المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة: سورة (ق) سورة عظيمة في مبانيها ومعانيها، لها تأثير واغل - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ سورة الشورى

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌ سورة الزخرف

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌ سورة الدخان

- ‌أهم أهداف السورة:

- ‌ سورة الجاثية

- ‌أهدافها:

- ‌ سورة الأحقاف

- ‌هذه السورة مكية وآياتها خمس وثلاثون

- ‌صلتها بما قبلها

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سبب تسمية السورة بهذا الاسم:

- ‌سورة محمد

- ‌أهم أهداف السورة:

- ‌سورة الفتح

- ‌(وهي مدنية وآياتها تسع وعشرون)

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌مقدمة:

- ‌سورة الحجرات

- ‌مدنية وآياتها ثماني عشرة

- ‌مجمل معانيها:

- ‌وجه ارتباطها بما قبلها:

- ‌السبب العام لنزول هذه السورة:

- ‌الأسباب الخاصة لنزول آياتها:

- ‌قتال علي ومعاوية:

- ‌رأى علي فيمن قاتلوه:

- ‌كيف تكون التوبة من الغيبة

- ‌من لا غيبة لهم:

- ‌صور مشرقة من محو الفوارق الطبقية في الزواج:

- ‌سورة ق

- ‌مكية وآياتها خمس وأربعون

- ‌مجمل معانيها:

- ‌مقدمة:

- ‌ سورة الذاريات

- ‌مقاصد السورة:

- ‌تفسير سورة الطور

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة والنجم

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة القمر

- ‌مقاصدها:

- ‌تفسير سورة القمر

- ‌هذه السورة مكية، وآياتها خمس وخمسون

- ‌ سورة الرحمن

- ‌آياتها ثمان وسبعون

- ‌مقاصد هذه السورة الكريمة:

- ‌ سورة الواقعة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌المعنى العام للسورة:

- ‌ سورة الحديد

- ‌هذه السورة الكريمة من السور المدنية وآياتها تسع وعشرون آية

- ‌سبب التسمية:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌ما جاء في فضلها مع أخواتها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

الفصل: ‌ ‌مقدمة: سورة (ق) سورة عظيمة في مبانيها ومعانيها، لها تأثير واغل

‌مقدمة:

سورة (ق) سورة عظيمة في مبانيها ومعانيها، لها تأثير واغل في أعماق النفوس، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب بها يوم الجمعة، جاء في صحيح مسلم عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت:(لقد كان تنُّورُنا (1) وتنُّور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدًا سنتين أو سنة وبعض سنة، وما أخذتُ "ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ" إلا عن لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس).

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثى: "ما كان يقرأُ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: كان يقرأ فيهما بـ "ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ" و"اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ".

وعن جابر بن سمرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ في الفجر بـ "ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ" وكانت صلاته بعدُ تخفيفًا) وكل ذلك قد حدث وهو مروى بصحاح الأحاديث.

التفسير

1 -

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ):

(ق) سبق الكلام على مثله من الحروف في سورتي البقرة وآل عمران، فارجع إليه فيهما، والقرآن: هو الكتاب الذي أنزله الله بلفظه على نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم ليكون معجزة مؤيدة له، باقية إلى قيام الساعة، أما معجزات الأنبياء قبله فقد فَنِيَت ولم يبق منها إلَاّ الحديث عنها.

وقد وُصِف القرآن بلفظ (الْمَجِيدِ) بمعنى ذي المجد والشرف، وشرفه بالنسبة إلى سائر الكتب واضح، أما غير الإلهية فظاهر، وأما الإلهية فلإعجازه وكونه غير منسوخ بغيره، واشتماله مع إيجازه على أسرار يضيق عنها كل واحد منها.

(1) التنور: الذي يخبز فيه وهو الفرن.

ص: 1058

وقال الراغب: المجد: السعة والكرم، ثم قال: ووصف القرآن به لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأُخروية. إهـ.

وقد أقسم الله بالقرآن المجيد، وجواب القسم مقدر يدل عليه المقام، وتقديره: إنا أنزلناه لتنذر به الناس، أو إنك لمنذر بالبعث وما وراءه.

وقد عقَّب الله هذا القسم بقوله: (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَىْءٌ عَجِيبٌ)، ولفظ (بل) للإضراب الانتقالى عمَّا ينبئ عنه جواب القسم المقدر، فكأنه قيل: إنا أنزلناه لتنذر الناس بالبعث وما وراءه فلم يؤمنوا، بل جعلوا كلا من النذر والمنذر به عرضة للتنكير والتعجب، مع كونهما أقرب شيء إلى العقول والتلقى بالقبول.

ثم أكدوا تعجبهم وبينوا أهم ما ينكرونه ويتعجبون منه فقالوا: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) يعنون أنهم إذا ماتوا وتحولت لحومهم وعظامهم إلى تراب، لا يعقل أَن تعود إليهم الحياة مرة أخرى، وجواب الاستفهام مقدر، أَي: نرجع.

ومعنى الآية: أَئذا تحولت لحومنا وعظامنا إلى تراب بعد الموت نرجع إلى الحياة مرةً أخرى؟ ذلك الرجوع إليها حينئذ رجوع بعيد عن التصديق وعن القبول.

وهذا الاستبعاد ناشئ عن قصر نظرهم وسوء فهمهم، فإن مَن خلقهم من تراب يُعيد خلقهم منه، وهو أهون من البدء.

وقد ردَّ الله عليهم، وعاب سرعة تكذيبهم للحق من غير روية فقال:

5، 4 - (قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ. بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ):

أي: أَن بعثهم حينئذ لا صعوبة فيه على الله - تعالى - فقد علم ما تأكل الأرض من لحوم موتاهم وعظامهم، وعنده كتاب حافظ التفاصيل الكون كله، ومنها ما تنقص الأرض من الموتى بعد موتهم.

