الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والرد على الكفرة فيما نسبوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من الشعر والكهانة والجنون، ومن الزعم بأنه يتقول ويختلق على الله القرآن، ويدّعي أنه من عند الله، مما هو مذكور في سورة الطور كقوله - تعالى -:{فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ} وقوله - تعالى -: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
وذكر أبو حيان: أن سبب نزولها قول المشركين: إن محمدًا عليه الصلاة والسلام يختلق القرآن، فنزلت السورة الكريمة للرد عليهم.
بعض مقاصد السورة:
1 -
أنها - شأن السور المكية - تعني بالرسالة وتؤكدها، قال - تعالى -:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} .
2 -
أن السورة الكريمة تحدثت عن المعراج الذي كان تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عام الحزن على وفاة زوجه أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها وعمه أبي طالب، وما رآه عليه الصلاة والسلام من آيات ربه الكبرى، وعجائبه العظمى في الملكوت الأعلى، عند سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى.
3 -
أنها تنعى وتعيب على هؤلاء المشركين عبادة غير الله من الأوثان والأصنام وغيرها من المخلوقات التي لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا تبصر، بل إن بعضها قد صنعوه بأيديهم {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} الآيات. ثم إنها تسفههم على أن آثروا أنفسهم بالبنين، وجعلوا لله ما يكرهونه ويأنفون منه وهو البنات قال تعالى:
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} .
4 -
أنها أخبرت عن الحساب والجزاء يوم القيامة: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} .
5 -
أنها تحدثت عن أن الله هو الذي يحيى ويميت وأنه إليه المنتهى والمصير، وأنه وحده هو الذي خلق الزوجين الذكر والأنثى، قال - تعالى -:{وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} .
وكانت خاتمة السورة أن ذكرت أصنافًا من العذاب لأمم خالفت أنبياءها وآذتهم، فأنزل الله بهم ما يستحقون، وذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعد له وللمؤمنين بنصر الله، كما أن فيها وعيدًا وتهديدا للمشركين أن يحل بهم ما نزل بغيرهم ممن هم على شاكلتهم، قال - تعالى -:{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} .
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
{هَوَى} : سقط أو نزل.
{مَا ضَلَّ} : ما زلَّ ولا بعد عن طريق الهدى.
{وَمَا غَوَى} : ما خاب ولا أمعن في الجهل.
{ذُو مِرَّةٍ} : ذو حصافة في رأيه ومتانة في دينه.
{فَاسْتَوَى} : فاستقام على صورته الحقيقية.
{دَنَا} : قرب.
{فَتَدَلَّى} : امتد من أعلى إلى أسفل فزاد قربه.
{قَابَ قَوْسَيْنِ} القاب: ما بين المقبض وطرف القوس، والقوس: آله على هيئة الهلال ترمى بها السهام، أي: مقدار قوسين عربيتين.
{أَفَتُمَارُونَهُ} : من المِراء، وهو الملاحاة والمجادلة، أي: أفتجادلونه.
التفسير
1، 2، 3، 4 - {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}:
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} المراد بالنجم هنا: هو جنس النجوم، وهي من خلق الله، يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وتصك وترمي بجُزَيْئَات منها الشياطين التي تسترق السمع فيتبعها من هذه النجوم الشهاب الثاقب الذي يصدها ويدفعها، كما أنها تزين السماء الدنيا بالزينة الحسنة، والحلية البهيجة قال - تعالى -:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} (1) فضلا عن أن هذه النجوم آية باهرة تدل على كمال اقتداره - سبحانه - وعظيم سلطانه، إذ هي في أفلاكها ومداراتها لا تضل ولا يصطدم بعضها ببعض بل تسير وفق نظام بديع محكم والمراد بِهُوِيِّ النجم سقوطه على الشياطين، وفيه إشارة إلى أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سيظهر ويقهر الله أعداءه، كما تفعل الصواعق التي تهوى من النجوم بما يكون في طريقها.
أقسم - جل شأنه - بالنجم الذي له هذه الصفات الجليلة والخصائص العظيمة {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يضل ولم يبعد عن الحق ولم يغب أو ينأ عن الهدى، بل هو على الصراط المستقيم {وَمَا غَوَى} أي: وما خاب ولا انخرط في سلك الجهال المارقين عن الدين الصحيح، بل هو راشد مهتد وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغيّ. وفي القسم بالنجم بهذا المعنى على أنه عليه الصلاة والسلام منزه عن شائبة الضلال والغواية - في هذا القسم - من البراءة البديعية، وحسن التصوير، وجمال الواقع ما لا غاية وراءه؛ لأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسألك الدنيا كأنه قيل: والنجم الذي يهتدي به السابلة إلى مقاصدهم، ويسترشدون به في مسالكهم نحو غاياتهم ما عدل محمَّد عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة، وفي هذا من التمثيل ما يعطى
(1) الآيتان: 6، 7 من سورة الصافات.
بأنه عليه الصلاة والسلام على الصواب في أفعاله وأقواله، ما اعتقد باطلا قط، وعطف قولى:{وَمَا غَوَى} على قوله: {مَا ضَلَّ} من قبيل عطف الخاص على العام.
