد الحرام ونحوها من كل مكرمة لهم وفخر.
2 -
قال ابن عباس فيما صح عنه: هم أهل المدينة الأنصار، وقيل: هم ناس من قريش، وقيل: من أهل الكتاب، والحق أن الآية عامة ويدخل فيها من ذكر دخولا أوليا، وتخصيص الإيمان بما نزل على محمَّد مع دخوله فيما قبله تنبيه على سمو مكانته بين الكتب السابقة التي جاء بها الرسل قبله.
والمعنى: والذين آمنت قلوبهم، وانقادت جوارحهم فعملوا الأعمال الصالحة، وآمنوا بما أنزله الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الكريم، أولئك المؤمنون الذين وصفوا بما ذكر {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} التي حدثت منهم قبل الإيمان فأزالها ولم يؤاخذهم بها. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: حالهم وشأنهم بالتوفيق في أمور الدين، والتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصر والتأييد على عدوهم حتى دانت لهم مشارق الأرض ومغاربها.
(1) لأن (صد) تستعمل لازمة بمعنى أعرض، والمصدر: الصدود، ومتعدية بمعنى منع، والمصدر: الصد.
3 -
بدئت الآية بالإشارة إلى ما مر من إضلال أعمال الكافرين، وتكفير سيئات المؤمنين وإصلاح بالهم.
والمعنى: أن إضلال أعمال الذين كفروا بسبب أنهم اتبعوا الباطل وهو الذي لا أصل له أو اتبعوا الباطل وهو الشيطان - قال مجاهد - ففعلوا ما فعلوا من الكفر والصد عن سبيل الله، وأن رعاية المؤمنين بسبب أنهم اتبعوا الحق الذي لا محيد عنه كائن من ربهم، فآمنوا به وعملوا الأعمال الصالحة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} أي: مثل هذا البيان الواضح يبين الله للناس أحوال الفريقين المؤمنين والكافرين وأوصافهما الجارية في الغرابة مجرى الأمثال، وهي اتباع المؤمنين الحق وفوزهم وفلاحهم، واتباع الكافرين الباطل وخيبتهم وخسرانهم.
ويجوز أن يراد بضرب الأمثال التمثيل والتشبيه بأن جعل - سبحانه - اتباع الباطل مثلًا لعمل الكفار، والإضلال مثلًا لخيبتهم ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين، وتكفير السيئات مثلا لفوزهم.
المفردات:
(فشدوا الوثاق) أي: فأحكموا قيد من أسرتموهم بعد إثخانهم بكثرة القتل وإضعافهم بالجراح. والوثاق - بالفتح والكسر -: اسم لما يوثق به كالقيد والحبل ونحوهما ، والجمع وُثُق.
{فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} المن: إطلاق الأسير بغير عوض، والفداء: إطلاقه بعوض.
{حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: آلاتها وأثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح، والكُراع (1) وغير ذلك، وإسناد الوضع للحرب وهو لأهلها على سبيل المجاز.
{لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي: لانتقم منهم فأهلكهم بغير الحرب كالزلزلة.
{وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: أمركم بالحرب ليختبر بعضكم ببعض فيمتحن المؤمنين بالكافرين تمحيصا للمؤمنين، ويمتحن الكافرين بالمؤمنين تمحيقًا لهؤلاء الكافرين.
(1) الكراع - بضم الكاف -: اسم يجمع الخيل: مختار الصحاح.
{فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: فلن يضيعها وإنما يجازيهم بها أحسن الجزاء.
{عَرَّفَهَا لَهُمْ} أي: يهدى أهل الجنة إلى مساكنهم فلا يخطئونها، وذلك إلهامٌ منه تعالى.
التفسير
4 -
بدئت الآية بالفاء لترتيب ما في حيزها من الأمر بجهاد الكافرين على ما قبلها من ضلال أعمال الكفرة وخيبتهم، وصلاح أحوال المؤمنين وفوزهم، مما يقتضي أن يترتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام.
والمراد بالذين كفروا - كما قال ابن عباس. -: المشركون عبدة الأوثان، وقيل: كل من خالف دين الإِسلام من مشرك أو كتابى إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردى، واختاره ابن العربي وقال: وهو الصحيح لعموم الآية فيه.
وهؤلاء الكافرون أنتم مأمورون بضرب رقابهم في الحرب، وهو كناية عن قتلهم في أي موضع، وعبر به عنه لتصوير القتل بأبشع صورة وهو حز العنق، وفصل العضو الذي هو رأس البدن وأشرف أعضائه، ومجمع حواسه، وفي بقاء الجسد ملقى بدون رأسه شناعة ما بعدها شناعة. {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} بأن أكثرتم فيهم القتل، وأخذتم من لم يقتل منهم أسرى بعد أن أوهنتموهم بالجراح. {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} أي: فأحكموا قيدهم حتى لا يفلتوا منكم، وعندما يتم التحفظ عليهم تكون عاقبة أمرهم التخيير فيهم. {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وظاهر الآية على ما ذكره السيوطي في أحكام القرآن العظيم -: امتناع القتل بعد الأسر، وبه قال الحسن، وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أنه قال: أتى الحجاج بأُسارى فدفع إلى ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - رجلًا يقتله فقال ابن عمر: ليس بهذا أمرنا، إنما قال
الله - تعالى -: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ذكر ذلك الآلوسي.
ويقول القرطبي: وليس في تفسير المن والفداء منع من غيره مع الأسرى، فقد بين الله في الزنى حكم الجلد، وبين الرسول حكم الرجم، ولهذا اختلف العلماء في حكم الأسارى، فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل - صبرا - عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدى والنضر بن الحارث؛ لأن في قتلهم حسمًا لمادة فسادهم بالكلية، وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه فذلك من حق الإمام، ما لم يتوقع شرًّا منه، وإن شاء الإِمام استرقهم؛ لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإِسلام، وإن شاء تركهم أهل ذمة كما فعل ذلك عمر مع أهل السواد إلَاّ أسارى مشركى العرب والمرتدين فإنه لا تقبل منهم جزية ولا يجوز استرقاقهم ، والحكم فيهم إما الإسلام أو السيف، وعن سعيد بن جبير: لا يكون فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله - تعالى -: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} (1) فإذا وقع بعد ذلك أسر فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل وغيره، وتفصيل هذه الأحكام تكفل بها الفقهاء. {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} أي: آلاتها وأثقالها من السلاح وغيره مما لا تقوم الحرب إلَاّ به، وإسناد وضع الأوزار إليها - وهو لأهلها - إسناد مجازى، والمراد من هذا الرأى أن هؤلا الكافرين يصلون حتى تنتهى الحرب، فيكون بعدها إما الأسر وإما الفداء، وتستمر الأحكام السابقة جارية فيهم إلى أن يظهر الإِسلام على الدين كله، ولا يبقى للمشركين شوكة بهزيمتهم أو بالموادعة وإلقاء السلاح، أو حتى يترك المشركون شركم ومعاصيهم ويسلموا. (ذلك) أي: ذلك حكم الكفار، أو: افعلوا ذلك، وهي كلمة يستعملها الفصيح عند الخروج من كلام إلى كلام. {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} بغير قتال، بأن يهلكهم بخسف ونحوه كرجفة وغرق وريح صرصر عاتية، وقال ابن عباس: ولو يشاء لأهلكهم بجند من الملائكة.
