الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سرور وحزن، ويقظة ونوم.. وغير ذلك مما يحسه البشر.
وما جعلناهم- أيضا- خالدين في هذه الحياة بدون موت، وإنما جعلنا لأعمارهم أجلا محددا تنتهي حياتهم عنده بدون تأخير أو تقديم.
قال- تعالى-: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ «1» .
وقوله- سبحانه-: ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ.. بيان لسنة الله- تعالى- الجارية مع رسله- عليهم الصلاة والسلام-.
أى: ثم صدقنا هؤلاء الرسل ما وعدناهم به من جعل العاقبة لهم فَأَنْجَيْناهُمْ من العذاب الذي أنزلناه بأعدائهم. وأنجينا معهم مَنْ نَشاءُ إنجاءهم من المؤمنين بهم.
وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ الذين تجاوزوا الحدود في كفرهم وتطاولهم على الرسل الكرام، وإعراضهم عن دعوتهم.
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة من أول السورة إلى هنا، قد أنذرت الناس باقتراب يوم الحساب، وحذرتهم من الغفلة عنه، ومن الإعراض عن الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح، وحكت ما قاله المشركون من تهم باطلة تتعلق بالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عند ربه- تعالى- وردت عليها بما يزهقها، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون.
ثم بين- سبحانه- أن ما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم هو خير الآيات وأخلدها وأشرفها، وأنه يشرف الأمة التي تنتسب إليه، وأن الأمم السابقة التي كذبت بالخوارق والمعجزات التي جاء بها الرسل- عليهم السلام أهلكها الله- تعالى- هلاك استئصال- فقال- تعالى-:
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 10 الى 15]
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14)
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)
(1) سورة الزمر الآية 30، 31.
والمعنى: لقد أنزلنا إليكم يا معشر العرب عن طريق رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كتابا عظيم الشأن، نير البرهان، مشتملا على ما يسعدكم، وهذا الكتاب فِيهِ ذِكْرُكُمْ
أى: فيه شرفكم، وعلو منزلتكم، وحسن موعظتكم، وشفاء صدوركم.
أَفَلا تَعْقِلُونَ ذلك، مع أن هذا الأمر واضح، ولا يحتاج إلى جدال أو مناقشة.
فالاستفهام لإنكار عدم تدبرهم في شأن هذا الكتاب الذي أنزله الله- تعالى- ليظفروا بسببه بالذكر الجميل، وبالموعظة الحسنة، كما قال- تعالى- وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ «2» .
وإن من مظاهر كون القرآن الكريم فيه ذكر العرب وشرفهم، أنه نزل بلغتهم، وأنه المعجزة الباقية الخالدة بخلاف غيره من المعجزات التي أيد الله- تعالى- بها الرسل السابقين، وأنه الكتاب الذي قادوا به البشرية قرونا طويلة. عند ما حملوه إلى الناس، فقرأوه عليهم، وشرحوا لهم أحكامه وآدابه وتشريعاته.. وما أصيب العرب في دينهم ودنياهم إلا يوم أن تخلوا عن العمل بهدايات هذا الكتاب، وقصروا في تبليغه إلى الناس.
ثم بين- سبحانه- ما أنزله بالقوم الظالمين فقال: وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ.
و «كم» هنا خبرية مفيدة للتكثير، وهي في محل نصب على أنها مفعول مقدم «لقصمنا» .
(1) تفسير الآلوسى ج 17 ص 14.
(2)
سورة الزخرف الآية 44.
وأصل القصم: كسر الشيء حتى ينقطع وينفصل عن غيره، يقال: قصم فلان ظهر فلان، إذا كسره حتى النهاية، بخلاف الفصم فهو صدع الشيء من غير قطع وانفصال.
قال القرطبي: «والقصم: الكسر، يقال: قصمت ظهر فلان، وانقصمت سنه، إذا انكسرت.
والمعنى ها هنا به الإهلاك. وأما الفصم- بالفاء- فهو الصدع في الشيء من غير بينونة» «1» .
