الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها أى: فلا يصرفنك عن الإيمان بها، وعن العمل الصالح الذي ينفعك عند مجيئها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها من الكافرين والفاسقين وَاتَّبَعَ هَواهُ في إنكارها وفي تكذيب ما يكون فيها من ثواب أو عقاب فَتَرْدى أى: فتهلك، إن أنت أطعت هذا الذي لا يؤمن بها. يقال: ردى فلان- كرضى- إذا هلك، وأرداه غيره إذا أهلكه.
فالآية الكريمة تحذير شديد من اتباع المنكرين لقيام الساعة والمعرضين عن الاستعداد لها، بعد أن أكد- سبحانه- في آيات كثيرة أن الساعة آتية لا ريب فيها.
قال- تعالى-: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ، وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى، وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ «1» .
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة قد أثبتت وحدانية الله- تعالى- كما في قوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا كما أثبتت وجوب التوجه إليه وحده بالعبادة كما في قوله- سبحانه-:
فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي. كما أثبتت أن يوم القيامة لا شك في إتيانه في الوقت الذي يريده الله- تعالى- كما قال- عز وجل: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ....
ثم بين- سبحانه- بعض التوجيهات والأوامر التي وجهها- عز وجل إلى نبيه موسى- عليه السلام كما حكى ما التمسه موسى من خالقه- تعالى- فقال:
[سورة طه (20) : الآيات 17 الى 35]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
(1) سورة الحج الآيتان 6، 7.
الاستفهام في قوله- تعالى-: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى للتقرير، لأن الله- تعالى- عالم بما في يمين موسى، فالمقصود من هذا السؤال اعتراف موسى وإقراره بأن ما في يده إنما هي عصا فيزداد بعد ذلك يقينه بقدرة الله- تعالى- عند ما يرى العصا التي بيمينه قد انقلبت حية تسعى.
قال صاحب الكشاف: إنما سأله- سبحانه- ليريه عظم ما يخترعه- عز وعلا- في الخشبة اليابسة من قلبها حية نضاضة- أى تحرك لسانها في فمها-، وليقرر في نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه، والمقلوب إليه، وينبهه على قدرته الباهرة. ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد- أى قطعة من حديد- ويقول لك: ما هي؟ فتقول: زبرة حديد. ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك: هي تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة، وأنيق السرد.. «1» .
والآية الكريمة: شروع في بيان ما كلف الله- تعالى- به عبده موسى- عليه السلام من الأمور المتعلقة بالخلق، إثر حكاية ما أمر- سبحانه- به موسى من إخلاص العبادة له، والإيمان بالساعة وما فيها من حساب وثواب وعقاب.
والمعنى: وأى شيء بيدك اليمنى يا موسى؟ فأجاب موسى بقوله- كما حكى القرآن عنه قالَ هِيَ عَصايَ أى: الشيء الذي بيميني هو عصاي.. ونسبها إلى نفسه لزيادة التحقق والتثبت من أنها خاصة به وكائنة بيده اليمنى.
ثم بين وظيفتها فقال: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أى: أعتمد عليها لتساعدنى في حال السير وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي أى: وأضرب بها الشجر اليابس ليسقط، ورقة فترعاه أغنامى.
يقال هش فلان الشجرة بالعصا- من باب رد- فهو يهشها هشا، إذا ضربها بعصاه أو بما يشبهها ليتساقط ورقها. ومفعول أهش محذوف. أى: وأهش بها الشجر والورق.
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 57.
وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى والمآرب: جمع مأربة- بتثليث الراء- بمعنى حاجة. تقول:
لا أرب لي في هذا الشيء، أى: لا حاجة لي فيه.
أى: ولي في هذه العصا حاجات أخرى، ومنافع غير التي ذكرتها.
وقد كان يكفى موسى- عليه السلام في الجواب أن يقول: هي عصاي، ولكنه أضاف إلى ذلك أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي.. لأن المقام يستدعى البسط والإطالة في الكلام، إذ هو مقام حديث العبد مع خالقه، والحبيب مع حبيبه.
وأجمل في قوله: وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى إما حياء من الله- تعالى- لطول الكلام في الجواب، وإما رجاء أن يسأل عن هذه المآرب المجملة، فيجيب عنها بالتفصيل تلذذا في الخطاب.