ص: 1059

والمراد بالكتاب الحفيظ: علم الله - تعالى - على سبيل التمثيل، أَو اللوح المحفوظ، ثم أَضرب عن إنكارهم البعث انتقالًا إلى ما هو أَفظع منه، وذلك في قوله - جل وعلا -:(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ):

أي: بل كذبوا بالقرآن الذي هو كلام الله ومعجزته الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وكان تكذيبهم به حين جاءهم من غير روية، وبلا تفكر وتدبر، وبتكذيبهم له تكذيبا لما فيه من توحيد الله - تعالى - وسائر كمالاته، وكذبوا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهم في أمر مضطرب، فتارة يقولون: إنما يعلمه بشر وما هو من كلام الله، وأُخرى يقولون: إنه شعر، وثالثة يقولون: هو أساطير الأَولين.

ويقولون عن محمد صلى الله عليه وسلم: إنه ساحر وكاهن وشاعر ومجنون، وكل ذلك ناشئ عن نظرات سطحية لا عمق فيها، وعن تقليدهم للآباء، وزعمهم أنه لو كانت نبوة من البشر لكلف بها رجل من الرؤساء، وذلك قولهم:{لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (1) يعنون بهما: مكة والطائف، فهم في أمر مريج مضطرب لا يثبتون على حال، وقد ذابت كل أكاذيبهم مع الزمن، ودخل الناس في دين الله أفوجًا، ومنهم أهل مكة في السنة الثامنة من الهجرة، وصدق الله - تعالى - إذ يقول:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (2).

(1) سورة الزخرف، من الآية:31.

(2)

سورة الإسراء، الآية:81.

ص: 1060

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11))

المفردات:

(كَيْفَ بَنَيْنَاهَا): كيف أنشأناها في عظمتها وحسنها، ورفعها بغير عمد ترونا.

(وَزَيَّنَّاهَا): وجعلنا لها زينة بالكواكب على أبدع نظام، وأكمل إحكام.

(وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ): وليس فيها شقوق وخلل.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا): بسطناها في رأْى العين، وإن كانت في حقيتها مكورة.

(وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ): وأنبتنا فيها من كل صنف حسن يَبْهَج ويَسُرُّ من نظر إليه، وفعله بَهج بوزن طرب، والبهجة: الحسن، وفعله بوزن ظَرُف وطَرِب، فهي مشتركة بين الوزنين.

(جَنَّاتٍ): بساتين.

(وَحَبَّ الْحَصِيدِ): وحب الزرع الذي شأْنه أَن يحصد، أَي: يقطع.

(بَاسِقَاتٍ): طويلات.

ص: 1061

(لهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ): لها طلع منضود بعضه فوق بعض.

(كَذَلِكَ الْخُرُوجُ): مثل ذلك خروجكم للبعث من قبوركم.

التفسير

6 -

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ):

جاءت هذه الآية والآيات النى بعدها لتعيب على المشركين شركهم واضطرابهم في أمر الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن ربه، ومنه البعث والنشور - تعيب عليهم ذلك - مع وجود الآيات الكيوية الدالة على توحيد الله وإمكان البعث وهم غافلون عنها.

ولقد أشارت هذه الآية إلى أَن لله سماء، ولهذه السماء زينة، فأما الزينة فهي الكواكب التي يرونها متلألئه في الفضاء، دائرة فيه بقدرة الله - تعالى - وأما السماة الحقيقية فهي محجوبة عنا؛ لأنها من شأن الله، ولسنا بحاجة إلى معرفة حقيقتها ووظائفها، فهي من الغيب الذي استأثر الله بعلمه، وفي ذلك يقول الله - تعالى - في سورة الصافات:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} (1)، ويقول في سورة فصلت:{وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (2)، ويقول في سورة الملك:{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} (3) ثم يقول فيها: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} (4) إلى غير ذلك من الآيات الناطقة بأَن لله سبع سموات، وأن الكواكب زينة للسماء الأولى منها، ولا شك أَن الزينة غير المزيَّن، فهي أمر زائد على الذات.

ومعلوم أَن طبقات الكواكب وسُدُمها ليست سبعًا، بل هي ملايين الملايين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج عُرج به إلى تلك السموات لا إلى الكواكب.

(1) الآية رقم: 6.

(2)

من الآية رقم: 12.

(3)

من الآية رقم: 3.

(4)

من الآية رقم: 5.

ص: 1062

ومعنى الآية: أعَمِيَتْ قريش حين أشركوا وأنكروا البعث - أعموا - فلم ينظروا إلى الكواكب فوقهم بحيث يشاهدونها كل وقت، كيف بنيناها وأحكمناها، وجعلناها زينة للسماء الدنيا وما لها من شقوق ولا فتوق، فهي تامة السلامة من كل عيب.

واعلم أيها القارئ الكريم أن القبة الزرقاء التي ترى خلالها الكواكب مما هي إلَاّ الغلاف الجوى، وفوقه ظلمة حالكة السواد، كما اكتشف ذلك علماءُ الفلك، فإذا أطلق عليه لفظ (سماء) فهو إطلاقه لغوى، فإن كل ما علاك سماء.

7، 8 - (وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ. تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ):

الأرض مثل الكرة، غير أنها منبعجة (1) من جهة القطبين، وهي تدور في الفضاء تحت الشمس، وتنتقل في مدارها من برج إلى برج، ويترتب على ذلك وجود الليل والنهار، والربيع والصيف والخريف والشتاء.

وظاهر الآية يدل على أن الأرض مفروشة ومبسوطة، وهذا لا ينافى أنها كروية، فهي مبسوطة في رأى العين، كروية في الحقيقة، ولهذا ترى الشمس تشرق في بعض الأقاليم، وغيرها مما يليها لا يزال الليل فيه، فلا تُرَى الشمس فيه إلَاّ بعد حين يطول أو يقصر حسب البعد والقرب، وذلك ناشئ من كرويتها، فعاليها يحجب ضوء الشمس عن سافلها، ولو لم تكن الأرض كروية لأشرقت الشمس على جمع أقاليمها في وقت واحد.

والمعنى: والأرض بسطها الله في رأى العين ومهَّدها ليتيسر السير عليها والانتفاع بها، وخلق فيها جبالًا ثوابت تحفظها من أَن تميد وتضطرب بمن عليها، وأنبت فيها بقدرته من كل صنف حسن يسر الناظرين والآكلين، وقد فعك الله ذلك تبصيرًا وتذكيرًا لكل عبد منيب راجع إلى الحق، فالصنعة البديعة تدل أوضح الدلالة على الصانع المبدع المتفرد في إبداعه.

