المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المعنى العام للسورة: - التفسير الوسيط - مجمع البحوث - جـ ٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌ سورة الشورى

- ‌أهم مقاصد السورة:

- ‌ سورة الزخرف

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌ سورة الدخان

- ‌أهم أهداف السورة:

- ‌ سورة الجاثية

- ‌أهدافها:

- ‌ سورة الأحقاف

- ‌هذه السورة مكية وآياتها خمس وثلاثون

- ‌صلتها بما قبلها

- ‌بعض مقاصد هذه السورة:

- ‌سبب تسمية السورة بهذا الاسم:

- ‌سورة محمد

- ‌أهم أهداف السورة:

- ‌سورة الفتح

- ‌(وهي مدنية وآياتها تسع وعشرون)

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌مقدمة:

- ‌سورة الحجرات

- ‌مدنية وآياتها ثماني عشرة

- ‌مجمل معانيها:

- ‌وجه ارتباطها بما قبلها:

- ‌السبب العام لنزول هذه السورة:

- ‌الأسباب الخاصة لنزول آياتها:

- ‌قتال علي ومعاوية:

- ‌رأى علي فيمن قاتلوه:

- ‌كيف تكون التوبة من الغيبة

- ‌من لا غيبة لهم:

- ‌صور مشرقة من محو الفوارق الطبقية في الزواج:

- ‌سورة ق

- ‌مكية وآياتها خمس وأربعون

- ‌مجمل معانيها:

- ‌مقدمة:

- ‌ سورة الذاريات

- ‌مقاصد السورة:

- ‌تفسير سورة الطور

- ‌مقاصد السورة:

- ‌سورة والنجم

- ‌بعض مقاصد السورة:

- ‌سورة القمر

- ‌مقاصدها:

- ‌تفسير سورة القمر

- ‌هذه السورة مكية، وآياتها خمس وخمسون

- ‌ سورة الرحمن

- ‌آياتها ثمان وسبعون

- ‌مقاصد هذه السورة الكريمة:

- ‌ سورة الواقعة

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌المعنى العام للسورة:

- ‌ سورة الحديد

- ‌هذه السورة الكريمة من السور المدنية وآياتها تسع وعشرون آية

- ‌سبب التسمية:

- ‌مناسبتها لما قبلها:

- ‌ما جاء في فضلها مع أخواتها:

- ‌بعض مقاصد السورة:

الفصل: ‌المعنى العام للسورة:

"‌

‌ سورة الواقعة

"

وهي مكيّة كما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس، وآياتها ستٌّ وتسعون نزلت بعد سورة طه.

‌مناسبتها لما قبلها:

سورة الواقعة متَّفقة مع ما قبلها [سورة الرحمن] في أنّ كل منهما وصف القيامة والجنة والنار، قال بعض الأجِلّة: انظر إلى اتصال قوله - تعالى -: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} بقوله - تعالى - في سورة الرحمن: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} (1)، وأنه اقتصر في سورة الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي سورة الواقعة على ذكر رجّ الأرض، فكّأنّ السورتين لتلازمهما وتوافقهما سورة واحدة، ذُكِر في كل شيء.

وقد عُكِس الترتيب فذُكِر في أوَّل سورة الواقعة ما في آخر سورة الرحمن، وفي آخر هذه ما في أول تلك، فافتتح في سورة الرحمن بذكر القرآن ثم ذكر الشمس والقمر ثم ذكر النبات ثم خلق الإنسان والجان، ثم صفة يوم القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة.

وبُدِيء في سورة الواقعة بذكر القيامة، ثم صفة الجنة، ثم صفة النار، ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النّار.

‌المعنى العام للسورة:

تقْرعُ سورة الواقعة سَمْعَك، وتبعث الخوف والرهبة في نفسك حين تحدِّثك عن وقوع يوم القيامة، وما يصاحب ذلك الوقوع من أمور جسام، وأحداث عظام، حيث ترج الأرض وتزلزل زلزالها، وتتفتت الجبال تفتيتا وتصير غبارًا منتشرًا متطايرًا، وتذكر أحوال الناس يومئذ وأنواعهم فهم أصناف ثلاثة:

1 -

أصحاب اليمين.

(1) سورة الرحمن الآية: 37.

ص: 1232

2 -

أصحاب الشمال.

3 -

والسّابقون.

وتبيِّن بتفصيل ما أعدّ الله كل من نعيم مقيم جزاء عملهم الصالح، أو عذاب أليم يناسب كفرهم وعصيانهم وخروجهم عن أوامر ربهم وتكذيبهم بيوم الدين وقولهم:

{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} ؟ {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} (1)؟

وتتحدث السورة بعد ذلك عن بعض آلاء الله ونعمه، وآثار قدرته فيما خلق وأبدع في الزرع والماء والنار، وأن ذلك يستوجب تسبيح الله وتقديسه على نعمه الغامرة، وشكره على آياته الظاهرة الباهرة، وتوضح أنّ من خلق هذا وأوْجَده إليه قادر على البعث، وإعادة الناس إلى الحياة مرة ثانية للحساب والجزاء؛ لأن الإعادة أسهل من البداءة عادة.

وتذكر السورة أن الله - سبحانه - قضى بين الناس بالموت وجعل لموتهم وقتًا معينًا وهو - سبحانه - ليس بعاجز على أن يبدّل صورهم بغيرها وينشئهم خلقًا آخر في صور أخرى لا يعرفونها، وفي السورة قَسَمٌ على مكانة القرآن وعلو شأنه وتقريع للكافرين على قبح صنعهم وعجيب شأنهم، حيث وضعوا التكذيب موضع الشكر، وقابلوا النعمة بالجحود والكفر، وفي آخر السورة إجمالى ما فصلته أولًا عن أحوال الأصناف الثلاثة، وما ينتظر كل صنف من ثواب أو عقاب.

وتختم السورة ببيان أن كل الذي ذكر فيها وجاءت به هو حق اليقين ولذا فسبِّح باسم ربك العظيم.

(1) سورة الواقعة الآيتان: 47 و48.

ص: 1233

بسم الله الرحمن الرحيم

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)}

المفردات:

(وقعت الواقعة): حدثت وقامت القيامة.

{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} : لا تكون نفس مكذبة بوقوعها يوم القيامة.

{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} : خافضة لأقوام رافعة لآخرين والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة.

{رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} : زلزلت وحُركت تحريكًا عظيمًا.

{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} : فُتِّتت تفتيتًا شديدًا أو سيقت وسُيِّرت من بسّ الغنم إذا ساقها.

{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} : فكانت غبارًا منتشرًا متفرقًا.

ص: 1234

التفسير

1 -

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)} :

أي: إذا قامت وحدثت القيامة، فالواقعة من أسماء يوم القيامة كما صرَّح بذلك ابن عباس وسميت بذلك للإيذان بتحقيق وقوعها لا محالة كما قال تعالى:

{فيومئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (1) قال الزمخشرى: وقعت الواقعة هو كقولك: كانت الكائنة وحدثت الحادثة فكأنه قيل: إذا وقعت التي لابدّ من وقوعها، ووقوع الأمر نزوله، يقال: وقع ما كنت أتوقعه أي: نزل ما كنت أترقب نزوله وقال الضحّاك: الواقعة الصيحة وهي النفخة الأخيرة في الصور وجواب إذا تقديره حدث كيت وكيت، وفي إبهامه تهويل وتفخيم لأمر الواقعة.

2 -

{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} :

اعتراض يؤكد تحقيق الوقوع أو حال من (الواقعة) كما قال ابن عطيَّة، أي: لا يكون حين وقوعها نفس كاذبة تنكر وقوعها وتنفيه وتجحده.

وقال ابن كثير: أي: ليس لوقوعها - إذا أراد الله كونها - صارف يصرفها ولا دافع يدفعها، ومعنى كاذبة كما قال محمَّد بن كعب لابدّ أن تكون.

ويجوز أن تكون {كَاذِبَةٌ} مصدرًا بمعنى التكذيب وهو التثبيط أي: ليس لوقعتها ارتداد ولا رجعة كالحملة الصادقة من ذي سطوة قاهرة، وروى نحو ذلك: عن الحسن وقتادة وابن جرير.

3 -

{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} :

أي: هي خافضة رافعة ترفع أقوامًا وهم السّعداء، وتضع آخرين وهم الأشقياء، تخفض أقوامًا إلى أسفل سافلين في الجحيم وإن كانوا في الدنيا أعزاء، وترفع آخرين إلى أعلى

(1) سورة الحاقة الآية: 15.

ص: 1235

علِّيين إلى النعيم المقيم وإن كانوا في الدنيا وضعاء هكذا قال الحسن وقتادة وغيرهما. وقيل: تزلزل الأشياء وتزيلها عن مقارها فتخفض بعضًا وترفع بعضًا حيث تسقط السماء كسفا، وتنتشر الكواكب وتنكدر، وتسير الجبال فتمر في الجو مر السحاب، فالخفض والرفع إما حسى أو معنوي.