قال القرطبي: وفي هذه الآية دليل على جواب السؤال بأكثر مما سئل، لأنه لما قال:
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى ذكر معاني أربعة وهي: إضافة العصا إليه، وكان حقه أن يقول عصا، والتوكؤ، والهش، والمآرب المطلقة. فذكر موسى من منافع عصاه معظمها.
وفي الحديث: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» وسألته امرأة عن الصغير حين رفعته إليه فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم ولك أجر» «1» .
وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لقوله وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى: وقد تكلف بعضهم لذكر شيء من تلك المآرب التي أبهمت، فقيل: كانت تضيء له بالليل، وتحرس له الغنم إذا نام، ويغرسها فتصير شجرة تظلله، وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة.
والظاهر أنها لم تكن كذلك، ولو كانت كذلك لما استنكر موسى صيرورتها ثعبانا، ولما فر منها هاربا، ولكن كل ذلك من الأخبار الإسرائيلية «2» .
وقوله- سبحانه-: قالَ أَلْقِها يا مُوسى جملة مستأنفة جواب عن سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قال الله- تعالى- لموسى بعد ذلك؟.
فكان الجواب: قال- سبحانه- لموسى: اطرح يا موسى هذه العصا التي بيمينك لترى ما يكون بعد ذلك. فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى.
أى: فامتثل موسى أمر ربه، فألقاها على الأرض، ونظر إليها فإذا هي قد تحولت بقدرة الله- تعالى- إلى «حية» - أى ثعبان عظيم- «تسعى» ، أى: تمشى على الأرض
(1) تفسير القرطبي ج 11 ص 186 وقد تعرض لمنافع العصا فليرجع إليها من شاء.
(2)
تفسير ابن كثير ج 5 ص 273.
بسرعة وخفة حركة ووصفها- سبحانه- هنا بأنها حَيَّةٌ تَسْعى، ووصفها في سورة الشعراء بأنها ثُعْبانٌ مُبِينٌ «1» ووصفها في سورة النمل بأنها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ «2» .
ولا تنافى بين هذه الأوصاف، لأن الحية اسم جنس يطلق على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والثعبان: هو العظيم منها، والجان: هو الحية الصغيرة الجسم، السريعة الحركة.
وقد صرحت بعض الآيات أن موسى- عليه السلام عند ما رأى عصاه قد تحولت إلى ذلك، ولى مدبرا ولم يعقب. قال- تعالى-: وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ
…
ولكن الله- تعالى- ثبت فؤاده، وطمأن نفسه: قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ أى: خذ هذه الحية التي تحولت عصاك إليها ولا تخف منها، كما هو الشأن في الطبائع البشرية، فإنا سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى أى: سنعيد هذه الحية إلى هيئتها الأولى التي كانت عليها قبل أن تصير حية تسعى، وهي أن نعيدها بقدرتنا التي لا بعجزها شيء إلى عصا كما كانت من قبل.
فالجملة الكريمة مسوقة لتعليل وجوب الامتثال للأمر وعدم الخوف، أى: خذها ولا تخف منها، فإن هذه الحية سنرجعها عصا كما كانت من قبل.
وقوله- تعالى- سِيرَتَهَا فعلة من السّير، وهي الحالة والهيئة التي يكون عليها الإنسان، وهو منصوب بنزع الخافض. أى: سنعيدها إلى هيئتها وحالتها الأولى.
قالوا: ومن الحكم التي من أجلها حول الله- تعالى- العصا إلى حية تسعى: توطين قلب موسى- عليه السلام على ذلك، حتى لا يضطرب إذا ما تحولت إلى ثعبان عظيم عند ما يلقيها أمام فرعون وقومه.
فقد جرت عادة الإنسان أن يقل اضطرابه من الشيء العجيب الغريب بعد رؤيته له لأول مرة.
ثم وجه- سبحانه- أمرا آخر إلى عبده موسى فقال: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى.
والضم: الجمع. يقال: ضم فلان أصابعه إذا جمعها. والجناح، يطلق على العضد وعلى الجنب، وعلى الإبط. وأصله جناح الطائر وسمى بذلك لأنه يجنحه، أى: يميله عند الطيران، ثم توسع فيه فأطلق على العضد وغيره.
(1) الآية 32.
(2)
الآية 10.