(1) أي: ناقصة.

ص: 1063

9 -

11 - (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ (1) بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (2). رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ):

تخصيص النخل بالذكر مع اندراجه في الجنات، لبيان فضلها على سائر الأشجار، وتوسيط الحب بين الجنات والنخل لتأكيد استقلال النخل وامتيازها عنها، مع ما فيه بن رعاية الفواصل.

ومعنى الآية: ونزلنا من السحاب ماء مباركا كثير الخيرات - أنزلناه - في جميع الأقاليم في أوقات مناسبة لمصالح العباد، فأنبتنا بهذا الماء المبارك بساتين كثيرة مشتملة على أطيب أنواع الثمار والفاكهة، وأنبتنا به حب الزرع الذي يحصد ويقطع ليستخرج منه حبه كالبر والشعير والذرة وغيرها، وأنبتنا به النخل طويلات لها طلع منضود بعضه فوق بعض. - أنبتنا كل ذلك - رزقا للعباد، يستوجب الإيمان والشكر، وأنبتنا بذلك الماء أرضًا جدبة لا نبات فيها، مثل هذه الحياة الناشئة عن الإحياه خروجُ الموتى من القبور، فالنبات يذبل ويجف بعد ازدهاره ويصبح ميتا، والله - تعالى - يعيد أحياءه ويبعثه بعد الموت، وإحياء الموتى مثل ذلك، أفلا تعقلون؟.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15))

(1) اسم جنس. واحده نخلة.

(2)

الطلع أول ما يبدو من ثمرة النخل، قال صاحب المختار: أول الثمر طلع ثم خلال، ثم بلح ثم بسر ثم رطب، ثم تمر - انظر مادة (بلح).

ص: 1064

المفردات:

(قَوْمُ نُوحٍ): من أُرسل إليهم، والقوم: جماعة الرجال، وقد يندرج فيه النساء مجازًا كما هنا، وتأنيث الفعل المسند إليه (كَذَّبَتْ) باعتبار أنه اسم جنس بمعنى الجماعة.

(أَصْحَابُ الرَّسِّ) الرس: هي البئر التي لم تُبن، وقيل: هو اسم لوالدٍ معين.

(فِرْعَوْنُ): المراد به هو وقومه، كما تسمى القبيلة باسم أبيها.

(الْأَيْكَةِ): مجتمع الشجر، ويطلق عليها لفظ الأجمة.

(وَقَوْمُ تُبَّعٍ): الحميرى.

(أَفَعَيِينَا): أفعجزنا، والعيُّ بالأمر: العجز عنه، والهمزة للاستفهام الإنكارى.

(بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ): بخلق آدم وذريته.

(بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ): بل هم في خلط وشبهة من البعث.

التفسير

12 -

14 - (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ. وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ):

هذه الآيات مستأنفة لتقرير أَن البعث حق، وأنه متَّفق عليه من جميع الرسل، وأن الأمم التي سبقت قريشًا كذبت رسلها وأنكروا البعث فعاقبهم الله - تعالى -، وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفرة من قومه.

وأصحاب الرَّسِّ قيل: إنهم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام وقيل: هم قوم حنظلة ابن صفوان، وإخوان لوط: قومه وأهله الذين بعث إليهم، وقيل: إنهم كانوا أصهاره، وليس المراد بالأخوة القرابة من النسب، وأصحاب الأيكة أي: سكان مجتمع الشجر، قيل: إنهم ممن بعث إليهم شعيب غير أهل مدين، وكانوا يسكنون هذه الأيكة فنُسِبوا إليها.

ص: 1065

وتبع: هو تبع الأكبر الحميرى، واسمه أسعد وكنيته أبو كُرَبٍ، وكان رجلًا صالحًا بين قومه الكافرين، أخرج الحاكم وصححه عن عائشة قالت: كان تبع رجلًا صالحًا، ألا ترى أَن الله ذم قومه ولم يذمه. وأخرج الإِمام أحمد وغيره عن سهل الساعدى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا تُبَّعا فإنه كان قد أسلم".

وأخرج ابن عساكر وابن المنذر عن ابن عباس قال: (سألت كعبا عن تبع، فإننى أسمع الله - تعالى - يذكر في القرآن قوم تبع ولا يذكر تبعا. فقال: إنه كان رجلًا من أهل اليمن ملكا منصورا، فسار بالجيوش حتى انتهى إلى سمرقند، فرجع فأخذ طريق الشام فأسر بها أحبارا، فانطلق نحو اليمن، حتى إذا دنا من مكة طار في الناس أنه هادم الكعبة، فقال له الأحبار: ما هذا الذي تحدث به نفسك؟ فإن هذا البيت لله، وإنك لن تسلط عليه؟ فقال: إن هذا لله - تعالى - وأنا أحق من حرَّمه، فأسلم من مكانه، وأحرم فدخلها محرما، فقضى نسكه ثم انصرف نحو اليمن راجعا، حتى إذا قدم على قومه

) إلى آخر مما ذكره كعب في هذا الأثر الطويل، وخلاصة ما ذكره بعدُ أنه طلب من قومه أَن يؤمنوا كما آمن فامتنعوا، فنزلت من السماء نار فأحرقت من لم يؤمن منهم (1).

والمعنى الإجمالي للآيات: كذب بالحق قبل قريش قومُ نوح، مع أنه كان ينصحهم ويطلب منهم الإيمان به، كما كذب به أصحاب الرس (2) ممن بعث إليهم شعيب، أو هم قوم حنظلة ابن صفوان، وكذبت به ثمود قوم صالح وعاد قوم هود وفرعون وقومه، وقوم لوط وأصحاب الأشجار المجتمعة - الأيكة - وقوم تبع، كل هؤلاء كذبوا جميع رسلهم فحق عليهم وعيدى وثبتت عليهم كلمة العذاب في الدنيا بعذاب استأصل كفارهم، وفي الآخرة بعذاب ينتظرهم.

