الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)
ذكر المفسرون في سبب نزول قوله- تعالى- هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ
…
روايات أشار الإمام ابن كثير إلى معظمها فقال: «ثبت في الصحيحين عن أبى ذر: أنه كان يقسم قسما أن هذه الآية هذانِ خَصْمانِ نزلت في حمزة وصاحبيه. وعتبة وصاحبيه، يوم برزوا في بدر.
وعن قتادة قال: اختصم المسلمون وأهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، فنحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: كتابنا يقضى على الكتب كلها، ونبينا خاتم الأنبياء، فنحن أولى بالله منكم، فأفلج الله الإسلام على من ناوأه- أى فنصر الله الإسلام-، وأنزل الآية.
وعن مجاهد في الآية: مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث.
وهذا القول يشمل الأقوال كلها، وينتظم فيه قصة بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان «1» .
أى: هذان خصمان اختصموا في ذات ربهم وفي صفاته، بأن اعتقد كل فريق منهم أنه على الحق، وأن خصمه على الباطل.
قال الجمل: والخصم في الأصل مصدر ولذلك يوحد ويذكر غالبا، وعليه قوله
(1) تفسير ابن كثير ج 5 ص 401.
- تعالى-: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ «1» ويجوز أن يثنى ويؤنث، ولما كان كل خصم فريقا يجمع طوائف قال: اخْتَصَمُوا بصيغة الجمع كقوله- تعالى-:
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فالجمع مراعاة للمعنى «2» .
وقوله- سبحانه-: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ
…
تفصيل وبيان لحال كل خصم وفريق.
أى: فالذين كفروا جزاؤهم أنهم قطع الله- تعالى- لهم من النار ثيابا، وألبسهم إياها.
قال الآلوسى: أى أعد الله لهم ذلك، وكأنه شبه إعداد النار المحيطة بهم بتقطيع ثياب وتفصيلها لهم على قدر جثثهم. ففي الكلام استعارة تمثيلية تهكمية، وليس هناك تقطيع ثياب ولا ثياب حقيقة. وكأن جمع الثياب للإيذان بتراكم النار المحيطة بهم، وكون بعضها فوق بعض.. وعبر بالماضي، لأن الإعداد قد وقع، فليس من التعبير بالماضي لتحققه.. «3» .
وقوله: يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ زيادة في عذابهم، أى: لم تقطع لهم ثياب من نار فحسب، وإنما زيادة على ذلك يصب من فوق رءوسهم «الحميم» أى: الماء البالغ أقصى درجات الشدة في الحرارة.
وقوله: يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ بيان للآثار التي تترتب على هذا العذاب.
والفعل «يصهر» مأخوذ من الصهر بمعنى الإذابة. يقال: صهر فلان الشحم يصهره إذا أذابه.
أى: فذلك الحميم الذي يصب من فوق رءوسهم من آثاره أنه يذاب به ما في بطونهم من الشحوم والأحشاء. كما تذاب به جلودهم- أيضا- فقوله: وَالْجُلُودُ عطف على ما الموصولة في قوله ما فِي بُطُونِهِمْ أى: يذاب به الذي في بطونهم وتذاب به أيضا جلودهم.
وقيل: إن لفظ الجلود مرفوع بفعل محذوف معطوف على «يصهر» .
والتقدير: يصهر به ما في بطونهم من أحشاء وشحوم، وتحرق به الجلود. قالوا: وذلك لأن الجلود لا تذاب وإنما تنقبض وتنكمش إذا أصليت بالنار.
والضمير في قوله- سبحانه-: وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ يعود إلى الكفرة المعذبين بهذا الحميم الذي تصهر به البطون.
(1) سورة ص الآية 21.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 159.
(3)
تفسير الآلوسى ج 17 ص 134.
والمقامع: جمع مقمعة- بكسر الميم وسكون القاف وفتح الميم الثانية-، وهي آلة تستعمل في القمع عن الشيء، والزجر عنه، يقال: قمع فلان فلانا إذا قهره وأذله.