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} أي: وما يتكلم به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم عن هوى نفسه ورأيه أصلًا إنما هو وحي من عند الله يوحيه الله إليه، وقيل المراد: ما يصدر نطقه عليه الصلاة والسلام في شأن الدين مطلقًا - قرآنا كان أو غيره - عن هوى بل كُلُّهُ وحي. وهناك من المفسرين من يرى أن نطق رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتهاده ليس صادرًا عن هوى النفس، وإنما هو واسطة بين ذلك والوحي، ويجعل الضمير في قوله:{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} راجعًا للقرآن الكريم، وبهذا قال العلامة الآلوسي. كأنه قيل: إذا كان هذا شأنه عليه الصلاة والسلام أنه لا ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف ما عليه قومه، واستمال به قلوب كثير من الناس، وكثرت الأقاويل فيه. ما هو إلا وحي يوحيه الله عز وجل إليه صلى الله عليه وسلم ليبلغه الناس.
وفي قوله - تعالى -: {وَمَا يَنْطِقُ} مضارعًا وهو ما يدل على الحال والمستقبل مع قوله - سبحانه -: مَا {ضَلَّ} {وَمَا غَوَى} بصيغة الماضي فيهما ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ ميَّز، وقبل أن يتدرج ويترقى في أمور الحياة ويتدرب عليها، وقبل أن يختاره ربه - جل وعلا - نبيًّا ورسولا فكيف به وقت أحكمته التجارب وتوجته الرسالة فهو لا شك - وهذه حاله - أبعد من أن ينطق عن هوى نفسه، أو يتكلم عن شهوة، وفي هذا الأسلوب - كما يقول العلامة الآلوسي -: حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم.
5 -
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} :
أي: علم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم وأنزله عليه من عند الله عز وجل ملك شديدة قواه وهو جبريل عليه السلام ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم
لوط ثم قلبها، وقد صاح صيحة بثمود قوم صالح عليه السلام فأصبحوا جاثمين هالكين، كما كان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف.
6 -
{ذُو مِرَّةٍ} أي: ذو حصافة في عقله، وجزالة في رأيه، ومتانة في دينه، وقد ائتمنه الله - تعالى - على وحيه إلى جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - {فَاسْتَوَى} أي: فاستقام جبريل عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله - تعالى - عليها دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صورة الصحابي الجليل "دحية الكلبي" كما كان يتمثل وينزل في صورة أعرابي، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يراه في صورته التي جبل وخلق عليها.
7 -
{وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} :
أي: جبريل عليه السلام بالجهة العليا من السماء فاستقام وظهر وملأ الأفق، وكان ذلك عند غار حراء في أوائل النبوة.
8 -
أي: ثم قرب جبريل عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَتَدَلَّى} فتعلق في الهواء ودنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم دُنُوًّا خاصًّا ونزل بقربه.
9 -
{فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} :
أي: فكان مقدار مسافة قرب جبريل عليه السلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم كمقدار قوسين عربيتين أو أقرب من ذلك على تقديركم ومعاييركم، وهذا كناية عن شدة القرب.
10 -
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} :
أي: فأوحى جبريل عليه السلام إلى عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي أوحاه إليه من عند الله - سبحانه - ولم يبين - جل شأنه - الموحى به، وذلك لتفخيمه وتعظيمه، أي: أوحى إليه أمرًا عظيمًا.
11 -
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} :
أي: ما كذب قلب محمَّد ما أبصره بعينيه من صورة جبريل عليه السلام أي: ما قال فؤاده صلى الله عليه وسلم لما رآه ببصره: لم أعرفك، ولو قال ذلك لكان كاذبًا وحاشاه أن يكون كذلك، بل إنه عليه السلام عرفه بقلبه كما رآه ببصره.
12 -
{أَفَتُمَارُونَهُ (1) عَلَى مَا يَرَى} :
أي: أفتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة من صورة جبريل عليه السلام الحقيقية بعد ما رآه قبل على صور تمثل فيها بصورة آدمية؟ كان ذلك حتى لا يشتبه عليه بأي صورة ظهر فيها.
(1) وهو من المراء، وهو المجادلة، واشتقاقه عن مري الناقة: إذا مسح ضرعها ليخرج لبنها وتدر به، فشبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يطلب الوقوف على ما عند الآخر ليلزمه الحجة، فكأنه يستخرج دره: الآلوسي.
المفردات:
{نَزْلَةً أُخْرَى} : مرة أخرى من النزول.
{سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} السدرة: شجرة نبق في السماء، إليها ينتهي علم كل الخلائق.
{جَنَّةُ الْمَأْوَى} : الجنة التي يأوى إليها المتقون، وقيل غير ذلك.
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ} : ما مال بصر الرسول عما رآه.
{وَمَا طَغَى} : وما تجاوز ما رآه إلى غيره.
{آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} : عجائبه الملكية والملكوتية.
{اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} : أصنام لهم كانوا يعبدونها.
{قِسْمَةٌ ضِيزَى} : قسمة جائرة.
{مِنْ سُلْطَانٍ} : من برهان وحجة.
{مَا تَمَنَّى} : ما تشتهي نفسه.