أى: وكثيرا من القرى الظالمة التي تجاوز أهلها حدود الحق، ومردوا على الكفر والضلال، أبدناها مع أهلها، وعذبناها عذابا نكرا، بسبب ظلمهم وبغيهم، وأنشأنا من بعدهم قوما آخرين ليسوا مثلهم.
وأوقع- سبحانه- فعل القصم على القرى، للإشعار بأن الهلاك قد أصابها وأصاب أهلها معها. فالكل قد دمره- سبحانه- تدميرا.
أما عند الإنشاء فقد أوقع الفعل على القوم فقال: وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ للإيماء إلى أن هؤلاء القوم الآخرين، الذين لم يكونوا أمثال السابقين، هم الذين ينشئون القرى ويعمرونها.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً «2» .
ثم صور- سبحانه- حال هؤلاء الظالمين عند ما أحسوا بالعذاب وهو نازل بهم فقال:
فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ.
وقوله: أَحَسُّوا من الإحساس. وهو إدراك الشيء بالحاسة. يقال: أحس فلان الشيء، إذا علمه بالحس، وأحس بالشيء، إذا شعر به بحاسته.
وقوله: يَرْكُضُونَ من الركض وهو السير السريع، وأصله: أن يضرب الرجل دابته برجله ليحثها على الجري والسرعة في المشي. والمقصود به هنا: الهرب بسرعة.
أى: فلما أحس هؤلاء الظالمون عذابنا المدمر، وأيقنوا نزوله بهم، وعلموا ذلك علما مؤكدا، إذا هم يخرجون من قريتهم يَرْكُضُونَ أى: يهربون بسرعة وذعر، حتى لكأنهم من اضطرابهم وخوفهم يظنون أن ذلك سينجيهم.
(1) تفسير القرطبي ج 11 ص 274.
(2)
سورة الإسراء الآية 17.
وإذا هنا فجائية، والجملة بعدها جواب «لما» .
وقوله- سبحانه-: لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ حكاية لما تقوله لهم الملائكة وهم يركضون هربا- على سبيل التهكم والاستهزاء.
أى: يقال لهم من جهة الملائكة أو من جهة المؤمنين لا تركضوا هاربين وَارْجِعُوا إِلى قريتكم وإلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ أى: وإلى ما نعمتم فيه من العيش الهنيء. والخير الوفير، الذي أبطركم وجعلكم تجحدون النعم، ولم تستعملوها فيما خلقت له.
فقوله: أُتْرِفْتُمْ من الترفه- بالتاء المشددة مع الضم- وهي النعمة والطعام الطيب. يقال: ترف فلان- كفرح- إذا تنعم. وفلان أترفته النعمة، إذا أطغته أو نعمته.
وقوله: وَمَساكِنِكُمْ معطوف على ما.
أى: لا تهربوا وارجعوا إلى ما نعمتم فيه من العيش الهنيء، وإلى مساكنكم التي كنتم تسكنونها، وتتفاخرون بها.
لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ أى يقصدكم غيركم لسؤالكم عما نزل بكم، فتجيبوا عن علم ومشاهدة.
قال صاحب الكشاف: «قوله لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ تهكم بهم وتوبيخ، أى: ارجعوا إلى نعيمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم. فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة.
أو ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجالسكم، وترتبوا في مراتبكم حتى يسألكم حشمكم وعبيدكم، ومن تملكون أمره. وينفذ فيه أمركم ونهيكم، ويقول لكم: بم تأمرون؟ وبماذا ترسمون؟
وكيف نأتى ونذر كعادة المنعمين المخدّمين.
أو يسألكم الناس في أنديتكم.. ويستشيرونكم في المهمات. ويستضيئون بآرائكم.
أو يسألكم الوافدون عليكم، ويستمطرون سحائب أكفكم.. قيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم، وتوبيخا إلى توبيخ» «1» .
وهنا أدرك هؤلاء الظالمون، أن الأمر جد لا هزل، وأن العذاب نازل بهم لا محالة، وأن القائلين لهم لا تركضوا، إنما يتهكمون بهم. فأخذ أولئك الظالمون يتفجعون ويتحسرون قائلين: يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ.
(1) تفسير الكشاف ج 3 ص 106.