أى: وخصصت لهؤلاء الكافرين مضارب من حديد تضربهم بها الملائكة على رءوسهم زيادة في إذلالهم وقهرهم.
وقيل: إن الضمير في «لهم» يعود على خزنة النار. أى: ولخزنة النار مضارب من حديد يضربون بها هؤلاء الكافرين.
وعلى كلا القولين فالآية الكريمة تصور هوان هؤلاء الكافرين أكمل تصوير.
وقوله- سبحانه-: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها بيان لما يقابلون به عند ما يريدون التزحزح عن النار.
أى: كلما أراد هؤلاء الكافرون أن يخرجوا من النار ومن غمها وكربها وسعيرها: أعيدوا فيها مرة أخرى، كما قال- تعالى-: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ «1» .
وقوله- تعالى-: وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ مقول لقول محذوف أى: أعيدوا فيها وقيل لهم على لسان خزنة النار: ذوقوا العذاب المحرق لأبدانكم.
هذا هو حال فريق الكافرين. وهو حال يزلزل القلوب ويرهب المشاعر، ويفزع النفوس.
ولكن القرآن كعادته في قرن الترهيب بالترغيب. لا يترك النفوس في هذا الفزع، بل يتبع ذلك بما يمسح عنها خوفها ورعبها عن طريق بيان حسن حال المؤمنين فيقول: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ....
وغير- سبحانه- الأسلوب فلم يقل: والذين آمنوا على سبيل العطف على الذين كفروا.. تعظيم لشأن المؤمنين، وإشعار بمباينة حالهم لحال خصمائهم الكافرين.
أى: إن الله- تعالى- بفضله وإحسانه يدخل عباده الذين آمنوا وعملوا في دنياهم الأعمال الصالحات، جنات عاليات تجرى من تحت أشجارها وثمارها الأنهار.
وقوله يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ بيان لما ينالون في تلك الجنات من خير وفير، وعطاء جزيل.
(1) سورة المائدة الآية 37.
اى: يتزينون في تلك الجنات بأساور كائنة من الذهب الخالص، ومن اللؤلؤ الثمين، أما لباسهم الدائم فيها فهو من الحرير الناعم الفاخر.
قال الآلوسى: وقوله- تعالى-: وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ غير الأسلوب حيث لم يقل ويلبسون فيها حريرا، للإيذان بأن ثبوت اللباس لهم أمر محقق غنى عن البيان.. ثم إن الظاهر أن هذا الحكم عام في كل أهل الجنة، وقيل هو باعتبار الأغلب، لما أخرجه النسائي وابن حيان وغيرهما عن أبى سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة. وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه» «1» .
قالوا: ومحله فيمن مات مصرا على ذلك.
وقوله- تعالى-: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ بيان لحسن خاتمتهم، ولعظم النعم التي أنعم الله بها عليهم.
أى: وهدى الله- تعالى- هؤلاء المؤمنين إلى القول الطيب الذي يرضى الله- تعالى- عنهم، كأن يقولوا عند دخولهم الجنة:
…
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ «2» .
وهداهم- أيضا- خالقهم إلى الصراط المحمود، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم بنعمة الإيمان والإسلام، فصاروا بسبب هذه النعمة يقولون الأقوال الطيبة، ويفعلون الأفعال الحميدة.
قال الشوكانى: قوله: وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ
…
أى: أرشدوا إليه. قيل:
هو لا إله إلا الله. وقيل: القرآن. وقيل: هو ما يأتيهم من الله من بشارات. وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله- سبحانه-: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ.. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا
…
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ
…
ومعنى: وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة، أو صراط الله الذي هو دينه القويم وهو الإسلام «3» .
وبعد هذا الحديث المؤثر عن الخصمين وعن عاقبة كل منهما.. جاء الحديث عن المسجد
(1) تفسير الآلوسى ج 17 ص 136.
(2)
سورة فاطر الآيتان 34، 35. [.....]
(3)
تفسير فتح القدير ج 3 ص 445.