(1) سورة الأنفال من الآية 67.
{وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} أي: ولكن أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم، فينالوا الثواب العظيم، ويُخلَّد في صحف الدهر ما لهم من الفضل الكبير، وليبلو الكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم عز وجل ببعض انتقامه، فيتعظ به بعض منهم ويكون سببا لإسلامه. {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: والذين استشهدوا في قتال المشركين، فلن يضيع الله ثواب أعمالهم، وهم عنده عز وجل أحياء ينعمون برزق دائم، ونعيم مقيم، فرحين بما آتاهم ربهم من فضله.
قال قتادة: ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل، وقد نادى المشركون: اعْلُ هبل، ونادى المسلمون: الله أعلى وأجل، وقال المشركون: يوم أحد بيوم بدر والحرب سجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قولوا: لا سواء؛ قتلانا أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون. فقال المشركون: إن لنا العزى ولا عزى لكم، فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم.
{سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} المراد: هداية هؤلاء الشهداء إلى الجنة بإرشادهم إلى مسالكها والطرق المفضية إليها ليصلوا إلى ثواب أعمالهم من النعيم الخالد والفوز الدائم والفضل العظيم، أو سيحقق الهداية لمن بقى منهم بصونهم عمَّا يورث الضلال ويحبط الأعمال، وكما أنه سبحانه وتعالى تكفل بأنه سيهديهم فقد تكفل كذلك بأن يصلح بالهم، أي: شأنهم، قال الطبرسى: المراد إصلاح ذلك في العقبى. ولا تكرار لذلك مع قوله - سبحانه -: {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} لأن المراد به هناك إصلاح شأنهم في الدين والدنيا، فاختلف المراد.
6 -
{وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} :
أي: إذا دخلوها يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم التي حددت لكم، وهديتم إليها، أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد أنه قال: يهدى أهل الجنة إلى بيوتهم ومساكنهم كأنهم ساكنوها منذ خلقوا، لا يستدلون عليها أحدا، وفي الحديث:"لأحَدُكم بمنزله في الجنة أعرف منه بمنزله في الدنيا" وذلك إلهامٌ منه عز وجل أو طيبها لهم بأنواع الملاذ
- كما قال ابن عباس - من العَرْف: وهو الرائحة الطيبة، ومنه: طعام معرف، أي: مطيب، وعن الجبائى أن التعريف في الدنيا، وهو بذكر أوصافها، والمراد أنه - تعالى - لم يزل يمدحها لهم حتى عشقوها، فاجتهدوا فيما يوصلهم إليها. وقال الحسن: وصف الله - تعالى - لهم الجنة في الدنيا فلما دخلوها عرفوها بصفتها.
المفردات:
{وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} : عند القتال، أو على حجة الإسلام، أو على الصراط.
{فَتَعْسًا لَهُمْ} أي: هلاكا، والتعس كما يطلق على الهلاك يطلق على العثار والسقوط والشر والبعد والانحطاط كما في القاموس. والفعل من باب (منع)، وجوز قوم تَعِسَ - بكسر العين - من باب فَرِح، ومنه حديث أبي هريرة:"تعس عبد الدينار والدرهم".
{وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} أي: أبطلها؛ لأنها كانت للشيطان وفي سبيله.
{فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي: أهدرها وكانت في صور الخيرات كعمارة المسجد وقرى الضيف وأصناف القُرب.
التفسير
7 -
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} :
أي: إن تنصروا دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بتحمل مشاق الدعوة وما تتطلبه من بذل وتضحية ينصركم على أعدائكم، ويفتح لكم؛ إذ هو- سبحانه - المعين الناصر، وغيره هو المُعَان
المنصور، ويثبت أقدامكم في مواطن الحرب ومواقفها، أو على محجة الإسلام، ويمدكم دائمًا بالتمسك بالطاعة والتوفيق.
8 -
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} :
دعاء على الذين كفروا باللهِ وأعرضوا عن دينه، أي: فهلاكًا لهم وشقاء، وهو منصوب بفعل من لفظه محذوف وجوبا سماعا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما يريد في الدنيا القتل، وفي الآخرة التردى في النار، وقيل غير ذلك.
{وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} لأنها كانت للشيطان الذي زين لهم الضلال، وحبب إليهم الفسوق والعصيان وبذلك استحبوا العمى على الهدى.
9 -
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} :
أي: ما ذكر من التعس وضلال الأعمال بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله من القرآن الكريم لما فيه من التوحيد وسائر الأحكام التي تخالف ما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمارة بالسوء، فأهدر الله لأجل ذلك أعمالهم التي كانت موطن فخرهم من صور الخيرات كعمارة المسجد الحرام وقِرَى الأضياف، وأصناف القرب الأُخرى، إذ الإيمان شرط للإثابة على الأعمال فلا يقبل الله العمل إلا من مؤمن، وقيل: أحبط أعمالهم، أي: عبادة الأصنام.
وفي الآية تخصيص وتصريح بسببية الكفر بالقرآن الكريم للتعس والإضلال.
المفردات:
(عاقبة): آخرة، وعاقبة كل شيء: آخره.
(دمر الله عليهم): أهلك الله عليهم ما يختص بهم، يقال: دمرهم، أي: أهلكهم، ودمر عليهم، أي: أهلك عليهم ما يختص بهم وهو أبلغ.
(مولى): ناصر.
(مثوى): منزل ودار إقامة.
