الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم تسوق السورة بعد ذلك موقف الكافرين عند سماعهم لآيات الله- تعالى- كما تسوق ما قالوه للمؤمنين على سبيل التفاخر عليهم، وما رد به القرآن على هؤلاء المترفين المتعالين، قال- تعالى-:
[سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 76]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
فقوله- سبحانه-: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ
…
حكاية لما قاله الكافرون للمؤمنين على سبيل التباهي والتفاخر.
أى: وإذا تتلى على هؤلاء المشركين المنكرين للبعث آياتنا البينات الواضحات، الدالة على صحة وقوع البعث والحساب يوم القيامة قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا على سبيل العناد والتعالي لِلَّذِينَ آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، قالوا لهم انظروا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا.
والمقام- بفتح الميم-: مكان القيام والمراد به مساكنهم ومنازلهم التي يسكنونها وينزلون بها.
والندى والنادي والمنتدى: مجلس القوم ومكان تجمعهم.
يقال: ندوت القوم أندوهم ندوا، إذا جمعتهم في مجلس للانتداء. ومنه: دار الندوة للمكان الذي كانت تجتمع فيه قريش للتشاور في أمورها.
أى: وإذا تتلى على هؤلاء الكافرين آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا وعلى أن البعث
حق. قالوا للمؤمنين على سبيل الاحتقار لهم: نحن وأنتم أينا خير من الآخر مكانا، وأحسن مجلسا ومجتمعا فهم يتفاخرون على المؤمنين بمساكنهم الفارهة، ومجالسهم التي يجتمع فيها أغنياؤهم ووجهاؤهم.
وما حكاه الله- تعالى- عن هؤلاء الكافرين في هذه الآية، قد جاء ما يشبهه في آيات أخرى، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «2» .
وقد رد الله- تعالى- على هؤلاء الجاهلين المغرورين بقوله: وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً.
وكَمْ هنا خبرية، ومعناها الاخبار عن العدد الكثير وهي في محل نصب على المفعول به لجملة أَهْلَكْنا ومِنْ قَرْنٍ تمييز لها. والقرن: اسم لأهل كل أمة تتقدم في الوجود على غيرها، مأخوذ من قرن الدابة لتقدمه فيها.
والأثاث المتاع للبيت. وقيل: هو الجديد من الفراش، وقد يطلق على المال بصفة عامة.
ورِءْياً أى: منظرا وهيئة ومرأى في العين مأخوذ من الرؤية التي تراها العين.
والمعنى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الكافرين المتباهين بمساكنهم ومجالسهم: لا تفتخروا ولا يغرنكم ما أنتم فيه من نعيم، فإنما هو نوع من الاستدراج، فإن الله- تعالى- قد أهلك كثيرا من الأمم السابقة عليكم، كانوا أحسن منكم متاعا وزينة، وكانوا أجمل منكم منظرا وهيئة فلم ينفعهم أثاثهم ورياشهم ومظهرهم الحسن، عند ما أراد الله- تعالى- إهلاكهم بسبب كفرهم وجحودهم.
فالآية الكريمة تهديد للكافرين المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ورد على أقوالهم الباطلة، وعنجهيتهم الذميمة إذ لو كانت المظاهر والأمتعة والهيئات الحسنة تنفع أصحابها، لنفعت أولئك المهلكين من الأمم السابقة.
(1) حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 74.
(2)
سورة سبأ الآية 35.
وشبيه بهذه الآية في الرد على هؤلاء الكافرين قوله- تعالى-: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى. إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ
«1» .
وقوله- سبحانه-: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ «2» .
ثم أمر الله- تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم أن يضيف إلى تهديدهم السابق تهديدا آخر فقال:
قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا
…
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الكافرين المتفاخرين بمساكنهم ومظاهرهم.. قل لهم: من كان منغمسا في الضلالة والشقاوة والغفلة.. فقد اقتضت حكمة الله- تعالى- أن يمد له العطاء كأن يطيل عمره ويوسع رزقه، على سبيل الاستدراج والإمهال..
فصيغة الطلب وهي قوله- تعالى-: فَلْيَمْدُدْ على هذا التفسير، المراد بها:
الإخبار عن سنة من سنن الله- تعالى- في خلقه، وهي أن سننه- تعالى- قد اقتضت أن يمهل الضالين، وأن يزيدهم من العطاء الدنيوي، ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
قال- تعالى-: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «3» .
وقال- سبحانه-: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «4» .
وقد صدر الآلوسى تفسيره للآية بهذا التفسير فقال ما ملخصه: قوله قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ
…
أمر منه- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب على هؤلاء المتفاخرين بما لهم من الحظوظ الدنيوية..
وقوله: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أى: يمد- سبحانه- له ويمهله بطول العمر، وإعطاء المال، والتمكن من التصرفات، فالطلب في معنى الخبر واختير للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير فيكون حاصل المعنى: من كان في الضلالة فلا عذر له فقد أمهله الرحمن ومد له مدا وجوز أن يكون ذلك للاستدراج.
