الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لو كان في المال لما خصه من بين إخوته بذلك، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل، أن الولد يرث أباه، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر بها، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث:«نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا فهو صدقة» «1» .
وقال بعض العلماء ما ملخصه: ومعنى يَرِثُنِي أى: إرث علم ونبوة، ودعوة إلى الله والقيام بدينه، لا إرث مال، ويدل لذلك أمران:
أحدهما قوله: وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ومعلوم أن آل يعقوب انقرضوا من زمان، فلا يورث عنهم إلا العلم والنبوة والدين.
والأمر الثاني ما جاء من الأدلة أن الأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- لا يورث عنهم المال، وإنما يورث عنهم العلم والدين، فمن ذلك ما أخرجه الشيخان عن أبى بكر الصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا نورث ما تركنا صدقة» «2» .
ثم بين القرآن الكريم أن الله- تعالى- قد أجاب بفضله وكرمه دعاء عبده زكريا. كما بين ما قاله زكريا عند ما بشره ربه بغلام اسمه يحيى فقال- تعالى-:
[سورة مريم (19) : الآيات 7 الى 11]
يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلَاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
(1) راجع تفسير ابن كثير ج 3 ص 111.
(2)
راجع تفسير اضواء البيان ج 4 ص 206 للشيخ الشنقيطى- رحمه الله-
قال القرطبي: قوله- تعالى- يا زَكَرِيَّا في الكلام حذف، أى: فاستجاب الله دعاءه فقال: يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى
…
فتضمنت هذه البشارة ثلاثة أشياء: أحدها: إجابة دعائه وهي كرامة. الثاني: إعطاؤه الولد وهو قوة. الثالث: أن يفرد بتسميته
…
» «1» .
وقد بين- سبحانه- في آيات أخرى أن الذي بشر زكريا هو بعض الملائكة، وأن ذلك كان وهو قائم يصلى في المحراب، قال- تعالى-: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ، أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى، مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ، وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ «2» .
وقوله- سبحانه-: اسْمُهُ يَحْيى يدل على أن هذه التسمية قد سماها الله- تعالى- ليحيى، ولم يكل تسميته لزكريا أو لغيره، وهذا لون من التشريف والتكريم.
وقوله- تعالى-: لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا أى لم نجعل أحدا من قبل مشاركا له في هذا الاسم، بل هو أول من تسمى بهذا الاسم الجميل.
قال بعض العلماء: «وقول من قال: إن معناه: لم نجعل له من قبل سميا، أى: نظيرا يساويه في السمو والرفعة غير صواب، لأنه ليس بأفضل من إبراهيم ونوح وموسى فالقول الأول هو الصواب، وممن قال به: ابن عباس، وقتادة، والسدى، وابن أسلم وغيرهم
…
» «3» .
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما قاله زكريا بعد هذه البشارة السارة. فقال- تعالى-: قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ، وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً. وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا.
فالجملة الكريمة استئناف مبنى على سؤال تقديره: فماذا قال زكريا عند ما بشره الله- تعالى- بيحيى؟
ولفظ أَنَّى بمعنى: كيف. أو بمعنى: من أين.
أى: قال زكريا مخاطبا ربه بعد أن بشره بابنه يحيى: يا رب كيف يكون لي غلام، وحال امرأتى أنها كانت عاقرا في شبابها وفي شيخوختها، وحالي أنا أننى قد بلغت من الكبر عتيا، أى. قد تقدمت في السن تقدما كبيرا.
(1) تفسير القرطبي ج 11 ص 82.
(2)
سورة آل عمران الآية 39.
(3)
تفسير أضواء البيان ج 4 ص 214. [.....]
يقال: عتى الشيخ يعتو عتيا- بكسر العين وضمها- إذا بلغ النهاية في الكبر.
قال ابن جرير: «قوله: وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا يقول: وقد عتوت من الكبر فصرت نحيل العظام يابسها، يقال منه للعود اليابس: عات وعاس. وقد عتا يعتو عتوا وعتيا
…
وكل متناه في كبر أو فساد أو كفر فهو عات
…
» «1» .
فإن قيل: «ما المراد باستفهام زكريا- عليه السلام مع علمه بقدرة الله- تعالى- على كل شيء؟
فالجواب أن استفهامه إنما هو على سبيل الاستعلام والاستخبار، لأنه لم يكن يعلم أن الله- تعالى- سيرزقه بيحيى عن طريق زوجته العاقر، أو عن طريق الزواج بامرأة أخرى، فاستفهم عن الحقيقة ليعرفها.