15 -

(أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ):

أي: أقصدنا خلقهم من تراب ثم من نطفة فعيينا وعجزنا عن تحقيق ما قصدناه وأردناه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟ كلا لم نعجز عن خلقهم كذلك، فلماذا ينكرون بعثنا إياهم

(1) انظر الآلوسي في شرح قوله - تعالى -: "أهم خير أم قوم تبع" في سورة الدخان، وقد أطال الكلام فيه، فارجع إليه إن شئت.

(2)

أي: أصحاب البئر التي لم تبن.

ص: 1066

بعد موتهم، وهو في القياس أهون من بدئهم، إنهم معترفون بالخلق الأول صادًرا عنا فلا ينكرونه، بل هم في شك واضطراب من خلق جديد، وهو إحياؤهم بعد موتهم لينال كل امرئ جزاء ما قدم من خير أو شر.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18))

المفردات:

(مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ): ما تحدثه به من الخواطر.

(حَبْلِ الْوَرِيدِ): الحبل معروف، والمراد بالوريد: عرق كبير في العنق، وأضيف الحبل إليه لإفادة أَنه ممتد في الجسم امتداد الحبل.

(الْمُتَلَقِّيَانِ): هما ملكان جعلهما الله لكل إنسان، ليكتبا أعماله من خير أو شر عن اليمين وعن الشمال.

(قَعِيدٌ) أي: كلا الملكين ملازم له، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله (رَقِيبٌ عَتِيدٌ): ملك حاضر مهيأ يرقب أقواله وأعماله ويكتبها.

التفسير

16 -

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ):

ص: 1067

الوسوسة لغة: الصوت الخفى، ومنه وسواس الحُلى، (أي: صوت احتكاك بعضه ببعض) وما توسوس به نفسه: ما يخطر بباله من الخواطر الخفية المختلفة.

والمراد من قربه - تعالى - من العبد أكثر من حبل الوريد أنه - سبحانه - أعلم بحاله سرا أو علنا، فهو أقرب إليه بعلمه من حبل الوريد الذي يمتد في عنقه، وليس المراد منه القرب الذاتى؛ لأنه - تعالى - ليس له مكان، فهو من باب الثمثيل والتشبيه، وليس من باب الحقيقة.

وعن الأثرم أنه يقال: في العنق الوريد، وفي القلب الوتين، وفي الظهر الأبهر، وفي الذراع والفخذ الأكحل والنَّسا، وفي الخنصر الأسلم: انتهى.

وبالجملة فحبل الوريد مثل في شدة القرب، وإضافة الحبل إليه للبيان كشجر الأراك.

17 -

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ):

لفظ (إذ) ظرف بمعنى حين، متعلق بلفظ (أقرب) في الآية السابقة، أو مفعول لفعل مقدر تقديره: اذكر، والمتلقيان: الملكان الوكلان بكيل إنسان يكتبان أعماله وأقواله في كتاب يتسلمه يوم القيامة، فيعلم منه أنه من الناجين إن تلقاه بيمينه، أو من أهل النار إن تلقاه بشماله أو من وراء ظهره - أعاذنا الله من ذلك -.

وعِلْمُ العبد بكتابة أعماله مع علمه بأنه - تعالى - أعلم بحاله مما يحمله على إحسان العمل.

وقوله - تعالى -: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ) معناه عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، فحذف قعيد من الأول لدلالة الثاني عليه، والمراد من قعود الملك ملازمته للعبد للكتابة.

18 -

(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ):

أي: أَن أقوال العباد من خير أو شر أو غيرهما يكتبها ملك ملازم له يرقبها ويسجلها في صحيفته، فإن كانت خيرًا كتبها الرقيب الذي عن يمينه، وإن كانت شرًّا كتبها

ص: 1068

الرقيب الذي عن يساره، وتخصيص القول بالذكر للإيذان بأن الفعل القطيعي هو أظهر من القول يكتب أيضًا من باب أولى، وقال اللقانى في شرح الجوهرة: مما يجب اعتقاده أَن لله - تعالى - ملائكةً يكتبون أعمال العباد من خير أو شر أو غيرهما، قولا كانت أو فعلا أو اعتقادًا، همًّا كانت أو عزما

إلخ وقال الإمام مالك وجماعة: يكتبان كل شيء حتى الأنين في المرض.

والمعنى الإجمالي لهذه الآيات: ولقد خلقنا الإنسان جسدًا وروحًا وعقلا، ونعلم ما تحدثه به نفسمه من الخواطر خيرًا كانت أو شرًّا، ونحن أقرب إليه علمًا من حبل الوريد في عنقه - نحن أقرب إليه - حين يتلقى الملكان المتلقيان أحوال العبد الظاهرة والخفية ليسجلاها في صحيفة أعماله، وهذان الملكان أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ما ينطق من قول إلا عنده مراقب ملازم له من الملكين الموكلين يه، يكتب ما يصدر عنه من الأقوال وكذا الأفعال والنوايا.

(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22))

المفردات:

(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ): وأحضرت شدة الموت حقيقة ما كتبه الله على عباده من الموت الذي يليه البعث والجزاء.

(تَحِيدُ): تميل وتعدل.

ص: 1069

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ): ونفخ في البوق.

(مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيد): من الملائكة.

(فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ): فكشفنا عن عقلك الحجاب الذي سببته الغفلة.

(فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ): فبصرك اليوم حاد ونافذ.

التفسير

19 -

(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ):

بعد ما ذكرت الآيات إنكار المشركين للبعث، وأثبتث بأقوى الحجج أنه سيحصل. جاءت هذه الآية وما بعدها لتبين لهم أَن هذا الذي أنكروه سيلقونه حقًّا.

وسكرة الموت: ما يحدث للمرء وهو مشرف على الموت من شدائد حتى تخرج روحه من بدنه.

والمعنى: وجاءت شدة الموت بحقيقة الموت الذي يبعث بعده الخلائق للجزاء، ونبهت إليها رسل الله جميعًا، ذلك الحق هو الذي كنت تميل وتنصرف عن التفكر فيه أيها الكافر، لشدة غفلتك وعمق غوايتك.

20 -

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ):

الصور: هو البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل، والله أعلم بحقيقته وحقيقة النفخ فيه، ولإسرافيل نفختان في الصور كما جاءت به السنة، إحداهما يموت عندها الخلائق، والثانية يبعث عندها الموتى - وهي المرادة هنا - وهذه الآية معطوفة على ما قبلها لبيان ما يحدث بعد الموت.