4 -

{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} :

أي: إذا زلزلت الأرض واهتزت وحرِّكت تحريكًا شديدًا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء وجبال، وإذا بدل مما قبلها أي: تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبس الجبال.

5 -

{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} :

أي: وفتتت الجبال تفتيتًا دقيقًا أو وسيقت وسيِّرت من بسّ الغنم إذا ساقها فهو كقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} (1).

6 -

{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} :

أي: فصارت الجبال بسبب ذلك البس غبارًا منتشرًا، والمراد: مطلق الغبار عن الأكثرين، وقال ابن عباس: الهباء: هو ما يثور مع شعاع الشمس إذا دخلت من كوَّة، وفي رواية أخرى عنه: أنه الذي يطير من النار إذا اضطرمت.

قال ابن كثير: وهذه الآية كأخواتها دالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، وذهابها وتسييرها ونسفها أي: قلعها.

(1) سورة النبأ الآية: 20.

ص: 1236

{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) في جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)}

المفردات:

{أَزْوَاجًا} : أصنافًا وأنواعًا وعن مجاهد فِرَقًا.

{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} : فأصحاب اليُمْن والبركة، أو ناحية اليمين.

{وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} : وأصحاب الشُّؤم، أو جهة الشّمال.

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} : عن ابن كيسان: هم المسارعون إلى كل ما دعا الله إليه، ورجّحه بعضهم؛ لأنه عام يشمل كل الأنواع.

التفسير

7 -

{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} :

خطاب للأمة الحاضرة والأُمم السالفة كما ذهب إليه الكثير، والمعنى: وصرتم جميعًا في يوم القيامة أصنافًا وأنواعًا وفرقًا ثلاثة، قال الآلوسي: كل صنف يكون مع صنف آخر في الوجود أو الذكر فهو زوج:

قال ابن كثير: ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف:

1 -

قوم عن يمين العرش ويؤتون كتبهم بأيمانهم، ويؤخذ بهم ذات اليمين - قال السدى: هم جمهور أهل الجنة.

ص: 1237

2 -

وآخرين عن يسار العرش ويؤتون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وهم عامة أهل النار.

3 -

وطائفة يُساقون بين يديه عز وجل وهم أخصّ وأحظى وأقرب من أصحاب اليمين، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء.

وهكذا قسّمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وذلك إشارة إلى قوله - تعالى - في آخر السورة {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)} (1) إلخ.

8، 9 - {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}:

شروع في تفصيل للأزواج الثلاثة مع الإثارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها، والدائر على ألسنة المفسرين أن أصحاب الميمنة مبتدأ خبره جملة ما أصحاب الميمنة والرابط الظاهر القائم مقام الضمير في قوله - تعالى -:{مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} وكذا يقال في قوله - تعالى -: {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} .

والأصل في الموضعين ما هم؟ أي. أي شيء هم في حالهم وصفتهم، والمراد تعجيب السامع لشأن الفريقين في الفخامة والفظاعة، كأنه قيل: فأصحاب الميمنة هم في غاية من حسن الحال وما أعظم مكانتهم، وأصحاب المشأمة هم في نهاية سوء الحال وما أسوأ مكانتهم، واختلفوا في الفريقين:

1 -

فقيل أصحاب الميمنة: أصحاب المنزلة السّنية. أصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية.

2 -

وقيل: الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم، والذين يؤتونها بشمالهم.

(1) سورة الواقعة الآيتان: 88 و89.

ص: 1238

3 -

وقيل: الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار.

4 -

وقيل: أصحاب اليمن، وأصحاب الشؤم، فإن السعداء ميامين علي أنفسم بطاعتهم، والأشقياء مشائيم على أنفسهم بمعاصيهم روى هذا عن الحسن والربيع (اهـ. بتصرف آلوسى - وكشاف).

10 -

{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} :

هذا هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة، ولعل تأخير ذكرهم مع أنهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم، واختلف في تعيينهم فقيل.

1 -

هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم، روى ذلك عن عكرمة ومقاتل.

2 -

وقيل: هم من ذكروا في الحديث الذي أورده صاحب "البحر": "سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن السابقين فقال: هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سُئلوه بذلوه، وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم".

3 -

وقيل: هم السابقون إلى الهجرة والصلوات والجهاد، وهم أهل القرآن أوهم

الأنبياء.

4 -

وقيل - كما نقل عن ابن كيسان - هم المسارعون إلى كل ما دعا الله إليه، ورجحه

بعضهم بالعموم.

وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل.

ص: 1239

والشائع أن {السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} مبتدأ وخبر والمعنى: والسابقون هم الذين اشتهرت أحوالهم، وعرفت مكانتهم ومنزلتهم، كقولهم: أنا أبو النجم، وشعرى شعرى، وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى (اهـ. آلوسي بتصرف) ولم يقل: والسابقون ما السابقون على غرار الأولين في قوله - تعالى -: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} . إلخ لأنه جُعِل أمرًا مفروغًا منه مسلّما به مستقلًا بالمدح والتعجب.

11 -

{أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} :

مبتدأ وخبر والجملة استئناف وبيان، أي: أولئك المقربون عند الله، الموصوفون بذلك النعت الجليل الذي استحقوه حُظوة ومكانة عنده، أو الذين قربت إلى العرش العظيم درجاتهم، والإشارة بأولئك إلى السابقين وما فيه من معنى البعد - مع قرب المشار إليه - للإيذان ببعد منزلتهم في الفضل.

12 -

{في جَنَّاتِ النَّعِيمِ} :

أي: كائنين في جنات النعيم وفائدة ذكر {في جَنَّاتِ النَّعِيمِ} بعد ذكر كونهم مقرّبين للإشارة بالأول إلى اللذة الروحية، وبالثاني إلى اللذة الحسية.

ص: 1240

{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوَا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)}

المفردات:

{ثُلَّةٌ} : المشهور أنها الجماعة كثرت أو قلت، وقال الزمخشري: الاستعمال غلب على الكثير فيها.

{الْأَوَّلِينَ} : الأمم الماضية قبل الرسول، أو الأولين من صدر أمة محمَّد.

{الْآخِرِينَ} : أمة محمَّد أو المتأخّرين منهم.

{مَوْضُونَة} : منسوجة بالذهب بإحكام.

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} : يدور عليهم للخدمة.

{بِأَكْوَابٍ} : أقداح لا عُرا لها ولا خراطيم.

{وَأَبَارِيقَ} : أوانٍ لها عُرًا وخراطيم.

{وَكَأْسٍ} : إناء شرب الخمر.

ص: 1241

{مَعِينٍ} : خمر جارية من العيون.

{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي: لا يصيبهم صداع بشربها.

{وَلَا يُنْزِفُونَ} : لا تذهب عقولهم بسببها.

{وَحُورٌ عِينٌ} : ونساء بيض واسعات الأعين حسانها.

{اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} : اللؤلؤ المستور المصون في صدفه مما يغّيره.

{لَغْوَا} : كلامًا لا خير فيه.

{تأْثِيمًا} : حديثًا قبيحًا يأثم قائله.

التفسير

13، 14 - {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ}:

وقد اختلفوا في المراد بـ (الأولين والآخرين) في الآية السابقة فقيل:

1 -

المراد بالأولين الأُمم الماضية، والآخرين هذه الأمة، وهذه رواية عن مجاهد والحسن واختار ابن جرير هذا القول.

قال ابن كثير: وهذا الذي اختاره ابن جرير هو قول ضعيف؛ لأن الأمة المحمدية خير الأمم بنص القرآن، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها، اللهم إلَاّ أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة، [والظاهر أن المقربين من أمة محمَّد أكثر من سائر الأمم] والله أعلم.

فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح وهو أن يكون المراد بقوله - تعالى -: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي: من صدر الأُمة [أمة - محمَّد صلى الله عليه وسلم]{وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} أي: من هذه الأمّة، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو الوليد، حدثنا السرى بن يحيى قال: قرأ الحسن: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ* في جَنَّاتِ النَّعِيمِ* ثُلَّةٌ مِنَ

ص: 1242

{الْأَوَّلِينَ} قال: ثلة ممن مضى من هذه الأمة، وروى عن محمَّد بن سيرين أنه قال في قوله - تعالى -:{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} .

كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأُمة ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها، فيحتمل أن تعم الآية جميع الأمم، كل أُمة بحسبها، ولقد ثبت في الصحاح قوله صلى الله عليه وسلم:(خير القرون قرنى ثم الّذين يلونهم ثم الذين يلونهم).

15، 16 - {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}:

{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} (1) أي: ومستقرّين على سرر منسوجة بالذهب مشبّكة بالجواهر الكريمة من الدر والياقوت بإحكام، وقيل موضونة: أي: متصل بعضها ببعض متقاربة كحلقِ الدِّرع.

{مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} أي: مضجعين على السرر في راحة واستقرار وهدوء وطمأنينة متقابلة وجوههم ليس أحد وراء أحد.