التفسير
13 -
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} :
أي: ولقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورته التي جبل عليها مرة أخرى، والرؤية في هذه المرة كانت بنزول كالرؤية في المرة الأولى عند غار حراء يشير إلى ذلك قوله تعالي:{نَزْلَةً أُخْرَى} وقيل: رأى محمد عليه الصلاة والسلام ربه - جل وعلا - بلا كيف ولا انحصار. كما ذهب إلى ذلك ابن عباس وغيره.
14 -
{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} :
هذه السدرة هي شجرة نبق عن يمين العرش في السماء السابعة. {الْمُنْتَهَى} : اسم مكان؛ لأنها - كما أخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس - إليها ينتهي علم كل عالم، وما وراءها لا يعلمه إلَّا الله - تعالى - وقيل: لأنها تنتهي إليها أعمال الخلائق بأن تعرض على الله عندها، أو تنتهي عندها أرواح الشهداء، أو أرواح المؤمنين مطلقًا.
15 -
{عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} :
أي: عند سدرة المنتهى تكون جنة المأوى التي يأوي ويرجع إليها المتقون، أو يصير وينزل فيها أرواح الشهداء.
16 -
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} :
أي: رأى محمَّد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام وقت ما يغطي ويستر الصدرة ما يغطيها ويسترها من الأشياء الدالة على عظمة الله وجلاله مما لا يحيط به الوصف، ولا يقدر على إدراك حقيقته الأفهام، وقيل: ما غشاها وسترها من الملائكة. أخرج عبد بن حميد قال: استأذنت الملائكة الرب تبارك وتعالى أن ينظروا إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأذن لهم فغشيت الملائكة السدرة لينظروا إليه صلى الله عليه وسلم -
17 -
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} :
أي: ما عدل بصر الرسول عليه الصلاة والسلام عن رؤية العجائب التي أُمر برؤيتها، وما تجاوز ما أُذن له في رؤيته ولا تعداه إلى سواه، فقد أثبت ما رآه إثباتا مستيقنًا صحيحًا من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه، وهذه صفة عظيمة في الثبات والطاعة، فإنه ما فعل إلا ما أمر به، ولا يسأل فوق ما أعطى له، ولله درّ القائل:
رأى جنة المأوى وما فوقها ولو
…
رأى غيره ما قد رآه لتاها
18 -
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} :
أي: لقد نظر وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضًا من عجائب خلق الله وآياته العظمى كرؤيته جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية وكرؤية سدرة المنتهى وما شاهده فيها، وقد أخرج البخاري وجماعة، عن ابن مسعود في الآية:(رأى رفرفًا أخضر من الجنة قد سد الأُفق).
19، 20 - {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى}:
لما ذكر الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة وذكر - سبحانه - أيضًا بعض آثار قدرته حاجَّ المشركين وسفههم ووبخهم إذ عبدوا ما لا يعقل، وقال: أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها وقد أوحت وأنزلت إليكم شيئًا كما أوحينا إلى محمد؟ وهل رأيتم من عجائب خلقها كما رأى محمَّد من آيات ربه الكبرى؟ واللات والعزى ومناة أصنام لهم كانوا يعبدونها من دون الله: فاللات لثقيف بالطائف. وقيل في هذا الصنم: إنه كان رجل يلت السويق للحاج على حجر، فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك، وهناك أقوال أخرى غير هذه في سبب التسمية، وبقيت اللات إلى أن أسلمت ثقيف، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار، أما العزى: فكانت لقريش أو لغطفان وهي سمرة ببطن نخلة بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، فضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك
…
إني رأيت الله قد أهانك
ورجع وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام: "تلك العزى ولن تعبد أبدًا". وكانت مناة لهذيل وخزاعة، وقيل: لبني هلال، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا - كرم الله وجهه - فهدمها عام الفتح، وسميت (مناة)؛ لأن دماءَ الذبائح والنسائك كانت تمنى (تراق) عندها تقربًا إليها، أو هي مأخوذة من النوء لأنهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركًا بها {الْأُخْرَى}: صفة ذم وهي المتأخرة الرضيعة، وهي - أيضًا - تدل على ذم السابقتين {اللَّاتَ وَالْعُزَّى} ، لأن أخرى تأنيث آخر تستدعي المشاركة مع السابق عليها في الحكم، وهو هنا الذل والوضاعة ونزول القدر والمكانة.
21 -
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} :
بعد أن سفه الله أحلامهم ووبخهم على ما اقترفوه من عبادة هذه الأصنام مع وضوح آثار عظمة الله في ملكه وملكوته، وجلاله وجبروته - بعد ذلك - أنحى عليهم مرة أخرى بالتقريع والتوبيخ لتفضيلهم أنفسهم على جنابه عز وجل حيث جعلوا له - سبحانه - الإناث التي يأنفون منها، واختاروا لأنفسم الذكور، وكانوا يقولون: إن هذه الأصنام والملائكة بنات الله وكانوا يعبدونها ويزعمون أنها شفعاؤهم عند الله - تعالى - فقال لهم:
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} أي: أيستقيم قولهم هذا لدى أرباب العقول السليمة والفطر المستقيمة؟
22 -
{تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} :
أي: قسمتكم هذه قسمة جائرة ظالمة حيث اصطفيتم لأنفسكم الذكور، وجعلتم لله الإناث، ومن شأنكم أنَّكم تستنكفون من أن يولدن لكم وينسبن إليكم، فضلا عن أن تجعلوا هؤلاء الأناث أندادًا لله وتسمونهنَّ آلهة.