التفسير
10 -
بينت الآيات السابقة في مستهل هذه السورة شيئًا من أحوال الكافرين، والمؤمنين، ووعدت المؤمنين بالنصر والتمكين في الأرض، والتثبيت على محجة الإسلام، إذا نصروا الله ورسوله ونَعَتْ على الكافرين كفرهم وما يجرى عليهم من التعس والخسران وبطلان الأعمال، ثم جاءت هذه الآية التي تدعو إلى النظر في عاقبة الأمم السابقة التي سلكت مسالك الكفر فوقعت في متاهات الضلال.
والمعنى: أقَعَدَ هؤلاء الكفار فلم يسيروا في نواحى الأرض، ولم يضربوا في مناكبها فيروا عاقبة الذين كانوا من قبلهم على مثل حالهم من الكفر والعناد، وما نزل بهم من عذاب، وحلَّ بديارهم من تدمير وخراب؟! أهلكهم الله ودمر عليهم كل ما لهم من أموال ومنازل. ولكم - أيها الكافررن - أمثال ما لهؤلاء السابقين فإنكم جميعا في الكفر سواء.
ووضع الظاهر موضع الضمير لإبراز الجزاء مع الإشارة إلى استحقاقه بذكر سببه.
11 -
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} :
أي: ذلك الجزاء الذي مضى به قضاء الله، وجرت عليه سنته من تدمير الكافرين، واستئصال المفسدين مع نصر الموحدين والتمكين للطائعين - ذلك كله - جار على سنة أنه - تعالى - ولى المؤمنين يهديهم وينصرهم، ويصلح حالهم، وأن الكافرين ضائعون، لا ناصر ينصرهم، ولا معين يعينهم أو يدفع عنهم.
ولا يخالف هذا قوله - تعالى -: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} (1) فإن المولى فيه بمعنى المالك، وفي الآية التي نحن بصددها بمعنى الناصر.
(1) سورة يونس من الآية 30.
سأل أبو سفيان يوم أُحد عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما فلم يجب، قال: أمَّا هؤلاء فهلكوا، وأجابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: كذبت يا عدو الله، بل أبقى الله - تعالى - ما يسوؤك، وإن الذين عددت أحياء، فقال أبو سفيان: يومٌ بيوم، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون مُثْلَةً (1) لم آمر بها ولم أنْهَ عنها، ثم ذهب يرتجز ويقول: اعل هبل - اعل هبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجلّ. ثم قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال صلى الله عليه وسلم: ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
12 -
هذه الآية بيان لثمرة ولايته - تعالى - للمؤمنين الأخروية بعد بيان ثمرتها في الدنيا بالنصر، والتمكين في الأرض.
والمعنى: إن الله - تعالى - يتفضل على عباده الذين آمنوا به والتزموا طاعته بفعل المأمورات وترك المنهيات - يتفضل عليهم - في الآخرة فيدخلهم جنات تزدهى بألوان الجمال من أشجار تجرى من تحتها الأنهار، ومناظر تعجب الأبصار، زاخرة بأطايب الخيرات، والثمار، وأصناف من الفواكه كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفرش مرفوعة.
والذين كفروا وركنوا إلى الدنيا، وغرتهم زخارفها، وجرفهم متاعها فاندفعوا وراء شهواتهم يأكلون كما تأكل الأنعام نهِمِين غافلين، لا يهمهم إلا إشباع بطونهم، وإرضاء غرائزهم، لا يفكرون في حساب، ولا يتدبرون في عاقبة هواهم - هؤلاء في الآخرة - النار مثواهم ودار إقامتهم، يطعمون زقُّومها، ويشربون حميمها، ويصطلون بلهيبها جزاء غفلتهم في دنياهم، وبعدهم عن سواء السبيل.
(1) المثلة: التمثيل بالقتيل بنحو قطع اليد أو الأنف بعد القتل.
13 -
الخطاب في هذه الآية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تسلية له وتهوينا عليه أمر هجرته من بلدته، وتهديدا للمشركين بالهلاك والدمار كما هلك من كانوا قبلهم من الطغاة المتجبرين الذين كانوا أشد منهم بطشا، وأعظم قوة ومنعة فأقفرت منهم الدنيا، وخلت الديار.
والمعنى: وكم من قرية كان أهلها أشد قوة، وأعتى بطشا، وأعز سلطانا ومنعة من أهل قريتك: مكة التي أخرجك منها أهلها بتتابع أذاهم، وتلاحق كيدهم، وسوء مكرهم، وتدبيرهم، فكانت نهاية أمرهم الهلاك بأنواع العذاب، فلم يكن لهم دافع يدفع عنهم، ولا ناصر ينصرهم، فهؤلاء المشركون من أهل مكة لهم نهاية كنهايتهم إن استمروا على كفرهم.
أخرج عبد بن حميد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مودويه، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال:"أنت أحبّ بلاد الله - تعالى - إلى الله وأنت أحبّ بلاد الله - تعالى - إليّ، ولولا أن أهلك أخرجونى منك لم أخرج منك".
14 -
هذه الآية تستحث العقل وتستنهض الفكر إلى ضرورة النظر، والتمييز بين الحق، والباطل، والصحيح والفاسد، والضار والنافع، والتسامى عن الانقياد الأعمى للآباء، واتباع الشهوات، بعد بيان نعيم المؤمنين، وشقاء الكافرين.
والمعنى: أيستقيم في العقل السليم، والفكر القويم أن يستوى من كان على حجة ظاهرة وبرهان نيّر من الله مالك أمره ومربِّيه، فأيده بالقرآن وسائر المعجزات والحجج العقلية - أفمن كان كذلك - يماثل من زيّن له الشيطان سوء عمله، وحسن له سبل غوايته، فأمعن في الشرك الذي هو أقبح القبائح، وانغمس في المعاصي والنكرات، وجرى مع الغواة والمفسدين فاتبعوا أهواءَهم الفاسدة، ونزواتهم الطائشة، وانهمكوا في الملذات، وذابوا في الضلالات؟!!
وجمع الضمير في قوله: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} مراعاة لمعنى (مَنْ) وأفرد مع قوله: (أفمن كان) مراعاة للفظها.
المفردات:
(مثل) المثل: الوصف العجيب الشأن.
(آسن): متغير الطعم والرائحة.
(لم يتغير طعمه): لم يصر فيه حموضة كألبان الدنيا ولا ما يكره من الطعوم.
(مصفى): خال من الشمع ومن جميع العلائق والمخلفات.
(حميمًا): حارا بالغ الحرارة.
(أمعاءهم): جمع مِعًى. وهي ما ينتهى إليها الطعام في البطن.
