الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تطاول به الزمان واستأخر، فجرد هاهنا لمعنى الوعيد.. «1» .
ثم تسوق السورة الكريمة بعد ذلك ألوانا أخرى من رذائل المشركين، فتحكى اعتزازهم بأوثانهم، ونثبت عداوة هذه الأوثان لهم يوم القيامة، وتبشر المؤمنين برضا الله- تعالى- عنهم. وتنذر الكافرين بالسوق إلى جهنم.. قال- تعالى-:
[سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 87]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَاّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)
والضمير في قوله: وَاتَّخَذُوا يعود إلى أولئك الكافرين الذين ذكر القرآن فيما سبق بعض رذائلهم ودعاواهم الكاذبة، ولما تنته بعد.
أى: واتخذ هؤلاء الجاهلون آلهة باطلة يعبدونها من دون الله- تعالى- لتكون لهم تلك الآلهة عِزًّا أى- لينالوا بها العزة والشفاعة والنصرة والنجاة من عذاب يوم القيامة.
فقد حكى القرآن أنهم كانوا إذا سئلوا عن سبب عبادتهم لهذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر قالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى وقالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ....
وقد رد الله- تعالى- عليهم بما يردعهم عن هذا الظن لو كانوا يعقلون فقال: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا.
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 40.
وكَلَّا لفظ جيء به لزجرهم وردعهم عن هذا الاتخاذ الفاسد الباطل. أى: ليس الأمر كما توهم الجاهلون من أن أصنامهم ستكون لهم عزا، بل الحق أن هذه المعبودات الباطلة ستكون عدوة لهم. وقرينتهم في النار.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ، وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ «1» .
وقوله- سبحانه-: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ «2» .
وأفرد- سبحانه- عِزًّا وضِدًّا مع أن المراد بهما الجمع. لأنهما مصدران ثم بين- عز وجل أن هؤلاء الكافرين قد استحوذت عليهم الشياطين فزادتهم كفرا على كفرهم، فقال- تعالى-: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا.
والاستفهام للتقرير والتأكد وتَؤُزُّهُمْ تحركهم تحريكا قويا. وتهزهم هزا شديدا، وتحرضهم على ارتكاب المعاصي والموبقات حتى يقعوا فيها.
يقال: أز فلان الشيء يئزه ويؤزه.. بكسر الهمزة وضمها أزا، إذا حركه بشدة، وأز فلان فلانا، إذا أغراه وهيجه وحثه على فعل شيء معين، وأصله من أزت القدر تؤز أزيزا، إذا اشتد غليان الماء فيها.
والمعنى: لقد علمت أنت وأتباعك أيها الرسول الكريم، أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين، وسلطانهم عليهم، وقيضناهم لهم، لكي يحضوهم على ارتكاب السيئات، ويحركوهم تحريكا شديدا نحو الموبقات حتى يقترفوها وينغمسوا فيها..
ومادام الأمر كذلك. فذرهم في طغيانهم يعمهون، ولا تتعجل وقوع العذاب بهم. فإن الله- تعالى- قد حدد- بمقتضى حكمته- وقتا معينا لنزول العذاب بهم.
وقوله: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا تعليل لموجب النهى ببيان أن وقت هلاكهم قد اقترب، إذ كل معدود له نهاية ينتهى عندها.
قال القرطبي ما ملخصه: قوله: إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا يعنى الأيام والليالى والشهور
(1) سورة الأحقاف الآية 5، 6.
(2)
سورة فاطر الآية 14.
والسنين إلى انتهاء أجل العذاب.. وقال الضحاك: نعد أنفاسهم وقال قطرب: نعد أعمالهم عدا.
روى أن المأمون قرأ هذه السورة فمر بهذه الآية وعنده جماعة من الفقهاء فأشار برأسه إلى ابن السماك أن يعظه، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، ولم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد، وقيل في هذا المعنى:
حياتك أنفاس تعد فكلما
…
مضى نفس منك انتقصت به جزءا
يميتك ما يحييك في كل ليلة
…
ويحدوك حاد ما يريد به الهزءا «1»
وكان ابن عباس- رضى الله عنهما- إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: آخر العدد: خروج نفسك. آخر العدد: فراق أهلك آخر العدد: دخول قبرك.