23 -
{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} :
أي: ما الأصنام التي تدَّعون أنها آلهة - ما هي - إلا أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مسميات، وما تزعمونه لها هو أمر أبعد شيء عنها، وأشد منافاة لها، فهي لا تدفع عن نفسها ولا تنفع ولا تضر غيرها {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} أي: قد تابعتم آباءكم وقلدتموهم في عبادتها واتخاذها آلهة، وهي ليست إلَّا مجرد تسميات لجمادات وضعتموها أنتم {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} .
أي: ما هي إلَّا أسماء سميتموها بهواكم وشهوتكم، ليس لكم على صحة تسميتها آلهة برهان ودليل من الله تتعلقون وتتمسكون به.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} : المراد بالظن هنا: هو التوهم، وشاع استعماله فيه، أي: ما تتبعون ولا تسيرون إلَّا وراءَ وهم باطل حيث يدور في خلدكم العليل وعقلكم السقيم أن ما أنتم عليه حق، وأن ما تزعمونه من آلهة تشفع لكم.
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} : أي: والحال أن الله - سبحانه - أرسل إليكم رسوله صلى الله عليه وسلم تفضلا منه وإنعامًا عليكم يهديكم إلى الحق وإلي صراط مستقيم، فكيف تتركون ما جاءكم من الهدى والرشاد إلى ما أنتم عليه من دين باطل واعتقاد فاسد.
24 -
{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} :
أي: بل ليس للإنسان مطلقًا ما يتمناه وتشتهيه نفسه يتصرف فيه حسب إرادته، وهذا يقتضي نفي أن يكون للكفرة ما كانوا يطمعون فيه من شفاعة الآلهة والظفر بالحسنى لدى الله يوم القيامة، قال تعالى - حكاية - عن بعض هولاءِ الكفار:
{وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} كما ينفي ما كانوا يشتهونه من نزول القرآن على رجل من القريتين عظيم، أو يكون بعضهم هو النبي ونحو ذلك من أمانيهم الكاذبة الخادعة.
25 -
{فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} :
أي: هو - سبحانه - وحده مالك الدنيا والآخرة يعطي منهما من يشاءُ ويمنع من يشاء وليس لأحد أن يعقب عليه في شيء منهما، بل ما شاء الله - تعالى - له كان وما لم يشأ لم يكن. والله أعلم.
المفردات:
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} كم هنا: اسم استفهام خبري فلا يحتاج إلى جواب، والمراد منه التكثير، ومحله الرفع على الابتداء، وخبره جملة {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} ومعناه: وكثير من الملائكة.
{لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} أي: لمن يشاء الله أن يشفع له الملائكة ويراه أهلا للشفاعة.
{يُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} بأن يقولوا: إنَّهم بنات الله، {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يقُولُونَ عُلوًّا كَبِيرًا} .
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} : ما يتبعون إلا التوهم الباطل.
{لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} : لا ينفع الظن من الحق شيئًا من النفع.
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} : اترك ولا تهتم بمن أعرض عن قرآننا.
التفسير
26 -
بهذه الآية يوبخ الله من عبد الملائكة والأصنام، وزعم أن عبادتهم تقرب إلى الله تعالى، فقد نبهت ودلت على أن الملائكة مع كثرة عبادتهم وكرامتهم على الله لا تملك أن تشفع إلا لمن أذن الله - تعالى - أن يشفعوا له من عباده ممن يستحق الشفاعة من الموحدين فكيف تطمعون أن يشفعوا لكم؛ لأنكم تعبدونهم؟ وإذا كانت الملائكة المقربون إلى الله لا تشفع لكم فكيف تطمعون في شفاعة الأصنام أيها المشركون.
ومعنى الآية على هذا: وكثير من الملائكة لا تنفع شفاعتهم شيئًا من النفع لأحد من عباده المذنبين إلا من بعد أن يأذن الله لهم في الشفاعة لمن يشاؤه من عباده ويرضاه أهلا للشفاعة من أهل التوحيد، وأما من عداهم من أهل الكفر والطغيان فالله لا يأذن لأحد من الملائكة في الشفاعة لهم، أو لا تكون منهم شفاعة أصلًا إلا من بعد أن يأذن الله
…
الخ. وأجاز بعضهم أن يكون معنى الآية: وكثير من الملائكة لا تنفع شفاعتهم إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاؤُه منهم بالشفاعة، ويراه أهلا لها.
27، 28 - {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا}:
إن الذين لا يصدقون بالبعث والحساب والجزاء في الآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأُنثى، فيقولون: هم بنات الله - تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا - وليس لهم بهذا الادّعاء من علم، فإنه ليس عليه دليل عقلي ولا نقلي، ما يتبعون في هذه التسمية إلَّا التوهم الباطل، وإنه لا يغني من الحق شيئًا من الإغناء.
وقد أنكر الله في هاتين الآيتين آمرين ونفاهما:
أحدهما: دعوى أنوثتهم.
وثانيهما: أنهم بنات الله، وقد توعدهم الله على ذلك في سورة الزخرف فقال - سبحانه -:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} (1).
29، 30 - {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}:
اترك ولا تهتم أيُّهَا الرسول بمن أعرض عن ذكرنا المفيد للعلم بالحق، وهو القرآن العظيم، المشتمل على العقائد الصحيحة، وعلى علوم الأولين والآخرين، ولم يرد إلا الحياة الدنيا قاصرًا نظره عليها كالنضر بن الحرث، والوليد بن المغيرة، ولا تحرص على هداهم أكثر مما فعلت، ولا تأس على القوم الكافرين، ذلك الذي تقدم في شأن عقيدتهم، وقصر نظرهم على الدنيا وإنكارهم للآخرة هو منتهى ما وصلوا إليه من الإدراك والفهم، إن ربك هو أعلم بمن انحرف عن السبيل الموصل إلى مرضاته، وهو أعلم بمن اهتدى إليه، فسوف يجزى كليهما بالجزاء الذي يستحقه.
(1) سورة الزخرف، الآية:19.
المفردات:
{وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} : ويجزي الذين اهتدوا بالمثوبة الحسنى.
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} الذين: خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين يجتنبون. إلخ والجملة بيان لمن اهتدى، وكبائر الإثم: ما عظم من الذنوب ويكبر عقابه.
{اللَّمَمَ} : ما صغر من الذنوب، وأصله: ما قل قدره، ومنه لمة الشَّعر؛ لأنها دون الوفرة.
{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} : فلا تصفوها بالطهارة.
التفسير
31 -
أي: ولله وحده جميع ما في السموات وما في الأرض من أجزائهما وما استقر فيهما، - له تعالى كل ذلك - خلقًا وملكًا وتصرفًا، خلقهما وخلق ما فيهما ومَلَكَه ليجزي الذين أساءوا بعقاب ما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا فآمنوا وعملوا الصالحات بالمثوبة الحسنى.
32 -
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} :
هذه الآية بيان للذين أحسنوا ومدح لهم، فكأنه قيل: المحسنون هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ولا يفعلونها، ولكن قد يفعلون اللمم.
وكبائر الإثم: ما عظم من الذنوب، ووصفها بعضهم بما ورد فيه وعيد شديد كالغيبة والنميمة، والفواحش هي نفس الكبائر - كما ذهب إليه بعض العلماء - فعطفها على الكبائر لتقبيحها، وذهب آخرون إلى التفرقة بينهما، فالكبائر: ما ورد فيه وعيد شديد أو لعن بلا إقامة حدّ، والفواحش: ما ورد فيها الحد كالزنى والسرقة والقتل بغير حق، ويشبه هذا الرأي ما نقل عن مقاتل: كبائر الإثم: كل ذنب ختم بالنار، والفواحش: كل ذنب فيه الحد.
واللَّمَمَ: ما يُلم به العبد من صغائر الذنوب، ومثَّل له أبو سعيد الخدري بالنظرة، والغمزَة، والقبلة، وفسره الرُّمَّاني: بأنه هو الهم بالذنب وحديث النَّفس دون ارتكاب له، وعليه فالاستثناء فيه منقطع بمعنى:(لكن) قد يحدث منهم اللمم، وعن ابن عباس: هو الرجل يُلِمُّ بالذنب ثم يتوب، وبه قال مجاهد والحسن، ودليل ذلك قوله - تعالى -:{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} (1) ثم قال: {أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ
…
} (2) ودليله من الآية {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} وعليه يكون متصلا.
والآية عند الأكثرين تدل على انقسام المعاصي إلى كبائر وصغائر حقيقة كما تقدم [وقال جماعة من الأئمة منهم أبو إسحاق الإسفرايني والباقلاني وإمام الحرمين - قالوا -: إن المعاصي كلها كبائر، وإنما يقال لبعضها كبيرة والأُخرى صغيرة بالنسبة إليها، وكلها قابلة للتوبة منها وتكفر بها، وبهذا قال معظم المعتزلة. وقال بعض العلماء: إنه لا خلاف في المعنى بين الرأيين، فإنه لا خلاف بين العلماء في أن من المعاصي ما يقدح في العدالة، ومنها ما لا يقدح فيها، وإنما سَمَّوها كلها كبائر نظرًا لعظمة الله الذي لا يصح أن يعصى.
(1) سورة آل عمران، من الآية:135.
(2)
سورة آل عمران، من الآية:136.
وبعد هذا نقول: استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك، واحذر الصغائر فإنها مدرجة إلى الكبائر، نسأل الله العصمة منها.
{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} حيث يغفر الصغائر بتجنب الكبائر؛ بل ويغفر الكبائر بالتوبة منها.
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} الله أعلم بكم أيها الناس حين أنشأكم من الأرض، حيث خلق أباكم آدم من ترابها، أو أنشأكم جميعًا منها، فإن النطفة التي خلقكم منها ناشئة من الأغذية، والأغذية منشؤها الأرض.
والله تعالى أعلم بكم وقت كونكم أجنة في بطون أمهاتكم على أطوار مختلفة بعضها يلي بعضًا، وإذا كان الأمر كذلك فلا تزكوا أنفسكم وتصفوها بالطهر من الإثم، هو أعلم بمن اتقى المعاصي كما يعلم من فعلها، فيجازي كلا على عمله، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.
وهذه الآية نزلت - على ما قيل - في قوم من المؤمنين، كانوا يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون استعظاما لها وتكاثرا: صلاتنا وصيامُنا وحجنا، وهذا مذموم منهي عنه إذا كان بطريق الإعجاب أو الرياء، أما إذا لم يكن كذلك فلا بأس به، ولذا قيل: المسرَّة بالطاعة طاعة، وذكرها شكر.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)}
المفردات:
{الَّذِي تَوَلَّى} : الذي رجع معرضًا عن الإِسلام بعد ما كان مقبلا عليه.
{وَأَكْدَى} : أمسك ورجع عن الإِسلام، وأصله: بلغ الكُدْية: وهي الصخرة، يقال لمن
يحفر الأرض وتصادفه كدية فيمسك عن الحفر - يقال له -: أكدى، ثم استعمله العرب فيمن أعطى ولم يتمم العطاء، ولمن طلب شيئًا ولم يبلغ آخره.
التفسير
33، 34 - {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى} (1):
هاتان الآيتان وما بعدهما مما يتصل بهما نزلت في الوليد بن المغيرة، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيَّره بعض المشركين وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار؟ فقال: إني خشيت عذاب الله، فضمن له أن يتحمل عنه عذاب الله إن أعطاه شيئًا من باله، فأعطاه ما كان قد وعده به ثم بخل بباقيه فنزلت.
وقال مقاتل: كان الوليد قد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل {وَأَعْطَى قَلِيلًا} أي: من الخير بلسانه ثم قطع ذلك وأمسك عنه، وقيل غير ذلك.
ووجه صلة هذه الآيات بما قبلها: أنه - تعالى - لما بين في الآيات السابقة جهل المشركين في عبادة الأصنام، ذكر في هذه الآيات قصة أحد زعمائهم في جهله ورجوعه عن الحق.
والمعنى: أفرأيت - أيها الرسول - هذا الذي رجع عن الحق ولم يثبت عليه، وأعطى قليلًا من مدح الإِسلام والإقبال عليه، وقطع العطاء فلم يستمر عليه، بل رجع إلى شركه ودين قومه.
(1)"أفرأيت" الهمزة هنا: التعجيب من سوء حال الذي تولى، ورأيت: بمعنى علمت، وأبصرت.
المفردات:
{يُنَبَّأْ} : يُعْلم ويُخبر.
{وَفَّى} : أتم ما أمر بتبليغه على أكمل وجه في الوفاء.
{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أن: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، أي: أنه، والوِزر: الحمل.
{سَوْفَ يُرَى} : سوف يعرض عليه وعلى أهل القيامة، من: أريته الشيء أي: جعلته يراه.
{ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} قال الأخفش: يقال: جزيته الجزاء، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما.
التفسير
35 -
{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} :
أي: أعند هذا الذي أكدى علم بما غاب عنه من أمر عذاب الآخرة وأهوالها فهو يعلم أن صاحبه يتحمل عنه يوم القيامة ما يخافه، أو معناه: فهو يرى أن ما سمعه من القرآن باطل.
36 -
أي: بل ألم يخبر هذا الذي تولى عن الإِسلام وأعطى قليلا منه ولم يستمر عليه، ألم يخبر بتوراة موسى وصحف إبراهيم الذي وفى ما كلف به؟ فما أمره الله بشيءٍ إلَّا فعله، وما نهاه عن شيء إلَّا تركه - ألم يُخْبَر بما في هذه الصحف - أن لا تحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى من الذنوب؟! فلا يؤاخذ أحد بذنب غيره، ولا يعاقب إلا بذنب نفسه.
وأطلق على النفس لفظ وازرة "حاملة" لأن من شأنها حمل الذنوب، سواء أكانت مذنبة أم لم تكن مذنبة.
فإن قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من سنَّ سُنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" فقد دل على أن الإنسان يحمل ذنب غيره، فالجواب أنه في ذلك يحمل ذنب إضلاله لغيره الذي هو ذنبه لا ذنب سواه، بالإضافة إلى ذنب نفسه، أمّا الآخر الذي قلده فإنه يحمل ذنب ضلال نفسه.
وتخصيص صحف موسى وإبراهيم بالذكر دون سائر الأنبياء؛ لأن موسى أقرب أصحاب الشرائع إليهم، وأن إبراهيم كان رسول الله إليهم، ولا تزال بقية مما جاء به معروفة بينهم، أما صحف غيرهما من الأنبياء فإنها لم تكن لها بقية لديهم.
وفي تفسير {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} قال الإِمام ابن عباس رضي الله عنهما: كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره، يأخذون الولي بالولي - أي: القريب بالقريب - في القتل والجراحة فيقتل الرجل بذنب أبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وابن عمه، والزوجة بزوجها، وزوجها بها وبعبدهِ، فبلغهم إبراهيم عليه السلام عن الله تعالى:(أَن لَّا تَزِرُ نَفْسٌ وِزْرَ أُخْرَى).
وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير: "وفَّى" أي: عمل بما أُمِر به وبلغ رسالات ربه، قال القرطبي: وهذا أحسن لأنه عام.
ونحن نقول: لا خلاف بينهم وبين ابن عباس فيما قالوه، لأن ابن عباس لا يقصد أنه اقتصر على تبليغهم ذلك، فإنه بعض ما أمره الله تعالى به ووفاه، ولذا قال تعالى في شأنه:
39 -
أي: وجاء في صحف موسى وإبراهيم عليهما السلام: أن عمل الإنسان سوف يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه، تشريفًا للمحسن وتوبيخًا للمسىء، أو يعوض عليه ويكشف له يوم القيامة في صحيفة أعماله.
وجاء في هذه الصحف أيضًا أن الإنسان سوف يجزى يوم القيامة على سعيه وعمله الجزاء الأوفى.
المفردات:
{الْمُنْتَهَى} المراد به: انتهاء الخلق ورجوعهم إلى الله - تعالى -.
{مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} أي: من نطفة إذا تصب وتدفق في الرحم، يقال: أمْنَى الرجل ومنى، ومعناهما واحد، وأصل النطفة في اللغة: الماء القليل، ثم أطلقت على المني لقلته.
{النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} : الإحياء بعد الإماتة.
التفسير
42 -
{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} :
أي: أن الخلق ينتهون إلى الله - تعالى - ويرجعون إليه وحده لا إلى غيره، حيث يحاسبهم فيثيب المحسن ويعاقب المسىء.
وقيل: معناه: أنه عز وجل منتهى الأفكار، فلا تزال الأفكار تبحث في حقائق الأشياء حتى إذا اتجهت إلى ذات الله وصفاته انتهى سيرها فلا تفكر في ذلك وإلا هلكت، وأيد هذا المعنى بما أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية:"لا فكرة في الرب".
43 -
معنى هذه الآيات: أنه - تعالى - أضحك عباده وسرهم بما يبعث على فرحهم وسرورهم، وأبكاهم بما يبعث على حزنهم وبكائهم، ومن ذلك أنه - تعالى - وحده أمات الأحياء فأبكى من حولهم، وأحياهم حين منَّ عليهم بالذرية فضحكوا عند ميلادهم، وأنه - تعالى - خلق الزوجين الذكور والإناث من الإنسان وغيره - خلقهم من نطفة إذا تدفقت في الأرحام، وأنه - تعالى - سوف يحيى الموتى في النشأة الأُخرى ليحاسبهم ويجزي المحسن بالإحسان، والمسىء بالإساءة وفاءً بوعده الذي لا يخلف، وذلك لكي لا يتساوى المحسن والمسىءُ.
المفردات:
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} أي: أنه هو أغنى من شاء وأعطاه القنية، وهي: ما يبقى من المال.
{الشِّعْرَى} : ألمع كوكب وأضوؤُه.
{عَادًا الْأُولَى} : أولى القوم هلاكًا بعد قوم نوح، وللكلام بقية في التفسير.
{الْمُؤْتَفِكَةَ} : قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها، أي: انقلبت.
{أَهْوَى} أي: أهواها الله - تعالى - إلى الأرض بعد أن رفعها.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} : فبأي نعم ربك تتشكك؟!.
التفسير
45 -
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} :
أي: وأنه - تعالى - هو وحده أغنى من شاء من عباده وأعطاهم القَنية، وهي ما يبقى ويدوم من الأموال، كالرياض والحيوان والبناء والتحف، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله - تعالى -:{أَغْنَى} لأن القنية هي أشرف الأموال وأنفسها، وعن ابن زيد والأخفش: معناهما: أغنى وأفقر، ووُجِّه ذلك بأنَّهُما جعلا الهمزة للسلب والإزالة في أقنى، كما في أشكى، أي: أزال شكواه، وقيل غير ذلك.
46 -
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} :
الشعرى: كوكب قوي الإضاءة، ويطلع بعد الجوزاء في شدة الحر، وأُطلق عليها لفظ العبُور؛ لأنها عبرت الحجرة فلقيت سهيلا، كذا قيل، وهما شِعْريان، الشعرى العبور، والشعرى الغُمَيصاء، ويقال: إن الشعرى أكبر من الشمس، وإنما ترى أصغر منها لأنها بعيدة عنها بُعدًا كبيرًا في جو السماء، ولهذا جاء ذكرها في الآية، فكان ذلك من آيات إعجاز القرآن.
وقيل: إنما ذكرت لأن العرب كانوا يعبدون شِعرَى العبور، لأنها أكبر حجمًا من شِعرى الغميصاءِ، فقيل لهم: إنه - تعالى - هو رب الشعرى ومالكها، فهو أحق بالعبادة منها.
قال السُّدِّى: عبدتها حمير وخزاعة، وقال غيره: أول من عبدها أبو كبشة، رجل من خزاعة، أو هو سيدهم، واسمه وَخْز بن غالب.
ومن العرب من كان يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم، ويزعمون أنها تقطع السَّماء عرْضًا، وسائر النجوم تقطعها طولا، ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها، ولكن هذا الفريق من العرب كان لا يعبدها ويقتصر على تعظيمها.
وجاء في هامش المنتخب الذي أصدره المجلس الأعلى للشئون الإِسلامية - جاء فيه - أَن قدماءَ المصريين كانوا يعبدونها أيضًا، لأن ظهورها من جهة الشرق حوالي منتصف شهر يوليو قُبَيْلَ شروق الشمس متفق مع زمن الفيضان في مصر الوسطى، أي: مع أهم حادث في العام عندهم.
ولما كانت الشعرى لا تظهر قبيل شروق الشمس إلَّا مرة واحدة في العام، فلهذا جعلوا ظهورها أول العام الجديد. انتهى بتصرف يسير.
50 -
وصف القرآن الكريم عادًا المهلكة بأنَّها الأولى، والمراد من هذا الوصف: أنَّها أولى الأمم هلاكًا بعد قوم نوح - كما قاله جمهور المفسرين.
وقال الطبري: وصفت بالأولى لأن في القبائل عادًا الأُخرى، هي قبيلة كانت بمكة مع العماليق، وقال المبرد: عاد الأخرى هي ثمود، وقيل غير ذلك.
والمعنى: وأنه - تعالى - أهلك عادا الأولى لتكذيبهم رسولهم وبقائهم على الشرك بالله، وأهلك ثمودًا فما أبقى أحدا من كفارهما، وأهلك كفار قوم نوح من قبل إهلاك عاد وثمود، لأنهم كانوا أشد منهما ظلما للحق ولأنفسهم، وأشد منهما طغيانًا، فإن نوحًا عليه السلام مكث يدعوهم إلى الحق ألف سنة إلَّا خسمين عامًا، فلم يؤمن منهم سوى من ركبوا سفينته، فهم الذين نجوا من الإهلاك بالطوفان.
53 -
55 - {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} :
أي: وأسقط قرى لوط إلى الأرض بعد أن رفعها إمعانًا في تعذيبهم، لأنهم كانوا مع
شركهم يأتون الرجال دون النساء، ولم ينفع فيهم نصح لوط عليه السلام فَغَشى الله أهلها ما غشى من الحجارة التي رجمهم وغطاهم بها، كما جاءَ في قوله - تعالى -:{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} (1) فبأي نعم ربك تتشكك يا أيها الذي أعطى قليلًا وأكدى.
المفردات:
{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} : هذا القرآن منذرٌ لكم من نوع الكتب الأولى التي أنذر بها الأنبياء.
{أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} : قربت القيامة الموصوفة في القرآن بقربها.
{كَاشِفَةٌ} : نفس قادرة على تبيين وقتهَا، من الكشف بمعنى التبيين.
{الْحَدِيثِ} أي: القرآن.
{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} : وأنتم لاهون.
(1) سورة الحجر، الآية:74.
التفسير
56 -
{هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} :
لفظ (هذا) يشير إلى القرآن الكريم، ومعنى الآية: هنا القرآن نذير لكم من جنس الكتب الأُولى التي جاء بها الرسل السابقون، فإنها أنذرتهم من عذاب الله على شركهم كما أنذركم القرآن، وبهذا الرأي قال قتادة.
وقيل: إنَّهُ يشير إلى نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم والمعنى: هذا النبي منذرٌ لكم، من جنس الأنبياء المنذرين قبله، فإن أطعتموه نجوتم من عذاب الله، وإن خالفتموه لَحِق بكم ما حلّ بمكذبي الرسل السابقين.
وهذان الرأيان من أفضل ما قيل في معنى الآية:
57، 58 - {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}:
أي: قربت الساعة الموصوفة بالقرب في عدة مواضع من القرآن الكريم، وقيل: لفظ الآزفة: علمٌ بالغلبة على الساعة.
وقد أخبر الله - تعالى - أن هذه الآزفة ليس لها من غير الله نفس كاشفة ومبينة لوقت وقوعها، لأنها من أخفى المغيبات، فالكشف هنا بمعنى التبيين، وهذا هو رأي الطبري والزجاج، وهذا التفسير موافق في المعنى لقوله - تعالى -:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} (1) هو من أحسن ما قيل في معنى الآية.
والتاء في (كاشفة) لتأنيث الموصوف المُقدَّر، وهو كلمة (نفس) التي ذكرناها في معنى الآية، وقيل: إن كلمة (كاشفة) مصدر من المصادر السماعية كالعافية وخائنة الأعين، أي: ليس لها من دون الله كشف وتبيين.
(1) سورة الأعراف، من الآية:187.
59 -
الاستفهام في لفظ {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} للتوبيخ، والحديث: ما يتحدث به، والمراد به هنا: القرآن، ولفظ {سَامِدُونَ} معناها: لاهون - كما قال ابن عباس - واستشهد عليه بشعر هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد:
ليت عادًا قبلوا الحق
…
ولم يبدوا جحودًا
قيل قم فانظر إليهم
…
ثم دَعْ عنك السمودا
وقال الضحاك: سامدون: شامخون متكبرون.
وفي الصحاح: سَمَد سُمُودًا: رفع رأسه تكبرًا، وكل رافع رأسه فهو سامد، وقيل غير ذلك.
ومعنى هذه الآيات: أفمن هذا القرآن الذي حدثتكم به تعجبون إنكارًا، وتضحكون استهزاء وأنتم لاهون عنه، غير مقبلين عليه، فاسجدوا لله واعبدوه، ولا تسجدُوا لأصنامكم ومعبوداتكم.