الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الآلوسى ما ملخصه: «وإدريس هو نبي قبل نوح وبينهما ألف سنة وهو أخنوخ ابن يرد.. بن شيث بن آدم. وهو أول من نظر في النجوم والحساب، وأول رسول بعد آدم
…
» «1» .
أى: واذكر- أيضا- في الكتاب خبر إدريس- عليه السلام. إنه كان ملازما للصدق، وكان ممن شرفناهم بالنبوة.
وقوله: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا قالوا: هو شرف النبوة والزلفى عند الله- تعالى- أو المراد برفعه إلى المكان العلى: إسكانه في الجنة، إذ لا شرف أعلى من ذلك..
وروى أن النابغة الجعدي لما أنشد قوله:
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا
…
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إلى أين المظهر يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة. قال: أجل إن شاء الله- تعالى-.
وإلى هنا تكون السورة الكريمة قد حدثتنا عن طرف من قصص زكريا ويحيى وعيسى وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس- عليهم الصلاة والسلام- وقد وصفتهم بما هم أهله من صفات كريمة، ليتأسى الناس بهم في ذلك.
ثم تسوق السورة الكريمة بعد ذلك موازنة بين هؤلاء الأخيار، وبين من جاءوا بعدهم من أقوامهم الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وتفتح السورة باب التوبة ليدخله بصدق وإخلاص المخطئون، حتى يكفر الله- تعالى- عنهم ما فرط منهم. قال- تعالى-:
[سورة مريم (19) : الآيات 58 الى 63]
أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَاّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَاّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)
تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63)
(1) تفسير الآلوسى ج 16 ص 105.
واسم الإشارة في قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
…
يعود إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة. وهم عشرة أولهم في الذكر زكريا وآخرهم إدريس.
وقوله: وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا معطوف على قوله مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ ومن للتبعيض.
أى: ومن جملة من أنعم الله عليهم، أولئك الذين هديناهم إلى طريق الحق واجتبيناهم واخترناهم لحمل رسالتنا ووحينا.
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد جمع لهؤلاء المنعم عليهم جملة من المزايا منها: أعمالهم الصالحة، ومناقبهم الحميدة التي سبق الحديث عنها، ومنها: كونهم من نسل هؤلاء المصطفين الأخيار، ومنها أنهم ممن هداهم الله- تعالى- واصطفاهم لحمل رسالته.
وقد بين- سبحانه- في سورة النساء من أنعم عليهم بصورة أكثر شمولا فقال: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «2» .
(1) تفسير القرطبي ج 11 ص 120.
(2)
آية 69.
وقوله- تعالى-: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا بيان لرقة مشاعرهم، وشدة تأثرهم عند سماع آيات الله- تعالى-.
فالجملة الكريمة استئناف مسوق لبيان عظم خشيتهم من الله- تعالى- أو هي خبر لاسم الإشارة أُولئِكَ وسُجَّداً وَبُكِيًّا جمع ساجد وباك.
أى: أولئك الذين أنعم الله- تعالى- عليهم، من صفاتهم أنهم إذا تتلى عليهم آيات الرحمن، المتضمنة لتمجيده وتعظيمه وحججه.. خروا على جباههم ساجدين وباكين. وسقطوا خاضعين خاشعين خوفا ورجاء، وتعظيما وتمجيدا لله رب العالمين.
وجمع- سبحانه- بين السجود والبكاء بالنسبة لهم، للإشعار بأنهم مع تعظيمهم الشديد لمقام ربهم، فهم أصحاب قلوب رقيقة، وعواطف جياشة بالخوف من الله- تعالى-.
وفي معنى هذه الجملة الكريمة وردت آيات كثيرة، منه قوله- تعالى-: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً «1» .
وقوله- سبحانه-: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ، يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «2» .
فهذه الآيات الكريمة تدل على أن من صفات المؤمنين الصادقين، أنهم يتأثرون تأثرا عظيما عند سماعهم لكلام الله- تعالى-، تأثرا يجعلهم يبكون ويسجدون وتقشعر جلودهم، وتوجل قلوبهم، وتلين نفوسهم.
قال ابن كثير- رحمه الله: قوله- تعالى-: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا أى: إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعا واستكانة وشكرا على ما هم فيه من نعم.. فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم، واتباعا لمنوالهم وقرأ عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- هذه الآية فسجد وقال: هذا السجود فأين البكاء» «3» .
ثم بين- سبحانه- ما حدث من الذين جاءوا بعد هؤلاء المنعم عليهم فقال: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ، أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا.
(1) سورة الإسراء الآيات من 107- 109.
(2)
سورة المائدة الآية 83.
(3)
تفسير ابن كثير ج 3 ص 127. [.....]
ولفظ الخلف بسكون اللام- الأولاد، والواحد والجمع فيه سواء، وأكثر ما يطلق على الأشرار والطالحين، ومنه المثل السائر:«سكت ألفا ونطق خلفا» وقوله الشاعر:
ذهب الذين نعيش في أكنافهم
…
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
والمراد بهذا اللفظ في الآية: اليهود والنصارى وغيرهم من المشركين الذين جاءوا بعد أنبيائهم، ولكنهم خالفوا شريعتهم، وأهملوا ما أمروهم به وما نهوهم عنه.
أما لفظ «الخلف» بفتح اللام- فيطلق على البدل ولدا كان أو غير ولد وأكثر استعمالاته في المدح، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:«يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله..» .
والمعنى: فخلف من بعد أولئك الأخيار الذين أنعم الله عليهم، خلف سوء وشر، ومن الأدلة على سوئهم وفجورهم أنهم أَضاعُوا الصَّلاةَ بأن تركوها، أو لم يؤدوها على وجهها المشروع وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ التي جعلتهم ينهمكون في المعاصي، ويسارعون في اقتراف المنكرات.