والمعنى: ونفخ إسرافيل في البوق نفخة البعث، وقت ذلك النفخ يوم إنجاز الوعيد الذي توعد الله به الكفار في الدنيا.

ص: 1070

21 -

(وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ):

وجاءت كل نفس من نفوس الخلائق مؤمنهم وكافرهم، معها ملكان: أحدهما يسوقها إلى المحشر سوقًا مناسبًا لعمل المسوق، بحيث يكون برفق للمؤمنين، وبشدة للكافرين.

جاء في الحديث مرفوعًا عن جابر أَن أحدهما: ملك الحسنات، وثانيهما: ملك السيئات اللذين كانا يكتبان أعمال العباد في الدنيا، أخرجه أبو نعيم في الحلية، وقيل: غير ذلك فارجع إليه في المطولات إن شئت.

22 -

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ):

هذه الآية استئناف مبنى على سؤال مقدر نشأ مما قبلها، كأنه قيل: فماذا يكون بعد النفخ ومجىء كل نفس معها سائق وشهيد؟ فقيل: يقال للكافر الغافل إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا - من البعث وما بعده - يقال به: لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه، فكشفنا عنك الآن الحجاب الذي غطى عليك أمور المعاد، وهو الغفلة والانهماك في أمور الدنيا وحدها، فبصرك اليوم نافذ لزوال المانع للبصائر في الدنيا عن إدراك ما بعد الموت.

(وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ)

المفردات:

(قَرِينُهُ): شيطانه المقارن في الدنيا.

(هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ): هذا ما عندي معدٌّ ومهيأ لجهنم.

(عَنِيدٍ): مبالغ في العناد.

(مُرِيبٍ): شاك في الله - تعالى - أو في البعث.

ص: 1071

التفسير

23 -

26 - (وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26)):

لكل إنسان شيطان مقارن له ومصاحب في الدنيا، يمتحنه الله بوسوسته، فإن عصَاه دخل الجنة، وإن أطاعه دخل النار، جاء في الحديث:"ما من أحد إلا وقد وُكِلَ به قرينه من الجن، قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلَاّ أَن الله - تعالى - أعاننى عليه فأسلم فلا يأمرنى إلا بخير".

والمعنى: وقال الشيطان المقارن للكافر: هذا الإنسان هو ما عندى وتحت إغوائى، عتيد أعددته لجهنم وهيأته لها بإغوائى فاستحقها.

قال الله - تعالى - مخاطبًا للملكين السائق والشهيد: اطرحا في جهنم كل مبالغ في الكفر للمنعم ونعمته، مبالغ في العناد وترك الانقياد للحق، مبالغ في منع الخير والبر عن الناس فلا يتصدق على محتاج للصدقة، معتد ظالم للحق متجاوز له، شاك في دين الله وفي البعث الذي أشرك بالله فجعل معه إلهًا آخر، فألقياه أيها الملكان في العذاب الشديد.

حاشية

جملة (فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) خبر عن (الذي) وجاءت الفاء في خبره لأنه في معنى الشرط، وقيل: في الكلام تقدير، أي: فيقال في حقه: ألقياه في العذاب الشديد، ويلاحظ أَن قوله - تعالى -:(فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ) فيه تكرار لقوله سابقًا: (أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ) والغرض منه التوكيد كما في قوله - تعالى -: (لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(1).

(1) سورة آل عمران، الآية:188.

ص: 1072

(قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)

المفردات

(قَرِينُهُ): الشيطان المقيض له.

(مَا أَطْغَيْتُهُ): ما حملته على الفساد والطغيان.

(ضَلَالٍ بَعِيدٍ): مغرق طويل مجاف للحق.

(قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ): عذرت اليكم.

(بِالْوَعِيدِ): بالإنذار والتخويف من عاقبة العصيان والطغيان.

(مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ): ما يغير القول عندي.

التفسير

270 -

(قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ):

كلام مستأنف استئناف الجمل الواقعة في حكاية التقاول على تقدير أنه جواب لمحذوف دلّ عليه قوله - تعالى -: (رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ) كأن العبد الكافر قال: قرينى أطغانى وحملنى على العصيان والضلال، فأجاب قرينه بتكذيبه وإسناد الضلال إليه.

ولهذا الاستئناف تجرّدت الجملة عن العاطف بخلاف الجملة في قوله - تعالى -: (وقال قرينه هذا ما لدى عتيد) فإنها قرنت بالعاطف لتدل على الجمع بين مفهوميها في الحصول وهو مجئ كل نفس مع الملكين، وقول قرينه، والقرين هنا الشيطان المقيّض له.

ص: 1073

والمعنى: قال الشيطان المقيض للكافر، المقارن له والموكل به - ذا علي إنكاره -: ربَّنَا ما أوقعته في الطغيان، ولا حملته على الضلال قسرا واستكراها، ولكن كان هو في ضلال بعيد عن الحق، مغرق في العناد والفساد، فأعنته عليه بالإغراء والإغواء من غير قسر ولا إلجاء فهو كقوله - تعالى -:{وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} . (1).

28 -

30 - (قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)):

استئناف آخر مبنى على سؤال نشأ عما قبله، كأنه قيل: ماذا قال الله تعالى؟ فقيل: قال عز وجل: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيّ).

والمعنى: لا يخاصم بعضكم بعضًا عندي في موقف الحساب والجزاء فإن ذلك لن يفيدكم، ولا يغنى عنكم شيئًا، وقد قدمت إليكم، وأعذرت بالوعيد والتخويف، والتحذير من عاقبة الطغيان في الدنيا، على ألسنة رسلى، وفي كتبي المنزلة عليهم فلم تسمعوا، ولم تطيعوا فلا تطمعوا في الخلاص مما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة، وقد علمتم ما قدمت وما أعذرتكم به، ومن جملته ما قلته لإبليس:{لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} (2) فاتبعتموه معرضين عن الحق، مغرقين في الكفر والضلال.