التفسير
15 -
{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ
…
} الآية:
هذه الآية كلام مستأنف مسوق لشرح محاسن الجنة الموعودة للمؤمنين في قوله - تعالى - آنفا: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ
…
} وتصوير نعيمها، وتعداد خيراتها، ومقارنة نعيم أهلها بعذاب أهل الجحيم.
والمعنى: مثل الجنة الموعودة للمؤمنين، وشأنها العجيب ما يتلى عليكم من جلائل النعم، في هذه الجنة أنهار من الماء النقى المتجدد الذي لم يداخله كدر، ولم يلحقه تغير في لون أو طعم لطول مكثه، وأنهار من لبن لم تطرأ عليه حموضة ولم يستكره له طعم، كما يحدث في ألبان الدنيا، وأنهار من خمر لذيذ الطعم مستساغ المذاق ليس فيها كراهية ريح، ولا غائلة سكر، ولا يجد شاربها إلَاّ اللذة والمتعة، وأنهار من عسل خالص صرف مصفى من الشمع، ومن جميع الشوائب وفضلات النحل، وفيها غير هذا من كل الثمرات، وأصناف المطعومات ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وكل ذلك من الوفرة والكثرة بحيث لا يخاف منه حرمان، ولا إقلال. ولهم قبل هذا مغفرة واسعة من ربهم تمحو ذنوبهم، وترفع درجاتهم.
وقوله تعالى: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} معناه: أمَثَل الجنة التي أعدت للمتقين وعلمتم أوصافها كمثل جزاء من هو خالد في النار متهاوٍ في دركاتها، شرابُهم فيها الحميم الشديد الحرارة، فإذا شربوا منه قطع أمعاءهم؟!
والتعبير عن فريق المؤمنين بالمتقين يؤذن بأن الإيمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات بأسرها، وترك السيئات عن آخرها ليتقى عذاب الله على تركها. كما أن التعبير عن فريق الكافرين بمن هو خالد في النار، لإبراز مهانتهم بسوء مآلهم، وتأبيد عذابهم.
المفردات:
{لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} : الصحابة الذين وعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(آنفا) أي: سابقا، وهو اسم للساعة التي قبل الساعة التي أنت فيها، وهو اسم فاعل على غير قياس؛ لأنه لم يسمع له فعل ثلاثى.
{طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : طمس الله على قلوبهم وختم عليها.
(بغتة): فجأة.
(أشراطها): علاماتها.
{مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أي: مكان تقلبكم في الدنيا، وموطن إقامتكم في الآخرة.
التفسير
16 -
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ
…
} الآية:
تحكى هذه الآية صورة من صور بعض المشركين، ونموذجًا من سلوكهم في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين يجلسون إليه، ويتلقون عنه، ثم تمضى الآيات بعدها في مقارنة
بين الذين طبع الله على قلوبهم، وبين المهديين من المؤمنين لتُبرز مقدار سفه المشركين، ورشد المؤمنين.
والمعنى: ومن هؤلاء الكافرين المتورطين في نعيم الدنيا بغير اعتبار ولا تدبر للعاقبة - من هؤلاء - من يحضر إلى مجلسك ليستمع ما تقرؤه على أصحابك من قرآن، وما توجههم إليه من هَدْى، حتى إذا خرجوا من عندك وفارقوا المجلس قالوا لمن حضرك وكان معهم من الصحابة رضوان الله عليهم - قالوا - فور خروجهم: ماذا قال محمَّد سالفا في المجلس الذي كنا فيه؟ يقولون ذلك سخرية واستهزاء كأنَّهم لم يفهموا ما قال الرسول، أو كأنه كلام لا ينهض إلى درجة الفهم، أو لا ينبغي سماعه فضلًا عن فهمه - أولئك القائلون هذا القول - هم الذين طمس الله على قلوبهم، وأظلم بصيرتهم بسوء اختيارهم، واتبعوا أهواءهم الفاسدة، ونزعاتهم الطائشة فقالوا ما قالوا، وفعلوا ما فعلوا مما لا خير فيه.
17 -
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} :
أي: الذين طلبوا الهداية وحرصوا عليها حتى نالوها، وهداهم الله إلى طريق الحق وثبتهم عليها - هؤلاء - زادهم الله هدى بالتوفيق والفهم وآتاهم تقواهم، أي: أعانهم على العمل الصالح الذي يقيهم عذاب الله، ويدنيهم من ثوابه:
وقوله - تعالى -: (وآتاهم تقواهم) مقابل لقوله - تعالى - في شأن الكافرين: {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} ومن بديع التنسيق وإحكام الإعجاز أن أغلب الآيات في هذه السورة جار على هذا التقابل؛ كما في قوله - تعالى -: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)} ومن ذلك أيضًا: {طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} . مقابل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} .
18 -
أي: فهل ينتظر هؤلاء الغافلون اللاهون إلا القيامة تباغتهم، وتأتيهم فجأة وهم في غفلة
لا يتذكرون بذكر أحوال الأمم الخالية، ولا بالإخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأهوال فقد جاء أشراطها، وظهرت أماراتها فلم يرفعوا لها رأسًا ، ولم تنبه فيهم غافلا، ولم يعدوها من مبادئ إتيانها مع مشاهدتهم لها كانشقاق القمر، وغير ذلك من الأشراط التي أهمها بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا جاء في أسمائه أنه نبيّ التوبة، ونبي الملحمة، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، وقال البخاري: حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا فضيل بن سليمان، حدثنا أبو رجاء حدثنا سهل بن سعد رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تليها: "بعثت أنا والساعة كهاتين".
وقوله تعالى: {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} معناه: فكيف للكافرين المنكرين الانتفاع بالتذكير إذا جاءتهم القيامة، وأى سبيل لهم إليه؟ وهر حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفعه حينئذ كقوله - تعالى -:{يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} . (1)
19 -
قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} أمر مسبب عن مجموع القصة من مفتتح السورة حتى هنا، على معنى: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة أولئك فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله، فهو من موجبات السعادة ولا يهمك كفر هؤلاء بوحدانيته، فقلوب العباد ونواصيهم بيده، ومصادر الأمور ومواردها بأمره، يضل من يشاء ويهدى من يشاء، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد، واستغفر لذنبك، وتضرع إلى الله أن يغفر لك في كل حال ما هو دونه، فقد ذكر العلماء أن لنبينا عليه الصلاة والسلام في كل لحظة عروجًا إلى مقام أعلى مما كان فيه، فيكون ما عرج منه في نظره الشريف ذنبًا بالنسبة لما عرج إليه فيستغفر منه، وحملوا على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"إنه ليران على قلبى".