والمراد كما قال مجاهد: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه، وهو وصف لهم بحسن العشرة وكمال الخلق، ورعاية الآداب، وصفاء النفوس وطهارة القلوب.

17، 18 - {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ* بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ}:

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} حال آخر، أو استئناف أي: ويدور حول السابقين المقربين للخدمة ولدان مُخلدون أي: باقون أبدًا على هيئة الولدان وشكلهم وطراوتهم لا يتحوّلون عن ذلك، وإلا فكل أهل الجنة مخلد لا يموت.

(1)(موضونة) من الوضن وهو نسج الدرع، استعير لمطلق النسج، أو لنسج محكم مخصوص ومن ذلك وضين الناقة وهو حزامها؛ لأنه موضون أي: مفتول والمراد هنا على ما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس مرمولة أي: منسوجة بالذهب. (إ. هـ آلوسى).

ص: 1243

وقال الفراء وابن جبير: {مُخَلَّدُونَ} أي: مقرّطون بخلدة وهي ضرب من الأقراط قيل: الولدان: هم أولاد أهل الدنيا الذين ماتوا صغارًا فلم تكن لهم حسنات فيثابوا عليها ولا سيئات فيعاقبوا عليها، روي هذا عن علي - كرم الله وجهه - وعن الحسن. واشتهر أنه عليه الصلاة والسلام قال:(أولاد الكفار خدم أهل الجنة).

{بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} :

{بِأَكْوَابٍ} أي: ويدور عليهم الولدان بآنية لا عرا لها ولا خراطيم، والظاهر أنها الأقداح وبذلك فسّرها عكرمة وهي جمع كوب.

{وَأَبَارِيقَ} : جع إبريق وهو إناء له خرطوم وعروة.

{وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي: وبكأس ملئت خمرًا من عيون جارية كما قال ابن عباس وقتادة، أي: لم يُعصر كخمر الدنيا وقيل: {مَعِينٍ} خمر ظاهر للعين مرئية بها؛ لأنها كذلك أهنأُ وألذُّ.

19 -

{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ} :

{لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} أي: لا يصيبهم بشربها صداع يصرفهم عنها، والمراد: أنه لا يلحق برءوسهم صداع لأجل خِمار يحصل منها كما في خمور الدنيا، أو لا يُفرقون عنها: بمعنى: لا تقطع عنهم لذَّتهم بسبب من الأسباب.

{وَلَا يُنْزِفُونَ} أي: ولا تذهب عقولهم بسكرها من نزف الشارب كعُنِيَ إذا ذهب عقله، فهي لذّة بلا ألم ولا سكر بخلاف شراب الدّنيا والآية الأولى {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} لبيان نفي الضرر عن الأجسام والثانية {وَلَا يُنْزِفُونَ} لبيان نفي الضرر عن العقول.

20، 21 - {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}:

{وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي: ويطوف الولدان عليهم بما يتخيّرون من الفاكهة والثمار أي: يأخذون خيره وأفضله والمراد بما يرضونه ويعجبهم.

ص: 1244

{وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} أي: ولحم طير مما تميل نفوسهم إليه وترغب فيه.

والظّاهر أن الآية تشير إلى أن الولدان يطوفون بهما عليهم في الجنة، مع أنّه جاء في الآثار والأحاديث أن فاكهة الجنة وثمارها ينالها القائم والقاعد والنائم، وأن الرجل من أهل الجنّة يشتهى الطير فيقع في يديه نضجا، وإنّما كان طواف الولدان عليهم للإكرام ولمزيد المحبّة والتّعظيم والاحترام وهذا كما يناول أحد الجالسين على مائدة جليسا معه بعض ما عليها من الفاكهة ونحوها، إن كان ذلك قريبًا منه اعتناء بشأنه وإظهارا لمحبته والاحتفاء به، وتقديم الفاكهة على اللحم للإشارة إلى أنهم ليسوا بحال تقتضى تقديم اللحم كما في الجائع، فإن حاجته إلى اللحم أشّد من حاجته إلى الفاكهة، بل هم في حالة تقتضى تقديم الفاكهة واختيارها كما في الشّبعان فإنه إلى الفاكهة أميل منه إلى اللحم.

قال ابن كثير في تفسير قوله - تعالى -: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} هذه الآلة دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخيّر والانتقاء لها.

23،22، 24 - {وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ*جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}:

{وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي: ولهم في الجنَّة نساء بيض واسعات العيون حسانها كأمثال اللؤلؤ المكنون، أي: المصون في صدفه، وقيّد بالمكنون أي: المستور بما يحفظه؛ لأنه أصفى وأبعد عن التغيّر.

{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} : أي يُغطون هذا الجزاء العظيم وينالون هذا الثواب الجزيل بسبب ما كانوا يعملون من الصالحات في الدنيا.

25، 26 - {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا* إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}:

أي: لا يسمعون في الجنة {لَغْوًا} وهو ما لا نفع فيه من الكلام أو هو القبيح منه، {وَلَا تَأْثِيمًا} أي: لا يسمعون حديثًا ينسب إلي الإثم قائله أو سامعه أن رضي به.

ص: 1245

{إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا} أي: إلَاّ أن يقول بعضهم لبعض: سلامًا سلامًا أي: نسلم سلامًا قال تعالى - تعالى -: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} (1) قال ابن عباس: أي يحيّي بعضهم بعضًا بالسّلام، وقيل: تحييهم الملائكة أو يحيّيهم ربهم عز وجل.

والتكرير للدلالة على ذيوع السّلام وكثرته؛ لأن المراد سلام بعد سلام.

والكلام من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم.

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}

{سِدْرٍ} : السدر: شجر النبق.

{مَخْضُودٍ} : قُطِع شوكه أو مثقل بالثمر.

{وَطَلْحٍ} : الطلح: شجر الموز روى ذلك عن علي وغيره.

{مَنْضُودٍ} : في الصحاح: المنضود: المرصوص بعضه فوق بعض.

(1) سورة إبراهيم من الآية: 23.

ص: 1246

{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} : وظل دائم ممتد منبسط لا يتقلص ولا يتفاوت.

{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} : وماء مصبوب في غير أخدود لا ينقطع عنهم.

{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} : المراد بالفُرُش: ما يفرش للجلوس عليه، و {مَرْفُوعَةٍ} مرتفعة القدر أو مرفوعة على الأسرَّة، وقيل: المراد بالفرش: النساءُ، ومرفوعة في المنزلة أو على الأرائك، فالرفع حسى أو معنويّ.

{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} أي: ابتدأنا خلقهن ابتداءً جديدًا من غير ولادة.

{عُرُبًا} : متحببات إلى أزواجهن جمع عَروب كصبور وهي حسنة التودد لزوجها.

{أتْرَابًا} : متساويات في السّن أو الأخلاق.

{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} : جماعة كثيرة من سابقي هذه الأمّة.

{وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} : وجماعة كثيرة من متأخريها.

التفسير

27 -

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} :

لما ذكر الله - تعالى - مآل السابقين وهم المقربون، عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم الأبرار كما قال ميمون بن مهران: أصحاب اليمين منزلتهم دون السابقين المقربين فقال:

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} أي: أيّ شيء أصحاب اليمين، وما حالهم، وكيف مآلهم؟ والجملة استئنافيّة مشعرة بالتفخيم والتعجيب من حالهم.

والمعنى: وأصحاب اليمين لا يعلم أحد ما جزاءُ وثواب أصحاب اليمين، إنه شيء عظيمٌ ثم فسر ذلك وفصَّله فقال:

28 -

{فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} :

أي: وأصحاب اليمين في سدر مخضود يتنعمون، عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد - السدر المخضود: النَّبق الذي لا شوك له، وعنهم - أيضًا - هو الموّقر والمثقل بالثمر علي أنه

ص: 1247

من خَضَد الغصن إذا ثناه وهو رطب فمخضود مثنِيّ الأغصان كنى به عن كثرة الثمر. ويدل على أن المخضود هو الذي خُضد أي: قطع شوكه ما أخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إن الله - تعالى - ينفعنا بالأعراب وسائلهم.

أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية وما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذى صاحبها. قال: وما هي؟ قال: السِّدر فإن له شوكًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس الله يقول: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} ؟ خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة وإن الثمرة من ثمره تفتق عن اثنين وسبعين ولونًا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر.

وقال أبو العالية والضّحاك: نظر المؤمنون إلى وَجّ (وهو واد بالطائف مخصب وفي اللسان وجّ موضع بالبادية) فأعجبهم سدره فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا. قال الآلوسي والظرفية في قوله - تعالى -: {فِي سِدْرٍ} : مجازية للمبالغة في تمكنهم من النعم والانتفاع بما ذكر.

29 -

{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} :

أي: وشجر موز قد نضَّد حمله من أسفله إلى أعلاه أي: متراكب قد رُصّ بعضه فوق بعض ليست له ساق بارزة، روى ذلك عن عليّ وأخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس، وأبي هريرة وأبى سعيد الخدريّ.