وقوله - تعالى -: (ما يبدل القول لديّ) فض لخصومتهم، وقطع لرجائهم، معناه: لا يقع عندي تبديل ولا تغيير لما قررناه وأردناه وقدمناه في دار الدنيا من أنى أعاقب من جحدنى، وكذَّب رسلى، وخالفنى في أمرى لا يبدل من ذلك شيء بغيره وقوله - تعالى -:{وما أنا بظلام للعبيد} وارد لتحقيق الحق على أبلغ وجه، ولتبيين أَن عدم التبديل للقول وتحقيق موجب الوعيد ليس من جهته - تعالى - من غير استحقاق له منهم، بل إنما ذلك لما صدر منهم من الجنايات الموجبة له.

وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في معرض المبالغة في الظلم، وهو لا يكون منه. ويجوز أَن يكون لرعاية جميع العبيد من قبيل قولهم: فلان ظالم لعبده، ظلَّام لعبيده. وقيل إن فعَّالًا تأتى بمعنى فاعل أي: وما ربك بظالم لعبيده.

(1) سورة إبراهيم من الآية 22.

(2)

سورة ص، الآية:85.

ص: 1074

وقوله - تعالى -: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ

) إما مرتبط بقوله - تعالى -: (وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ويوم: ظرف معمول لظلام، وإما مفعول به لفعل محذوف تقديره: اذكر لهم يوم. وهو سؤال وجواب جىء بهما على منهاج التمثيل والتخييل لتهويل أمر جهنم وأنها مع اتساعها وتباعد أقطارها يُطرح فيها من الجِنَّة والناس فوج بعد فوج حتى تمتلىء، أو أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها بعدُ محلّ فارغ؟ أو أنها لغيظها على العصاة، وحنقها منهم تطلب زيادتهم.

والمعنى: وما أنا بظلام للعبيد يوم نقول لجهنم هل امتلأت، أو: اذكر يا محمد وأنذر بهذا اليوم الآتى لا محالة يوم نقول لجهنم وقد دفعت إليها أفواج الكافرين الضالين: هل امتلأت؟ وتقول بعد امتلائها: هل بقى من موضع لم يمتلئ؟ - تعنى: قد، امتلأت -، أو أنها تستزيد وفيها موضع للمزيد.

هذا، ويجوز أَن يكون الكلام على تحقيق القول من جهنم، وهو غير مستنكر؛ فإنه - تعالى - سوف ينطق الجوارح فتشهد على صاحبها، والإذن لها بنفسين، ونحن متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم يمنع مانع، ولا مانع هنا فإن القدرة صالحة والعقل مجوّز، وأمور الآخرة لا ينبغي أن تقاس بأمور الدنيا.

أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذى والنسائي وغيرهم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه فيزوى بعضها إلى بعض وتقول: قط. قط. وعزتك وكرمك، ولا يزال في الجنة وفضل حتى ينشئ الله لها خلقًا آخر فيسلكهم في فضول الجنة" وليس المراد بقدم الله حقيقة، فإنه - تعالى - لا يشبه الحوادث، ولكنه كناية عن أن النار ذليلة لأمره، وفسره بعضهم بأنه - تعالى - يضع فيها من يقدمهم للنار، قال ابن الأثير: قدمه، أي: الذين قدمهم لها من شرار خلقه، فهم قَدَمُ الله - تعالى - للنار، كما أَن المسلمين قدمه للجنة، والقدم: كل ما قدمت من خير أو شر. وقيل: وضع القدم أو الرجل مثل للردع والقمع، فكأنه قيل: تأتيها أمر الله فيكفّها عن طلب المزيد.

ص: 1075

(وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35))

المفردات:

(أُزْلِفَتِ): دنت وقربت للمتقين.

(أَوَّابٍ): رجَّاع إلى الله.

(حَفِيظٍ) يحفظ توبته من النقض أو يحفظ ذنوبه ليرجع عنها ويستغفر منها.

(خَشِىَ الرَّحْمَنَ): خاف عذاب الرحمن.

(بِالْغَيْبِ) أي: خاف الرحمن وهو لا يراه، أو خاف الرحمن وهو في خلوته بعيدًا عن الناس فلا يراه أحد.

(مُنِيبٍ): راجع إلى ربه.

التفسير

31 -

33 - (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ):

هذه الآيات شروع في بيان حال المتقين عند النفخة الثانية للصور، ومجئ النفوس إلى موقف الحساب بعد عرض حال الكافرين، والأظهر فيه أنه عطف على (ونفخ في الصور)

ص: 1076

والمعنى: وأُدنيت الجنة وقربت للمتقين الذين وقوا أنفسهم من الكفر، وتحاشوا المعاصي، وقاموا على اتباع الأوامر واجتناب النواهى فاستحقوا أحسن الجزاء، وأوفر النعيم في جنات تجمع كل أنواع المتاع من الأنهار والأشجار، وطيب الثمار، ومن الأزواج الكرام، والحور الحسان، والخدم من الولدان. وهي قريبة منهم في مكان غير بعيد بحيث يشاهدونها، ولا يلحقهم تعب أو ضرر ولا مشقة في الوصول إليها، أو المراد حصول هذا لهم غير بعيد لأنه آت لا محالة، وكل آتٍ قريب.

وقوله - تعالى -: {هذا ما توعدون} إشارة إلى الجنة، أي: هذا الذي ذكرناه هو ما وعدتم به من الثواب على ألسنة الرسل لكل رجَّاع إلى الله عائذ به مراقب له لا يغفل عن ذكره، ولا ينام عن طاعته، حفيظ لعهده أَن ينتقض، ولتوبته أَن تنتكس، حافظ لذنوبه حذرًا أَن يقع فيها مرة أخرى مستغفرًا منها، فهو أبدًا مع الله ندمًا على ما فرط فيه في ماضيه، وعزمًا على الاجتهاد في عمل ما يرضيه، روى عن ابن عباس، وسعيد بن سنان، وقريب منه ما أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن يونس بن خباب قال: قال لي مجاهد: "ألا أنبئك بالأواب الحفيظ؟ هو الرجل يذكر ذنبه إذا خلا فيستغفر الله - تعالى - منه".

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن عبيد بن عمير: كنَّا نعد الأوّاب الحفيظ الذي يكون في المجلس فإذا أراد أَن يقوم قال: اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسى هذا.