وقوله فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا بيان لسوء عاقبتهم، أى: فسوف يلقى هؤلاء المضيعون للصلاة، المتبعون للشهوات، خسرانا وشرا في دنياهم وآخرتهم، بسبب ضلالهم وتنكبهم الصراط المستقيم.
فالمراد بالغىّ: الخسران والضلال. يقال: غوى فلان يغوى إذ ضل. والاسم الغواية.
وقيل: المراد بالغيّ هنا: واد في جهنم تستعيذ من حره أوديتها. وقيل: هو نهر في أسفل جهنم يسيل فيه صديد أهلها.
ثم فتح- سبحانه- للتائبين باب الرحمة فقال: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً....
أى: هذا العقاب الشديد للمضيعين للصلاة، وللمتبعين للشهوات، لكن من تاب منهم توبة نصوحا، وآمن بالله- تعالى- حق الإيمان، وعمل في دنياه الأعمال الصالحة.
فَأُولئِكَ المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بفضله- تعالى- ورحمته وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً أى: ولا ينقصون من أجور أعمالهم شيئا.
وقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ. بدل من الجنة في قوله فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ.
أى: هؤلاء التائبون المؤمنون العاملون للصالحات يدخلهم الله- تعالى- جنات عدن، أى: الجنات الدائمة التي وعدهم الرحمن بدخولها، وكان هذا الوعد في الدنيا قبل أن
يشاهدوها أو يروها.
فقوله: بِالْغَيْبِ حال من المفعول وهو عِبادَهُ أى: وعدهم بها حالة كونهم غائبين عنها، لا يرونها، وإنما آمنوا بوجودها بمجرد إخباره- سبحانه- لهم بذلك.
وقد أكد- سبحانه- هذا الوعد لهم في الدنيا بقوله: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أى: إنه- تعالى- كان وما زال ما وعد به عباده وهو الجنة مَأْتِيًّا أى: يأتيه ويصل إليه من وعده الله- تعالى- به، لأنه- سبحانه- لا يخلف وعده.
فقوله: مَأْتِيًّا اسم مفعول من أتاه الشيء بمعنى جاءه، وقيل: هو اسم مفعول بمعنى فاعل، أى: إن وعده- سبحانه- لعباده كان آتيا لا ريب فيه.
ثم وصف- سبحانه- الجنات وأهلها بما يحمل العقلاء على العمل الصالح الذي يوصلهم إليها بفضله- تعالى- وكرمه فقال: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً
…
واللغو: هو فضول الكلام، وما لا قيمة له منه، ويدخل فيه الكلام الباطل.
وقوله إِلَّا سَلاماً الظاهر فيه أنه استثناء منقطع، لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه.
أى: لا يسمعون فيها كلاما لغوا، لكنهم يسمعون فيها سلاما. أى: تسليما من الملائكة عليهم، كما قال- تعالى-: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ
…
أو يسمعون فيها تسليما وتحية من بعضهم على بعض، كما قال- تعالى-: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ.
قال الآلوسى: قوله إلا سلاما، استثناء منقطع، والسلام إما بمعناه المعروف.
أى: لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم، أو تسليم بعضهم على بعض، أو بمعنى الكلام السالم من العيب والنقص، أى: لكن يسمعون كلاما سالما من العيب والنقص.
وجوز أن يكون استثناء متصلا، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم، كما في قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
…
بهن فلول من قراع الكتائب
وهو يفيد نفى سماع اللغو بالطريق البرهاني الأقوى. والاتصال على هذا على طريق الفرض والتقدير، ولولا ذلك لم يقع موقعه من الحسن والمبالغة» «1» .
(1) تفسير الآلوسى ج 16 ص 111.
وقوله- تعالى-: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا بيان لدوام رزقهم فيها بدون انقطاع، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل، ولا بكرة ولا عشى
…
قال القرطبي ما ملخصه قوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا أى: لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا، أى: في قدر هذين الوقتين، إذ لا بكرة ثم- أى هناك- ولا عشيا.. وقيل: رزقهم فيها غير منقطع
…
وخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من حديث أبان عن الحسن وأبى قلابة قالا: قال رجل يا رسول الله، هل في الجنة من ليل؟ قال صلى الله عليه وسلم:«وما هيجك على هذا» ؟ قال:
سمعت الله- تعالى- يذكر في الكتاب: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا فقلت: الليل بين البكرة والعشى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور، يرد الغدو على الرواح، والرواح على الغدو، وتأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة» .
ثم قال الإمام القرطبي: «وهذا في غاية البيان لمعنى الآية
…
» «1» .
ثم أضاف- سبحانه- إلى تعظيمه لشأن الجنة تعظيما آخر فقال: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا.
فاسم الإشارة تِلْكَ يعود إلى ما تقدم من قوله: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ
…
وقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ
…
أى: تلك هي الجنة العظيمة الشأن، العالية القدر، التي نجعلها ميراثا للمؤمنين الصادقين المتقين من عبادنا، كما قال- تعالى-: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ وكما قال- سبحانه-: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
قال صاحب الكشاف: قوله نُورِثُ.. أى: نبقى عليه الجنة كما نبقى على الوارث مال المورث، ولأن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة وقد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة، فإذا أدخلهم- سبحانه- الجنة، فقد أورثهم من تقواهم كما يورث الوارث المال من المتوفى..» «2» .
ثم ساق- سبحانه- ما يدل على كمال قدرته، وشمول علمه، فقال- تعالى-:
(1) تفسير القرطبي ج 11 ص 126.
(2)
تفسير الكشاف ج 3 ص 28.