30 -

{وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} :

أي: وهم كائنون في ظل ممدود أي: دائم ممتد منبسط لا يتقلص، ولا يتفاوت ولا يذهب كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس، وظاهر الآثار أنه ظل الأشجار. أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذى وابن مردويه عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في الجنة شجرة يسير الراكب في ظِلِّها مائة عام لا يقطعها وذلك الظل الممدود".

ص: 1248

31 -

{وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ}

أي: وماء منصب حيث شاءوا لا يحتاجون فيه إلى آنية أو رشاء. قال القرطبي: أصل السكب الصب أي: وماءٌ مصبوب يجرى الليل والنّهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم، وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة، لا يصلون إلى الماء إلَاّ بالدلو والرَّشاء، فوعدوا في الجنة خلاف ذلك ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدانيا، وهي الأشجار وظلالها والمياه والأنهار واطِّرادها.

وقيل: كأنَّه لما شبَّه حال السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر تطوف عليهم خُدَّامهم بأنواع الملاذ، شبَّه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتصوَّر لأهل البوادى من نزولهم في أماكن خصبة فيها مياه وأشجار وظلال إيذانًا بأن التَّفاوت بين الفريقين كالتفاوت بين أهل المدن والبوادى [أهـ. آلوسى بتصرف].

32، 33 - {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ}:

أي: فاكهة كثيرة الأنواع والأصناف ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم، لا مقطوعة في أي وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشتاء، {وَلَا مَمْنُوعَةٍ} أي: ولا يمنع من أرادها بشوك ولا بُعد ولا حائط، بل إذا اشتهاها العبد دَنَتْ منه حتى يأخذها قال - تعالى -:{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} (1)، وقيل: ليست مقطوعة بالأزمان ولا ممنوعة بالأثمان.

34 -

{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} :

أي: وفرش مرفوعة نُضِّرت وفرشت حتى ارتفعت، أو مرفوعة على الأسرة، فالرفع حسي كما هو الظاهر، وقال بعضهم: رفيعة القدر، على أن رفعها معنوى بمعنى شرفها، وأيًّا ما كان فالمراد بالفُرش على هذا: ما يفرش للجلوس والنوم عليه.

(1) سورة الإنسان الآية: 14.

ص: 1249

وقال أبو عبيدة: المراد بالفرش: النِّساء؛ لأن المرأة يكنى عنها بالفراش كما يكنى عنها باللباس ورفعهنَّ في الأقدار والمنزلة، وقيل: على الأرائك، وأيّد إرادة النساء بقوله - تعالى -:{إنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} ؛ لأن الضمير في الأغلب يرجع على مذكور متقدم وليس إلَاّ الفرش، وعلى التفسير الأول أُضمر لهن؛ لأن ذكر الفُرُش وهي المضاجع دل عليهن.

35، 36، 37، 38 - {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ}:

{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} :

المراد بأَنْشَأْنَاهُنَّ: أعَدْنا إنشاءهنّ من غير ولادة؛ لأن المخبر عنهن بذلك نساء كن في الدنيا، فقد أخرج ابن جرير والترمذي وآخرون عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المنشآت اللاتي كنّ في الدنيا عجائز عُمْشًا رُمْصًا" وأتت عجوز فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلنى الجنة فقال: يا أم فلان، إن الجنة لا تدخلها عجوز، فولت تبكى فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز إن الله - تعالى - يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} الآية.

وقال أبو حيان: الظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بِخَلْق ويكون ذلك مخصوصًا بالحور العين، فالمعنى: إنا ابتدأناهن ابتداء جديدًا من غير ولادة ولا خلق أوّل، ومما تقدم يتبين أن المراد بقوله - تعالى -:{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} اللاتى أُعيد إنشاؤهن وهن نساء الدنيا أو اللاتى ابتدئ إنشاؤهن وهن الحور العين.

{فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} :

تفسير لما تقدم أي: فصيرناهنّ أبكارًا أو فخلقناهنّ أبكارًا.

{عُرُبًا أَتْرَابًا} :

{عُرُبًا} : متحببات عاشقات لأزواجهنّ، واشتقاقه من أعْرب إذا بين فالعَرُوب تُعرب وتُبِين عن محبتها لزوجها بتكسر ودلّ وحسن كلام.

ص: 1250

{أَتْرَابًا} : مستويات في سن واحدة، كأنهن شبّهن في التساوى بالترائب التي هي ضلوع الصدر وهن أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين، وكذا أزواجهن، يقال في النساء: أتراب، وفي الرجال: أقران، وكانت العرب تميل إلى من تجاوزت حد الصبا من النساء، وانمطَّت عن الكِبَر، أخرج الترمذيّ عن معاذ مرفوعًا:"يدخل أهل الجنة الجنة جُرْدًا مُرْدًا مكحلين أبناء ثلاثين أو ثلاث وثلاثين" والمراد بذلك تمام الشباب وكماله.

وقيل: أتراب أي: مستويات في حسن الخلق وكريم الطباع، لا تباغض بينهن ولا تحاسد يألفن ويؤلفن.

{لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} :

متعلق بأنشانا أو بجعلنا أي: إنَّا أنشاناهن إنشاء لأصحاب اليمين، أو فجعلناهن أبكارًا عُربًا أترابًا لأصحاب اليمين.

والمعنى: هن مهيئات ومعدات لنعيم وتمتُّع أصحاب اليمين، وقيل: الحور العين للسابقين والأتراب العرب لأصحاب اليمين (ذكره القرطبي).

39، 40 - {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}:

عاد ورجع الكلام إلي قوله - تعالى -: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} .

أي: هم جماعة كثيرة من الأولين وجماعة كثيرة من الآخرين والمراد بهما: المتقدمون والمتأخرون إمّا من الأمم السابقة وهذه الأمة، أو من هذه الأمة فقط على ما سمعت فيما تقدم.

ولم يقل - سبحانه - في حق أصحاب اليمين - جزاء بما كانوا يعملون كما قاله - سبحانه - في حق السابقين إشارة إلى أن ما أُعطوه من جزاء كان بمحض فضل الله.

ثم الظاهر أن ما ذكر من حال أصحاب اليمين هو حالهم الذي ينتهون إليه، فلا ينافى أن يكون منهم من يعذَّب لمعاصٍ فعلها ومات غير تائب عنها، ثم يدخل الجنة ولا يمكن أن يُقال: إن المؤمن العاصى من أصحاب الشمال؛ لأّنّ صريح أوصافهم الآتية يقتضي أنهم كانوا كافرين. (اهـ. آلوسي).

ص: 1251

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}

المفردات:

{سَمُومٍ} قال الراغب: الرِّيح الحارة التي توثِّر تأثير السّم، والمراد هنا: النار ولفحها.

{وَحَمِيمٍ} : وماءٍ شديد الحرارة.

{يَحْمُومٍ} : دخان حار شديد السواد.

{لَا بَارِدٍ} : ليس باردًا حتى يخفف حرارة الجوّ.

{وَلَا كَرِيمٍ} : وليس كريمًا يعود عليهم بالنفع، بل هو حارٌّ ضارّ.

{مُتْرَفِينَ} : منعمين متبعين هوى أنفسهم.

ص: 1252

{الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} (1): الذنب الكبير كالشرك ونحوه.

{مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} : هو يوم القيامة.

{زَقُّومٍ} : شجر في النار كريه المنظر والطعم والرائحة.

{الْحَمِيمِ} : الماء الذي اشتدّ غليانه وقال القرطبيّ: هو صديد أهل النّار.

{الْهِيمِ} : الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، وقال ابن كيسان وابن عباس: الأرض ذات الرمال التي لا تروى من الماء لتخلخلها.

{نُزُلُهُمْ} : ما يقدم للنازل إذا حضر.

{يَوْمَ الدِّين} : يوم الجزاء وهو يوم القيامة.

التفسير

41 -

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} :

لما ذكر سبحانه وتعالى أصحاب اليمين وما أعد لهم من النعيم المقيم كرامة لهم عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} أي: وأصحاب الشمال لا يدرى ما هم فيه من العذاب والأهوال وسمَّاهم أصحاب الشمال؛ لأنهم - يأخذون كتبهم بشمالهم أو لأنهم يكونون في جهة الشمال.

42، 43، 44 - {فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ}:

42 -

{فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ} :

في هذه الآية وما بعدها بيَّن الله سبحانه وتعالى ما ينال أصحاب الشمال من عذاب وما يُصيبهم من نكال وعقاب فذكر أنهم {فِي سَمُومٍ} أي: ريح حارة تؤثِّر تأثير السّم وتنفذ في المسام وتحيط بهم من كل جانب، {وَحَمِيمٍ} أي: ماءُ حار قد انتهى حره وبلغ

(1) ومنه بلغ الغلام الحنث - أي الحلم ووقت المؤاخذة بالذنب - وحنث في يمينه خلاف بَرَّ فيها وتحنث إذا تأثم.