(1) سورة الفجر، من الآية:23.
ويجوز أن يكرن استغفاره صلى الله عليه وسلم من قبيل ترك الأولى بالنسبة إلى منصبه الجليل مما يمكن أن يكون بالنسبة لغيره من أجلّ الحسنات، من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين.
ومهما يكن أو يُقَلْ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يؤدى لله جميع الطاعات، ويتضرع برفع الدعوات أداء لشكر آلائه، ورفعًا لدرجاته، وإرشادًا للمؤمنين.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} : والله يعلم أطواركم في الدنيا ومراحلكم فيها، فإنها أطوار ومراحل لابد من قطعها لا محالة، يستقيم فيها من يستقيم، ويضل من يضل، ويعلم مثواكم ومستقركم في الآخرة، أهل النعيم في دار النعيم، وأهل العذاب في الجحيم، فإن الآخرة هي العقبى، وهي منازلكم، ومواطن إقامتكم فلا يأمركم إلا بما هو خير لكم فيهما فبادروا إلى الامتثال بما أمركم به في المقامين، فإنه زادكم عند من لا تخفى عليه أحوالكم.
وخص المتقلب في الدنيا، والمثوى في الآخرة، لأن الدنيا دار حركة دائبة، وتقلب مختلف لطلب الرزق وغيره، أما الآخرة فدار سكون واستقرار، لا تقلب فيها ولا مدار. فالرزق فيها موفور والنعيم مقيم.
المفردات:
(سورة): طائفة من آيات القرآن تأذن بالجهاد.
(محكمة): مبينة قاطعة لا تأول فيها.
(مرض): ضعف إيمان ونفاق.
(المغشى عليه من الموت): من حضرته أعراض الموت وغشيته.
(أولى لهم): هلاك وعذاب لهم.
(عزم الأمر): جد الأمر.
(عسيتم): قاربتم.
(أقفالها): جمع قفل: وهو ما يحكم به الغلق.
التفسير
20 -
عرضت الآيات السابقة شيئًا من أحوال الكافرين، واختصت منهم طائفة تسمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلسه ثم تنكر ما سمعت فور خروجها من المجلس، وتتساءل عنه سخرية واستهزاء، وإمعانًا في العناد، ثم جاءت هذه الآيات بعدها على سنن هذا النسق تتناول الذين اهتدوا وبارك الله هداهم، وآتاهم تقواهم، واختصت منهم جماعة يتعجلون تنزيل آيات من القرآن قاطعة في الإذن بالجهاد ليضربوا على أيدى المشركين، ويردوا كيدهم، وينهنهوا (1) جبروتهم، فإذا أنزلت هذه الآيات أشفق من نزولها مرضى القلوب وضعاف الإيمان، وشملهم الضجر، وتغشَّاهم الخوف حتى أفزع قلوبهم، ونظروا إلى الرسول نظر المغشى عليه من الموت.
وفسر بعض المفسرين (الذين في قلوبهم مرض) بالمناففين، والسورة مكية والمجتع المكي كان صريحًا لا نفاق فيه ولا ضعف إيمان، اللهم إلا أن يكون ذلك مما سبق حُكْمَهُ نزولُهُ، أو تكون الآية مدنية.
والمعنى: ويقول الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله وأجابوا دعوته - يقولون - حرصا على الجهاد، وتحمسا لنصرة الدعوة، وتوعدا للمشركين: هلَّا أنزل الله طائفة من القرآن بينة قاطعة بمشروعية الجهاد، والإذن به حتى ننتصر لدعوتنا، ونرد كيد أعدائنا، فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها، وذكر فيها الإذن بالجهاد، والأمر به صراحة بحيث لا يحتمل التأويل بوجه آخر - وكل آيات الجهاد محكمة كما قال قتادة - إذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض من ضعاف الإيمان والمنافقين خائفين مشفقين، ينظرون - إليك - أيها الرسول الكريم - نظر من حضرته أعراض الموت، وغشيته أماراته فشخص بصره جبنا وهلعا، وقوله - تعالى -:{فَأَوْلَى لَهُمْ} تهديد ووعيد
(1) أي: يذهبوه ويكفوه.
بمعنى فأهلكهم الله - تعالى - هلاكا أقرب لهم من كل شر وهلاك، أو الكلام على تقدير مبتدأ وأولى خبره، أي: فأولى لهم الهلاك.
21 -
{طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} :
كلام مستأنف، أي: أمرهم طاعة، أو طاعة وقول معروف خير لهم، ويجوز أن يكون حكاية لقولهم؛ ويؤيده قراءة أبي:(يقولون طاعة) أي: أمرنا طاعة، وقولنا معروف {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي: إذا جدَّ الأمر بالقتال وأخذ طريق التنفيذ خالفوا وتخلفوا، أو ناقضوا، أو كرهوا، فلو صدقوا الله في الحرص على الجهاد، ورجاء مشروعيته لكان الصدق خيرا لهم مما صاروا إليه وظهر عليهم، وقيل: لو صدقو الله في الإيمان، وتأكد في يقينهم، ويجوز أن يكون جواب "إذا" جملة {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} على طريقة قولك: إذا حضرنى طعام فلو جئتنى لأطعمتك.
22 -
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} :
الخطاب للذين في قلوبهم مرض، والمعنى: فهل عسيتم إن أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه أن تعودوا إلى جاهليتكم الأولى من الإفساد في الأرض وقتل بعضكم بعضًا، وتقطيع الأرحام بينكم تناصرًا على الباطل، وتهالكا على الدنيا، فإنه ضعفكم في الدين، والحرص على الدنيا جعلكم حين أمرتم بالجهاد الذي هو السبيل إلى إحراز كل خير وصلاح، ودفع كل شر وبلاءٍ جعلكم حين أمرتم به تشفقون على أنفسكم، وتنقضون عهدكم، ومن كان كذلك لا يبعد عنه التولى عن الإيمان والعودة إلى الشرك لكي تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم، كعادتكم في الجاهلية.
ويصح أن يكون المعنى: فهل عسيتم إن توليتم أُمور الناس وتأمَّرتم عليهم أن تفسدوا في الأرض، وترجعوا إلى التناهب والقتل وقطع الأرحام ووأد البنات: كما كنتم في الجاهلية.
وتخصيص الأرحام بالذكر تأكيد لحقها، وذم لما يشيع بين كثير من الناس من جفائها، وتحذير منه، وقد قال - تعالى -:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} .