وقوله - تعالى -: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) زيادة في الإيضاح والبيان لمعنى الأواب الحفيظ.

والمعنى: هذا الجزاء الموفور، والنعيم المذكور لمن اشتد خوفه من ربِّه، وعظمت مراقبته لخالقه كأنه يراه أو يخشى ربَّه ويراقبه في خلوته وغيبته عن أعين الناس حياء من الله.

والمعنى في قوله - تعالى -: (وجاء بقلب منيب) أنه يداوم ذلك، ويقيم عليه حتى يوافيه أجله فيلقى الله بقلب عاش مقبلا على طاعته، طامعًا في رحمته. مؤمنا بعاقبته وأوبته حتى أتى الله بقلب سليم.

ص: 1077

34، 35 - (ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ):

هذا على تقدير القول، أي: يقال لهم: ادخلوها، والمعنى: ادخلوا أيها المتقون الأوابون المنيبون ادخلوا الجنة، واستمتعوا بنعيمها بأمان من كل مكروه، وسلامة من كل آفة، وسلام من الله وملائكته عليكم، ذلك يوم الإقامة الدائمة التي لا ينقطع مداها، ووقت الخلود الذي تعيشون في نعيمه بلا نهاية، ولا يستكثر ذلك على أهل الجنة فلهم كل ذلك، ولهم ما يشاءون من صنوف المطالب، وألوان النعم كائنا ما كان، فعند الله كل ما يشتهون، ولديه الزيادة على ما يستشرفون مما لا يخطر لهم على بال، ولا تدركه مشيئتهم من معالى الكرامات، ومجالى الخيرات مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومع أَن لهم ما يشتهون في الجنة، فعند الله مزيد عليه مما لا يخطر على بال.

وقال أنس وجابر: المزيد: النظر إلى وجه الله - تعالى - بلا كيف، وقد ورد ذلك في أخبار مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما أخرجه الديلمى عن عليٍّ - كرم الله وجهه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله - تعالى -:(ولدينا مزيد) قال: "يتجلى لهم الرب عز وجل" إلى غير ذلك من الأحاديث.

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)

المفردات:

(بَطْشًا): قوة وشدة ومنعة.

(نَقَّبُوا): جالوا في أقطارها، وساروا في نواحيها وطوفوا.

ص: 1078

(مَحِيصٍ): مهرب وملجأ يلجأون إليه.

(أَلْقَى السَّمْعَ): تنبّه وتيقظ.

(شَهِيدٌ): فَطِنٌ غير متغافل.

التفسير

36 -

(وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ):

هذه الآية الكريمة تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وتطمين لقلبه ببيان أَن مشركى قريش لن ينالوا منه شيئًا ولن يخلصوا إليه بسوءٍ، وأن قوة الله التي أهلكت قبلهم قرونًا كانت أشد منهم بطشًا، وأقوى منعة فوق قوتهم وجبروتهم، ولو شاء لأهلكهم كما أهلك من سبقوهم من الطغاة المتجبرين.

والمعنى: وكثيرًا أهلكنا قبل مشركى مكة والمنكرين من أهلها من أهل القرون السابقة من هم أشد منهم بطشًا، وأعتى قوة، وأعزّ منعة أمثال عاد وثمود وأضرابهم الذين ملكوا البلاد، وعاثوا فيها الفساد، واستبدوا بالعباد، وساروا في أقطار الأرض، وجاسوا خلالها، وجابوا أقطارها، فما أفادوا من ذلك، ولا ظفروا بمهرب من الهلاك، ولا بمعدل عن الموت، ولا وجدوا إلا الحسرة والتساؤل (هل من محيص؟) هل من مهرب نهرب إليه من الهلاك؟

37 -

(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ):

أي: إن في ذلك الإهلاك، أو في ذلك المذكور من أول السورة من الآيات والمشاهد والأخبار لعظة بالغة، وعبرة رادعة لكل من له قلب وعقل واع يعقل ما يقال، وينتفع به، ويدرك كنه ما يشاهده، ويوقظ سمعه، ويلقيه كل ما يوجّه إليه فيجتمع له من سلامة القلب وإلقاء السمع ما يحقق له النفع، والوقوف على جلية الأمر وهو شهيد وحاضر بفطنته ويقظته، لأن من لا يحضر ذهنه فكأنه غائب.

ص: 1079

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42))

المفردات:

(لُغُوبٍ): تعب وإعياء.

(أَدْبَارَ): أعقاب الصلاة، جمع دُبُر، ويطلق على الظهور أيضًا، قال - تعالى -:"ليولن الأدبار".

(الصَّيْحَةَ): المرّة من الصوت الشديد، والمراد بها نفخة البعث.

(يَوْمُ الْخُرُوجِ): يوم الخروج من القبور للبعث، وهو من أسماء يوم القيامة.

التفسير

38 -

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ):

استئناف كلام آخر لتأكيد ما قبله بتقرير قدرته - تعالى - على خلق السموات والأرض، وتمهيد لما بعده ببيان أَن القادر على خلق السموات والأرض لا يعجزه أمر من أمور الدنيا والآخرة.

قيل: إن هذه الآية تكذيب لليهود في زعمهم أَن الله - تعالى - خلق العالم يوم الأحد، وفرغ منه يوم الجمعة، واستراح يوم السبت، واستلقى على العرش، وجعلوا هذا اليوم للراحة عندهم.

ص: 1080

والمعنى: ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما من أصناف المخلوقات، وأنواع الكائنات في ستة أيام، وما أصابنا من تعب ولا إعياء مع قلة الزمن، وضخامة هذه الأجرام، وتعدّد أنواعها وأشكالها، واختلاف أحوالها، وتباين حركاتها، وذلك مما لا تفى بإحصائه القوى والقدر، فضلًا عن إيجاده.

39، 40 - (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ):

تتجه الآيات إلى تسمية الرسول صلى الله عليه وسلم والترويح عنه بطلب الإعراض عن أقوال المشركين واليهود، والالتجاء إلى الله بالتسبيح والحمد.