والمراد باليد هنا: كف يده اليمنى.
والسوء: الرديء والقبيح من كل شيء، وكنى به هنا عن البرص لشدة قبحه.
والمعنى: واضمم- يا موسى- يدك اليمنى الى عضد يدك اليسرى بأن تجعلها تحته عند الإبط. ثم أخرجها فإنها تخرج بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أى: تخرج منيرة مشرقة واضحة البياض دون أن يعلق بها أى سوء من برص أو مرض أو غيرهما، وإنما يكون بياضها بياضا مشرقا بقدرة الله- تعالى- وإرادته.
قال الحسن البصري: أخرجها- والله- كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقى ربه- تعالى-.
وقوله: تَخْرُجْ بَيْضاءَ
…
جواب الأمر وهو قوله: وَاضْمُمْ يَدَكَ.
وقوله: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ احتراس لدفع توهم أن يكون بياضها بسبب مرض أو أذى، وهو متعلق بتخرج.
وقوله: آيَةً أُخْرى أى: معجزة أخرى غير معجزة العصا التي سبق أن منحناها لك.
كما قال- تعالى: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ «1» .
وقوله: لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى، تعليل لمحذوف، أى: فعلنا ما فعلنا من إعطائك معجزة العصا ومعجزة اليد، لنريك بهاتين المعجزتين بعض معجزاتنا الكبرى، الدالة على عظيم قدرتنا، وانفرادنا بالربوبية والأولوهية.
ثم صرح- سبحانه- بالمقصود من إعطاء موسى هاتين المعجزتين العظيمتين فقال:
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أى: اذهب يا موسى ومعك هاتان المعجزتان، فادعه إلى عبادتي وحدي، ومره فليحسن إلى بنى إسرائيل ولا يعذبهم، وانهه عن التجبر والظلم، فإنه قد طغى وبغى وتجاوز حدود الحق والعدل، وزعم للناس أنه ربهم الأعلى.
وهنا التمس موسى- عليه السلام العون من خالقه، لكي يتسنى له أداء ما كلفه به فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي أى: أسألك يا إلهى أن توسع صدري بنور الإيمان والنبوة، وأن تجعله يتقبل تكاليفك بسرور وارتياح.
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أى: وسهل لي ما أمرتنى به، فإنك إن لم تحطنى بهذا التيسير، فلا
(1) سورة القصص الآية 32.
طاقة لي بحمل أعباء هذه الرسالة.
وقوله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي دعاء ثالث تضرع به إلى خالقه- تعالى- أى: وأسألك يا رب أن تحل عقدة من لساني حتى يفهم الناس قولي لهم، وحديثي معهم، فهما يتأتى منه المقصود، فمن للتبعيض، أى: واحلل عقده كائنة من عقده.
وقد روى أنه كان بلسانه حبسة، والأرجح أن هذا هو الذي عناه، ويؤيده قوله- تعالى- في آية أخرى: وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي، إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ «2» .
قال ابن كثير: «ذلك لما كان أصابه من اللثغ، حين عرض عليه- فرعون- التمرة والجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها على لسانه.. وما سأل أن يزول ذلك بالكلية، بل حيث يزول العي، ويحصل لهم فهم ما يريد منه وهو قدر الحاجة ولو سأل الجميع لزال، ولكن الأنبياء لا يسألون إلا بقدر الحاجة، ولهذا بقيت بقية.
قال الحسن البصري: سأل موسى ربه أن يحل عقدة واحدة من لسانه، ولو سأل أكثر من ذلك لأعطى «3» .
وقوله- سبحانه-: وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي دعاء آخر تضرع به إلى ربه في أمر خارجى عنه، بعد أن دعاه في أمر يتعلق بصدره ولسانه.
وقوله: وَزِيراً من الموازرة وهي المعاونة. يقال: وازرت فلانا موازرة، إذا أعنته على أمره. أو من الوزر- بفتح الواو والزاى- وهو الملجأ الذي يعتصم به الإنسان لينجو من الهلاك.
أى: وأسألك- يا إلهى- أن تجعل لي «وزيرا» أى: معينا وظهيرا من أهلى في إبلاغ
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 60.
(2)
سورة القصص الآية 34.
(3)
راجع تفسير ابن كثير ج 5 ص 276. [.....]