23 -
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} :
الإشارة في {أُولَئِكَ} للمخاطبين في قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} بأسلوب الالتفات تحقيرًا لشأنهم، وحكاية لفظائع أحوالهم.
والمعنى: أولئك المذكورون آنفًا لعنهم الله فطردهم من رحمته، وأبعدهم عن مغفرته فأذهب أسماعهم لتصامِّهم عن سماع الحق، والإذعان له، وأعمى أبصارهم لتعاميهم عن مشاهدة الآيات الكثيرة الماثلة في أنفسهم، وفي الآفاق المنصوبة حولهم، فعلوا كل ذلك باختيارهم فتركهم الله ولم يُنقذهم، وأبقاهم في صممهم عن آيات الحق، وعماهم عن دلائله.
24 -
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} :
أي: أغفل هؤلاء، وضلوا فلا يتدبرون القرآن، ولا يراجعون ما فيه من المواعظ والزواجر حتى يُخلصوا في إيمانهم، ويمتثلوا أمر الله بالجهاد كما امتثله المؤمنون، إنهم لم يتدبروا ولم يتفكروا، بل قلوبهم مقفلة محكمة الغلق بالأقفال والمغاليق، فلا يكاد يصل إليها ذكر، ولا يتحرك فيها تأمل أو فكر فتحولوا عن التفكر إلى الطمس والتحجر.
وتنكير القلوب: إما لتهويل حالها بإبهام أمرها في القساوة والجهالة فهي قلوب منكرة لا يُعْرَف مثل حالها ، ولا يُقادر قدرها في الغفلة والجمود، وإما لأن المراد منها قلوب بعضهم، فالتنكير للتقليل.
وإضافة الأقفال إلى القلوب للدلالة على أنها أقفال مخصوصة بها مناسبة لحالها من القسوة والفظاظة غير مجانسة لسائر الأقفال المعهودة.
واستدل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالآية على منع بيع الجارية إذا ولدت، أخرج الحاكم وصححه وابن المنذر عن بريدة قال: كنت جالسًا عند عمر إذ سمع صائحًا، فسأل، فقيل: جارية من قريش تباع أمها، فأرسل يدعو المهاجرين والأنصار، فلم تمض ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة، فحمد الله - تعالى - وأثنى عليه ثم قال: أما بعد:
فهل تعلمون أن كان مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة؟ قالوا: لا، قال: فإنها قد أصبحت فيكم فاشية، ثم قرأ:{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} ثم قال: وأي قطيعة أقطع من أن تباع أُم امرىء فيكم؟ قالوا: فاصنع ما بدا لك، فكتب في الآفاق: أن لا تباع أمُّ حُرٍّ، فإنها قطيعة رحم وإنه لا يحل.
ويلاحظ أن الجارية تعتق بعد وفاة سيدها من أجل ولدها منه ذكرا كان أو أنثى، فلا يحل له بيعها ويحرمها من حريتها المرتقبة.
المفردات:
{ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} : رجعوا إلي ما كانوا عليه من الكفر.
{سَوَّلَ لَهُمْ} : سهل لهم وحسن.
{وَأَمْلَى لَهُمْ} : أمهلهم ومد في الأمانى.
{أَسْخَطَ اللَّهَ} : أوجب غضبه وعقابه.
{فَأَحْبَطَ} : أبطل وأذهب.
{أَضْغَانَهُمْ} : أحقادهم جمع ضغن.
{بِسِيمَاهُمْ} : بعلامتهم المميزة لهم.
{لَحْنِ الْقَوْلِ} : فحواه ومعاريضه من لحنت له، بمعنى قلت له قولًا فهمه عني وخفى على غيره، وفيه: لحِن - بالكسر - من باب طرب بمعى فطن، ولحنَ - بالفتح - من باب نفع بمعنى أخطأ.
التفسير
25 -
هذه الآيات امتداد للحديث عن مرضى القلوب ضعاف الإيمان، تكشف دخائلهم، وتفضح سرائرهم، وتهددهم بإظهار أمرهم، وسوء عاقبتهم، قال الآلوسي: وفي إرشاد العقل السليم: هم المنافقون الذين وصفوا فيما سبق بمرضى القلوب وغيره من قبائح الأحوال فإنهم قد كفروا به عليه الصلاة والسلام وقال ابن عباس وغيره: نزلت في منافقين كانوا قد أسلموا ثم نافقت قلوبهم، وما قاله ابن عباس لا يخالف ما جاء في إرشاد العقل السليم الذي تقدم ذكره، فهم جميعًا ارتدوا عن الإسلام، وهم جميعًا مرضى القلوب الذين سبق وصفهم بقبائح الأعمال، وقيل: هم اليهود، وقيل: هم أهل الكتاب جميعًا.
والمعنى: إن الذين رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وارتكاب المعاصي، وإشاعة الفساد من بعد ما تبين لهم الهدى، واتضح أمامهم السبيل والقصد، والسلوك السوى بالدلائل الباهرة، والمعجزات القاطعة القاهرة - إنهم - وقعوا في حبائل الشيطان الذي سهل لهم سبل الغواية، ويسر أسباب الكفر، وأمهلهم في هذا السبيل، ومد لهم فيه ما شاء من إضلال وإغواء، وما شاءوا من قبائح وجوامح أهواء.
26 -
المعنى: ذلك الارتداد إلى الكفر، والنكسة إلى الجاهلية بسبب أن هؤلاء المرتدين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله من القرآن على سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم حقدا وحسدا مع علمهم أنه من عند الله، وطمعا في إنزاله عليهم، وهم يهود بني قريظة والنضير الذين قال لهم المرتدون: سنطيعكم في بعض الأمر، أي: في بعض أُموركم وأحوالكم، وهو ما حكى عنهم في قوله - تعالى -:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)} (1) أي: سنطيعكم في بعض ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد، والموافقة على الخروج معهم إذا خرجوا، والتناصر مع اليهود، وغير ذلك مما بيَّتوه سرًّا، ودبروه خفية ففضحه الله، والله يعلم إسرارهم وإخفاءهم فيكشفه في الدنيا، ويعذبهم عليه في الآخرة.
27 -
{فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} :
المعنى: هؤلاء المرتدون يفعلون ما يفعلون، ويحتالون بحيلهم الخسيسة في الدنيا، فكيف يكون حالهم، وأي شيء يفعلون إذا حضرهم الموت، وغلَّلتهم أعراضه وغشيتهم أهواله، فلم تبق لهم حيلة، ولم يستطيعوا فكاكًا أو وسيلة، وتتوفاهم الملائكة على أهول الوجوه وأفظع الحالات، يضربون وجوههم احتقارًا وأدبارهم امتهانًا واستصغارًا.