ثم بين- سبحانه- عاقبة المتقين، وعاقبة المجرمين يوم القيامة فقال: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً ويَوْمَ ظرف منصوب بقوله: لا يَمْلِكُونَ
…
أى: لا يملكون الشفاعة يوم نحشر المتقين.. ويجوز أن يكون منصوبا بفعل محذوف تقديره: اذكر أو احذر..
وقوله: وَفْداً جمع وافد. يقال: وفد فلان على فلان يفد وفدا ووفودا، إذا أقدم عليه، وفعله من باب وعد.
ويطلق الوفد على الجمع من الرجال الذين يفدون على غيرهم لأمر من الأمور الهامة، وهم راكبون على دوابهم. وهذا الإطلاق هو المراد باللفظ هنا.
والمعنى: واذكر- أيها العاقل- يوم القيامة، يوم نحشر المتقين إلى جنة الرحمن، ودار كرامته راكبين على مراكب تنشرح لها النفوس وتسر لها القلوب.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه: يخبر الله- تعالى- عن أوليائه المتقين، الذين خافوه في الدار الدنيا، واتبعوا رسله وصدقوهم، أنه يحشرهم يوم القيامة وفدا إليه. والوفد هم القادمون ركبانا ومنه الوفود، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة. وهم قادمون على خير موفود إليه، إلى دار كرامته ورضوانه.
وقال ابن أبى حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج.. عن ابن مرزوق قال: يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها، وأطيبها ريحا، فيقول: من أنت؟ فيقول: أما
(1) تفسير القرطبي ج 11 ص 150.
تعرفني؟ فيقول: لا، إلا أن الله- تعالى- طيب ريحك وحسن وجهك. فيقول: أنا عملك الصالح.. فهلم فاركبنى فذلك قوله: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً «1» .
وقوله- تعالى-: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً بيان لسوء عاقبة المجرمين بعد بيان ما أعده الله للمتقين من نعيم.
ووِرْداً أى: عطاشا. وأصل الورد الإتيان إلى الماء بقصد الارتواء منه بعد العطش الشديد.
أى: ونسوق المجرمين الذين ارتكبوا الجرائم في دنياهم، نسوقهم سوقا إلى جهنم كما تساق البهائم. حالة كونهم عطاشا، يبحثون عن الماء فلا يجدونه.
والضمير في قوله- تعالى-: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ.. يرى بعضهم أنه يعود إلى المجرمين في قوله نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ
…
أى: نسوق المجرمين إلى جهنم عطاشا، حالة كونهم لا يملكون الشفاعة لغيرهم، ولا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم، لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا وهم المؤمنون الصادقون فإنهم يملكونها بتمليك الله- تعالى- لهم إياها وإذنه لهم فيها، كما قال- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ.. وكما قال- سبحانه-: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى «2» .
وعلى هذا التفسير يكون الاستثناء منقطعا.
قال القرطبي: «قوله- تعالى-: لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ أى: هؤلاء الكفار لا يملكون الشفاعة لأحد إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً وهم المسلمون فيملكونها، فهو استثناء الشيء من غير جنسه. أى: لكن من اتخذ عند الرحمن عهدا يشفع، فمن في موضع نصب على هذا
…
ويرى آخرون أن الضمير في قوله: لا يَمْلِكُونَ
…
يعود إلى فريقى المتقين والمجرمين.
أى: لا يملك أحد من الفريقين يوم القيامة الشفاعة لأحد، ولا يملك غيرهم الشفاعة لهم، إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ منهم عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً وهم المؤمنون فإنهم يملكون بإذن الله لهم.
والمراد بالعهد الأمر والإذن، يقال: عهد الأمير إلى فلان بكذا، إذا أمره به. أو أذن له في فعله.
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 3 ص 137.
(2)
تفسير القرطبي ج 11 ص 153.