الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
روى الترمذي وابن ماجة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله- تعالى-: «يا بن آدم. تفرغ لعبادتي، املأ صدرك غنى، وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسد فقرك» .
وروى ابن ماجة عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له.
ومن كان الآخرة نيته، جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة «1» .
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بإيراد بعض الشبهات التي أثارها المشركون حول النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليها بما يبطلها فقال- تعالى-:
[سورة طه (20) : الآيات 133 الى 135]
وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)
ومرادهم بالآية في قوله- سبحانه-: وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ معجزة حية من المعجزات التي اقترحوها عليه صلى الله عليه وسلم كتفجير الأنهار حول مكة، وكرقيه إلى السماء، وكنزول الملائكة معه..
أى: وقال الكافرون على سبيل التعنت والعناد للرسول صلى الله عليه وسلم هلا أتيت لنا يا محمد بآية من الآيات التي طلبناها منك، أو بآية من الآيات التي أتى بها الأنبياء من قبلك، كالعصا بالنسبة لموسى، والناقة بالنسبة لصالح.
فهم- كما يقول الآلوسى-: «بلغوا من المكابرة والعناد إلى حيث لم يعدوا ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال، من قبيل الآيات، حتى اجترءوا على التفوه بهذه العظيمة الشنعاء.
(1) تفسير ابن كثير ج 5 ص 262.
وقوله- سبحانه-: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى رد على جهالاتهم وجحودهم.
والمراد بالبينة القرآن الكريم الذي هو أم الآيات، ورأس المعجزات.
والمراد بالصحف الأولى: الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور.
والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام، والاستفهام لتقرير الإتيان وثبوته.
والمعنى: أجهلوا ولم يكفهم اشتمال القرآن الذي جئت به- أيها الرسول الكريم- على بيان ما في الصحف الأولى التي أنزلناها على الرسل السابقين، ولم يكفهم ذلك في كونه معجزة حتى طلبوا غيرها؟.
قال صاحب الكشاف: اقترحوا على عادتهم في التعنت آية على النبوة، فقيل لهم: أو لم تأتكم آية من أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز، يعنى القرآن، من جهة أن القرآن برهان ما في سائر الكتب المنزلة، ودليل صحته لأنه معجزة، وتلك ليست بمعجزات، فهي مفتقرة إلى شهادته على صحة ما فيها، افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة. «1» .
وقال ابن كثير: قوله: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى يعنى: القرآن العظيم، الذي أنزله الله- تعالى- عليه صلى الله عليه وسلم وقد جاء فيه أخبار الأولين بما كان منهم في سالف الدهور، بما يوافقه عليه الكتب المتقدمة الصحيحة منها، فإن القرآن مهيمن عليها..
وهذه الآية كقوله- تعالى-: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ «2» .
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من نبي إلا وقد أوتى من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلى، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» «3» .
ومنهم من يرى أن المراد بالبينة: الكتب السماوية السابقة.
فيكون المعنى: أو لم يكف هؤلاء الجاهلين أن الكتب السماوية السابقة كالتوراة والإنجيل قد بشرت بك وبينت نعوتك وصفاتك، وهم معترفون بصدقها، فكيف لا يقرون بنبوتك.
قال القرطبي: وقوله: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى يريد التوراة والإنجيل
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 99.
(2)
سورة العنكبوت الآيتان 50، 51.
(3)
تفسير ابن كثير ج 5 ص 323.
والكتب المتقدمة، وذلك أعظم آية إذ أخبر بما فيها. وقيل: أو لم تأتهم الآية الدالة على نبوته بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة.. «1» .
وعلى كلا التفسيرين فالآية الكريمة شهادة من الله- تعالى- بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغه عنه، ورد مبطل لشبهات الكافرين ولأقوالهم الباطلة، وإن كان تفسير البينة هنا بالقرآن أظهر وأوضح.
وقوله- تعالى-: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى كلام مستأنف لتقرير ما قبله من أن القرآن الكريم هو معجزة المعجزات، وآية الآيات وأرفعها وأنفعها.
أى: ولو أنا أهلكنا هؤلاء الكافرين بعذاب الاستئصال، من قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم ومعه هذا القرآن الكريم معجزة له، لقالوا على سبيل الاعتذار يوم القيامة: يا ربنا هلا أرسلت إلينا في الدنيا رسولا من عندك ومعه المعجزات التي تدل على صدقه، فكنا في هذه الحالة اتبعنا آياتك التي جاءنا بها وصدقناه وآمنا به، من قبل أن يحصل لنا الذل والهوان والخزي والافتضاح في الآخرة.
والمقصود من الآية الكريمة قطع أعذارهم، أى: لو أنا أهلكناهم قبل ذلك، لقالوا ما قالوا، ولكنا لم نهلكهم بل أرسلنا إليهم رسولنا، فبلغهم ما أرسلناه به، فانقطع عذرهم، وبطلت حجتهم.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ، فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» .
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بهذه الآية التي أمر فيها رسوله صلى الله عليه وسلم أن يهددهم بسوء العاقبة، إذا ما استمروا في طغيانهم يعمهون، فقال- تعالى-: قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى.
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لهؤلاء الكافرين: كل واحد منا ومنكم متربص بالآخر، ومنتظر لما يؤول إليه أمر صاحبه.
وما دام الأمر كذلك فَتَرَبَّصُوا وانتظروا ما يؤول إليه حالنا وحالكم فَسَتَعْلَمُونَ بعد زمن قريب. مَنْ هم أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ أى: الطريق الواضح
(1) تفسير القرطبي ج 11 ص 364.
(2)
سورة القصص الآية 47.
المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ومن هم الذين تجنبوا الضلالة، واهتدوا إلى ما يسعدهم في دينهم وفي دنياهم وفي آخرتهم.
وقريب من هذه الآية في المعنى قوله- تعالى-: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ «1» .
وقوله- سبحانه-: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا «2» .
وبعد فهذه سورة طه، وهذا تفسير تحليلي لها، وكما أنها قد افتتحت بنفي إرادة الشقاء للنبي صلى الله عليه وسلم فقد اختتمت بهذه البشارة له صلى الله عليه وسلم ولأتباعه وبهذا التهديد لأعدائهم
…
نسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا وبهجة صدورنا، وشفيعنا يوم الدين يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ.
وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم..
د. محمد سيد طنطاوى
(1) سورة القمر آية 26.
(2)
سورة الفرقان آية 42.