وضرب الوجوه والأدبار زيادة في المهانة والإذلال، وعن ابن عباس رضي الله عنهما:"لا يتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره".
28 -
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} :
ما تزال الآيات تمضي في أحوال المرتدين وتكشف سلوكهم.
(1) سورة الحشر، الآية:11.
والمعنى: ذلك الذي يجرى عليهم من المهانة عند الموت من ضرب وجوههم وأدبارهم إذلالا واستهزاء بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله واستوجب غضبه من الكفر وارتكاب المعاصي وكرهوا ما يرضاه - جلّ شأنه - من الإيمان وعمل الطاعات، وما يقتضي مغفرته ورضوانه فأحبط الله أعمالهم، أي: أبطل ثواب الأعمال الطيبة التي عملوها حال إيمانهم.
وفي تعليل ضرب الوجوه والأدبار باتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه ما يشير إلى أن اتباع ما أسخط الله يقتضى التوجه والتحول فيناسبه ضرب الوجه، وكراهة رضوان الله يقتضي الإعراض والتولى فيناسبه ضرب الأدبار.
29 -
المعنى: بل أحَسِبَ الذين في قلوبهم مرض، فأخفوا كفرهم وأسروا ضغنهم وعداوتهم أنه لن يخرج الله أحقادهم فيظلوا مستورين مجهولين لا يفضح الله أحقادهم، ولا يعلن أضغانهم للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين؟ كلا، فهو حسبان باطل، وظن خاطئ، ولو نشاء إعلامك لأعلمناك بهم، ولعرفناكهم بدلائل تعرفهم بها بأعيانهم فلعرفتهم بسيماهم وبعلاماتهم التي نسمهم بها ، والله لتعرفنَّهم في فحوى القول ومعاريضه، دون حاجة إلى تعريفك بسيماهم والعلامات المميزة لهم، والله يعلم أسراركم وخفاياكم فيجازيكم - أيها المنافقون - عليها لا يخفى على الله منها شيء.
والالتفات إلى نون العظمة في قوله - تعالى -: {وَلَوْ نَشَاءُ} لإبراز العناية بالإراءة، وعن أنس - رضى الله عنه -:"ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من المنافقين".
المفردات:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} : لنختبرنكم.
{شَاقُّوا الرَّسُولَ} : عادوه وعاندوه.
{سَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} : سيبطل أعمالهم ويمحو ثوابها.
التفسير
31 -
هذه الآية الكريمة بمثابة التذييل الشامل للآيات السابقة التي تناولت طوائف المؤمنين، والكافرين، والمنافقين الذين في قلوبهم مرض، توضح أن حكمة الله - تعالى - تقتضى أن يعامل خلقه وعبيده معامله الممتحن لهم، المختبر لأحوالهم لتنكشف حقائقهم، ويظهر - واقعًا وعملًا - ما يعلمه الله أزلا. فيجرى عليهم جزاؤه على مقدار ما يكون من أحوالهم وما يجنيه عليهم اختيارهم السيئ في سلوكم وأعمالهم.
والمعنى: ولنعاملنكم معاملة الممتحن لكم، المتطلب معرفة أخباركم وأسراركم حتى نعلم من واقع أعمالكم، ونعرف من ظواهر أحوالكم، ومشاهد سلوككم فيما فرض عليكم من
التكاليف والأوامر والنواهى، التي من جملتها الجهاد، ونعلم الصابرين على مشاقها، الصادقين في أدائها، وتظهر أحوالكم وأخباركم فيترتب على هذا جزاؤكم العادل الذي تشهد به أعمالكم، وتصدقه جوارحكم، يوم تشهد عليكم ألسنتكم وأيديكم وأرجلكم بما كنتم تعملون.
32 -
هذه الآية وعيد لمن يكشف الامتحان حقيقة كفره، ويفضح قبح طويته.
والمعنى: إن الذين كفروا فأنكروا وحدانية الله، وعارضوا رسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم وصدوا الناس عن اتباعه وشاقوه، وبالغوا في عداوته وعناده حتى صاروا في شق غير شقه من بعد ما تبين لهم الهدى في معجزاته الحاسمة في صدقه، القاطعة برسالته، ومن بعد ما علموا من نعوته صلى الله عليه وسلم التي صرَّحت بها كتبهم، وتحدثوا بها هم أنفسهم، إن هؤلاء أيًّا كانوا ومهما كانوا لن يضروا الله بكفرهم ومشاقتهم وعنادهم شيئًا من الأشياء، أو شيئا من الضرر، والله بالغ أمره لأنه هو القادر الغالب، وسيبطل مكايدهم التي نصبوها لإبطال دينه، ومشاقة رسوله، ويضيع ثواب ما عسى أن يكونوا عملوه من صالحات في دنياهم.
33 -
هذه الآية من جملة ثمرة الابتلاء وغايته، فكما هددت الآية قبلها الكافرين وأوعدتهم جاءت هذه الآية تنبه المؤمنين إلى مداومة الطاعات والحرص على سلامتها.
والمعنى: يا أيها الذين صدقوا في إيمانهم وتمحيص عقيدتهم، وسلكوا مسالك الطاعة، داوموا على هذه الأعمال الصالحة واحرصوا على سلامتها لتنالوا ثوابها، فلا تُلْبِسُوها غشًّا ولا نفاقًا، ولا تخلطوها بِعُجْب أو رياء، ولا تذهبوا بها مذهبا يأكل الحسنات من منٍّ أو أذى.
قيل: إن ناسًا من بني أسد قد أسلموا، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قد آثرناك، وجئناك بنفوسنا وأهلينا. كأنهم يمنُّون، فنزلت.
المفردات:
{فَلَا تَهِنُوا} : فلا تضعفوا ولا تزلوا.
{السَّلْمِ} - بفتح السين وكسرها -: الصلح والمهادنة.
{الْأَعْلَوْنَ} : القاهرون الغالبون.
{وَاللَّهُ مَعَكُمْ} : والله ناصركم ومعينكم.
{وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} : ولن ينقص أعمالكم ولن يضيعها.
التفسير
34 -
في الآية السابقة أمر الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، ونهاهم عن الارتداد عن الدين؛ لأن الارتداد مبطل للأعمال فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وهنا يذكر صفة الكفار ونهايتهم فيقول - سبحانه -: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} .
