الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم ساقت السورة الكريمة بعد ذلك موقف المشركين من عقيدة البعث. فحكت أقوالهم الباطلة، وردت عليهم بما يكبتهم وبينت أن يوم القيامة آت لا ريب فيه، وأن النجاة في هذا اليوم للمتقين، والعذاب والخسران للكافرين قال- تعالى-:
[سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)
ذكر كثير من المفسرين أن قوله- تعالى-: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ
…
نزل في أشخاص معينين.
فمنهم من يرى أن هذه الآية نزلت في «أبى بن خلف» فإنه أخذ عظما باليا، فجعل يفتته بيده، ويذريه في الريح ويقول: زعم محمد صلى الله عليه وسلم أننا نبعث بعد أن نموت ونصير مثل هذا العظم البالي ومنهم من يرى أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، أو في العاصي بن وائل، أو في أبى جهل.
وعلى كل واحد من هذه الأقوال تكون أل في الإنسان للعهد، والمراد بها أحد هؤلاء الأشخاص، ويكون لفظ الإنسان من قبيل العام الذي أريد به الخصوص.
ومن الأساليب العربية المعروفة، إسناد الفعل إلى المجموع، مع أن فاعله بعضهم لا جميعهم كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانا مع أن القاتل واحد منهم، ومن هذا القبيل قول الفرزدق:
فسيوف بنى عبس وقد ضربوا به
…
نبت بيدي ورقاء من رأس خالد
فقد أسند الضرب إلى بنى عبس، مع أنه صرح بأن الضارب هو ورقاء الذي كان السيف بيده.
وقيل: المراد بالإنسان هنا: جماعة معينون وهم الكفرة المنكرون للبعث أو المراد: جنس الكافر المنكر للبعث.
و «إذا» في قوله: أَإِذا ما مِتُّ منصوب بفعل مضمر دل عليه جزاء الشرط.
والمعنى: ويقول هذا الإنسان الجاهل الجحود، المنكر للبعث والنشور، أأعود للحياة مرة أخرى بعد موتى، وبعد أن أكون كالعظام النخرة.
والاستفهام للإنكار والنفي، وعبر- سبحانه- بالمضارع يَقُولُ لاستحضار تلك الصورة الغريبة، وتلك الأقوال المنكرة التي صدرت عن هذا الكافر، أو لإفادة أن هذا القول موجود ومستمر عند كثير من الكافرين.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- حكاية عن هؤلاء الجاحدين: أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ «1» .
وقوله- عز وجل: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ. أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ «2» .
وقد رد الله- تعالى- عليهم بما يبطل قولهم، ويخرس ألسنتهم فقال: أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً.
والاستفهام للتوبيخ والتقريع، والواو للعطف على مقدر.
والمعنى: أيقول هذا الإنسان ذلك القول الباطل، ولا يتذكر أننا أوجدناه بقدرتنا من العدم ولم يكن شيئا مذكورا، ومن المعروف عند العقلاء، أن إعادة الإنسان إلى الحياة بعد وجوده، أيسر من إيجاده من العدم.
فالآية الكريمة ترد على كل جاحد للبعث بدليل منطقي برهاني، يهدى القلوب إلى الحق، ويقنع العقول بأن البعث حق وصدق.
وفي معنى هذه الآية الكريمة جاءت آيات أخرى كثيرة منها قوله- تعالى- وَضَرَبَ لَنا
(1) سورة ق الآية 3.
(2)
سورة النازعات الآيات 10 إلى 12.
مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.. «1» .
وقوله- سبحانه-: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ «2» .
قال الإمام ابن كثير: «وفي الحديث الصحيح- الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه:
«يقول الله- تعالى- كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني. أما تكذيبه لي فقوله: لن يعيدني كما بدأنى، وليس أول الخلق أهون على من آخره.
وأما أذاه إياى فقوله: «إن لي ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» .
ثم عقب- سبحانه- على هذا التوبيخ والتقريع لهذا الإنسان الجاحد، بقسم منه- سبحانه- على وقوع البعث والنشور، فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ، ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا.
والحشر: الجمع. يقال: حشر القائد جنده، إذا جمعهم.
والمراد بالشياطين: أولئك الأشرار الذين كانوا في الدنيا يوسوسون لهم بإنكار البعث.