والمعنى: إذا كان أمرنا في القدرة كما ترى في خلق السموات والأرض وما بينهما في أقل زمان وفي غير إعياءٍ ولا نصب، فاصبر يا رسول الله على ما يقوله المشركون في شأن البعث من الأباطيل المبنية على الإنكار والاستبعاد، فإن من قدر على خلق العالم بهذه الصفة قادر على بعثهم، وعلى الانتقام من المنكرين والمستبعدين.

أو: فاصبر على ما يقوله اليهود من مقالة الكفر والتشبيه، أو: فاصبر على كل ما يقال من هؤلاء وهؤلاء، ومهما يكن فإن هذا متصل بقوله - تعالى -:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، ومدخلًا لقوله - تعالى -:(وسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي: قدس ربك وسبح بحمده ونزّهه عن كل ما يقوله هؤلاء وهؤلاء، وعن العجز وعن وقوع الخلف في أخباره التي من جملتها الإخبار بالبعث، وعن وصفه - تعالى - بما يقتضي التشبيه نزّهه عن هذا كلِّه، وعن كل ما لا يليق بذاته حامدًا له ما أنعم به عليك من إصابة الحق، مداومًا على هذا التسبيح والحمد قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، وهما وقتا العصر والفجر لأفضليتهما، وقد نوّه القرآن الكريم بفضلهما في قوله - تعالى -:{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} (1)، وفي قوله - تعالى -: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ

(1) سورة الإسراء من الآية: 78.

ص: 1081

الْوُسْطَى} (1) وهي العصر على رأى كثير من المفسرين، ومن فضل هذا الوقت أيضًا القسم به في قوله - تعالى -:"والعصر".

وقوله - تعالى -: (ومن الليل فسبحه) معناه وسبحه بعض الليل وفي جزء منه، ولعل المقصود به السَّحر، فإنه الوقت المفضل للتهجد والتسبيح والاستغفار، وأعقاب السجود أي: آخر الصلاة بعد انقضاء السجود والسلام.

وهذا بناء على تفسير التسبيح بالتقديس والتنزيه والذكر - فإذا فسّر التسبيح بالصلوات الخمس كان المراد بما (قبل الطلوع) الفجر، وبما (قبل الغروب) الظهر والعصر، وبـ (ومن الليل) العشاءين والتهجد وما يصلى بأدبار السجود من النوافل بعد المكتوبات.

41 -

(وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ):

أي: واستمع - يا أيها الرسول - أخبار ما يوحى إليك من أحوال يوم القيامة يوم ينادى المنادى فيقول: أيتها العظام البالية، واللُّحوم المتمزقة، والشعور المتفرقة إن الله يأمركن أَن تجتمعن لفصل القضاء.

قيل: إسرافيل ينفخ، وجبريل ينادى بالحشر، وفي هذا الأمر تهويل وتفظيع لأخبار هذا اليوم. وقوله: من مكان قريب معناه: من مكان يسمعه الخلائق كلهم على حال واحدة فلا يخفى على أحد قريب أو بعيد، فكأنهم نودوا جميعا من مكان قريب. قيل: من صخرة في بيت المقدس، وقيل: من تحت أقدامهم، وقيل: من منابت شعورهم. والتعبير القرآنى فوق كل بيان.

42 -

(يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ):

تتصل هذه الآية بقوله - تعالى -: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ} أي: استمع يوم ينادى المنادى يوم يسمعون نفخة البعث ناطقة بالحق الذي طالما أنكروه، وكذبوا أخباره وهو البعث الذي يسمعون النداء به حقا واقعًا، وحقيقة ماثلة، ذلك يوم الخروج الذي

(1) سورة البقرة من الآية: 238.

ص: 1082

يخرج به الموتى من قبورهم لملاقاة جزائهم. ويجوز أن يكون المعنى: ذلك النداء نداء يوم الخروج من القبور - ويوم الخروج - اسم من أسماء يوم القيامة.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45))

المفردات:

(الْمَصِيرُ): المرجع للجزاء في الآخرة.

(سِرَاعًا): مسرعين.

(حَشْرٌ): جمع بعد البعث.

(يَسِيرٌ): سهل هيِّن.

(بِجَبَّارٍ): بمتسلط قهار.

(فَذَكِّرْ): فخوف وحذر.

التفسير

43، 44 - (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ):

يخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن نفسه أنه هو القوى القادر الذي يحيى الخلق في الدنيا بعد أَن كانوا عدمًا، ثم يميتهم بعد استيفاء أجلهم بعد أَن كانوا أحياء، ثم يبعثهم من قبورهم بعد أَن صاروا ترابًا، وذلك بقوله مؤكدًا:(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ) أي: إنا نحن نحيى ونميت في الدنيا من غير أَن يشاركنا في ذلك أحد، وإلينا المصير، أي:

ص: 1083

وإلينا وحدنا الرجوع للجزاء في الآخرة لا إلى أحد غيرنا استقلالا أو اشتراكًا، يوم تشقق الأرض عنهم سراعًا: يتعلق الظرف بقوله: (وإلينا المصير) أي: وإلينا المرجع والمآب يوم تتصدع الأرض، وتنشق عن أجسامهم البالية فيخرجون منها مسرعين إلى الداعى بلا نوان ولا تأخير، (ذلك حشر علينا يسير) أي: ذلك الحشر، وهذا الجمع هين علينا يسير مع شدة التفرق، وتباعد القبور وتناثر الاشلاء أو تحولها إلى تراب، لا يشق علينا، لا يقدر عليه غيرنا.

45 -

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ):

هذه الآية تختم سورة (ق) بما يسلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويسرى عنه همَّه، ويهدد المشركين ويحذرهم عواقب الكفر والتكذيب.

والمعنى: نحن أعلم بما يقول هؤلاء الكفار من نفى البعث، وتكذيب الآيات الناطقة به، وغير ذلك مما لا خير فيه، فلا تعبأ بقولهم، ولا تبتئس من أحوالهم، فما عليك إلَاّ البلاغ وما أنت عليهم بمتسلط تقهرهم على الإيمان، وتقسرهم على التصديق، ولا من مهمتك ذلك (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ) أي: فحذِّر وخوّف بالقرآن من يخاف العقاب ويخشى العذاب فيسمع لك، ويستجيب لدعوتك إشفاقًا من الوعيد، ورجاء في الوعد، وطمعًا في رحمة الله

ص: 1084