(1) سورة سبأ: الآية 37.
(2)
سورة القلم الآيتان 44، 45.
(3)
سورة الأنعام الآيتان 44، 45.
(4)
سورة آل عمران الآية 178.
وحاصل المعنى: من كان في الضلالة فعادة الله أن يمد له ويستدرجه «1» .
ومن المفسرين من يرى أن صيغة الطلب وهي فَلْيَمْدُدْ على بابها، ويكون المقصود بالآية الدعاء على الضال من الفريقين بالازدياد من الضلال.
وعليه يكون المعنى: قل- أيها الرسول الكريم لهؤلاء المتفاخرين، من كان منا أو منكم على الضلالة، فليزده الله من ذلك، وكأن الآية الكريمة تأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمباهلة المشركين كما أمره الله- تعالى- في آية أخرى بمباهلة اليهود في قوله: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ.. «2» .
وكما أمر الله بمباهلة النصارى في قوله- سبحانه- فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ، وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ، وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ «3» .
ومن المفسرين الذين ساروا على هذا التفسير الإمامان ابن جرير وابن كثير، فقد قال ابن كثير: يقول- تعالى- قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم المدعين أنهم على الحق وأنكم على الباطل مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ أى منا ومنكم فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا أى: فأمهله الرحمن فيما هو فيه حتى يلقى ربه وينقضي أجله.. قال مجاهد في قوله فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا فليدعه الله في طغيانه هكذا، قرر ذلك أبو جعفر بن جرير، وهذه مباهلة للمشركين الذين يزعمون أنهم على هدى فيما هم فيه كما ذكر- تعالى- مباهلة اليهود والنصارى.. «4» .
ومع وجاهة التفسيرين لمعنى فَلْيَمْدُدْ لَهُ.. إلا أننا نميل إلى الرأى الأول وهو أن صيغة الطلب يراد بها الإخبار عن سنة الله- تعالى- في الضالين، لأنه هو المتبادر من معنى الآية الكريمة ولأن قوله- تعالى- بعد ذلك وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً.. يؤيد هذا الرأى.
وقوله- سبحانه-: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ.. متعلق بما قبله.
أى: فليمدد له الرحمن مدا على سبيل الاستدراج والإمهال، حتى إذا رأى هؤلاء الكافرون ما توعدهم الله- تعالى- به، علموا وأيقنوا أن الأمر بخلاف ما كانوا يظنون وما كانوا يقولون لأنهم سينزل الله- تعالى- بهم إِمَّا الْعَذابَ الدنيوي على أيدى المؤمنين وَإِمَّا السَّاعَةَ أى: وإما عذاب الآخرة وهو أشد وأبقى.
(1) تفسير الآلوسى ج 16 ص 126.
(2)
سورة الجمعة الآية 6.
(3)
سورة آل عمران الآية 61.
(4)
تفسير ابن كثير ج 3 ص 134.
وحينئذ يعلمون ويوقنون مَنْ هُوَ من الفريقين شَرٌّ مَكاناً أى: أسوأ منزلا ومسكنا وَأَضْعَفُ جُنْداً وأضعف أعوانا وأنصارا.
وهذه الجملة الكريمة رد على قول المشركين قبل ذلك: أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا.
وقوله- تعالى-: وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً.. كلام مستأنف مسوق لبيان سنة الله- تعالى- التي لا تتخلف في المهتدين، بعد بيان سنته في الضالين.
أى: ويزيد الله- تعالى- المهتدين إلى طريق الحق هداية على هدايتهم، بأن يثبتهم عليه، كما قال- سبحانه-: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ. وكما قال- عز وجل: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ
…
وقوله- تعالى-: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا أى:
والأعمال الباقيات الصالحات كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها من أعمال البر، خير عند ربك ثوابا وجزاء مما تمتع به الكفار في دنياهم من شهوات وَخَيْرٌ مَرَدًّا أى: مرجعا وعاقبة.
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: كيف قيل: خير عند ربك ثوابا، كأن لمفاخراتهم ثوابا، حتى يجعل ثواب الصالحات خيرا منه؟.
قلت: كأنه قيل: ثوابهم النار على طريقة قوله: تحية بينهم ضرب وجيع، ثم ينى عليه خير ثوابا، وفيه ضرب من التهكم الذي هو أغيظ للمتهدد من أن يقال له: عقابك النار.. «1» .
والخلاصة أنه لا ثواب لهؤلاء الكافرين سوى النار، أما المؤمنون فثوابهم جنات تجرى من تحتها الأنهار.
وبذلك نرى الآيات الكريمة، قد حكت جانبا من تباهي الكافرين بدنياهم، وردت عليهم بما يخرس ألسنتهم.
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 38.
(2)
تفسير أضواء البيان للشيخ الشنقيطى ج 4 ص 364. [.....]