أى: أقسم لك بذاتى- أيها الرسول الكريم- أن هؤلاء المنكرين للبعث لنجمعنهم جميعا يوم القيامة للحساب والجزاء، ولنجمعن معهم الشياطين الذين كانوا يضلونهم في الدنيا.
قالوا: وفائدة القسم أمران: أحدهما: أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين، والثاني: أن في إقسام الله- تعالى- باسمه، مضافا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم رفعا منه لشأنه، كما رفع من شأن السموات والأرض في قوله- تعالى-: فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ «3» .
وقوله: ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا تصوير حسى بليغ لسوء مصيرهم، ونكد حالهم.
وجِثِيًّا جمع جاث وهو الجالس على ركبتيه. يقال: جثا فلان يجثو ويجثى جثوا وجثيا فهو جاث إذا جلس على ركبتيه، أو قام على أطراف أصابعه. والعادة عند العرب أنهم إذا كانوا في موقف شديد، وأمر ضنك جثوا على ركبهم.
(1) سورة يس الآيتان 78، 79.
(2)
سورة الواقعة الآية 62.
(3)
حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 72.
أى: فوربك لنحضرنهم يوم القيامة للحساب ومعهم شياطينهم، ثم لنحضرنهم جميعا حول جهنم، حالة كونهم باركين على الركب، عجزا منهم عن القيام، بسبب ما يصيبهم من هول يوم القيامة وشدته.
قال- تعالى-: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» .
ثم يخص- سبحانه- بالذكر المصير المفزع للمتكبرين من هؤلاء الكافرين فيقول:
ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا.
والنزع: العزل والإخراج. يقال: نزع السلطان عامله، إذا عزله وأخرجه من عمله، والشيعة في الأصل: الجماعة من الناس يتعاونون فيما بينهم على أمر من الأمور، يقال: تشايع القوم، إذا تعاونوا فيما بينهم.
وعِتِيًّا أى: خروجا عن الطاعة والاستجابة للأمر، يقال: عتا فلان يعتو عتوا- من باب قعد- فهو عات إذا استكبر وجاوز حدوده في العصيان والطغيان.
والمعنى: ثم لنستخرجن من كل طائفة تشايعت وتعاهدت على الكفر بالبعث، والجحود للحق، الذين هم أشد خروجا عن طاعتنا وامتثال أمرنا فنبدأ بتعذيبهم أولا، لأنهم أشد من غيرهم في العتو والعناد والجحود والضلال.
قال الجمل ما ملخصه: «وأظهر الأعاريب في قوله: أَيُّهُمْ أَشَدُّ أن «أى» موصولة بمعنى الذي. وأن حركتها حركة بناء- أى هي مبنية على الضم-، وأشد خبر مبتدأ مضمر.
والجملة صلة لأى. وأيهم وصلتها في محل نصب مفعولا به لننزعن. وعتيا تمييز محول عن المبتدأ المحذوف الذي هو أشد، أى: جراءته على الرحمن أشد من جراءة غيره» «2» .
وقوله- تعالى-: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا بيان لشمول علمه- تعالى- بأحوال هؤلاء الجاحدين، وبأحوال غيرهم.
وصِلِيًّا مصدر صلى النار- كرضى- يصلاها صليا- بكسر الصاد وضمها- إذا ذاق حرها، واكتوى بها.
أى: ثم لنحن أعلم من كل أحد سوانا، بالذين هم أحق بجهنم، وباصطلاء نارها، وبالاكتواء بحرها وسعيرها، لأننا لا يخفى علينا شيء من أحوال خلقنا وسنجازى المتقين بما يستحقون من خير وثواب، وسنجازى الجاحدين بما يستحقون من إهانة وعذاب.
(1) سورة الجاثية الآيتان 28، 29.
(2)
حاشية الجمل على الجلالين ج 3 ص 73.
ثم بين- سبحانه- أن الجميع سيرد جهنم، فقال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا.
وللعلماء أقوال متعددة في المراد بقوله- تعالى- وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.
فمنهم من يرى أن المراد بورودها: دخولها فجميع الناس مؤمنهم وكافرهم يدخلونها، إلا أن النار تكون بردا وسلاما على المؤمنين عند دخولهم إياها، وتكون لهيبا وسعيرا على غيرهم.
ومنهم من يرى أن المراد بورودها: رؤيتها والقرب منها والإشراف عليها دون دخولها. كما في قوله- تعالى- وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ أى: أشرف عليه وقاربه.
ومنهم من يرى أن المراد بورودها، خصوص الكافرين، أى: أنهم وحدهم هم الذين يردون عليها ويدخلونها. أما المؤمنون فلا يردون عليها ولا يدخلونها.
ويبدو لنا أن المراد بالورود هنا: الدخول، أى: دخول النار بالنسبة للناس جميعا إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين، وهناك أدلة على ذلك منها.
أن هناك آيات قرآنية جاء فيها الورود، بمعنى الدخول، ومن هذه الآيات قوله- تعالى-: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ «1» .
ومعنى فأوردهم: فأدخلهم.
يضاف إلى ذلك أن قوله- تعالى- بعد هذه الآية: ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا قرينة قوية على أن المراد بقوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.. أى: داخلها سواء أكان مؤمنا أم كافرا، إلا أنه- سبحانه- بفضله وكرمه ينجى الذين اتقوا من حرها، ويترك الظالمين يصطلون بسعيرها.
كذلك مما يشهد بأن الورود بمعنى الدخول، ما أخرجه الإمام أحمد وعبد بن حميد والترمذي، وابن المنذر، وابن أبى حاتم، والحاكم
…
عن أبى سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا لا يدخلها مؤمن، وقال آخرون يدخلونها جميعا، ثم ينجى الله الذين اتقوا.
قال: فلقيت جابر بن عبد الله- رضى الله عنهما- فذكرت له ذلك فقال- وأهوى بإصبعه على أذنيه- صمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى بر
(1) سورة هود الآيات ص 96، 98. [.....]
ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا وسلاما، كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجا من بردهم، ثم ينجى الله الذين اتقوا، ويذر الظالمين فيها جثيا» «1» .
ولا يمنع من كون الورود بمعنى الدخول قوله- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ. لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها.. لأن دخول المؤمنين فيها لا يجعلهم يشعرون بحرها أو حسيسها، وإنما هي تكون بردا وسلاما عليهم، كما جاء في الحديث الشريف.
قال الإمام القرطبي بعد أن توسع في ذكر هذه الأقوال: «وظاهر الورود الدخول..
إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين، وينجون منها سالمين. قال خالد بن معدان: إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا: ألم يقل ربنا: إنا نرد النار فيقال لهم: لقد وردتموها فألفيتموها رمادا.
قلت: وهذا القول يجمع شتات الأقوال، فإن من وردها ولم تؤذه بلهبها وحرها، فقد أبعد عنها ونجى منها، نجانا الله- تعالى- منها بفضله وكرمه، وجعلنا ممن وردها فدخلها سالما، وخرج منها غانما.
فإن قيل: فهل يدخل الأنبياء النار؟ قلنا: لا نطلق هذا، ولكن نقول: إن الخلق جميعا يردونها- كما دل عليه حديث جابر- فالعصاة يدخلونها بجرائمهم، والأولياء والسعداء لشفاعتهم، فبين الدخولين بون..» «2» .
والمعنى: وما منكم- أيها الناس- أحد إلا وهو داخل النار، سواء أكان مسلما أم كافرا، إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين. وهذا الدخول فيها كان على ربك أمرا واجبا ومحتوما، بمقتضى حكمته الإلهية، لا بإيجاب أحد عليه.
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا أى: ثم بعد دخول الناس جميعا النار، ننجي الذين اتقوا، فنخرجهم منها دون أن يذوقوا حرها وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا أى: ونترك الظالمين في النار مخلدين فيها. جاثين على ركبهم، عاجزين عن الحركة، من شدة ما يصيبهم من هولها وسعيرها.
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد حكت لنا أقوال الجاحدين في شأن البعث والحساب، وردت عليهم ردا يبطل أقوالهم، كما أثبتت أن البعث حق، وأن الحساب حق، وأن الظالمين سيدخلون النار، وأن المؤمنين سينجيهم الله- تعالى- بفضله منها.
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 3 ص 132. الآلوسى ج 16 ص 121.
(2)
راجع تفسير القرطبي ج 11 ص 139.