ص: 1253

الغاية، إذا أحرقت النار أجسامهم فَزِعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفيء به الحر فيجده حميمًا حارًّا في نهاية الحرارة والغليان، وقد مضى في سورة محمَّد قوله - تعالى -:{وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} (1).

43 -

{وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} :

أي: يفزعون من السموم إلى الظل كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلًّا من {يَحْمُومٍ} (2) أي: من دخان شديد السواد والحرارة.

وتسمية هذا ظلًا على التشبيه التهكمى، وعن ابن عباس اليحموم - سرادق النار المحيط بأهلها يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم، وقال ابن زيد: جبل أسود من النار يفزع أهل النار إلى ذراه فيجدونه أشد شيء.

44 -

{لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} :

صفتان للظّل: أي: ظل لا بارد ليخفِّف حرارة الجو كسائر الظلال ولا كريم أي: ولا نافع لمن يأوى إليه، ونفى ذلك ليزيل توهم ما في الظِّل من الاسترواح إليه.

والمعنى: أنَّه ظل حار ضار ومن ذلك النفى جاء التهكم والتعريض بأنّ الذي يستأهل الظّل الذي فيه بردٌ وإكرام غير هؤلاء فيكون أشجى لحلوقهم وأشد لتحسرهم. (آلوسى - وكشاف).

45 -

{إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} :

تعليل لابتلائهم بما ذكر من أصناف العذاب وألوان العقاب. أي: وإنما استحقوا هذه العقوبة؛ لأنهم كانوا في الدنيا مترفين، والمترف هنا بقرينة المقام هو المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع.

(1) سورة محمَّد الآية: 15.

(2)

اليحموم في اللغة الشديد السواد وهو يفعول من لحم وهو الشحم المسود باحتراق النار، وقيل: مأخوذ من الحمم وهو الفحم (قرطبى).

ص: 1254

والمعنى: أنهم عذبوا؛ لأنهم كانوا في الدنيا قبل ذلك أي: قبل ما ذُكِر من العذاب متبعين هوى أنفسهم وليس لهم رادع منها يردعهم عن مخالفة أوامره وارتكاب نواهيه - سبحانه عز وجل، رقيل: المترف هو الذي أدرفته النعمة أي: أبطرته وأطغته.

46 -

{وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} :

أي: وكانوا يصمِّمون بل ويقيمون ويداومون على الذنب العظيم والكبائر كالشرك، وقيل: الحنث اليمين الغموس، وظاهره الإطلاق ليعم كل ذلك، وما ذكر تمثيل له، وقال التاج السبكى في طبقاته: سألت الشيخ - يعنى والده تقي الدّين -: ما الحنث العظيم؟ فقال: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله - تعالى -: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} (1) وهو تفسير حسن؛ لأن الحنث وإن فُسِّر بالذنب مطلقًا أو العظيم منه فالمشهور استعماله في عدم البر بالقسم، وتُعُقِّب هذا بأنه يترتب عليه التكرار في قوله - تعالى -: {وَقَالُوا أَإِذَا متْنًا

} الآية.

وأجيب بأنه لا تكرار؛ لأن المراد بالأول في قوله تعالى: {وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} وصفهم بالثبات على القسم الكاذب وبالثاني في قوله - تعالى -:

{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا} إلخ - وصفهم بالاستمرار على الإنكار على أنه لا محذور في تكرار ما يدل على إنكارهم البعث.

47 -

{وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} :

أي: وكانوا يقولون منكرين للإعادة مكذبين بالبعث مستبعدين لحصوله: أئذا متنا وكان بعض أجزائنا ترابًا وبعضها عظامًا نخرة أئنا لعائدون إلى الحياة مرة أخرى ونبعث، إن هذا لمستبعد وقوعه ولا يمكن حصوله وحدوثه، وتقديم التراب؛ لأنه أبعد عن الحياة التي يقتضيها ما هم بصدد إنكاره من البعث.

(1) سورة النحل من الآية: 38.

ص: 1255

48 -

{أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} :

عطف على محل إن واسمها أو على الضمير المستتر في (مبعوثون) والمعنى: أو يبعث - أيضًا - آباؤنا الأقدمون الذين صاروا ترابًا متفرقًا في الأرض - يقولون ذلك زيادة في الاستبعاد لحصول البعث يعنون أن آبائهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل.

49، 50 - {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ* لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}:

أي: قل لهم يا محمد: ردًّا لإنكارهم وتحقيقا للحق: إن الأولين والآخرين من الأمم ومن جملتهم أنتم وآباؤكم لمجموعون بعد البعث إلى ميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة، ومعنى كونه معلومًا: أنه معيّن عند الله، والميقات: ما وُقِّت به الشيء أي: حُدّ ومنه مواقيت الإحرام وهي الحدود التي لا يتجاوزها من يريد دخول مكة إلا مُحْرما والمعنى: لمجموعون منتهين إلى ذلك اليوم.

وتقديم الأولين في قوله: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ} للمبالغة في الرد حيث كان إنكارهم لبعث آبائهم أشدّ من إنكارهم لبعثهم مع مراعاة الترتيب الوجودى.

51، 53،52 - {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ*لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ* فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ}:

{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ} عطف على {إِنَّ الْأَوَّلِينَ} داخل في حيز القول. وثم للتراخى الزمانى. أي: قل لهم: ثم إنكم أيها الكافرون الضالون عن الهدى المكذبون بالبعث أو بما يعمه وغيره، والخطاب لأهل مكة وأمثالهم {لَآكِلُونَ} بعد دخول جهنم من شجر هو الزقوم وهو شجر في جهنَّم قبيح المنظر كريه الطعم والرائحة فمالئون من هذا الشجر بطونكم من شدة الجوع الذي اضطركم وقسركم على أكل مثلها مما لا يؤكل وتعافه النفوس.

54، 55 - {فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}:

أي: فشاربون عقيب ذلك بلا ريْث على ما تأكلون من هذا الشجر من الحميم وهو الماء الذي اشتد غليانه - وقيل صديد أهل النار - أي: يورثهم حر ما يأكلون من الزقوم مع

ص: 1256

الجوع الشديد عطشًا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش ويذهب الظمأ فيجدونه شديد الحرارة.

{فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} (1):

أي: فشاربون بكثرة كشرب الإبل العطاش أو المريضة التي لا تروى بشرب الماء فلا يكون شربكم شربًا معتادًا بل يكون مثل شرب الهيم.

قال الزمخشرى: والمعنى أنه يسلط عليهم من الجوع ما يفطرهم إلى أكل الزقوم فإذا أكلوا وملأوا منه البطون سلط عليهم من العطش ما يضطرهم إلى شرب الحميم الذي يقطع أمعاءهم فيشربونه شرب الهيم.

وقيل {الْهِيمِ} : الرِّمال التي لا تروى من الماء لتخلخلها، ومفرده هَيَام بفتح الهاء.

56 -

{هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} :

أي: هذا الذي ذكر من ألوان العذاب الذي تقشعر منه النُّفوس وتذوب من هوله لفائف القلوب هذا الذي ذكر نزلهم يوم الدين أي: يوم الجزاء وهو يوم القيامة، فإذا كان ذلك نزلهم وهو ما يقدَّم للنازل مما حضر فما ظنك بما ينالهم بعد دخولهم النار، وفي جعله ألوان العذاب وأنواعه السابقة نزلًا أي: مما يكرم به النازل فيه من التهكم ما لا يخفى، ونظير ذلك قول الشاعر:

وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا .... جعلنا القنا والمرهفات له نُزُلا

قال ابن كثير في قوله - تعالى -: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي: هذا الذي وصفنا - يقصد من ألوان العذاب السابق ذكره في الآيات السابقة - هو ضيافتهم المعدة الدائمة عند ربهم يوم حسابهم كما قال - تعالى - في حق المؤمنين:

(1) قال ابن عباس وغيره: الهيم: جمع أهيم وهو الجمل الذي أصابه الهيام وهو داء يشبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب حتى تموت أو تسقم سقمًا شديدًا يقال: إبل هيماء وناقة هيماء، كما يقال: جمل أهيم: آلوسى.

ص: 1257

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} (1).

أي: ضيافة وكرامة.

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)}

المفردات:

{أَفَرَأَيْتُمْ} : أخبروني.

{مَا تُمْنُونَ} : ما تقذفونه وتصبّونه في أرحام النساء من المنيّ.

{قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} : قضينا به بينكم، وكتبناه عليكم.

{مَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} : وما نحن بعاجزين ولا مغلوبين.

{عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} : على أن نبدل صوركم بغيرها ونغيِّر خلقكم.

{وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} أي: نخلقكم في خلق وصور لا تعرفونها أو ننشئكم في البعث ونخلقكم على غير صوركم في الدنيا.

{النَّشْأَةَ الْأُولَى} : خلقكم من نطفة ثم من علقة إلخ، أو خَلْق آدم ونشأته من تراب.

(1) سورة الكهف الآية: 107.

ص: 1258

التفسير

57 -

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} :

يقول الله - تعالي - مقررًا للمعاد ورادًّا على المكذّبين من أهل الزيغ والإلحاد الذين قالوا: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} يقول - تعالى - رادًّا عليهم -:

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} أي: نحن ابتدأنا خلقكم من العدم بعد أن لم تكونوا شيئًا مذكورًا أليس الذي قدر على البداءة بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأخرى ولذا قال: {فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} أي: فهلَّا تصدقون بالبعث - تحريض لهم وتحضيض على الإيمان به. وقال الزمخشريّ: {فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} تحضيض على التّصديق إمّا بالخّلق، لأنهم وإن كانوا مصدّقين به بدليل قوله - تعالى -:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} (1) إلَاّ أنهم لما كان مذهبهم وسلوكهم في الحياة خلاف ما يقتضيه التصديق فكأنهم مكذبون به، وإما تحضيض على التصديق بالبعث؛ لأن من خلق أوّلا لا يمتنع عليه أن يخلق ثانيًا، واختار الآلوسي الرأى الأول.

58، 59 - {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ}:

أي: أخبرونى ما تقذفونه في أرحام النساء من المني أأنتم تقدّرونه وتتعهدونه في أطواره المختلفة وتصورونه بشرًا سويًّا تام الخلقة أم نحن المقدرون المصورون، قال القرطبي: وهذا احتجاج عليهم أي: إذا أقررتم بأنَّا خالقوه لا غيرنا فاعترفوا بالبعث.

60، 61 - {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}:

{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} أي: نحن قضينا به بينكم وكتبناه عليكم وقسمناه ووقتنا موت كل أحد بوقت معيّن حسبما تقتضيه مشيئتنا وما نحن بمسبوقين ولا عاجزين ولا مغلوبين {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} أي: على أن نذهبكم ونأتى

(1) سورة العنكبوت من الآية: 61.

ص: 1259

مكانكم أشباهكم من الخلق {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} من الخلق والصور والأطوار التي لا تعرفونها ولا تعهدونها والمراد: ونحن قادرون على ذلك أيضًا.

قال الزمخشري: المعنى إنّا لقادرون على الأمرين معًا، على خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم فكيف نعجز عن إعادتكم، وقال القرطبي: المعنى: وننشئكم في البعث علي غير صوركم في الدنيا فيُجَمّل المؤمن ببياض وجهه، ويقبّح الكافر بسواد وجهه مثلا - قاله سعيد بن جبير.

62 -

{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} :

أي: ولقد أيقنتم أن الله - سبحانه - أنشأكم النشأة الأولى من خلقكم من نطفة ثم من علقة ثم مضغة إلخ - وقال قتادة: وهي خلق آدم من التراب فهلّا تتذكرون أنّ من قدر عليها فهو على النشأة الأُخرى أقوى وأقدر. وفي الخبر: (عجبا كل العحب للمكذب بالنّشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجبا للمصدِّق بالنشاة الآخرة وهو لا يسعى لدار القرار" اهـ. آلوسي وقرطبى بتصرف.

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)}

المفردات:

{مَا تَحْرُثُونَ} : ما تبذرون حبه وتعملون في أرضه.

{تَزْرَعُونَهُ} : تنبتونه وتروونه نباتًا يرفَّ.

{حُطَامًا} : هشميًا متكسِّرًا قبل أن يبلغ نضجه.

ص: 1260

{تَفَكَّهُونَ} : تتعجبون من سوه حاله وتندمون.

{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} : لمعذبون بهلاك أموالنا.

{نَحْنُ مَحْرُومُونَ} : لا حظ لنا أو محرومون الرزق بالكلية.

التفسير

63، 64 {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}:

هذه حجّة أخرى ودليل علي البعث، أي: أخبروني عما تحرثون من أرضكم فتطرحون فيها البذر أأنتم تنبتونه وتحصِّلونه زرعًا فيكون فيه السنبل والحبّ أم نحن نفعل ذلك، وإنما منكم البذر وشقّ الأرض؟ فهذا أقررتم بأن إخراج السنبل من الحب الذي بُذر ليس إليكم فكيف تنكرون إخراج الأموات من الأرض وبعثهم؟ وأضاف الحرث إليهم والزرع إليه - تعالى - لأنّ الحرث فِعلُهم ويجرى على اختيارهم. والزرع من فعل الله وينبت علي اختياره لا على اختيارهم - روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يقولنّ أحدُكم زرعت وليقل حرثتُ فإن الزارع هو الله"(1).

قال أبو هريرة: ألم تسمعوا قول الله - تعالى - {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} .

قال الماورديّ: وتتضمن هذه الآية أمرين: أحدهما: الامتنان عليهم بأنه أنبت زرعهم حتي عاشوا به ليشكروه على نعمته عليهم - الثاني: البرهان الموجب للاعتبار؛ لأنه لما أنبت زرعهم بعد تلاشى بذره وانتقاله إلى استواء حاله من العفن والتتريب حتى صار زرعا أخضر ثم جعله قويًّا مشتدا أضعاف ما كان عليه، فهو بإعادة من أمات أقوى عليه وأقدر.

وفي هذا البرهان مقنع لذوى الفطر السليمة.

67،66،65 - {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ* إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}:

(1) انظر سنن البيهقي ج 6 ص 138 باب ما يستحب من حفظ المنطق في الزرع.

ص: 1261

{لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} أي: نحن أنبتنا ما تحرثون بلطفنا ورحمتنا وأبقيناه لكم رحمة بكم. {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} أي: هشيمًا متكسرًا متفتتا لشدة يبسه من بعد ما أنبتناه قبل استوائه واستحصاده فظللتم بسبب ذلك {تَفَكَّهُونَ} أي: تتعجّبون من سوء حاله إثر مشاهدتكم له على أحسن حال - روى ذلك عن ابن عباس - وقال الحسن: تندمون على ما تعبتم فيه وأنفقتم عليه من غير حصول نفع ودليله قوله - تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} (1) أو تندمون على ما اقترفتم لأجله من المعاصي، وقال عكرمة: تتلاومون على ما فعلتم - وأصل التفكّه: التَّنقل بصنوف الفاكهة، استعير للتّنقل بألوان الحديث، وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع وقد كنى به في الآية عن التعجب أو الندم أو التلاوم كما سبق.

{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي: لظلتم تفكهون في المقالة وتنوعون كلامكم فيها فتقولون تارة إنا لمغرمون أي معذبون أو مهلكون بهلاك رزقنا من الغرام وهو الهلاك، أو لملزمون الغرم بعد جهدنا فيه.

{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} ويقولون تارة أخرى: بل نحن محرومون. أي: سيئو الحظ محدودون لا مجدودون، أو محرومون من الرزق بالكلية، كأنهم لما قالوا: إنا لمعذبون لملزمون الغرم بعد بذل الجهد أضربوا عن ذلك وقالوا: بل هذا أمر قدر علينا لنحس طالعنا وعدم حظنا، أو بل نحن محرومون الرزق بالكلية. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بأرض الأنصار فقال:"ما يمنعكم من الحرث؟ " قالوا: الجدوبة، فقال: لا تفعلوا فإن الله - تعالى - يقول: أنا الزّارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر ثم تلا {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ* أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (2).

(1) سورة الكهف من الآية: 42.

(2)

انظر تفسير القرطبي ج 17 ص220 تفسير قوله - تعالى -: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} فقد ورد الحديث بلفظه.

ص: 1262

أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}

المفردات:

{الْمُزْنِ} : السّحاب واحدته مُزْنة، وقيل: الأبيض منه خاصة وهو أعذب ماء.

{أُجَاجًا} : مِلْحا زُعاقا مُرًّا لا يصلح لشرب ولا لزرع.

{تُورُونَ} : توقدون وتقدحون الزناد لاستخراجها.

{أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} : أأنتم أنبتم شجرتها التي منها الزناد.

{تَذْكِرَةً} : تذكيرا لنار جهنم عند رؤيتها.

{وَمَتَاعًا} : ومنفعة.

{لِلْمُقْوِينَ} : للذين ينْزلون القواء وهي القفر أو للمسافرين، والمراد المستمتعون بالنار والمحتاجون إليها.

التفسير

68، 69، 70 - {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ* لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ}

ص: 1263

{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} أفرأيتم الماء العذب الذي تشربون منه لتحيوا به أنفسكم وتسكنوا به عطشكم، أأنتم أنزلتموه من السّحاب أم نحن المنزلون له بقدرتنا، فإذا عرفتم بأنا ننزله فلم لا تشكروننى بإخلاص العبادة لي؟ ولم تنكرون قدرتى علي الإعادة؟ وتخصيص الماء بهذا الوصف {الَّذِي تَشْرَبُونَ} مع كثرة منافعه؛ لأن الشرب أهم المقاصد المنوطة به، وإنزال الأمطار يتطلب أحوالا جوية خاصة لا يمكن أن يسيطر عليها الإنسان سيطرة كاملة أو يوفِّرها صناعيا توفيرًا تاما بسهولة مثل هبوب تيار بارد فوق آخر ساخن ولقد حاول الإنسان استمطار السحب العابرة صناعيا، إلا أن هذه المحاولات لا تزال مجرد تجارب على أن الثابت علميا أن نجاح بعض هذه التجارب تمّ على نطاق ضيِّق جدًّا مع وجوب توافر بعض الظروف الملائمة. اهـ.

{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} أي: لو نشاء صيرناه أُجاجًا أي مِلْحا زعاقا لا يستساغ لا يمكن شربه من الأجيج وهو تلهب النار، وقيل الأُجاج: كل ما يلذع الفم ولا يمكن شربه فيشمل الملح والمر والحار.

{فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} حث وتحضيض علي شكر جميع النعم لأنه أفيد وأشمل، دون عذوبة الماء فقط، نعم ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا شرب الماء قال:"الحمد لله الذي سقانا عذبا فراتًا برحمته ولم يجعله ملحا أجاجا بذنوبنا" قال ابن الأثير: إن اللام في "لجعلناه" أُدخلت في المطعوم دون المشروب؛ لأنَّ جعل الماء العذب ملحا أسهل إمكانا في العرف والعادة، وأما المطعوم فإن جعله حطامًا من الأشياء الخارجة عن المعتاد، إذا وقع يكون عن سخط شديد اهـ. بتصرف.

71، 72 - {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ* أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ}:

{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} : أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح - من الشجر الرطب - أأنتم أنشأتم تلك الشجرة وأودعتم فيها النّار أم نحن المنشئون الخالقون؟ فإذا عرفتم قدرتي فاشكرونى ولا تنكروا قدرتي علي البعث.

ص: 1264

73 -

{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} :

{نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} استئناف معين لمنافع النار مبين لفوائدها أي: نحن جعلنا النار تذكيرًا لنار جهنم حيث علّقنا بها أسباب معاشهم لينظروا إليها ويذكروا بها ما أوعدوا به وهددوا، أو جعلناها تذكرة وأنموذجا من جهنم لما في الصّحيحين وغيرهما عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ناركم هذه التي توقدون جزءا من سبعين جزءًا من نار جهنم" وقيل: تبصرة في أمر البعث؛ لأن من أخرج النار من الشجر الأخضر المضاد لها قادر على إعادة ما تفرقت مواده {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} ومنفعة لهم، والمقوون الّذين ينزلون القواء وهي القفر وتخصيص المقوين بذلك؛ لأنهم أحوج إليها فإن المقيمين ليسوا بمضطرين إلى الاقتداح بالزِّناد، وقيل {لِلْمُقْوِينَ} أي: المسافرين أو الفقراء والجائعين ولعل الأقرب أن المراد بالإقواء: الاحتياج فإن المنتفع بالنار محتاج إليها.

74 -

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} :

هذا القول مرتّب علي ما عدّد من بدائع صنعه وروائع نعمه، والمراد فَدُم على التسبيح واستمر عليه بذكر اسم ربك العظيم؛ لأنه عليه السلام غير معرض عن ربه، وتعقيب الأمر بالتسببح بعد ما عدد وذكر من النعم إما أولًا: لتنزيهه سبحانه عما يقوله الجاحدون لوحدانيته عز وجل، الكافرون بنعمه مع عظمها وكثرتها، أو ثانيًا للشكر على تلك النعم السابقة التي عدَّها ونبه عليها، أو ثالثًا للتعجب من أمرهم في غمط آلائه وآياته الظاهرة، ويحتمل الكلام عموم الخطاب كل من يتأتى خطابه

ص: 1265

* {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)}

المفردات:

{بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} : بمساقطها ومغاربها، وقيل غير ذلك، وسيأتي في التفسير.

{مَكْنُونٍ} : مصون ومحفوظ.

التفسير

75 -

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} :

لما ذكر الله - سبحانه - في الآيات السابقة جزاء كل من السابقين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال، وما يلقونه من نعيم تتفاوت درجاته وتتباين منازله حسب مقام كل من الطائعين، وما يناله ويعانيه أهل الشقاء وأصحاب الشمال من عذاب مقيم فيه شدة عليهم وإيلام بهم جزاء ما كانوا يعملون في الدنيا من كفر وعصيان ونكران ليوم يبعث الله فيه عباده للحساب، لما ذكر ذلك جاء قوله - تعالى -:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} وما بعده من الآيات للتأكيد على أن القرآن الكريم الذي ذكرت فيه تلك الأمور هو من عند الله - جل شأنه - وفي قوله - تعالى -: {فَلَا أُقْسِمُ} حلف وقسم بناء على أن (لا) جاءت في النظم الكريم لتأكيد القسم وتقويته، نظير ذلك قوله - تعالى -:{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (1) أي: ليعلم أهل الكتاب، ويتلاقى مع هذا الرأى قراءة الحسن {فَلأُقْسِمُ} نقول: هذا ما يقتضيه سياق الآيات وما عليه جمهور المفسرين، وذهب بعضهم إلى أن (لَا) نفى وردّ

(1) سورة الحديد من الآية: 29.

ص: 1266

لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة كأنه قيل: لا صحة لما يقولون في القرآن الكريم من هذا الافتراء ثم قيل: (أقسم) وهذا منسوب إلى سعيد بن جبير وبعض النحاة.

ومواقع النجوم: مساقطها ومغاربها وخصها - جلت قدرته - بالقسم لما في غروبها من ذهاب أثرها وذلك للدلالة على وجود حكيم دائم لا يتغير يؤثر فيها ظهورا وخفاءً، وقد استدل الخليل إبراهيم عليه السلام بأُفول الكوكب، وغروب القمر، وذهاب الشمس على وجود الصانع الذي لا يغيب ولا تأخذه سنة ولا نوم، أو أقسم - سبحانه - بها في هذا الوقت لأنه أوان قيام المتهجدين وانقطاع المتبتلين إليه - تعالى - ونزول رحمته وفيض رضوانه عليهم. وقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعًا:"ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حتى يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألنى فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له"(1). والنزول كناية عن القرب والعناية.

وقال جماعة منهم ابن عباس رضي الله عنهما: النجوم نجوم القرآن، ومواقعها أوقات نزولها، فإن القرآن نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا، ثم نزل مفرقًا في السنين بعد.

76 -

{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} أي: وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم جليل، لو تعلمون قدره ومكانته لعظمتم المقسم عليه وهو القرآن الكريم.

77 -

{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} أي: إن هذا القرآن الذي أنزله الله على محمَّد صلى الله عليه وسلم حسن مرضي رفيع القدر في جنسه بين الكتب المنزلة من عند الله، كثير المنافع، أو كريم على الله أو على المؤمنين؛ لأنه كلام ربهم وشفاءُ صدورهم، وقيل: كريم لما فيه من كريم

(1) انظر صحيح البخاري ج 2 ص 66 كتاب التهجد بالليل، باب الدعاء والصلاة آخر الليل فقد ورد الحديث بلفظه.

ص: 1267

الأخلاق ومعالى الأمور، وقيل: لأنه يكرّم حافظه ويعظّم قارئه، والحق أن القرآن الكريم جدير وحقيق بهذه الصفات جميعًا.

78 -

{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} :

أي: في كتاب جليل عظيم القدر مصون ومحفوظ من التبديل والتغيير والباطل والبهتان والمراد بقوله: {كِتَابٍ} قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: هو المصحف الذي بأيدينا لا يعتريه تحريف ولا زيف.

79 -

{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} :

أي: لا يصل ولا يفضى إلى القرآن ولا يطلع عليه ولا على ما فيه إلا المنزهون عن كدر الطبيعة ودنس الحظوظ النفسية وهم الملائكة، أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة أنه قال في الآية: ذاك عند رب العالمين {لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} من الملائكة، أما عندكم فيمسه المشرك والنجس والمنافق الرجس، وقيل:{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} من الشرك وهم المؤمنون وروى عن الإمام محمَّد الباقر وعطاء وطاوس وسالم والشافعى وغيرهم رضي الله عنهم جميعًا - أن المراد بهم: هم المطهرون من الأحداث، والخلاف في ذلك مبسوط في كتب الفقه ولكل رأيه، فمن أراد مزيدًا فليرجع إليها.

ومع هذا الاختلاف لم ينازع أحد في دلالة الآية على عظم شأن القرآن، وعظيم الاعتناء به ولا ينحصر هذا بمنع غير الطاهر من مسّه بل يكون بأشياء كثيرة تدل على تعظيمه وتوقيره.

80 -

{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} :

أي: القرآن الكريم منزل من لدن رب العالمين فهو - سبحانه - هو الذي ربّاهم ورعاهم وبلغ بهم الغاية خَلْقًا وإبداعًا.

وليس القرآن العظيم كما يقولون ويزعمون أنه من عند غير الله، وأنه سحر وشعر وكهانة، بل هو الحق الذي لا مرية فيه، والكفار والمشركون قد أقروا بذلك وعلموه ولكنهم ينكرونه كبرًا وعنادًا كما قال - تعالى -:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} (1).

(1) سورة الأنعام من الآية: 33.

ص: 1268

ووصف القرآن بقوله: {تَنْزِيلٌ} لأنه نزل منجمًا مفرقًا من بين سائر الكتب المنزلة من عند الله - تعالى - فإنها قد نزلت دفعة واحدة ولقد جرى هذا اللفظ {تَنْزِيلٌ} مجرى أسماء القرآن وأطلق عليه فقيل: جاء في التنزيل كذا، ونطق به التنزيل يريدون به القرآن الكريم.

{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)}

المفردات:

{مُدْهِنُونَ} : متهاونون به كما يدَّهن في الأمر أي: يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونًا به (1).

التفسير

81 -

{أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} :

أي: أتعرضون فبهذا القرآن الكريم أنتم متهاونون كمن يتهاون في الأمر ويلين فيه استهانة به وحطًّا من شأنه، وعن ابن عباس والزجاج {مُدْهِنُونَ}: مكذبون.

82 -

{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} :

أي: وتجعلون جزاء رزق الله لكم وتفضله عليكم بنعمه التي لا تحصى ولا تعد أنكم تكفرون بربكم وتكذبون القرآن الناطق بأن الله هو الذي أغاثكم، وأنزل

(1) وأصل الادهان: جعل الأديم (الجلد) ونحوه مدهونًا بشيء من الدهن حتى يلين.

ص: 1269

عليكم المطر فأنبت لكم به الزرع وأدرَّ به الضرع، وأطفأ ظمأكم، أحياكم به كما أحيا الأرض بعد موتها، وتنسبون ما حل بكم من عظيم فيضه إلى النجوم والأنواء فتقولون: مطرنا بنوء كذا (1).

أخرج البخاري ومسلم وغيرهما: عن زيد بن خالد الجهني قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح في الحديبية في إثر سماء (بعد مطر) وكانت من الليل، فلما سلم أقبل علينا فقال: "هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فقال: قال: (ما أنعمت على عبادى نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين، فأما من آمن بي وحمدنى على سقياى فذلك الذي آمن بي وكفر بالكوكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن بالكوكب وكفر بي).

{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)}

المفردات:

{الْحُلْقُومَ} : تجويف خلف تجويف الفم (2).

{غَيْر مَدِينِينَ} : غير مربوبين لله من دان السلطان الرعية إذا ساسهم وتعبدهم وقيل: غير ذلك وسيأتي.

(1) النوء: سقوط نجم في المغرب وطلوع آخر يقابله من ساعته في المشرق. إ هـ قاموس.

وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها، وقيل إلى الطالع؛ لأنه في سلطانه، نهى الإِسلام عن ذلك؛ لأن ذلك شأن الله وحده.

(2)

وفيه ست فتحات، فتحة الفم الخلفية، وفتحتا المنخربن، وفتحتا الأذنين، وفتحة الحنجرة وهي مجرى الطعام والشراب والنفس - من المعجم الوجيز - مجمع اللغة العربية.

ص: 1270

التفسير

83، 84 - {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ* وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ}:

الضمير في قوله - تعالى -: {بَلَغَتِ} للروح ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن المعنى معروف وواضح ونظيره قول حاتم الطائى:

أماويّ ما يغنى الثراءُ عن الغنى .... إذا حشرجت (1) يومًا وضاق بها الصدر

والروح - كما ذهب سلف هذه الأمة المحمدية - جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد

في الورد، وهو حيّ بنفسه يتصف بالخروج والدخول وغيرهما من صفات الأجسام.

{فَلَوْلَا} هذا حث وتخضيض أريد به التبكيت والتعجيز أي: فهلاّ إذا بلغت ووصلت الروح إلى حلقوم ذلك الذي حان حينه، ودنا أجله، وهو يجرد بنفسه، وأنتم أيها الحاضرون حوله في هذا الوقت تشاهدون ما يعانيه من سكرات الموت، وما يقاسيه من غمراته.

85 -

{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} :

أي: ونحن بعلمنا وقدرتنا أو بملائكتنا الموكلين بذلك أقرب إلى ذلك المحتضر في كل هذا منكم حيث لا تعرفون من حاله إلَاّ ما تشاهدونه من آثار الشدة النازلة به من غير أن تقفوا على حقيقتها وكيفيتها وأسبابها ولا تقدروا على دفعها بما ينفع مع تعطفكم وشفقتكم عليه وتوفركم على إنجائه من المهالك.

87،86 - {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ* تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}:

أي: فهلاّ إن كنتم - كما تزعمون - غير مربوبين لله وغير مخلوقين له ولستم في قهره وسلطانه، أو غير مجزيين ولا محاسبين بأعمالكم يوم القيامة، وذلك بإنكاركم البعث فهلاّ {تَرْجِعُونَهَا} أي: ترجعون الروح إلى جسدها وتعيدون إليه الحياة كاملة {إِنْ كُنْتُمْ

(1) فالضمير في حشرجت يرجع إلى الروح وهي مفهومة من الكلام.

ص: 1271

صَادِقِينَ} في دعواكم أنكم غير مربوبين أو لا محاسبين ولا مبعوثين فارجعوا الأرواح إلى الأبدان. ولن تستطيعوا ذلك فبطل زعمكم.

{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}

المفردات:

{فَرَوْحٌ} : الرَّوْح - بفتع الراء - الرحمة أو الاستراحة.

{وَرَيْحَانٌ} : الريحان: كل مشموم طيب من النبات.

{فَنُزُلٌ} النزول: ما يُعد ويُقدم للضيف من الزاد.

{حَمِيمٍ} : ماء شديد الحرارة.

{تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} : إدخال في النار ومقاساة لألوان عذابها.

{حَقُّ الْيَقِينِ} : عين اليقين ونفسه الذي لا مرية فيه.

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ} : فنزه ربك عما لا يليق به.

ص: 1272

التفسير

88، 89 - {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ}:

هذا شروع في بيان حال المتوفى بعد الممات وما ينتظره من ثواب أو عقاب إثر بيان حاله عند الوفاة وما لاقاه من سكرات الموت وشدائده.

{فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} أي: فأما إن كان المتوفى من السابقين من الأزواج الثلاثة الذين ورد ذكرهم في أول السورة فله استراحة من الدنيا وعنائها وكدرها، أو له رحمة واسعة من الله - تعالى - وله ريحان يتمتع برائحته الطيبة، فهو في هناءة بال، وسعة فضل ورحمة ومكان عبق بأريج عطر يفوح شذاه وينتشر عَرْفه، ومقره في الجنان يتمتع فيها ويسعد.

90، 91 - {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ* فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ}:

أي: وأما إن كان هذا المتوفى من أصحاب اليمين وهم أهل اليمن والبركة والسلامة في آخرتهم، وأصحاب المنزلة الجليلة عند ربهم فيقال له: سلامٌ لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في ذلك: تأتيه الملائكة من قبل الله - تعالى - تسلم عليه وتخبره أنه من أصحاب اليمين وذلك عند موته، وقيل: عند بعثه يوم القيامة تسلم عليه الملائكة قبل وصوله إليها، ويحتمل أنه يسلم عليه في هذه المواطن كلها، ويكون ذلك إكرامًا بعد إكرام.

93،92، 94 - {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ* فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ* وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ}:

أي: أما إن كان المتوفى من المكذبين بالبعث المنكرين له، الضالين الذين زلوا وبعدوا عن الهدى وضاعوا وتاهوا في دروب الهوى والمعاصي ونأوا عن الحق فجزاؤهم أن يقدم لهم الماء المتناهى في الحرارة - على سبيل الإهانة لهم والتنكيل بهم والسخرية منهم - يشربونه بعد أكل الزقوم يصهر به ما في بطونهم ولهم مع ذلك إدخال وإقامة وخلود في النار يذوقون سعيرها ويقاسون ألوان عذابها.

ص: 1273

96،95 - {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}:

أي: إن ما ذكر في تلك السورة وقصصناه عليك لهو محض اليقين وخالصه، وقال قتادة في هذه الآية: إن الله ليس بتارك أحدًا من الناس حتى يقفه على اليقين من هذا القرآن فأمّا المؤمن فأيقن في الدنيا فنفعه ذلك يوم القيامة، وأمّا الكافر فأيقن يوم القيامة حين لا ينفعه اليقين.

{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} : هذا ترتيب (1)، أمر بالتسبيح؛ لأن ما ورد في هذه السورة الكريمة يُوجب أن يُنَزّه الله - تعالى - عما لا يليق مما ينسبه الكفار إليه، سواءٌ كان ذلك منهم قولًا أو عملًا أو حالًا {تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا} . أخرج الإِمام أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه، وغيرهم عن عقبة بن عامر الجهني قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال: "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "اجعلوها في سجودكم" والله أعلم.

(1) كما تشير إليه الفاء في قوله تعالى: {فَسَبِّحْ} .

ص: 1274