ويصح أن يكون المقصود بالاستفهام التعجب والسرور بهذا الأمر العجيب حيث رزقه الله الولد مع تقدم سنه وسن زوجته.
ويجوز أن يكون المقصود بالاستفهام الاستبعاد لما جرت به العادة من أن يأتى الغلام مع تقدم سنه وسن زوجته. وليس المقصود به استحالة ذلك على قدرة الله- تعالى- لأنه- سبحانه- لا يعجزه شيء.
ثم حكى- سبحانه- ما رد به على استفهام زكريا فقال: قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً.
وقوله: كَذلِكَ خبر لمبتدأ محذوف، أى: الأمر كذلك.
قال الآلوسى: وذلك إشارة إلى قول زكريا- عليه السلام وجملة هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ مفعول قالَ الثاني وجملة «الأمر كذلك» مع جملة قالَ رَبُّكَ إلخ مفعول قالَ الأول
…
» «2» .
والمعنى: قال الله- تعالى- مجيبا على استفهام زكريا، الأمر كما ذكرت يا زكريا من كون امرأتك عاقرا، وأنت قد بلغت من الكبر عتيا، ولكن ذلك لا يحول بيننا وبين تنفيذ إرادتنا في منحك هذا الغلام، فإن قدرتنا لا يعجزها شيء، ولا تخضع لما جرت به العادات.
وهذا الأمر وهو إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ أى:
يسير سهل.
(1) تفسير ابن جرير ج 16 ص 38 طبعة بولاق سنة 1328 هـ.
(2)
تفسير الآلوسى ج 16 ص 67.
ثم ذكر له- سبحانه- ما هو أعجب مما سأل عنه فقال: وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً.
أى: لا تعجب يا زكريا من أن يأتيك غلام وأنت وزوجك بتلك الحالة، فإنى أنا الله الذي أوجدتك من العدم، ومن أوجدك من العدم، فهو قادر على أن يرزقك بهذا الغلام المذكور.
فالآية الكريمة قد ساقت بطريق منطقي برهاني، ما يدل على كمال قدرة الله- تعالى- وما يزيد في اطمئنان قلب زكريا- عليه السلام.
ثم حكى- سبحانه- بعد ذلك ما التمسه زكريا- عليه السلام من خالقه فقال:
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً....
أى: اجعل لي علامة أستدل بها على وقوع ما بشرتني به، لأزداد سرورا واطمئنانا.
ولأعرف الوقت الذي تحمل فيه امرأتى بهذا الغلام فأكثر من شكرك وذكرك.
فأجابه الله- تعالى- بقوله: قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا.
أى: قال الله- تعالى- لعبده زكريا: يا زكريا. علامة وقوع ما بشرتك به، أنك تجد نفسك عاجزا عن أن تكلم الناس بلسانك، لمدة ثلاث ليال بأيامهن حال كونك سوى الخلق، سليم الحواس ليس بك من خرس، أو بكم، ولكنك ممنوع من الكلام بأمرنا وقدرتنا على سبيل خرق العادة.
فقوله: سَوِيًّا حال من فاعل «تكلم» وهو زكريا أى: حال كونك يا زكريا سوى الخلق، سليم الجوارح، لا علة تمنعك من ذلك سوى قدرتنا. ثم بين- سبحانه- ما كان من زكريا بعد ذلك فقال: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
والمحراب: المصلى، أو الغرفة التي كان يجلس فيها في بيت المقدس، أو هو المسجد، فقد كانت مساجدهم تسمى المحاريب. لأنها الأماكن التي تحارب فيها الشياطين.
أى: فخرج زكريا- عليه السلام على قومه من المكان الذي كان يصلى فيه، فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أى: فأشار إليهم أو كتب لهم دون أن ينطق بلسانه أَنْ سَبِّحُوا الله- تعالى- وقدسوه بُكْرَةً أى: في أوائل النهار وَعَشِيًّا أى: في أواخره.
وقد ذكر- سبحانه- في آية أخرى، ما يشير إلى أن هذا المحراب الذي خرج منه زكريا- عليه السلام على قومه. هو ذلك المكان الذي بشره الله- تعالى- فيه بيحيى.
قال- تعالى-: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى،