الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
سورة الحديد
"
هذه السورة الكريمة من السور المدنية وآياتها تسع وعشرون آية
سبب التسمية:
وسميت بهذا الاسم لذكر الحديد فيها، وهو ذو أثر عظيم في حياة الناس جميعًا حاضرهم وباديهم في سلمهم وحربهم، فعليه تقوم المصانع التي تمد الإنسان بما يحتاجه في طعامه وشرابه ولباسه ومسكنه، وبه يدافع عن وطنه وحرماته فمنه تصنع الأسلحة البرية والبحرية والجوية إلى غير ذلك من أنوع القوة والبأْس وشتى المنافع الجليلة للبشرية:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} .
مناسبتها لما قبلها:
إن سورة الواقعة ختمت بطلب التسبيح والتنزيه لله {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وهذه السورة بدئت بالتسبيح {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فكان أول سورة الحديد واقع مرقع التعليل لما في آخر سورة الواقعة فكأنه قيل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ؛ لأنه {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
ما جاء في فضلها مع أخواتها:
أخرج الإِمام أحمد والترمذى وحسنه النسانى وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد".
بعض مقاصد السورة:
1 -
تحدثت السورة في أولها عن أن الله - تعالى - تدين له المخلوقات جميعًا، وتسبح بحمده، وتنطق بلسان الحال أو بلسان المقال بعظمته وجلاله {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
2 -
ذكرت بعضًا من أسمائه - تعالى - التي تدل علي تفرده وتوحده، فهو الأول بلا ابتداء والآخر بلا انتهاء، وأنه الظاهر بقدرته وآثاره، الباطن الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وأنه له ملك السموات والأرض خلقًا وإبداعًا، وأنه العليم بكل ما يلج في الأرض، ويعلم كذلك ما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وأن الأمور كلها راجعة إليه وحده {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} .
3 -
تدعو السورة الكريمة إلى الإيمان بالله ورسوله، وتنعى علي الكافربن عدم الإيمان مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم ويذ كرهم بما أخذه الله علي عباده من المواثيق:{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} فضلًا عمَّا لهم من عقول بها يميزون الصحيح عن الفاسد.
4 -
كما تحدثت عن طلب الإنفاق والحث عليه والبذل في سبيل الله {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
5 -
تعرضت السورة لذكر الفريقين: فريق الجنة، وفريق السعير.
فأما الفريق الأول فيسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ليهديهم الصراط المستقيم - فيدخلون الجنة.
أما الفريق الضال فإنه لا نور له ويحال بينه وبين نور المؤمنين فلا يستطيع اللحاق بهم ويسخر منهم فيقال لهم: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} فلا يستطيعون الرجوع إلى الدنيا ليعملوا بعمل المؤمنين حتى يلحقوا بهم.
6 -
مثلت السورة الكريمة الدنيا وما فيها من متاع زائل ولهو ولعب وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، مثلتها بالزرع الذي سقاه المطر الوابل حتى نضر وأينع وأُعجب به الزُّرَّاع ثم يصيبه الذبول والضمور حتى يصير هشيمًا تذروه الرياح، وكذلك أمر الدنيا تتزين وتأخذ زخرفها حتى يظن أهلها أنهم قادرون عليها فيأتيها أمر الله ليلًا أو نهارًا بالفناء فتصير كالزرع المحصود الذي لم يكن موجودًا بالأمس.
بسم الله الرحمن الرحيم
المفردات:
{سَبَّحَ لِلَّهِ} : نزَّه الله عما لا يليق به (1).
{الْأَوَّلُ} : الذي كان قبل كل شيء.
{الْآخِرُ} : الباقي بعد فناء كل شيء.
(1) قال الزمخشرى: أصله التعدى بنفسه؛ لأن معنى سبّحته: بعدته عن السوء منقول من سبح إذا ذهب وبعد.
{الظَّاهِرُ} : الذي يعرف بالأدلة الدالة عليه.
{الْبَاطِنُ} : الذي لا تدرك حقيقته ولا تحوم العقول حوله.
{يَلِجُ} : يدخل.
{يَعْرُجُ} : يصعد.
{يُولِجُ} : يُدخل.
التفسير
1 -
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} :
التسبيح: هو تنزيه الله - تعالى - اعتقادًا وقولًا وعملًا عمّا لا يليق بجنابه - سبحانه - وأسند التسبيح إلى ما في السموات والأرض؛ ليعم جميع ما فيهما من الموجودات عقلاء وغيرهم فتسبيح العقلاء يكون بلسان المقال، فإنهم ينزهونه ويقدسونه بألسنتم كما ينزهونه - بقلوبهم وأعمالهم، أما بالنسبة لغير العقلاء فإن تسبيحهم يكون بلسان الحال أي: إن حدوث هذه الموجودات على ما هي عليه من إبداع وإتقان يدل على الصانع الواجب الوجود المتصف بكل كمال المنزه عن كل نقص، وذهب بعضهم إلى أن التسبيح على حقيقته في الجميع العاقل وغيره، وأن كل مخلوق يسبِّحه تسبيحًا قوليًّا مستدلين على ذلك بقوله - تعالى -:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (1).
وافتتحت سورة الإسراء بالمصدر {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى}
…
" وبعض السور بالفعل الماضي {سَبَّحَ} كسورة الحديد، وسورة الحشر وغيرهما، وبعضها بالفعل المضارع {يُسَبِّحُ} كسورة الجمعة، والتغابن، وبعضها بفعل الأمر {سَبِّحْ} كسورة الأعلى ليشعر استيعاب هذه الكلمة لجميع ما تدل عليه من المصدر والفعل بأن المخلوقات من لدن إخراجها من العدم إلى الوجود إلى الأبد مسبحة مقدسة لذاته سبحانه وتعالى في كل الأزمان قولًا وفعلًا،
(1) سورة الإسراء من الآية: 44.
طوعًا وكرهًا، {وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي: القادر الذي لا ينازعه ولا يمانعه شيء، فهو - سبحانه - لا نظير له ولا مثيل، {الْحَكِيمُ} أي: الذي لا يفعل إلَاّ ما تقتضيه الحكمة، ولعزته ينتقم من المكلف الذي لا يسبحه عنادًا، ولحكمته يجازى من قدَّسه ونزهه طواعية وانقيادًا.
2 -
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :
أي: له - سبحانه - لا لغيره ملك السموات والأرض ملكًا حقيقيًّا أبديًّا غير حادث، ولا زائل، أما ملك غيره فهو موقوت بزمان مرهون بوقت يحدث بعد أن لم يكن، ويزول مهما امتد به الزمن، وهو - جل شأنه - يحيى الأشياء من العدم المحض، ويميت كل شيء ويبقى وجهه الكريم وحده قال - تعالى:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} (1). وهو - تعالت قدرته - مقتدر ومتمكن من كل شيء ممّا نعلم ومما لا نعلم، لا يعجزه أمر، ولا يشغله شأن عن شأن.
3 -
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} :
أي: هو وحده {الْأَوَّلُ} بلا ابتداء، القديم الذي كان من قبل كل شيء، فهو الموجد والمحدث للموجودات، وهو {الْآخِرُ} بلا انتهاء، الباقي - سبحانه - بعد فناء كل شيء، {الظَّاهِرُ} بالأدلة الدالة عليه من خلق وإبداع {الْبَاطِنُ} الذي لا تدرك حقيقته ولا تحوم حوله العقول، ولا يعلم ذاته إلا هو وحده تبارك وتعالى والواو الأُولى بين {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} تدل على أنه - سبحانه - الجامع بين الصفتين الأولية والآخرية، والواو التي بين {الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} للدلالة على أنه الجامع بين الظهور والخفاء، أما الواو الوسطى الواقعة بين {الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ} و {الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} فتدل على أنه هو الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين، ومجموع الصفتين الأُخْرَيَيْن، فهو مستمر الوجود في جميع الأوقات الماضية والآتية، وهو في جميعها ظاهر وباطن، جامع للظهور بالأدلة، والخفاء فلا يدرك بالحواس (2).
(1) سورة الرحمن الآيتان: 26 و27.
(2)
الكشاف بتصرف.
وختمت الآية وذيلت بقوله - تعالى -: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ؛ لئلا يتوهم أن خفاءه - تعالى - عن الأشياء يستلزم خفاء الأشياء عنه عز وجل ولكن ليس الأمر كذلك، بل هو - لا غيره - عالم كمال العلم وتمامه بكل ما كان وما هو كائن وما سيكون.
4 -
أي: هو- جلت قدرته - وَحدْهُ الذّي أوْجَد السّمَواَتِ والأرض وما فيهن في سِتَّة أوقات أو مقدار ستة أيام من أيام الدنيا ولو شاء - سبحانه - لخلقها في طرفة عين {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} أي: استواء يليق بجلاله من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، قال الإِمام مالك رحمه الله: الاستواءُ معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. وقال الإِمام أحمد رحمه الله: أخبار الصفات تمر كما جاءت بلا تشبيه ولا تعطيل، فلا يقال: كيف؟ ولم؟ نؤمن بأن الله على العرش كيف شاء وكما شاء بلا حدٍّ ولا صفة يبلغها واصف أو يحدها حادّ. هذا هو مذهب سلف هذه الأُمة، أما مذهب الخلف فيؤولون الاستواء بالاستيلاء. ومذهب السلف - كما يقولون - أسلم، ومذهب الخلف أحكم ولكل وجهته.
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي: هو- سبحانه - يعلم علما لا يدانيه علم بما يدخل في الأرض من القطر، والبذر، والحشرات، والهوام، والكنوز، والموتى، وغيرها يعلمه علمًا تفصيليًّا محيطًا ويعلم - كذلك - ما يخرج منها من نبات ونفائس ومعادن ونحوها مما تحويه الأرض وتضمه في أثنائها {وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: ويعلم - جلت عظمته - ما ينزل من السماء من ملائكة وشهب ومطر ورحمات أو نوازل ويعلم - أيضًا - ما يعرج فيها ويصعد إليها من كلم طيب ودعوات وعبادات أو ذرات البخار أو جن يسترق السمع أو أرواح تصعد إلى بارئها أو ملائكة ترفع أعمال العباد إلى مبدئها وخالقها قال - تعالى -: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (1)، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} أي: وهو - تعالى - مع خلقه جميعًا
(1) سورة الملك من الآية: 14.
بعلمه وقدرته وتدبيره وقيوميَّته وذلك في كل أحوالهم وشتى شئونهم قال - تعالى -: {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} (1)، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: وهو - عز شأنه - بما تعملون وما تدعون وتتركون رقيب عليكم شهيد على أعماكم حيث كنتم وأين كنتم محيط بسركم وجهركم فيجازيكم على ما يصدر منكم.
5 -
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} :
هذا تأكيد لما سبق في أول السورة، وتمهيد للتذكير بالبعث حيث ورد بعده قوله - تعالى -:{وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي: له - لا سواه - ملك السموات والأرض في الدنيا وإليه - وحده لا لغيره - جل وعلا - يصير أمر الخلائق في الآخرة بعد أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات.
6 -
أي: أنه - سبحانه - يدخل الليل في النهار بأن ينقص من الليل ويزيد في النهار، ويدخل النهار في الليل بأن ينقص من النهار ويزيد في الليل؛ لأن حكمته تقتضي ذلك لصلاح الناس في أمر معاشهم وللدلالة - على كمال قدرته، وهو عليمٌ ومحيطٌ إحاطة تامة بما تكنه وتخفيه الصدور من أسرار وإن دقت وخفيت، ولا يقدر أحد سواه علي معرفة حقيقتها وكنهها، ومن كان على هذه الصفات الجليلة فلا يستقيم أن يُعبد أحدٌ سواه.
(1) سورة يونس من الآية: 61.
المفردات:
{مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} : خلفاء في التصرف فيه أو خلفاء عمن كان قبلكم.
{وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} : قال مجاهد: هو الميثاق الأول وهم في ظهر آدم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه، وقيل: أخذ ميثاقكم بأن ركَّب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة ومكنكم من النظر فيها.
{قَرْضًا حَسَنًا} : القرض ما أُخرج لاسترداد بدله، والحسن ما كان بإخلاص بلا مَنّ ولا أذى.
التفسير
7 -
أي: صدقوا واعتقدوا بأن الله ربكم وأن محمدا رسولكم؛ لأن الإيمان شرط في قبول الأعمال الصالحة، وأنفقوا وتصدقوا من أموال الله التي في أيديكم وقد أعطاكم وموّلكم إياها تستمتعون بها، وجعلكم خلفاءَ في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة وما أنتم فيها إلَاّ بمنزلة الوكلاء والنواب، ويسهل عليكم الإنفاق والبذل منها في سبيل الله كما يسهل ويهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه، أو أنه - سبحانه - جعلكم في هذا المال خلفاء من الذين كانوا قبلكم من الوالدين والأقارب والأزواج، وورثكم إيَّاه فاعتبروا بحالهم، حيث انتقل منهم إليكم وسينقل منكم إلى الذين بعدكم، فلا تبخلوا وانفعوا - أنفسكم بالإنفاق منها. قال الإِمام أحمد: حدثنا محمَّد بن جعفر، حدثنا شعبة سمعت قتادة يحدث عن مطرف عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "ألهاكُمُ التكاثر، يقول ابن آدم: مالي مالي وهل لك من مالك إلاّ ما أكلتَ فأفنيْتَ، أو لبسْتَ فأبليت، أو تصدقت فأمضيت" ورواه مسلم وزاد "وما سوى ذلك فذاهبٌ وتاركُهُ للناس".
{فالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أي: فالذين صدقوا وآمنوا بربهم ورسوله وأنفقوا مما منحهم الله وجعلهم مستخلفين فيه، لهم أجرٌ عظيم جليل في منزلته، وكبير في مقداره وهو الجنة، ويا له من جزاء حسن كبير.
8 -
جاء هذا القول الكريم للإنكار عليهم وتوبيخهم على ترك الإيمان أي: وأيّ عذر لكم في ترك الإيمان بالله، والحال أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهركم يدعوكم إليه وينبهكم عليه ويبينه لكم بالحجج الدامغة والبراهين القاطعة {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} وهو ما كان من إخراجهم من
ظهر آدم وأشهدهم بأنه - سبحانه - ربهم فشهدوا كما قاله البغوى، وروى عن مجاهد وعطاء والكلبى وقتادة قال - تعالى -:{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} (1) وهو العهد المأخوذ يوم الذَّر، أو قد نصب لكم الأدلة التي منها ما هو موجود في أنفسكم قال - تعالى -:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} كما نشر - سبحانه - الآيات في الآفاق ومكنكم من النظر فيها بما أودع فيكم من عقول.
وفي كلِّ شيء لهُ آية ..... تدل على أنه الواحد
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي: إن كنتم مصدقين ومؤمنين في وقت من الأوقات، أو لموجب ما فالآن أحرى بكم وأجدر أن تؤمنوا لقيام الأدلة والبراهين عليكم.
9 -
هذا ذكرٌ لبعض الأدلة والآيات الدالة علي وجوب الايمان به، أي: هو - وحده - الذي ينزل على رسوله صلى الله عليه وسلم معجزات ظاهرات ودلائل واضحات أكبرها وأعظمها القرآن الكريم ليخرجكم - جلت قدرته - من ظلمات الكفر وحمأة الشرك والضلال إلى نور الإيمان والهدى أو ليخرجكم رسوله صلى الله عليه وسلم بما يرشدكم ويبلغكم ما أنزله الله عليه من الوحى، وإنه - سبحانه - في إنزاله الكتب وإرساله الرسل - هداية كم - لهو - تقدست ذاته - شديد الرأفة عظيم الرحمة بكم حيث يسّر وأتاح لكم طريق الخلود في الجنة ساحة رضوانه ومستقر رحماته.
10 -
هذا تأنيب وتوبيخ لهم على تركهم الإنفاق والبذل في كل خير بعد أن طلبه الله منهم وحثهم عليه وذلك بعد أن أنكر عليهم ترك الإيمان به - سبحانه - وبرسوله صلى الله عليه وسلم
(1) سورة الأعراف من الآية: 172.
أي: أيُّ سبب لديكم منعكم من إنفاق الأموال في سبيل الله - تعالى - والشأن فيها أنه لا يبقى لكم ولا لغيركم منها شيء، فأنففوا ولا تخشوا فقرًا أو إقلالا، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السموات والأرض وأنها كلها باقية له عز وجل فهو مهلككم فوارث أموالكم.
{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ} هذا بيان لتفاوت درجات المنفقين حسب تفاوت أحوالهم في الإنفاق، ذلك بعد أن أبان - قبل - أن للمنفقين جميعًا أجرا كبيرا، وجاء هذا للحث والترغيب في تحرى ما هو أفضل وأكثر ثوابًا من الأعمال، أي: لا يتساوى في الفضل والأجر من أنفق ماله، وبذل نفسه في سبيل الله قبل فتح مكة، أو قبل صلح الحديبية، مع من أنفق وقاتل بعد الفتح {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} أي: أولئك الذين كتب الله لهم السبق في الإنفاق والقتال أرفع منزلة وأجل قدرا من الذين أنفقوا من بعد الفتح وقاتلوا، وإنما كان أولئك أعظم درجة من هؤلاء؛ لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند شدة الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين آنذاك وكثرة أعدائهم، فضلًا عن أنه ليس هناك ما ترغب فيه النفوس من الحصول على المغانم والأسلاب، فكان ذلك أنفع وأشق علي النفس، وفاعله أقوى يقينًا بما عند الله - تعالى - وأعظم رغبة فيه، وليس الأمر كذلك بالنسبة للذين أنفقوا من بعد وقاتلوا.
{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي: وكل فريق من الفريقين من أنفق وقاتل قبل الفتح أو بعده بشَّره الله ووعده الحسني، قيل: هي الجنة، وقيل: هي أعم من ذلك كالنصر والغنيمة في الدنيا.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: وهو - سبحانه - بما تعملونه ظاهرا وباطنًا خيرًا أو شرًّا خبير به وعليم يجازيكم علي حسبه، فهو وعد للمؤمنين الطائعين ووعيد للكافرين والمذنبين.
وهذه الآية - على ما ذكره الواحدى عن الكلبى - نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهي تشمل غير ممن اتصف بذلك؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
ولذلك قال الله - تعالى -: {أُولَئِكَ} إلى تدل على الجمع نعم هو أكمل من سواه فإنه أنفق قبل الهجرة وقبل الفتح جميع ماله وبذل نفسه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لذا قال صلى الله عليه وسلم "ليس أحدٌ أمَنَّ عليَّ بصحبته من أبي بكر" - فرضي الله عنه وأرضاه -.
11 -
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} :
هذا استفهام أُريد به الحث والندب إلى الإنفاق في سبيل الله، والقرض الحسن: هو البذل بإخلاص، وتحرى أكرم المال، وأفضل الجهات، وفي التعبير بالقرض ما يشعر بأنه عائد إلى صاحبه؛ لأنه أخرج لاسترداد البدل، أي: من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة ما بين السبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف وله مع هذا أجر عظيم وجزاء جميل، حقيق أن يتنافس فيه المتنافسون؛ لأنه مع زيادة مقداره هو - أيضًا - رفيع في منزلته وهو الجنة.
وعن عبد الله، بن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية قال أبو الدحداح الأنصارى: يا رسول الله، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال: نعم يا أبا الدحداح؟ قال: أرني يدك يا رسول الله، قال: فناوله يده، قال: فإني أقرضت، رب هذا الحائط، وله حائط (بستان) فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها قال: فجاء أبو الدحداح فناداها يا أم الدحداح قالت: لبيك قال: اخرجى فقد أقرضته ربي عز وجل وفي رواية قالت له: ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:(كم من عِذْق رَدَاح (1) في الجنة لأبي الدحداح) وفي لفظ (رُبَّ نخلةٍ مدلاةٍ عروقها من دُرٍّ وياقوت لأبي الدحداح في الجنة (2).
(1) العذق: هو من التمر كالعنقود من العنب، الرداح: المثقل بثمره.
(2)
انظر مسند الإِمام أحمد ج 3 ص 146 فقد ورد الحديث بنحوه.
المفردات:
{يَسْعَى} : يمضي مسرعًا.
{انْظُرُونَا} : انتظرونا أو أمهلونا.
{نَقْتَبِسْ} : الاقتباس طلب القبس وهو الجذوة من النار، والمراد: نستضيء ونهتد بنوركم.
{فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} (1): أوقعتموها في بلية وعذاب أو أهلكتموها بالنفاق.
(1) الفتن: إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الإنسان النار. (الراغب الأصفهانى).
{وَتَرَبَّصْتُمْ} : وانتظرتم بالرسول وبالمؤمنين شرًّا.
{وَارْتَبْتُمْ} : وشككتم في أمر الدين.
{وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} : وخدعتكم الأباطيل والآمال الكاذبة.
{فِدْيَةٌ} : فداء، وهو ما يبذل لحفظ النفس عند النائبة والمصيبة.
{مَأْوَاكُمُ النَّارُ} : مقامكم ومنزلكم.
{هِيَ مَوْلَاكُمْ} : هي حق وأولى بكم، أو هي التي تتولى أمركم.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} : وساءت النار مرجعًا ومصيرًا لكم.
التفسير
12 -
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ
…
} إِلخ الآية:
الرؤية في قوله - تعالى -: {تَرَى} بصرية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من تتأتى منه الرؤية، أي: اذكر لهم - يا محمد - ذلك تفخيمًا لشأن هذا اليوم وزيادة في إدخال الإيناس والاطمئنان على قلوب المؤمنين ليفرحوا بما أعد لهم من السعادة والفوز، اذكر لهم يوم ترى أنوار المؤمنين والمومنات تتلألأ من أمامهم وعن أيمانهم ليستضيئوا بها على الصراط.
أخرج ابن أبي شيبة وغيره والحاكم وصححه عن ابن مسعود، أنه قال:"يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورًا من نوره على إبهامه يُطْفأُ مرة ويَقِد أُخرى"، وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط، وقيل: يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط، المراد: أنه يكون لهم في جهتين جهة الأمام وجهة اليمين؛ لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، أما الأشقياء فإنهم يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم، وهل هذا النور خاص بمؤمني الأُمة الإِسلامية أو هو عام لكل مؤمن؟ والظاهر أَنه عام، إلَّا أَنه يمكن أن يقال:
أن ما يكون من النور للأُمة الإِسلامية أَجل وأبهى من النور الذي يكون لغيرها، {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا} أَي: بسبب إيمانهم تقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم: لكم البشارة اليوم بدخول جنات تجرى من تحتها أنهار من ماءٍ غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه، وأنهار من خمر لذة للشاربين ليست برديئة الطعم، ولا بكريهة المذاق، ولا تذهب بعقولهم كخمر الدنيا، وأنهار من عسل مصفًّى، وهم في هذه الجنات خالدون فيها خلودًا أبديًّا {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي: وهذا الجزاء الذي سألوه وظفروا به هو الفوز الذي لا فوز بعده فلا يعظمه ظفر؛ لأَنه سبب السعادة الأبدية {في جناتٍ ونَهَرٍ * في مقعد صدق عند مليك مُقْتَدِرٍ} (1).
13 -
أَي: اذكر لهم ذلك اليوم الذي يعترى فيه المنافقين الخزى والهوان، وقد فاز فيه المؤمنون وظفروا بالنور يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، وفي هذه المقالبة التي تبين ما عليه كل من الفريقين ما يشعر بتعظيم شأْن المؤمنين، وبالحط والمهانة للمنافقين إذ يقولون في هذا الموقف العصيب للذين آمنوا: انتظرونا وأمهلونا حتى نأْخذ قبسًا من نوركم نستضيءُ به فنحن قد منعناه وحرمنا منه وقد أَصبحنا في ظلمة فلا ندرى كيف نمشى فيها.
أخرج الطبرانى وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِن الله يَدْعُو النَّاس يَوْم الْقِيَامَة بأمهاتهم سترًا مِنْهُ على عباده، وَأما عِنْد الصِّرَاط فَإِنَّ الله يُعْطي كل مُؤمن نورا وكل مُنَافِقٍ نورا فَإِذا اسْتَووا على الصِّرَاط أطفأ الله نور الْمُنَافِقين والمنافقات فَقَالَ المُنَافِقُونَ: انظرونا نقتبس من نوركم، وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: رَبنَا أتمم لنا نورنا فَلَا يذكر عِنْد ذَلِك أحدٌ أحدًا"(2).
(1) سورة القمر الآيتان: 54و 55.
(2)
انظر كنز العمال ج 14 ص 642 رقم 39766 فقد ورد الحديث من رواية لابن عباس، قال: رواه الطبراني.
{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} أَي: يقول المؤمنون أَو الملائكة للمنافقين والمنافقات - استخفافًا واستهزاءً بهم - ارجعوا إِلى المكان الذي قسم الله فيه النور، فاطلبوا من هناك نورًا لكم فإنكم لا تقتبسون من نورنا، أَو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار - وذلك سخرية بهم أَيضًا - إذ ليس إِلى الدنيا رجعة، أَو يقولون لهم - على سبيل التبرى منهم والطردِ والإبعاد لهم - تنحوا عنا. {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} أي: فحيل بين الفريقين بحاجز له باب يفصل بين أهل الجنة وأهل النار، باطن هذا السور وجانبه الذي يلي المؤمنين فيه الجنة التي هي مستقر الثواب والنعيم، وظاهر هذا السور وجانبه الذي يلي المنافقين والكفار يكون من جهته العذاب الأليم في النار التي وقودها الناس والحجارة.
14 -
أي: بعد أن يصير أمر المنافقين إلى ضرب السور بينهم وبين المؤمنين ومشاهدتهم العذاب ينادون المؤمنين قائلين لهم مستنجدين بهم: أَلم نكن معكم في الدنيا نفعل كما تفعلون من نطق بالشهادتين وصلاة وصيام وزكاة وحج ونحو ذلك من شعائر الإِسلام فيقول لهم المؤمنون: {بَلَى} كنتم معنا في الظاهر {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي: ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق وأوقعتموها في بلية وعذاب، وانتظرتم بالمؤمنين شرًّا، وتربصتم بهم الدوائر والحوادث المفجعة، والنوازل المهلكة، وشككتم في أَمر دينكم، ولم يتمكن الإيمان من قلوبكم، وخدعتكم الأباطيل والأَمانى الكاذبة، وظننتم أن الإِسلام لا يطول أَمره ولا يمتد ظله، حتى فاجأَكم الموت وأنتم على باطلكم، وخدعكم الشيطان وأَدخل في روعكم وقلوبكم أن رحمة الله واسعة، وأَن عفوه ومغفرته تشملكم فلا يعذبكم على ما بدر منكم، ولكنه كذبكم وضللكم وهو اليوم يتبرأ منكم.
15 -
أَي: في هذا اليوم الشديد القاسى لا يَقبل الله منكم - أيها المنافقون - فداء تحفظون به أَنفسكم من نزول العذاب بكم ولو كان ملء الأرض ذهبًا ومثله معه كما لا يقبل الله ذلك من الذين كفروا، وفي هذا تيئيس وإقناط للكافرين من عفو الله عنهم إِذ قد يتوهمون أَن هذا العذاب الشديد والخلود الدائم في النار إنما يكون للمنافقين فحسب جزاء خداعهم ومكرهم وإخفائهم الكفر وإظهار الإِسلام، والحق أن هذا جزاء من كفر بالله ولم يستيقن ذلك بقلبه غير أَن المنافقين لهم الدرك الأَسفل من النار.
{مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: إِن النار - وحدها - هي المكان الذي تأوون إليه وتقيمون وتخلدون فيه خلودًا أبديًّا إِذ هي - لا غيرها - أَولى وأَحق بكم أَو هي ناصركم ولا تنصركم إلا بإيلامها وسعيرها وهذا من باب "تحية بينهم ضرب وجيع"{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي: وقبح المرجع والمنقلب نار جهنم.
المفردات:
{أَلَمْ يَأْنِ} : ألم يجيء ويحن الوقت
…
{أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ} : أن تلين قلوبهم وتنقاد لأوامر الله.
{وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} : وما نزل من القرآن الكريم.
{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} : اليهود والنصارى.
{الْأَمَدُ} : الزمن الممتد والغاية.
{فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} : غلظت وصلبت.
{فَاسِقُونَ} : خارجون عن حدود دينهم.
{يُحْيِ الْأَرْضَ} : يجعلها خصبة بالنبات والزروع.
{مَوْتِهَا} : جدبها وقفرها.
{الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} : المتصدقين والمتصدقات الذين يبذلون أَموالهم في الطاعات من الصدقة، أَو المبالغين في الصدق لله ولرسوله من التصديق.
{الْجَحِيمِ} : النار.
التفسير
16 -
هذة الآية استئناف ناع على المؤمنين الفاترين المتخاذلين تخاذل المنافقين وتثاقلهم عن أُمور الدين، ورخاوة هممهم فيها، وتكاسلهم فيما ندبوا إِليه.
رُوِيَ أن المُؤْمِنِينَ كَانوا مقلِّين مجدبين بمكة، فلما هاجروا إلى المدينة أَصابوا الرزق والنعمة، وفتروا عما كانوا عليه من الحماس والنَّشَاط لدينهم فنزلت.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ما كان بين إسلامنا، وبين أن عوتبنا بهذه الآية إِلا أَربع سنوات - وعن ابن عباس رضي الله عنهما إن الله استبطأَ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأْس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، وعن الحسن رضي الله عنه أما والله لقد استبطأَهم، وهم يقرءون من القرآن أقل مما يقرءون، فانظروا في طول ما قرأْتم منه، وما ظهر فيكم من الفسق، وعن أبي بكر رضي الله عنه أَن هذه الآية قرئت بين يديه، وعنده قوم من أَهل اليمامة، فبكوا بكاءً شديدًا، فنظر إليهم فقال: هكذا كنَّا حتى قست القلوب.
هذا على أن الآية نزلت في بعض المؤمنين المتكاسلين في شئون الدين - وقيل إِنها نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة، وذلك أَنهم سأَلوا سلمان الفارسى ذات يوم، فقالوا:
حدثنا عما في التوراة فإن فيها العجائب فنزلت: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} (1). إلى قوله - تعالى -: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} . فخبّر أَن القرآن أحسن القصص، وأنفع لهم من غيره، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله، ثم عادوا فسألوه عن مثل ذلك فنزلت آية:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ .... } (2)، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاءَ الله. ثم عادوا فسأَلوا سلمان فنزلت هذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا
…
} عن الكلبي ومقاتل. قال الآلوسي - بعد ما ساق هذه الرواية: ليس بشىء.
وسواء كان نزولها في المنافقين أَو في بعض المؤمنين المتخاذلين المتكاسلين، فإنها استنهاض للهمم في جانب العبادة، وإيقاظ للفتور والتكاسل عن الطاعة، وتنبيه إلى استدامة المواظبة عليها والنهوض لها، والالتزام بها في كل الأوقات والأحوال، فلا يتكاسل عنها إلا منافق، ولا يفتر عن أَدائها إلا مذبذب ضعيف الإيمان، ضال عن سبيل الله، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا} (3).
والمعنى: ألم يجىء الوقت، ويحن الحين للذين آمنوا أَن يتمكن الِإيمان في نفوسهم، ويخالط شغاف قلوبهم فتلين من جمودها وترق من قسوتها وغلظها، وتتحرر من جاهليتها وجهلها فتخشع لذكره - تعالى - وتخافه وتطمئن به، وتسارع إلى طاعته بالامتثال لأوامره، والانتهاء عما نهى عنه من غير توان ولا فتور، وتخشع لما نزل من القرآن الكريم، هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمراد بما نزل من الحق هو القرآن الكريم المشتمل على ذكر الله - أيضًا - ووجه عطفه على ذكر الله أنه جامع للأمرين الذكر والموعظة، وأنه حق نازل من السماء، ويصح أن يراد من الخشوع لذكر الله الوجل والخوف والانقياد التام وبما نزل من الحق زيادة الإيمان عند سماع القرآن الكريم - كما في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} (4).
(1) أول سورة يوسف.
(2)
سورة الزمر من الآية: 23.
(3)
سورة النساء من الآية: 88.
(4)
سورة الأنفال من الآية: 2.
ومعنى {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} أَي: لا يكونوا مثل أَهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين أُوتوا الكتاب قبلهم، وكان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والِإنجيل خشعوا منه ورقت قلوبهم فطال عليهم الأجل وبعد العهد بينهم وبين أنبيائهم أَو طالت أعمارهم، ولم يعاجلهم الجزاء، فاغتروا وقست قلوبهم، وتحجرت وزال خشوعها وفشا فيهم الفساد فساءت أعمالهم، واستمرءوا المعصية، وغلب عليهم الشر فكثير منهم فاسقون خارجون على دينهم رافضون لما في كتبهم.
17 -
نعت الآية السابقة على بعض المؤمنين فتورهم في العبادة، وعابت عليهم استهواء النعم لهم، وانصرافهم إلى الترف والنعيم، وجاءت هذه الآية تطمعهم في الرجاء، وتفتح لهم باب القبول، ومداخل الرحمة حتى لا يتملكهم يأْس، ولا يستولى عليهم قنوط، ويعودوا لما كانوا عليه من النشاط في العبادة، والهمة في الطاعة والحماس للدعوة، وجرى فيها الأُسلوب مجرى التمثيل لإبراز القدرة في أَكمل صورة، وعرضها في أوضح بيان حيث شبهت تليين القلوب الغليظة وإنارتها بالإيمان والذكر وتلاوة القرآن بعد الكفر والجحود والظلمة والوحشة - شبهتها - بإحياء الأرض بعد الغيث بالنبات وخصبها بالزرع والخضرة ونبض الحياة بعد الجدب والقفر والعفاء، وهذا كله ترغيب في الخشوع والخشية، تحذير من القسوة والغلظة.
والآية خطاب عام يتلقاه كل راغب في الهداية، طامع في الرحمة من الذين أشارت إليهم الآية السابقة ومن غيرهم بيانًا لمزيد فضل الله، وواسع رحمته.
والمعنى: اعلموا معاشر المؤمنين أَن قدرة الله فوق كل القدر، وأَن فضل الله عظيم على عباده يهبط على القلوب فيوجهها إِلى الهداية، ويحييها بالإيمان، ويوفقها للطاعة بالذكر والتلاوة، كما يحيى بالغيث الأَرض الجدبة فتؤتى ثمرها من النبات والزرع، وتصبح ندية خضراء بعد أَن كانت مقفرة جدباء.
وقوله - تعالى -: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} بعد هذا التمثيل معناه: قد وضحنا لكم الحجج، والبراهين، التي من جملتها هذه الآيات. كي تعقلوا ما فيها، وتعملوا بموجبها فتنعم حياتكم، وتسعد آخرتكم.
18 -
هذه الآية دخول على فضائل الأعمال، وبيان حال العاملين ودرجاتهم، بعد أَن عرضت الآية السابقة مظاهر قدرة الله وفضله، في إِحياء القلوب وإثرائها بالإيمان والخير بعد الشر، والعطاء بعد الجفاء.
والمصَّدقون والمصَّدقات يمكن أَن يراد بهم المتصدقون بأموالهم، الباذلون لها عن طيب نفس، وخلوص نية على المستحق للصدقة، ويجوز أَن يراد بهم الذين صدقوا الله ورسوله من التصديق لا من الصدقة.
والمعنى: إن المتصدقين والمتصدقات الذين بذلوا أَموالهم في وجوه الخير للمحتاجين، وإِغاثة الملهوفين ومساعدة المنكوبين ابتغاءَ وجه الله قرضًا حسنًا خالصًا من الرياء، بعيدا عن التفاخر، والتكاثر - إن هؤلاء - يضاعف الله لهم أَجرهم، الحسنة بعشر أَمثالها إِلى سبعمائة ضعف إلى أكثر من ذلك لمن يشاءُ والله واسعٌ عليم، ولهم أَكثر من هذا أجرٌ كريم في نفسه ثمين في جوهره جدير أَن يتنافس فيه المتنافسون لذاته ومن غير مضاعفة فكيف إِذا ضوعف أَضعافًا مطلقة.
19 -
الكلام في هذه الآية يمكن أَن يكون مبنيًّا على جملة واحدة فحواها أن الذين آمنوا بالله ورسله في منزلة الصديقين والشهداء في أجرهم ونورهم، ويقابل هذه الجملة جملة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} .
ويمكن أَن يكون الكلام مبنيًّا على أَكثر من جملة على معنى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} جملة، {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} جملة أُخرى، ويقابل ذلك {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} . ولعل الاحتمال الأول هو الأقرب إلى الفهم.
والمعنى: والذين آمنوا بالله وأَفردوه بالألوهية، وخصوه بالعبادة وآمنوا برسله جميعًا لم يفرقوا بين رسول ورسول، ولم يقولوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ولم يتعصبوا لرسالة بعد موت رسولها وبعثة غيره غير رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فإنها هي الرسالة الخالدة الخاتمة - هؤلاءِ في منزلة الصديقين المبالغين في الصدق السابقين في الإيمان وفي كل خير، وفي منزلة الشهداء الذين بادروا إلى الشهادة، واستشرفوا إلى الاستشهاد في سبيل الله - تعالى - لهم ما للصديقين والشهداء في المنزلة من علو المرتبة، ورفعة المحل، ومن الأَجر والنور - المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وهذا فريق يقابل فريق الذين آمنوا بالله ورسله، وضعا لفريق الجنة في النعيم، وفريق الكفر في الجحيم {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} (1).
والمعنى: والذين وصفوا بالكفر، والكذب والتكذيب، وجحدوا آيات الله، وكذبوا رسالات الرسل عنادًا وكفرًا أُولئك أصحاب الجحيم المقيمون فيها، الملازمون لها بحيث لا يفارقونها، ولا يجدون منها مخلصًا، ولا عنها معدلًا.
(1) سورة الأنفال: من الآية 42.
المفردات:
(لَعِبٌ وَلَهْوٌ): قيل: اللعب ما رغب في الدنيا، واللهو: ما ألهى عن الآخرة، والمراد أنها عبث لا بقاء له ولا دوام.
(وَزِينَةٌ): تتزين في عيون أَهلها، أو يتزين بها أهلها.
(تَقَاخُرٌ): تكبر وتعال.
(الكُفَّارَ): الزُّرَّاع.
(يَهِيجُ): يَجِفّ بعد خضرته ونضارته.
(حُطَامًا): هشيمًا متكسرًا.
(فِي كِتَابٍ): مكتوبة مثبتة في علم الله - تعالى - أو في اللوح.
(أن نَّبْرَأَها): أن نخلقها.
(تَأْسَوْاْ): تحزنوا وتندموا.
(مُخْتَالٍ فَخُورٍ): متكبر كثير الفخر.
التفسير
30 -
الأمر في هذه الآية كالأمر في قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} موجه إلى كل من يتدبر الآيات ويتلقاها بفهم ووعى، وينتفع بهديها، ويسير على منهاجها وقد جاءت بعد بيان خال الفريقين في الآخرة تكشف زيف الحياة التي اطمأَن إليها أَصحاب الجحيم، وتشير إلى أَنها من محقرات الأُمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلًا عن الاطمئنان بها وهي لعب لا ثمرة لها، ولهو بشغل الإنسان عمَّا يفيده، ويعود عليه بالنفع في دنياه، وزينة زائفة زائلة، تستهوى الجهال، وتغريهم بالمظاهر الخداعة التي لا ترفع خسيسة، ولا يحصل به شرف، وتفاخر بالأَنساب البالية، وتكاثر بالعدَد والعُدد، وجمع ما لا يحل له، وغير ذلك من الأمور الفانية التي تزهو وتزدهر، ثم لا تلبث أن تذبل وتخبو، كغيث ينزل في أرض جرز جرداء قاحلة فتخصب وتخضر بالنبات وتزدهر بالزرع، ويمتليء قلب
الزراع بهجة بها، ويغمرهم الفرح والبشر بمظهرها ونضارتها، ثم لا تلبث أَن تجف بعد النداوة، وتصفر بعد الخضرة، ثم تصير هشيمًا جافًّا وحُطامًا متكسرًا.
وإذا صح أن يتفاخر أو يتكاثر أهل المعاصي بالأنساب والجاه، أو الأَموال والرجال فإن تفاخر المؤمنين ينبغي أَن يكون بالتواضع، والطاعة، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم "إنَّ اللهَ أوحَى إليَّ أَن تَواضَعوا حتى لا يبْغِيَ أحدٌ على أَحد، ولا يَفْخَر أحدٌ على أَحد".
وبعد أَن بينت الآية حقارة أمر الدنيا تزهيدًا فيها، وتنفيرًا من العكوف عليها، أَشارت إلى ما يلقاه الكافرون في الآخرة من عذاب، فقال تعالى:{وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: بالغ أقصى درجات القسوة والشدة لأَعداء الله، جزاءً وفاقًا؛ لانهماكهم في مفاتن الدنيا وملاهيها، واطمئنانهم إليها وفي الآخرة - أيضًا - مغفرة عظيمة ورضوان من الله أكبر لا يقدر كنههما ولا يقادر قدرهما للمؤمنين الصديقين الذين أخلصوا لله الإيمان، وداموا الصدق، وأحسنوا العمل فنالوا المغفرة والرضوان.
وفي مقابلة العذاب الشديد وحده بالمغفرة والرضوان إشارة كريمة إلى غلبة الرحمة، ومزيد الفضل، كما يشعر بذلك - أيضًا - إطلاق العذاب الشديد، وتقييد الرحمة، والرضوان بأنهما من الله - تعالى.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} أي: وليست الحياة الدنيا - وإن طالت وتعددت نعمها - إلَاّ متاع الغرور لمن اغتر بها وانخدع، واطمأن إليها واشتغل بمفاتنها عن العمل لآخرته، روى عن سعيد بن جبير:"الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله - تعالى - وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة".
وقال ذو النون: يا معشر المريدين، لا تطلبوا الدنيا، وإن طلبتموها لا تحبوها فإن الزاد منها، والمقيل في غيرها.
21 -
لما حقَّر الله - تعالى - الدنيا، وصغَّر أَمرها، وعظم أَجر الآخرة بعث وحث عباده على المسارعة إليها، والمسابقة لنيل ما وعد فيها من المغفرة المنجية من العذاب الشديد، ومن الفوز بدخول الجنة ونعيم الرضوان الأَكبر، فقال تعالى:{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} .
والمعنى: سارعوا مسارعة السابقين لإخوانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة من ربكم وتحصيل موجباتها من الأَعمال الصالحة، وإلي جنَّة مبسوطة وافرة السعة عرضها كعرض السماء والأَرض فكيف بطولها؟ أعدها الله للذين آمنوا بالله ورسله عن إخلاص في العقيدة، وصدق في الإيمان، واجتهاد في عمل الصالحات فشملهم بذلك الرضا، وتمّ لهم الفوز، مع جزيل الجزاء وكريم العطاء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ تفضلًا وإحسانًا في غير إيجاب عليه، ولا حساب له، والله ذو الفضل العظيم الذي لا ينفذ بالعطاء، ولا يخضع لغاية أو أَهواء.
وهكذا تطلب الآية السبق إلى مقتضيات المغفرة، ومؤهلات الفوز بالجنة لتنتقل بالعبد من التفاني في الحطام الزائل والمتاع الفاني إلى الإسراع في طلب النعيم المقيم، والمتاع الخالد.
وقدمت المغفرة على الجنة في الذكر؛ لأَنها تطهير يمهد لدخول الجنة تقديمًا للتخلية على التحلية، والمراد بقوله:{عَرْضُهَا} مساحتها فهي واسعة كسعة السموات والأرض، وقيل: المراد بالعرض ما يقابل الطول وإذا كان العرض بهذا القدر فالطول أكبر كما هو المعتاد، والمراد أن مساحتها واسعة.
23،22 - {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}:
هاتان الآيتان: دعوة إلى التزام القصد والاعتدال، في تلقي الأَحداث، واستقبال النعم، فلا تفرط النفس في الأَسى والحزن على ما يفوتها، ولا يحملها تتابع النعم على البغى والطغيان، فإن كل ما يصيب الإنسان أو يناله مقدر له بتقدير الله، وبما سبق به الكتاب في الأَزل القديم. والله يحب من عباده أن يتلقوا المكاره بالرضا والصبر، وأَن يستقبلوا النعم بالتَّطامن والشكر. ومن رضي فله الرضا والأجر، ومن حمد فله المزيد والشكر.
والمعنى: ما أصاب من مصيبة، وما وقع على الأرض من نوائب وأحداث كجدب أو نقص في الثمار والزرع، أو زلزلة أو غير ذلك ممَّا يقع على الأرض أو فيها من كوارث، أو في أنفسكم، من مرض أو كسور أو حروق، أو فقر أو موت أو غير ذلك ممَّا يجرى على الإنسان - ما أَصاب من شيءٍ من ذلك - إلَاّ وهو مكتوب مُثبت في علم الله أو في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الله الأَنفس أو المصائب أو الأَرض - إن ذلك الإثبات في علم الله أو في اللوح المحفوظ يسير سهل على الله لاستغنائه عن العُدَّة والْمُدَّة، وإن كان عسيرًا في ذاته أو على غير الله. وقد أخبركم الله بذلك، وأعلمكم به لكيلَا تأْسَوْا وتحزنوا على ما فاتكم من نعم الدنيا، أو ممَّا ترجون لأَنفسكم ممَّا تظنونه خيرًا ولا تفرحوا بما أعطاكم الله - تعالى - منها فإن من علم أن كلَّ شيءٍ بقضاءٍ وقدر، يفوت ما قُدِر فواته، ويأْتى ما قُدِر إتيانه لا يُفْرط في جزعه على ما فات، ولا يُعظم فرحه بما هو آت.
وإذا كان في طبيعة الإنسان أن يحزن عند ضرة تنزل به، وأن يفرح عند منفعة تناله، فإن الذي ينبغي هو القصد والاعتدال في ذلك وأن يكون الحزن صبرًا، والفرح شكرًا، والمذموم من الحزن والفرح، أَن يكون الحزن جزعًا مجافيًا للصبر والرضا بالقضاء، وأَن يكون الفرح أَشرًا مطغيًا صارفًا عن الشكر والثناء. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: والله لا يحب كل متكبر على الناس متكاثر بأَمواله ونعمه عليهم - وكل من فرح بحظ من الذنب وعظَّم نفسه فقد اختال وافتخر، وتكبر على الناس.
24 -
هذه الآية بيان لمعنى المختال الفخور وتوضيح لطبعه وسلوكه؛ فإن المغتر بالمال المختال المتكبر يضن به غالبًا شحًّا وبخلًا، ويأْمر غيره بذلك، ولما كان البخل بالمال والدعوة إلى إمساكه إعراضًا عن طاعة الله، وتنكبًا لطريق الهداية ختمت الآية بقوله - تعالى -:{وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} .
والمعنى: ومن يمسك المال معرضًا عن إنفاقه في سبيل الله لا يحرم إلَاّ نفسه ولا يضر غيرها فإنَّ الله غني عن إنفاقه وهو - سبحانه - محمود في ذاته لا يضره إعراض المعرضين
عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق لأن ثواب نفقته إليه.
المفردات:
{رُسُلَنَا} : الملائكة إلى الأَنبياء، أو الأَنبياء إلى الأُمم.
{الْبَيِّنَاتِ} : الحجج والمعجزات.
{الْكِتَابَ} : جنس الكتاب الشامل لجميع الكتب السماوية.
{وَالْمِيزَانَ} : الآلة المعروفة أو العدل.
{بِالْقِسْطِ} : بالعدل.
{بَأْسٌ شَدِيدٌ} : قوة ومنعة كآلات الحرب والقتال.
{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} : مصالح تنفعهم كأَدوات الصناعة والزراعة والبناء.
{ثُمَّ قَفَّيْنَا} : ثم أرسلنا بعد نوح وإبراهيم رسلنا متتابعين رسولًا بعد رسول.
{رَأْفَةً} : مودة ولينًا.
{وَرَحْمَةً} : تعطفًا وحنانًا وعند اجتماعهما يراد بالرأفة ما فيه درء الشر، ورأب الصدع وبالرحمة ما فيه جلب الخير.
{وَرَهْبَانِيَّةً} : مبالغة في العبادة، والانقطاع إلى الآخرة، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان.
التفسير
25 -
فصلت الآيات السابقة فريق العصاة المكذبين، وفريق الطائعين المصدقين، وعرضت لوصف الدنيا وحقارتها وسرعة انتهائها، وخوفت من الافتتان بها، والاطمئنان لها إذ تناولت ذكر الجنة ونعيمها، ونادت بالتسابق إليها، والإسراع في طلبها، والتمتع بنعيمها، وبقى المقام محتاجًا إلى تنظيم العمل، وتفصيل السلوك الذي يباعد بين العبد وارتكاب المعاصي، ويقربه من ربه، ويؤهله للعمل عن تدبر، ويوضح له طريق الخير، وطريق الغواية؛ ليختار لنفسه حتى لا يكون له على الله حجة {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (1) فجاءت هذه الآية تبين فضل الله - تعالى - على خلقه،
(1) سورة الفتح من الآية: 10.
بتتابع الرسالات، وإنزال الكتب والميزان لإقرار العدل، فلا يبغى أحد على أحد، كما جاءت تبين إنعام الله بالنعم الجليلة التي تجمع لهم القوة والمنعة مع الرخاء والمنفعة.
وفي تخصيص الحديد بالذكر، مقرونًا بالبأْس والمنفعة لمحة إلى أَن فيه من معدات القوة ما يحرس الأَمن ويحفظ التوازن بين الأفراد والجماعات والأُمم، والحديد أَصل وأساس لكل تقدم صناعى وحضارى، ولذا كان جديرًا أن تسمى به السورة دون غيره من الأُمور التي ذكرت فيها أَو عرضت لها.
والمعنى: لقد كان فضلنا على الخلق، وإنعامنا عليهم أَن أَرسلنا رسلنا من الملائكة إلى الأَنبياء، أو من الأَنبياء إلى أُممهم داعين ومرشدين وأَيدناهم بالمعجزات، والحجج الباهرات الواضحات النى تؤكد صدقهم، وتحتم تصديقهم، وذلك ليدعوا الناس إلى الخير ويوجهوهم للهداية وسلامة السلوك الذي يكفل لهم راحة دنياهم، وسلامة آخرتهم، وأنزلنا مع الرسل الكتب التي تحفظ رسالتهم، وتشرح دعوتهم، وتؤكد صدقهم من التوراة والإنجيل، والقرآن، وسائر الكتب والألواح والصحف السماوية التي نزلت مع الرسل، كما أَنزلنا آلة الوزن ليلتزم الناس بالعدل، ويقوم عليه التعاون والتعامل، ويمتنع الظلم والعدوان.
قيل: إن جبريل عليه السلام نزل بالميزان المعروف فدفعه إلى نوح عليه السلام وقال: "مُرْ قوْمَكَ يَزِنُوا به"، وقيل المراد بالميزان: العدل والمساواة بين الناس في التعامل.
{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} أي: خلقناه كقوله - تعالى -: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} (1) وذلك أن أوامره تعالى وقضاياه وأحكامه تنزل من السماء.
وقال قطرب: وأنزلنا الحديد أي: هيأناه لكم، وأنعمنا به عليكم، وقيل: نزل آدم عليه السلام من الجنة، ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان، والكلبتان، والميقعة (2)، والمطرقة، والإبرة.
ومعنى {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} : أي: قوة ومنعة؛ لأَن آلات الحروب تتخذ منه - وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى قوة تحميهما؛ ليحصل القيام بالقسط، فإن الظلم من شيم
(1) سورة الزمر من الآية: 6.
(2)
من معانيها المسن الذي يحدد به.
النفوس، ومن لم يدافع عن نفسه بسلاحه يهدم، وقوله - تعالى -:{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} أي: مصالح تنفعهم في معاشهم وتيسير أَعمالهم إذ ما مِن صنعة إلَاّ والحديد أو ما يعمل بالحديد آلتها، وفيه إِيماءٌ إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى القائم بالسيف؛ ليحفظ العدل، يحتاج إلى ما به قيام التعايش ليتم التمدن الذي يحتاجه بقاء النوع.
{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} هذه الجملة معطوفة على محذوف يدل عليه السياق، أَو الحال؛ لأَنها متضمنة للتعليل.
والمعنى: فعل الله ذلك لييسر حياتهم، وينفعهم، ويقطع حجتهم، وليعلم الله علمًا يتعلق به الجزاء، ويترتب عليه الثواب والعقاب ليعلم من ينصره بالتوحيد والطاعة، وينصر رسله بالتصديق واتباع ما جاءُوا به دون أَن ينظر الله ويبصره.
{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} أَي: إنه الله قادر لا يعجزه أمر ولا يفوته هارب منيع لا يغلبه غالب ولا يدركه طالب وهذا تذييل جاءَ تحقيقًا للحق، وتنبيهًا على أن التكاليف ليست لحاجته - تعالى - إلى نصرتهم في إعلاء كلمته، وإظهار دينه، بل إنما جاءَ ذلك ليصلوا بالتكاليف إلى الثواب، فإن الله غنى بقدرته وعزته عمَّا سواه في كل ما يريده.
26 -
هذه الآية نوع تفصيل لما أُجمل في قوله - تعالى -: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} وتكرير القسم لإظهار مزيد العناية بالأَمر، ووجه اختصاص "نوح وإبراهيم" بالذكر لسبقهما، واشتهارهما حتى سميا أَبَوَى البشر، واقتران عهد كل واحد منهما بأَحداث لها أَبعادها في تاريخ الإنسانية، وشعائر العبادات.
أما نوح عليه السلام فقد حدث في عهده الطوفان الذي يعتبر طورًا جديدًا في مسيرة الإنسانية، ولذلك قيل عنه: إنه آدم الثاني.
وأمَّا إبراهيم عليه السلام فلحواره مع أبيه، وقصته مع ولده وارتحاله إلى مكة به، وما تبع ذلك من نبع ماءِ زمزم، ثم ما كان من ابتلائه بأَمره بذبح ولده وافتدائه، وما بقى بعد ذلك ممَّا قيل في السعى بين الصفا والمروة، وما شرع في الأُضحية في شريعة محمَّد صلى الله عليه وسلم وحسبه فوق هذا كلِّه أنه خليل الله.
والمعنى: ولقد كان من أَخبار إرسالنا الرسل أن أرسلنا نوحًا وإبراهيم، وأَوحينا إليهما، وجعلنا في ذريتهما النبوة، فكل الأَنبياء من ذريتهما، وأنزلنا عليهم الكتب المقدسة التي تحفظ شريعتهم، وتفصل رسالتهم، وقال ابن عباس المراد بالكتاب: الخط بالقلم.
ثم قال - تعالى -: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: فمن هذه الذرية، أو من المرسل إليهم منتفع بهذه الرسالة مهتدٍ سائر على النهج السوى، مستجيب لدعوة رسوله، ملتزم بالعمل بها، وكثير منهم فاسقون خارجون عليها مجافون لها، متنكبون طريق الهداية والطاعة.
ولم تقل الآية: ومنهم "ضال" مقابل فمنهم "مهتد" على ما يقتضيه ظاهر المعادلة مبالغة في الذم؛ لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول إليه بالتمكن منه ومعرفته أبلغ في الضلال، وأَقبح منه على أَن قوله - تعالى -:{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ} يؤذن بغلبة أهل الضلال والفسق على غيرهم.
27 -
لا تزال الآيات تتحدث عن إرسال الرسل بدءًا بنوح وإبراهيم عليهما السلام ونهاية بعيسى عليه السلام وصولًا إلى بعثة سيد الرسل وخاتم الأَنبياء سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم،
وخص عيسى بالذكر؛ لأَن رسالته آخر الرسالات قبل رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم مع ما تحتويه من التنويه ببعثته، والحديث عن رسالته ممَّا يكاد يكون إرهاصًا بها، ودعوة لها.
والمعنى: ثم أَرسلنا بعد نوح وإبراهيم عليهما السلام وعلى أعقابهم رسلنا متتابعين رسولًا بعد رسول حتى انتهى الأمر إلى عيسى بن مريم عليه السلام وآتيناه الإنجيل تفصيلًا لرسالته، وتصديقًا لدعوته، وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه {رَأْفَةً} أي: مودة ولينًا يجمعهم على الخير، ويدفع عنهم الشر، {وَرَحْمَةً} أي: تعطفًا ومحبة تجلب لهم المنافع، وتقيهم المضار، {وَرَهْبَانِيَّةً} أي: ورضينا منهم مبالغة في العبادة بالانقطاع إلى الخلوات، وتجنب النساء والشهوات وغير ذلك، إنها رهبانية استحدثوها من عند أنفسهم والتزموها عن رغبتهم ما فرضناها عليهم ولا رضيناها منهم إلَاّ ابتغاء وجه الله، أو ما ابتدعوها إلَاّ ابتغاء وجه الله، وكان عليهم بعد ذلك أن يحافظوا عليها، ويداوموا على عمل مقتضياتها لأَنها نذر التزموه، وعهد مع الله ينبغي الوفاء به، ولكنهم قصروا فيها فما رعوها حق رعايتها وذلك بتقصيرهم فيما أَلزموا به أَنفسهم من عمل الطاعات، وبأَن بعض من أَدرك منهم رسالة سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم لم يؤمن بها ولم يصدقها، ولذلك جاء قوله - تعالى -:{فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانًا صادقًا - صحيحًا راعى فيها تحقيق الرهبانية بالعمل الصالح والإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم آتيناه - أجره الذي يناسب إيمانه وعمله.
{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} خارجون عن حد الاتباع، بعيدون عن الإيمان الصحيح.
عن ابن مسعود قال: "كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: يا ابن أُم عبد: هل تدرى من أَين أَحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت: الله ورسوله أعلم، فقال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعلمون بمعاصي الله، فغضب أَهل الإِيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإِيمان ثلات مرات فلم يبق منهم إلَاّ القليل فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا، ولم يبق
للدين أَحد يدعو له، فتعالوا نتفرق في الأرض، إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى عليه السلام يعنون محمدًا صلى الله عليه وسلم فتفرقوا في غيران الجبال، وأحدثوا رهبانية، فمنهم من تمسك بدينه، ومنهم من كفر، ثم تلا هذه الآية، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا
…
} إلى آخرها، ثم قال: يا ابن أُم عبد، أَتدرى ما رهبانية أُمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: الهجرة، والجهاد، والصلاة، والصيام، والحج، والعمرة" (1).
المفردات:
{الَّذِينَ آمَنُوا} : المراد الذين آمنوا من أهل الكتاب، أو الذين آمنوا من أُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم.
{كِفْلَيْنِ} : نصيبين تثنية كفل، وقيل الكفل: الضعف.
{أَهْلُ الْكِتَابِ} : اليهود والنصارى.
(1) انظر تفسير القرطبي ج 17 ص 275 تفسير قوله تعالى: {ثم قفينا على آثارهم} فقد ورد الحديث بنحوه.
التفسير
28 -
تختم السورة بهذا النداء الكريم للذين آمنوا تأْمرهم بالتقوى، وتعدهم بمضاعفة الأَجر والنور الذي يهديهم ويحميهم من ظلمات الكفر والجهل، ويصلهم بالمغفرة والفضل.
والمعنى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا بالرسل المتقدمة اتقوا الله، وانتهوا عمَّا نهاكم عنه، واحفظوا أنفسكم من مهاوى الشرك ومهالك المعاصي، وادخلوا في طاعته، وأَخلصوا في عبادته، وآمنوا برسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم يعطكم نصيبين من رحمته، نصيبًا لإيمانكم بأَنبيائكم، ونصيبًا لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديقكم برسالته ودعوته التي نسخت الشرائع السابقة. فلم يبق وجه للإيمان بها وحدها بعد بعثته عليه الصلاة والسلام دون التصديق برسالة محمَّد صلى الله عليه وسلم {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} أي: يهيئ لكم نورًا تمشون به يوم القيامة حسبما نطق به قوله - تعالى -: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} ويغفر لكم ويستر عليكم ما أسلفتم من الكفر، أو قدمتم من المعاصي، والله واسع المغفرة عظيم الرحمة.
وعن مجاهد: نورًا أي: بيانًا وهدًى، وقال ابن عباس: هو القرآن.
واستظهر أبو حيان كون الخطاب لمن آمن من أُمة محمَّد صلى الله عليه وسلم، غير أهل الكتاب، والآثار تؤيد ذلك. أَخرج الطبراني في الأَوسط: عن ابن عباس وابن أَبي حاتم: عن سعيد ابن جبير، قالَا: إن أَربعين من أَصحاب النجاشى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا معه أُحدًا، فكانت فيهم جراحات، ولم يقتل منهم أَحد، فلما رأَوا ما بالمؤمنين من الحاجة، قالوا: يا رسول الله، إنا أهل ميسرة، فأْذن لنا نجِيء بأَموالنا نواسي بها المسلمين فأَنزل الله
- تعالى - فيهم: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ .. } (1) إلى قوله - سبحانه: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} فجعل لهم أَجرين، فلما نزلت هذه الآية قالوا: يا معشر المسلمين، أما من آمن منا بكتابكم فله أجران، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أَجر كأُجوركم، فأَنزل الله - تعالى -:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ .. } الآية ردًّا عليهم، ومن لم يؤمن بكتابكم، فله أجر كأُجوركم.
وفي الكشاف أن قائل ذلك، من لم يكن آمن من أهل الكتاب، قالوه حين سمعوا تلك الآية يفخرون بها على المسلمين وعلى هذا فمعنى الآية: يا أيها الذين اتسموا بالإيمان اثبتوا على تقوى الله عز وجل فيما نهاكم عنه يؤتكم نصيبين من رحمته لإيمانكم بالرسالات المتقدمة عليكم، وتصديقكم لرسلها، وإيمانكم برسولكم محمَّد صلى الله عليه وسلم كما فعل أهل الكتاب الذين آمنوا به، فأَنتم وهم سواء في الإِيمان بالرسل أَجمعين.
29 -
قال مجاهد: قالت اليهود: يوشك أَن يخرج منَّا نبي يقطع الأيدى والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا به، والآية تتعلق بمضمون جملة قبلها على تقدير: إن تتقوا الله وتؤمنوا بوسوله {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} .
{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} : (لَا) هنا زائدة أَي: ليعلم الذين يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب اليهود والنصارى أنهم لا يقدرون على شيءٍ من فضل الله تحصيلًا لأَنفسهم أو منعًا لغيرهم، رزقًا أو هداية، أَو مغفرة وفضلًا، وأن الفضل كل الفضل بيد الله وليس بأَيديهم حتى يصرفوه عمن شاءُوا إلى من شاءُوا، وأنه - تعالى - يختص بفضله من يشاءُ إذا شاءَ
(1) سورة القصص من الآيات 52 و53 و54.
وفي البخاري: حدثنا الحكم بن نافع قال: حدثنا شعيب عن الزهري قال: أَخبرنا سالم ابن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - وهو قائم على المنبر -: "إنما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأُمم، كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس، أعطى أهل التوراة التوراة فعملوا بها حتى انتصف النهار ثم عجزوا فأعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أَعطى أَهل الإِنجيل الإِنجيل فعملوا به حتى صلاة العصر، ثم عجزوا فأَعطوا قيراطًا قيراطًا، ثم أعطيتم القرآن فعملتم حتى غربت الشمس فأعطيتم قيراطين قيراطين، قال أَهل التوراة: ربنا، هؤلاء أَقل عملًا، وأَكثر أجرًا، قال: هل ظلمتكم من أجركم من شيء؟ قالوا: لا. قال: فذلك فصلى أُوتيه من أَشاء".
والله أعلم