قيل: نزلت هذه الآية في أهل القليب، وحكمها عام في كل من مات على كفره؛ لأن مدار عدم المغفرة هو الإصرار على الكفر حتى الموت.
والمعنى: إن الذين امتنعوا عن الدخول في الإِسلام وسلوك طريقه والاهتداء بهديه وصدوا الناس عنه، ومنعوهم من الانضواء تحت لوائه، ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم.
35 -
الخطاب هنا للمؤمنين، أي: إذا علمتم أن الله - تعالى - مبطل أعمال الكافرين ومعاقبهم وخاذلهم في الدنيا والآخرة، فلا تبالوا بهم ولا تظهروا ضعفًا أمامهم وتدعوا إلى المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبينهم، فأنتم الذين قدر الله لهم النصر والغلبة. قال ابن كثير: أما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين، ورأى الإمامُ في المهادنة والمعاهدة مصلحة فله أن يفعل ذلك، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، حين صده كفار قريش عن دخول مكة للعمرة، ودعوه إلى الصلح ووضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين فأجابهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، بل وسمى الله ذلك الصلح فتحًا مبينا، وقوله - جلت قدرته -:{وَاللَّهُ مَعَكُمْ} بشارة عظيمة بالنصر على الأعداء والظفر بهم؛ لأن من كان في معية الله ومصاحبته لا يخذل ولا يذل ولا ينتصر عليه مخلوق.
وقوله - تعالى -: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي: ولن يحبط أعمالكم ويبطلها ويسلبكم إياها، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئًا.
المفردات:
{فَيُحْفِكُمْ} : فيجهدكم بطلب كل المال ويلحف عليكم في المسألة.
{أَضْغَانَكُمْ} : أحقادكم الدفينة.
التفسير
36 -
أي: ما الحياة الدنيا إلا كاللعب واللهو، فلا ثبات لها ولا استقرار، ولا اعتداد بها، شأنها كذلك إلا ما كان - منها لله عز وجل وإن تؤمنوا بما أنزل عليكم، وتتركوا المعاصي والآثام، وتفعلوا ما أمركم الله به من أنواع البر والخير وقاية لأنفسكم، يؤتكم ثواب إيمانكم وتقواكم بعمل الباقيات الصالحات التي يتنافس فيها المتنافسون، ولا يطلب منكم التصدق بكل أموالكم، فهو - سبحانه - يعطيكم كل الأجور على أعمالكم ولا يسألكم إلا بعض المال، وهو ما شرعه الله سبحانه وتعالى من الزكاة وغيرها لمواساة البائسين والتنفيس عن الفقراء والمحتاجين.
وقيل: معنى {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} : لا يسألكم ما هو مالكم حقيقة وإنما يسألكم ماله عز وجل فهو المالك الحقيقى لهذه الأموال التي أنعم بها عليكم.
وقيل: {وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} أي: ولا يسألكم أموالكم لحاجته إليها بل ليرجع ثواب إنفاقكم إليكم في يوم أنتم في أشد الحاجة إلى هذا الثواب.
37 -
{إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} :
أي: إن يسألكم الله أموالكم فيجهدكم بطلب كل الأموال تبخلوا بالأموال وتمتنعوا عن بذلها لمستحقيها ويظهر الله أحقادكم لمزيد حبكم لهذه الأموال، وحرصكم عليها وكراهيتكم لإنفاقها.
قال ابن كثير: قال قتادة: إن في طلب إخراج المال إخراج الأضغان. وصدق قتادة؛ فإن المال محبوب ولا يصرف إلا فيما هو أحب إلى الشخص منه.
وذكر الزمخشرى في تفسير قوله - تعالى -: {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} أي: تحقدون على رسول الله وتضيق صدوركم لذلك، وتظهرون كراهتكم ومقتكم لدين يذهب بأموالكم.
وقال سفيان بن عيينة: أي: لا يسألكم كثيرا من أموالكم، إنما يسألكم ربع العشر، فطيِّبوا أنفسكم.
38 -
{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ} أي: أنتم أيها المخاطبون هؤلاء الموصوفون بما تضمنه قوله - تعالى -: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا}
…
إلخ. وكررت هاء التنبيه للتأكيد.
{تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} : استئناف مقرر ومؤكد لا قبله لاتحاد معناهما، فإن دعوتهم للإنفاق معناه سؤال الأموال منهم، وأنَّ بخل ناس منهم معناه عدم الإعطاء المذكور، والإنفاق في سبيل الله الذي دعى المخاطبون إليه هو الإنفاق المطلوب شرعًا مطلقًا، فيشمل النفقة للعيال والأقارب، والجهاد في سبيل الله وإطعام الضيوف والزكاة، وليس خاصا بالإنفاق في الغزو أو بالزكاة كما قيل.
{فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} أي: فمنكم ناس يبخلون ويمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله وأوجه الخير، والذي يبخل عن بذل المال وإنفاقه في سبيل الله لا يضر إلا نفسه؛ لأنه سيحرمها من ثواب البذل، ثم أخبر - سبحانه - أنه لا يأمر بالإنفاق ولا يدعو إليه لحاجته له، ولكن لحاجتكم أنتم واحتياجكم للثواب وقال:{وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} :
أي: والله - سبحانه - هو الغني الحقيقى بالذات لا غيره، وأنتم الفقراء بالذات الكاملون في الفقر ، فما يأمركم به - سبحانه - فهو لخيركم ومصلحتكم لاحتياجكم
إلى ما فيه من المنافع في الدنيا والآخرة، فإن امتثلتم فلكم، وإن تعرضوا عن الإيمان وطاعة الله واتباع شرعه بالإنفاق وغيره من أنواع الخير يخلق مكانكم قومًا آخرين، وهذا كقوله - تعالى -:{ويأت بخلق جديد} (1) ثم لا يكون هؤلاء القوم أمثالكم في التولى عن الإيمان وطاعة الله، بل يكونون راغبين فيهما، مطعين لأوامر الله، قيل: هم الأنصار، وقيل: أهل اليمن وقيل: كندة والنخع، وقيل: الرُّوم، وقيل: غير ذلك، والخطاب لقريش أو لأهل المدينة: قولان.
والشرطية غير واقعة، أي: قوله - تعالى - -: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} فعن الكلبي: شرط في الاستبدال توليهم، لكنهم لم يتولوا فلم يستبدل - سبحانه - قومًا غيرهم. اهـ: آلوسى بتصرف.
(1) سورة فاطر من الآية 16.